بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله حمد الشاكرين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وصلنا إلى خواتيم تدبرنا في سورة عبس المباركة، تلك الخواتيم التي جاءت تبين الجزاء الذي هو من جنس العمل، مقالات الفعل وعقبه التزكية وعواقب التدسيع، عقبه العمل الذي يقوم به الإنسان غافلاً عن الغاية التي لأجلها خُلق، عاقبة السوء، عاقبة الشر، عاقبة الترفع والتعالي والتكبر والتعجب والاستغناء بما مكنّا الله الإنسان من متاع زائل، أما لا ينبغي أن يستغنى عنه مطلقاً.

حقيقة يتوق إليها العقلاء

الآيات العظيمة التي جاءت تبين حقيقة يتوق إليها العقلاء والحكماء في الدنيا، تلك الحقيقة التي حين تنظر في أحوال الناس في الدنيا ترى أن الكثير من المفسدين ومن مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية، ويقدمون للعالم على أنهم أبطال، كل هؤلاء، هل من العدل والإنصاف أن يتركوا دون محاسبة على جرائم اقترفوها وعلى أموال سلبوها وعلى أراضي دمروها وعلى شعوب هجّروها؟ العقل والمنطق والقلب السليم والفطرة السوية لا تقبل أن يترك هؤلاء دون عقاب ولا حساب وفق الأهواء والأمزجة.

التشكيلة ومجاهدة النفس

من هنا جاءت السورة المباركة تقلل عملية التشكيلة التي هي مجاهدة الإنسان لنفسه على طول الخط، تلك المجاهدة التي عبر الله سبحانه وتعالى في السورة المباركة وأعطانا نموذج لإنسان متواضع في إمكانياته وقدراته، لكن ذلك التواضع ما حال بينه وبين الوصول إلى التزكية، جاءك يسعى ما استغنى عن القرآن ولا استغنى بشيء عن ذلك القرآن وذاك الكتاب.

كما أنه في الصورة المقابلة لك الإنسان المتاجر في المتعالي الذي يأخذ ما خوّله الله فيه من النعم مطية لأجل الترفع والتكبر والتعالي على الآخرين، وعقبت كل واحد منهم، وبعد أن قال جل شأنه: "لكل امرئ منهم يومئذ شأن يُغني"، مبيناً وموضحاً كيف يفر الإنسان من أقرب الناس إليه، ذاك أنه يدرك الحقيقة بعد فوات الأوان، لا أحد يمتلك له نفعاً من دون الله سبحانه وتعالى.

موقف كشف الحساب

وإذا بالآيات العظيمة كعادة القرآن تنتقل بنا إلى موقف آخر من مواقفه يوم القيامة، موقف كشف الحساب وعرض النتائج للعيان كما جاء في سور أخرى: "نُشر الصحف"، ذاك الإنسان الذي يقولها: "أم اقرأوا كتابيه، إني ظننت أني ملاقٍ حسابي". وصفهم القرآن العظيم بأجمل وصف، وتدبر معي كيف جاء هنا في هذه السورة المباركة بوصف المؤمنين الذين يزكون أنفسهم أسوة بذاك الرجل الأعمى الذي جاءك يسعى وهو يخشى قبل ذكر الكفارة الفجر الذين استغنوا عن القرآن وعن قيمه ومبادئه ورسالته، في حين أنه في سورة النازعات ابتدأ بهؤلاء قبلهم فقال: "قلوب يومئذ واجفة"، بحسب السياق وبحسب ما سيأتي عليه ترتيب السياق.

فلما ابتدأ بالصورة بذاك الذي جاءك يسعى وهو يخشى، ابتدأ بالجزاء بقوله جل شأنه: "وجوه يومئذ مسفرة".

الوجه مرآة القلب

ويا لها من أوصاف رائعة! ولنا أن نتساءل قبل أن ندخل في تدبر هذه الآية المباركة، هو القرآن لماذا يعبر عن الوجه في أكثر من آية؟ الوجه أشرف ما في ظاهر البدن، بدن الإنسان له ظاهر وله باطن مخفي على بقية الخلق من الأعضاء الداخلية، الوجه الذي يظهر عليه الإيمان والكفر ليس لأجل أن نحكم على بعضنا البعض، ولكن بما أن أثر الإيمان والنفاق يظهر على الوجه، كما أن أثر الإيمان وأثر الكفر والنفاق من سواد الوجه والقطرة التي تعلوه والضياع والشك والارتياب والحيرة والوساوس في داخل الإنسان يظهر على سمت ذلك الإنسان وعلى وجهه، محل تعبير، محل مختلف الأوصاف التعبيرية التي لا يمكن لعقل أن يمارس فيها أو يجادل، ومهما تصنع أو حاول الإنسان أن يتصنع من تأثيرات ما في داخله على وجهه فلا بد في يوم وفي موقف أن يفسح ذلك الوجه ما في القلب، من هنا يقول: "ربي الجنة أسلم وجهه لله وهو محسن"، الوجه الذي قد يعبر به عن الإنسان.

هكذا يعلمنا القرآن في ذلك الموقف العصيب، وبعد ذلك الموقف الذي يفر فيه الإنسان من أقرب الناس إليه لأنه ما كشفت له النتائج ولا يدري أين سيكون وكيف سيكون الجزاء والمآل، فلما نُشرت الصحف كما جاء في آيات أخرى، ولما أُفصح عن الجزاء، ولما ظهرت وأُعلنت النتائج، أسفرت الوجوه وتهللت، قال: "وجوه يومئذ ضاحكة"، جمعت بين الإسفار الذي هو تهلل الوجه حين يرى شيئاً يعجبه، والإسفار والإظهار ماخوذ من السفر، أصفر، فنقول أسفر الصبح بعد الظلام، بعد ظلام الليل، بعد سواد الليل، فلما يقول أسفرت هذه كلمة وتعبير ووصف بالكلمة والحرف يعبر عن حال انفعالية، يعبر عن موقف نفسي، يعبر عن تلك الوجوه التي كانت تتوق شوقاً لرؤية الجزاء، الجزاء الذي آمنت به، الجزاء الذي طالما انتظره، الجزاء الذي أيقنت به فهوّن عليها مصائب الدنيا، الجزاء الذي لأجله تحلّت بالصبر وقت الشدة،

هذا الإسفار الذي يعبر عنه القرآن أجمل تعبير، لحظة تسلل نتائج هذه الوجوه التي تسفر، أول ما تسفر وتشرق وتتألق كيف بالسلام النتيجة.

أصحاب اليمين

"أُوتي كتابه بيمينه"، فلما يُؤتى الكتاب باليمين وباتموقنا بأنه من أصحاب اليمين، أسفر الوجه وظهر ما في القلب والإحساس من انفعال جميل عظيم، كل الأحزان، كل الصعوبات، تدبر معي في الربط بين التزكية والإسفار، التزكية شكل من أشكال الإسفار، أن يسفر الإنسان ويظهر وينشف معدنه وقيامه ومبادئه وقت الشدة، وقت المحنة، وقت الفتنة، وقت الصعوبة، وتدبر معي في الجزاء الذي جاء من جنس العمل، "وجوه يومئذ مسفرة"، هذه الوجوه التي أسفرت حين رأت الجزاء الحقيقي وأيقنت حين رأت ما آمنت به حين رأت ما كانت تعيش لأجله وعليه وماتت عليه.

فاروق، فاروق صلى الله عليه وآله وسلم، كيف كانوا يعيشون الآخرة في قلوبهم؟ والآخرة إذا عاشت في قلب إنسان أشرق ذلك القلب وأسفر بكل ما هو جميل وبكل ما هو حسن وبكل ما يرفع قدره عند الله جل شأنه.

الضحك في القرآن

ثم عقب في نفس الآية فقال: "ضاحكة"، والضحك في القرآن الذي ذُكر في عشرة مواضع بأساليب وبمعان وسياقات مختلفة ولكن واحدة منها في قوله جل شأنه: "وأنه هو أضحك وأبكى"، الضحك انفعال نفسي لا إرادي يعبر عما في داخل الإنسان، تدبر معي في القرآن كيف يعبر بالمفردة عن الانفعالات النفسية ويصفها أدق وأبلغ، كيف تصبح الوجوه ضاحكة؟ الضحك يأتي ويحصل حين يكون تلقائياً وليس متكلفاً، حين يحدث للإنسان ما يسرّ، حين يجد الإنسان ما يسرك كما فسرتها آيات أخرى: "ولقاهم ربهم نضرة وسرورًا"، تدبر معي في هذه المعاني العظيمة، ضاحكة لما رأت، لما سمعت، لما تستبشر به، لما تعاين أمامها من بشارات، لما تراه من استقبال الملائكة يبشروهم ويقولون لهم: "طوبى لكم"، ويقولون لهم: "سلام عليكم ادخلوها خالدين"، حين يرى أولئك الذين صدقوا مع الله سبحانه وتعالى وسبقوه في الطريق، حين يعاين كل تلك المشاهد، حين يرى تلك الأبهة، حين يرى تلك الفخامة والحفاوة والكرامة من ملائكة السماء، حين يرى ذلك الاستقبال، الإنسان الواحد منا في الدنيا، ترى إذا أحد الناس من أعيان الدنيا ومن أحبابه ومن أقاربه أو أصدقائه أو مشابه أحسن استقباله واحتفى به، ذاك يدخل السرور في قلبه فيظهر على أسارير وجهه فتنشرح، ولذلك من أعظم الأعمال أن تحتفي بضيفك حين يأتي إليك زائراً، تحتفل، لا ضرورة أن تكون أشياء مادية ولا أن تنصب له الموائد الطوال المزينة بأصناف وهو طيب الطعام، الحفاوة إحساس، الحفاوة كرم، الحفاوة تبسم، الحفاوة الشعور وإشعار الغير بأنك حللت أهلاً ووطئت سهلاً، هذه المعالم العظيمة والمعاني الإنسانية العظيمة التي نحن نحتاج إليها اليوم في علاقاتنا الإنسانية.

مما يؤسف له حقاً أن العادات والتقاليد المتعلقة بالضيافة وحسن الضيافة تغيرت في زماننا وانقلبت، دخل وغزا التكلف كل الأبجدية، التفاصيل، الحياة الاجتماعية التي نعيشها، هذه الأبجديات وهذه التفاصيل التي سلبت منا في بعض الأحيان التلقائية في الحفاوة والتكريم، في فارق شاسع نحن أحوج ما نكون إليه اليوم، إظهار هذه الحفاوة.

إذا كان هذا يحصل في الدنيا فيستبشر الزائر ويستبشر الضيف حين يرى بشاشة وجوه وحفاوة الذين يستقبلونه ومدى الاحتفاء به وإكرامه،

مستبشرة

ولكن هي لماذا مستبشرة؟ لما رأت كل تلك البشارات، يبشّرهم ربهم بجنة ورضوان ونعيم مقيم، ومنازل عالية ودرجات راقية وحفاوات واجتماع بالأهل والأحباب والأصحاب، تارة واحد من هنا ونبي من هنا وملك من هناك وقريب طال الفراق بينك وبينه والصديق من هنا، كل هذه تدخل في قلبه عشرات البشارات فيصبح ذلك الإنسان في حالة من السعادة ما كان لأحد أن يعبر عنها بهذا التعبير الجميل إلا بهذه الألفاظ القرآنية السامقة المحملة بالمعاني، مسفرة ضاحكة.

أنواع السرور

أنواع السرور النفسي الحقيقي، لا تكلف فيه ولا تصنع فيه، وانظر إلى حياتنا التي نعيش التي امتلأت بأشكال من التكلف والتصنع والتزيّن، تقول لي: كيف؟ أقول لك: هو القرآن يعلمك أن تربط ما بين ما تقرأ وما بين الواقع الذي أنت تعيش، اليوم باتت هناك قنوات فضائية لا تريد إلا أن تضحك الناس وتجعل الناس يضحكون، ونكات، ودنيا، وسائل تواصل وبرامج ومسلسلات ومسرحيات كلها لأجل أن تضحك الإنسان، ولا ربما يضحك الإنسان على نكتة عابرة على موقف ساخر يراه أمامه، ولكن في كل حال الضحك ترى فيه أشكالاً مختلفة ومستويات مختلفة من التكلف والتصنع.

بعض الناس في المقابل يعتقد أو يتصور أن الإنسان المؤمن إنسان لا ترى ولا يعرف الضحك له طريقاً ولا سبيلاً إلى وجهه، كلام غير صحيح، غير صحيح، المؤمن إنسان متفائل، المؤمن إنسان، وكان نبينا صلى الله عليه وآله وسلم يضحك في بعض المواقف حتى تبدو نواجذه، ولكنه ما كان يتصنع الضحك، الضحك تلقائي، الضحك العفوي الذي يعبر عن ما في داخل النفس من ارتياح، من إحساس، من شعور بالآخرين لسبب أو لآخر، وأنا وأنت لو تدبرنا وقرأنا في القرآن حول قضية الضحك لوجدنا أن الضحك جاء بأساليب بمعاني السخرية والاستهزاء لمن يكون؟ من قبل هؤلاء الذين كفروا كانوا من الذين آمنوا يضحكون، كانوا يضحكون ويسخرون من القرآن ومن آياته، تدبر معي في هذه المعاني العظيمة، ولذلك القرآن تحداهم قال: "فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً"، الضحك شعور وإحساس إنساني في ذات الوقت.

تقول لي: هل القرآن والإسلام، الدين والشرع يعني لا يحبّذ الضحك؟ القرآن لا يحبّذ عدم إقامة الوزن في كل تفاصيل الحياة لأنه أمر بالوزن فقال: "وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان"، ولذلك كثرة الضحك بسبب بلا سبب وتضحك مجرد أنك تثير ضحك الآخرين، إشارات، الوسائل كما ذكرت قبل قليل والسبل، لكن الضحك التلقائي الذي هو يعبر عن انفعال إنساني ذاتي هذا شيء طبيعي جداً، والقرآن الكريم بالعكس تماماً يحبذ الإنسان المتفائل الإيجابي الذي ينظر إلى الحياة وإلى المواقف الحياتية بتفاؤل و بإيجابية، هذه من المداخل التي لا ينبغي للإنسان العاقل أن يغفل عنها في ذات الوقت كما ذكرنا بدون تصنع، بدون تكلف.

ولو تدبرت في معاني وفي استعمالات الوجه كذلك في كتاب الله لوجدت أن القرآن العظيم يعلمنا كيفية العناية بالجوانب الداخلية الباطنية والمشاعر الإنسانية والأحاسيس النفسية كي تكون إيجابية فيظهر أثرها على الوجه، الوجه لما الإنسان يكون مرتاح البال منشرح الصدر تلقائي أثر ذلك على وجهه، تبسم، انشراح، ولذلك نبينا صلى الله عليه وآله وسلم بيّن ووضّح في غير من موضع أن الحسن له أثر نور في الوجه والسيئة لها ظلمة في الوجه، أسود، أو هذه الأشياء النفسية، الروح، هذا التوازن الذي يحدثه القرآن بين الإحساس والشعور والقول والفعل والسلوك في توافق عجيب فريد من نوعه لا مثيل له يجعل من الإنسان شخصية سوية متكاملة وليس فيها نفاق وليس فيها ازدواجية وليس فيها تكلف وليس فيها تصنع.

الإسفار والاستبشار

الإسفار والاستبشار والضحك وهذه المشاعر التلقائية وهذا الارتياح الذي يقول عنه ويحدثنا القرآن عنه في أكثر من موضع، هذه النضارة التي يحدثنا القرآن عنها، "وجوه يومئذ ناضرة"، كيف تصبح الوجوه ناضرة؟ والقرآن ذكرني وبين اللي في مواضع أخرى يطول الحديث عنها عن الاستبشار الذي يدخل على النفس البشرية كل ما هو إيجابي وكل ما هو فيه تفاؤل وكل ما هو فيه نظر للأمام وحسن ظن بالله سبحانه وتعالى، "يستبشرون بنعمة من الله وفضل برحمة من الله"، هذه كلها ما جاءت هكذا.

ولا أننا في ذات الوقت أن نتدبر في حياتنا المعاصرة وكيف جاءت هذه الحضارة المعاصرة لأجل أن تغيّر في مقاييس الجمال وتحصر الجمال وتجعل الجمال في الوجه ينحصر في مقاييس معينة، تارة يقولون في تكبير حجم الشفاه أو تضييق الأنف أو تصغير العين أو أو عشرات الأشكال من التلاعب بخلقة الله والتغيير وكل ذلك في زعمهم أنه يجعل الإنسان أكثر جمالاً، ويبقى السؤال مطروحاً: أكثر جمالاً بمقاييس من؟ وبناءً على معايير ماذا؟ تلك الموديلات والموضات التي باتت تتحكم في عقول الناس وفي حياتهم، وليس فقط في ما يمتلكون، باتت تحركهم كيف ما تشاء، قالت: صغّروا، صغّروا، قالت: كبّروا، كبّروا، قالت: يضيّق، يضيّقوا.

الجمال المعنوي

نهاية تدبر معي في القرآن كيف يلفت النظر إلى الجمال المعنوي، جمال الشريف، الجمال الحقيقي الذي ليس فيه تكلف، الجمال الذي لا تستطيع أن تشتريه أو تقتنيه بمالك، تستطيع أن تحصل عليه بتزكيتك لنفسك.

ولنا أن نتساءل: هو هذا النور والاستبشار والإسفار في الوجوه فقط في الآخرة؟ في له جوانب مقدمة في الدنيا التي تكلم عنها الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم حين كان يقول عن نور الحسن في الوجه، أثر الحسن والعمل الخير، قيام الليل، تلاوة القرآن، راحة الصدر، سلامة الصدر من الغل والحقد والحسد، رفعك ليدك بظهر الغيب تدعو لأخيك، تدعو لمن عرفت ولمن لا تعرف، سلامة الصدر من أعظم أسباب الجمال الحقيقي، تلك الصدور المنشرحة لا يمكن أبداً إلا أن يظهر أثر الانشراح فيها على الوجه، وسمة الوجه هو الذي يعبر عن داخل الإنسان، ولذلك حين يزيّف الإنسان فيه ويغير فيه ويتصنع ويتكلف فيه ما يعود هذا الوجه معبراً عن داخل الإنسان، داخل الذي هو يشكل قمة القيمة الحقيقية للإنسان، ليس في طول وقصر وليس في زيادة أو نقص وليس في تكبير أو تصغير ولكن في قيم ومبادئ وجمال.

ثم هذا الهوس العالمي بأشكال (بين قوسين) الجمال الحسي وفقاً للمقاييس المعينة المحددة يفهم قبل أن ينساق الإنسان، نساء ورجال، إلى كل هذه المساقات والمسارات التي لا قدرة تكون نهايتها تظهر لها، هل جعلت فعلاً الإنسان أكثر جمالاً؟ هل جعلت الإنسان فعلاً أكثر قيمة جمالية؟ في حين أن القرآن العظيم قدم لك نموذجاً متكاملاً للجمال لا يقف فقط عند القضايا المادية المتعلقة بوجه أو بيد أو بشكل الإنسان الظاهري، يمتد بها إلى جماليات مختلفة ومستويات مختلفة من الجمال الحقيقي الذي ينبع من الداخل لا من الخارج.

وجوه عليها غبرة

في الصورة المقابلة، على وجوه، "وجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة"، أولئك هم الكفرة الفجرة الذي يقدمه القرآن، ذاك الصاحب الوجه المنعم في الدنيا، النعيم الحسي، النعيم المبطن بعشرات الأغطية والحجب والموانع المظلمة المغلفة بعشرات الأعمال السيئة والنوايا القبيحة والترفع والتعالي على الخلق، قال: "وجوه يومئذ عليها غبرة"، تدبر في في قمة التعبير القرآن، غابرة من الغبار، ولكن أن تتساءل: هو الوجه يعلوه غبار، دلالة وبيان للعسر الذي تمر فيه، العسر الذي ما بعده عسر، الذي لا ينحصر مطلقاً في ما يراه ذلك الإنسان من سوء صحيفته وقبيح فعله وعمله ونتائجه وما الآتي، ما كان يفعل، قال: "أما من استغنى فأنت له تصدى"، في بداية السورة، ما قيمة أن يكون الإنسان في الدنيا صاحب جاه ومال ومنصب ويعمل له ألف حساب ولكنه يوم القيامة كما عبر القرآن في مواضع أخرى: "ذق إنك أنت العزيز الكريم"، يتمنى أن يكونها وأن ينالها لما يرى ويعاين من الألم والعذاب.

قال: "ترهقها قترة"، تدبر كيف جمع كل مشاكل ومصادر الآلام من نفسية: غبرة، وترهق وقترة في وقت واحد، قرآن العظيم عبر في آية أخرى: "للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا ترهق وجوههم قترة"، هناك مصدر قطر، الظلمة، الحزن، الكآبة، اسوداد الوجه، مرة أخرى يظهر كله على الوجه، وهنا يقول سبحانه: "ترهقها قترة"، زيادة ومعان في الإرهاق وفي العذاب وفي الآلام، وتدبر كيف أشار إليهم قال: "أولئك"، اسم الإشارة للبعيد وامتهاناً وتحقيراً، يلا هو من وصف عميق الكفر، تغطيه، هو قال من البداية سبحانه جل شأنه: "أما من استغنى فأنت له تصدى وما عليك ألا يزكى"، تدبر معي في هذا، ثم قال بعد ذلك: "قتل الإنسان ما أكفره"، والعلاقة بين الكفر والفجور علاقة متلازمة.

الكفر والفجور

والفجور أصل الكلمة الانفتاح والتوسع في التوسع في الانفتاح، ولذلك ربي جل شأنه يقول: "انفجرت اثنتا عشرة عيناً"، زيادة في التوسع والانفتاح، ما علاقة ذلك بالفجور؟ الفجور زيادة وتوسع وتمادٍ في الباطن، في الشر، في السوء، في المعاصي، في الذنوب، العلاقة بين الكفر وبين الفجور علاقة وطيدة جداً، ولذلك القرآن يقول في آية أخرى: "عن كتاب الفجار لفي جحيم"، يتكلم عن الفجار كثيراً، لأن الفجور هو شكل من أشكال التعبير عما يتلج في

انظر إلى صناديد قريش كيف كانوا يفجرون في تعذيبهم للمسلمين، كيف وضعوا الصخور على صدورهم تحت حر الشمس وقيضها، كيف كانوا يعاملون غيرهم، كيف كانوا يمثلون بغيرهم، ماذا فعلوا وماذا صنعوا من ظلم ومن جرم؟ ولذلك من أعظم أشكال انكماش الفساد والظلم والاعتداء على الآخرين، ومن أعظم أسباب قيام ذلك الانكماش وتحققه، الإيمان، الإيمان بالله سبحانه وتعالى، خشية الله جل شأنه تقبح جماح النفس التي تريد أن تعتدي وتظلم وتصفك وتعمل، أعظم كادح للفساد والاعتداء على الآخرين هو الإيمان، وأعظم منهج يكبّل قيود الاعتداء على الناس في ما بينهم والفساد ويشل حركة الفساد هو القرآن الذي يتوعد المفسدين ويتوعد الظالمين والمعاندين، وآية بعد آية، آية بعد آية، ليجعل منه منهجاً قوي الركائز، تتساءل: هو لماذا كل هذا الوعيد؟ لإيقاف الظلم، لإيقاف الفساد، لإيقاف الإجرام.

التقدم والتحضر

وحاء أنا وأنت اليوم نشهد في عصر يتشدق فيه الناس بالتقدم والتحضر، هل من التقدم والتحضر في شيء أن يترك آلاف، ربما ملايين، البشر يموتون جوعاً ومرضاً؟ عشرات الآلاف، الملايين من الأطفال والنساء والشيبان من البشر، والعالم، النصف الآخر من العالم، يتفرج عليه، لأجل سلطة موهومة، ولأجل أن يستبد بسلطة وبتحريك وقيادة للعالم بطريقة هو وعلى مزاجه، هذا هو التقدم؟ ما الذي يذبح جماح كلها هذا؟ تدبر معي في ما الذي تحصده البشرية ليوم جراء استبعاد القرآن.

وما زال البعد والمسافات تزداد يوماً بعد يوم بيننا وبين كتاب الله توهماً بأن الذي يؤمن بكتاب الله والذي يدافع عن كتاب الله لابد وأن يكون منتمياً لهذا أو ذاك أو مع هذا أو ذاك، وأطلقنا شعارات وألقاباً فيما بيننا كلها تحول بيننا وبين كتاب الله، تدبر معي في القرآن وفي عظمته، وتدبر معي في القرآن كيف ابتدأ السورة المباركة بحادثة وقعت، وتدبر كذلك معي في طرق ومناهج التعامل مع هذا الكتاب المبارك حين قُدمت هذه السورة على أنها عتاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وانتهى الموضوع عنده هنا فقط، صورة عظيمة محملة بعشرات المعاني ونفائس المقاصد كلها تزكي نفس الإنسان، كلها تبين قيمة التكليف في حياة الإنسان ولا للمجتمع ولا للأمة بعيداً عن خشية الله، كلها تبين أن قيمة الناس الحقيقية ليست فيما يمتلكون ولكن فيما يعملون وفيما يصنعون وفيما يقدمون.

القرآن ليس شعاراً

واحدة من أكبر الإشكاليات اليوم التي تحول بين العالم وبين الإقدام والإقبال على هذا القرآن أن الكثير من المسلمين باتوا يرون أن القرآن مجرد كتاب يرفعونه كشعار، القرآن ليس هكذا، القرآن لابد أن يُقرأ ويُقرأ كما ذكرنا في البداية، أن يُقرأ الناس فيك القرآن، يقرأونه في صدقك وأمانتك وعملك وإخلاصك وخدمتك لمجتمعك وإحساسك بآلام الآخرين ورغبتك في مساعدتهم ومد يد العون لهم، كل ذلك هو القرآن، قرآن ليس شعاراً يُرفع، القرآن ليس أن تقول: "أنا أؤمن بالقرآن" قولاً ولكن كل ما فيك من أفعال وسلوكات تنافي منطوق القرآن ومحتوى القرآن ومعانيه، هذه الازدواجية التي يعيشها بعض المسلمين اليوم من أكبر العوائق التي تحول بين الناس وبين الإقبال على القرآن، يدّعون بأنهم يستغنون بالقرآن عما سواه، وتراهم يقفون على أبواب الخلق يستجدونهم درهماً وديناراً ومنصباً ومنصباً ووظيفة ومنزلة، هذه الازدواجية الطاغية، هذا الفرق والفصام بين القول والفعل والإيمان والاعتقاد والسلوك والحياة والخلق التي يقدم العلاج لها القرآن العظيم في هذه السورة المباركة.

قال: "وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكر"، ويقول بعدها: "وأما من جاءك يسعى وهو يخشى"، وعمل خشية من الله سبحانه وتعالى وطلب لتصفية النفس.

تزكية النفس

واحدة من أكبر إشكاليات اليوم أن الواحد منا يزكي نفسه في كل وقت وفي كل حال، بمعنى يثني على نفسه في بعض الأحوال بما ليس له أهل، ويسمي ذلك ثقة بالنفس وتنمية بشرية، ولابد أنك تثني على نفسك أمام الآخر، من قال لك هذا؟ أنت تمشي وراء منهج من؟ وراء من أنت؟ أنت بحاجة إلى صدق مع نفسك ومحاسبة لنفسك وتربية لنفسك دون جلد للذات ولكن في سبيل ترقية هذه الذات وتصنيتها وتطهيرها وتنقيتها والسعي لأجل ذلك والحصول عليه، ولا يهمك بعد ذلك أثنى عليك الناس أم لم يثنوا عليك، لأنك لا تقوم بهذه التزكية لهم ولكنك تقوم بها للرب الذي تخشاه سبحانه وتعالى، حينها ستسفر الحقائق في حياتك وسترى نور هذه الحقائق وسينجلي لك أشكال وصور الظلمات التي باتت تبثها الفتن في عصرنا وزماننا من كل مجال وفي كل مسار. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.