بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله حمد الشاكرين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ونحن نتدبر في قصص الأنبياء في هذه السورة الكريمة التي سميت باسم الأنبياء، نجد أنفسنا نتكلم عن أحوال النفس البشرية. القرآن في عرضه لقصص هؤلاء الأنبياء الكرام يعرض لنا أحوالهم النفسية، ما كانوا يمرون به من أزمات، ما كانوا يشعرون به. بل إن القرآن العظيم يذهب بعيدًا في أعماق النفس البشرية ليكشف النقاب لنا في آياته عن تلك الأحوال والنقاط التي تمر بها وهي في حالة ضعفها، الضعف البشري المعتاد. والقرآن في ذلك يبين لنا العديد من الرسائل.
واحد من أعظم تلك الرسائل أن هؤلاء الأنبياء كانوا بشرًا. صحيح القرآن العظيم أكد ذلك بصريح العبارة: بشرًا رسلًا. ولكن مع كل هذا، إلا أنه في سياق سورة الأنبياء يعرض لنا أحوالهم البشرية، ما كان يعتريهم من ضعف وقوة، المشاعر الإنسانية التي يشترك فيها البشر كل البشر. إذًا القرآن من أوائل الرسائل التي يوصلها ويبينها لنا في مدلول ذلك السياق أن هؤلاء الرسل والأنبياء كانوا بشرًا، والبشر تعتريه مراحل مختلفة في حياته، أحاسيس مختلفة، شجون، هموم، غموم، كرب، والقرآن يصفه بدقة ويصف تلك المشاعر والأحاسيس الإنسانية بدقة، ويأتي بالمفردة واللفظة القرآنية العظيمة المعبرة عن الحقيقة وما كان يشعره ذلك الرسول والنبي.
الأمر الآخر في مثل هذه الرسائل التي يتدبرها الإنسان حين يقرأ في سورة الأنبياء، يدرك أن النفس البشرية تعتريها أحوال مختلفة، ما يمكن أن تشعر به من حزن، من غم، من هم، من توجس على مستقبل معين، من ألم وعدم ارتياح في الحالة الواقعة التي تعيش فيها أو الظرف الذي تعيش فيه، هذه مشاعر طبيعية جدًا لا تقتح في إيمان الإنسان مطلقًا. فالقرآن يصور وينقل بدقة واضحة كل هذه الأحوال. القرآن كذلك من ضمن الرسائل التي يبلغها لنا في ذلك السياق في عرض قصص وأحوال الأنبياء يبين لنا أن الإنسان له رغبات، أن الإنسان كل البشر بما فيهم الأنبياء يرغبون في أشياء معينة، أهداف معينة، حتى لو كان ظاهر تلك الأشياء يبدو كأنه دنيويًا، إلا أن القرآن العظيم يصل بنا إلى سمو الهدف، ويبين أن الفرق بين الأنبياء والصالحين والصادقين وغيرهم من بشر أنهم يحولون تلك الأمور والأهداف التي ظاهرها وكأنه دنيوي بحث إلى قضايا تتعلق برضى الله سبحانه وتعالى، تهذيب للنفس البشرية، نوع من أنواع الترقي بأهدافها، برغباتها، بطموحها.
أنت كإنسان، كفرد، لديك العديد من الطموحات، لديك العديد منها، مثلاً على سبيل المثال أن تكون في حال أفضل من الناحية المادية، من الناحية العلمية، المعيشية، أشياء مختلفة. المطلوب منك من خلال سياقات سورة الأنبياء وعرض قصص الأنبياء أن تسمو بآمالك وطموحاتك، أن لا تكون محدود النظرة، أن لا تكون ضيق الأفق في آمالك وأمنياتك وطموحاتك، ترتقي بها، تسمو بها، والقرآن يعلمك كيف ترتقي. الأمر الآخر والرسالة الأخرى أن في الحديث عن الأنبياء قرآن لم يتوقف فقط عند الأنبياء، المواصفات التي يمكن أن يرتقي بها كل إنسان يحب الخير، كل صالح، كل عابد، كل خاشع، كل صابر. ولذلك جاءت الأوصاف المختلفة لهؤلاء الأنبياء الكرام، عدة أوصاف يشاركوا فيها معهم غير الأنبياء من المؤمنين، وصفهم بالعابدين، وصفهم بالصابرين، وصفهم بالصالحين، وصفهم بالخاشعين. لأجل أي شيء؟ لأجل أن يفتح الباب على مصراعيه أمام أولئك المؤمنين، أمام النفوس الصادقة التي تريد أن تقتدي بهؤلاء الأنبياء وتسير في ركبهم.
ولذلك جاء الحديث في نهاية قصص الأنبياء في سورة الأنبياء عن الأمة الواحدة، وأن هذه الأمة وذلك الركب واحد: "أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون". ليبين أن المجال مفتوح والطريقة سالكة ممهدة أمام من يريد أن يتأسى بهؤلاء الأنبياء، يسير في حياته على صفاتهم، على أعمالهم، على ما قاموا به. فإن كانت النبوة اصطفاء واختيار محض من الله عز وجل بحكمته وعلمه وعدله، فالصلاح والصدق والخير، الخشوع، الصبر، هذه اختيارات يمكن للإنسان أن يكون فيها مع الاستعانة بالله سبحانه وتعالى وتوحيده.
وقفنا في أواخر ما وقفنا عنده من دروس عند قضية وقصة سليمان وداود عليهما السلام، وكيف أن القرآن العظيم عرض لنا قصة الأنبياء في حالة قوتهم، الملك، السلطة، الجاه، القدرة المادية بأقوى وأبهى أشكالها وصورها. ماذا يفعل فيها المؤمن؟ عرض لنا أنموذج داود وسليمان عليهما السلام، كيف تحرر من الوقوع في الأسر؟ الإنسان حين يقع في نعمة وينعم الله عليه بنعمة كنعمة الملك والسلطة والجاه، هذه مزلة أقدام، هناك أقدام كثيرة تزل في ذلك الطريق، لا تثبت، لا ترسخ، لا يرسخها الإيمان واليقين. تعتقد وتتوهم أن تلك السلطة وذلك الجاه سيدوم إلى الأبد، ولا أبدية في الحياة. ولذلك القرآن العظيم أعطانا أنموذجًا لذلك النبي سليمان عليه السلام، كيف كان يتضرع إلى ربه سبحانه وهو في أكثر درجات القوة والمنعة والسلطة والجاه، ليبين لنا أن الإنسان المؤمن يستطيع بإيمانه بالله عز وجل أن يتجاوز مختلف الامتحانات، وأن النعمة وأن الجاه والسلطة هو شكل من أشكال الابتلاء والامتحان للإنسان. قل فيه من الناس من ينجح؟ قل فيه من يفهم؟ قل من الناس من يدرك أن ذلك الامتحان والابتلاء يتطلب صبرًا، يتطلب يقينًا بالله، يتطلب تواضعًا وانكسارًا بين يديه، كذاك الانكسار الذي كان في سليمان عليه السلام.
وضرب لنا القرآن كذلك وذكرنا في هذا داود عليه السلام الذي ما وقف الملك حائلًا بينه وبين القيام بالتسبيح، حتى أن الكون تواصل معه تسبيحًا وتهليلًا لله عز وجل. السلطة مدعاة لأن يزل الإنسان، ولكن ليس مع هؤلاء الأنبياء الأتقياء الذين أدركوا أن كل ذلك عارية، ولا بد فيه من أن تسترد العارية والوداعة.
ثم تنتقل بعد ذلك السورة العظيمة إلى حالة الإنسان وهو في الضعف، وهو في شدة المرض. نموذج أيوب، من السلطة والقوة والصحة والمال والجاه إلى الضعف، كلها حالات للنفس البشرية لا تنفك النفس البشرية مهما كانت، حتى ولو كانت تلك النفس ملكًا أو عزيزًا، لا تنفك عن تلك الحالات. بعد الملك والقوة، ذكره بالمرض، قال: "وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين". قرآن العظيم لا يدخلنا في سورة الأنبياء بتفاصيل ما أصاب أيوب عليه السلام، ولكن الضر المقصود به هنا المرض الشديد، البلاء في جسده، البلاء الذي فسر كذلك في سور أخرى كسورة صاد بأنه قد أصيب في ماله، خسر كل شيء، تجارته، خسر أهله، خسر كل شيء نتيجة للمرض الذي أصابه، بلاء شديد. ولكن أيوب عليه السلام ذلك النبي الذي يقدم لنا هنا القرآن في سورة الأنبياء أنموذجًا لحسن الأدب مع الله سبحانه وتعالى من قبل الإنسان المؤمن حين يصاب بالمرض.
بعض الناس حين يصيبه الله عز وجل بمرض أو محنة أو شدة، تراه يسيء الأدب مع الله سبحانه وتعالى، "لما فعلت بي كذا؟ أنا كذا؟" أنا سخط، جزع، تذمر، ضجر من حكم الله وقضاء الله فيه. ولكن القرآن في سورة الأنبياء ينقل لنا متمثلًا في موقف أيوب عليه السلام سورة مغايرة تمامًا، قال: "نادى ربه"، اللجوء، تضرع لله سبحانه وتعالى، هذا التضرع الذي ينبغي أن يولد في الإنسان المؤمن التقي روح ومعنى الرجوع إلى الله عز وجل. تلجأ إلى من؟ هذه زبدة التوحيد، هذه لب التوحيد، الاستعانة، الاستغاثة، التضرع، اللجوء لله سبحانه وتعالى، الشعور بشدة الافتقار إليه. قال: "نادى ربه". تدبر في الكلمة والسياق، اللفظ القرآني "ربه". لماذا؟ ليبين القرآن وينقل لنا دقة المشاعر التي كان يشعر بها أيوب عليه السلام. أيوب عليه السلام لجأ إلى ربه، الرب الذي يربي بالشدة، الرب الذي قد يربي بالمرض كما يربي بالصحة، الرب الذي لا ملجأ لك منه إلا إليه. "ربه" حتى تبين تلك اللفظة القرآنية بدقتها كل المشاعر والأحاسيس والأعمال كذلك المترتبة والثمرات على التوحيد. توحيد ينقذك من الشعور بالغضب والضجر أمام قضاء الله وقدره الذي تكرهه ولا تحبه.
إنسان حين يصاب بمرض كما أصيب أيوب عليه السلام يشعر بضجر، نفس البشرية تشعر بألم، قد يشعر بحزن، أسى، مشاعر مختلفة، ولكن هذه المشاعر الإنسانية يجب أن لا تخرجه أبدًا عن الشعور بأن له ربًا أصابه ومسه بذلك الضر، قادر على أن يرفع عنه ذلك الضر، وأنه حين يصيبه ذلك الضر أو المرض أو الشدة، فلحكمة، لأمر ما، وكل ذلك لا يخرجه أبدًا عن صفو تلك العلاقة بينه وبين الله عز وجل. أنت عبد وهو رب، والعبد لا ينبغي له أن يسيء التأدب مع ربه عز وجل: "لما فعلت في كذا؟ كيف تفعل في كذا؟" لا يسأل عما يفعل سبحانه وتعالى، ونحن نسأل لأننا عبيد. في ذات الوقت تولد تلك اللفظة الشعور بالرضا عن الله سبحانه وتعالى أمامه القضاء الذي أنت لا تحبه أو تكرهه حين يقع بك. "نادى ربه"، التوحيد بقي على صفائه، على نقاوته، الشعور بأن الله قادر على أن يرفع عنك ذلك البلاء، الشعور أنك حتى وأنت في أحوال المرض والشدة فالله ربك، ولا رب لك سوى عدم الشعور بالصخط أمام ما تكرهه من قضاء الله سبحانه وتعالى أو لا تدركه.
ثم تدبر معي في منتهى الأدب من أيوب عليه السلام، قال: "أني مسني الضر". ما نسب الضر لله سبحانه وتعالى، ولا قال: "أنت مسستني بضر، أنت أنزلت بضر". لا، قال: "مسني الضر"، والمس شيء بسيط، خفيف، مس، مجرد مس، وليس إصابة. وهو تعبير عن الحالة الوجدانية التي كان يشعر بها أيوب عليه السلام، حالة ما تولد في قلبه ونفسه من توحيد، بمعنى أن المؤمن مهما نزل به من ضر وألم ومرض وشدة يحمد الله سبحانه وتعالى، ويستشعر أنه كان ممكن أن تكون الأحوال أسوأ من ذلك بكثير. تدبروا في التفاؤل، كيف يصنعه القرآن والإيمان والتوحيد والثقة واليقين بالله سبحانه وتعالى. ما سني الضر، مسني، مجرد مس. لأجل أي شيء؟ ليعبر أن حالته تلك مهما كان فيها من شدة وبأس، ولكن هي مجرد مس. "مسني الضر، وأنت أرحم الراحمين". تدبروا في حسن الأدب والدعاء مع الله عز وجل. ما كانت مجرد كلمات قالها أيوب بلسانه عليه السلام، لا، كانت كلمات نابضة بالحياة، نابضة بالتوحيد، نابضة بالإيمان واليقين بالله عز وجل. ولذلك ثمة نقطة في غاية الأهمية هنا ينبغي الإشارة إليها.
بعض الأشخاص حين يريد أن يدعو الله سبحانه وتعالى بدعاء، ويتيقن بأن الله سيستجيب الدعاء، تراه يقلب في جميع الكتب والأدعية المأثورة عن السلف، عن الصالحين، عن الأنبياء، بما فيها هذه الآية العظيمة، شيء جميل، ولكن الإشكالية متى تقع؟ تقع حين تظن أن استجابة الدعاء مرتهنة فقط بأن تردد ذات الكلمات التي قالها أيوب أو أي أحد آخر من الأنبياء. الدعاء ليس مجرد كلمات، الدعاء ينبغي أن يصاحبه مع ذلك الشعور بالتوحيد بعمقه، الشعور يضرب في أعماق قلبك ونفسك، يجرك إلى الافتقار لله سبحانه وتعالى والتذلل والانكسار بين يديه، وذاك هو لب الدعاء الذي هو من أعظم العبادة، الانكسار والافتقار الذي يتولد عندك حالة تردادك لتلك الكلمات، حتى لا تصبح الكلمات ولا الأدعية مجرد كلمات ترددها ثم تقول بعد ذلك آمين، وتستنكر أحيانًا في نفسك ولو لم تصرح بها كيف لم يستجب لي سبحانه وتعالى؟ إذًا هي ليست ككل الكلمات، هي تعبر عن حالة التوحيد العميق العظيمة التي وصل لها أيوب عليه السلام.
قال: "وأنت أرحم الراحمين". البلاء الذي حل به والمرض الذي وقع به وأصابه ومسه، الضر الذي مسه ما أخرجه عن استشعار رحمة الله سبحانه وتعالى. بعض الناس حين يصابوا ببلاء كما ذكرنا، يخرجوا عن توحيدهم. ربما لم يتعمد أو لم يتقصد، الله سبحانه وتعالى هو الذي يتولى العباد، ولكن راقب نفسك، راقب قلبك، راقب رضاك عن الله عز وجل. قال وقوع الضر والمصيبة: "وأنت أرحم الراحمين". هو مدرك متيقن أن الله سبحانه وتعالى هو أرحم الراحمين، حتى في بلائه وما يصيب الإنسان من ضر. قلة من المؤمنين، قلة من الناس من يستشعر أن البلاء فيه رحمة، قد لا يراها الآن، ولكن فيه رحمة، وأن المطلوب منه أن لا يتساءل ولو لثانية واحدة عن رحمة الله سبحانه وتعالى أو طلب الكشف عن جوانب الرحمة وتجلياتها في ذلك الموقف الصعب، قدر ما يطلب ويفتقر إلى الله عز وجل ويناديه: "أنك أنت أرحم الراحمين، تكشف عني".
وتدبروا معي، لا نجد هنا طلبًا مباشرًا بالكشف عن الضر، فقد قال: "ربي إني مسني الضر، وأنت أرحم الراحمين". والرحمة منتهى الأدب الذي يعبر عن أصدق التوحيد والإيمان والخشوع والصبر من أيوب عليه السلام، الذي هو هنا محط الاقتداء والتأسي. نحن البشر، سورة الأنبياء ليست تتحدث عن أنبياء فحسب، أنبياء بشر، تريد مني ومنك أن نقتدي بهم، أن نسير على هديهم. ولذلك جاءت الآية العظيمة بعد كل القصص: "إن هذه أمتكم أمة واحدة"، بمعنى أن هذا هو الذي تؤمنون به، هذا ما يفعل بك الإيمان والتوحيد، يقودك، يسوقك إلى الله عز وجل. كن مع الركب، كن مع تلك الأمة.
فكل ما في هذه القصص من الموحدين، من الأنبياء الذين رفعوا دعوة التوحيد في قلوبهم قبل أن ترفع رسالة في مجتمعاتهم، ماذا كانت النتيجة؟ قال: "فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر، وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين". وتدبروا في اللفظة، قال: "فاستجبنا له"، بسرعة، سرعة التعاقب، بمعنى آخر أنك أنت وأنت في أشد حالات الضيق والابتلاء والمرض، إياك أن تفقد الأمل والثقة بالله سبحانه وتعالى. ربي عز وجل مجيب، ربي سبحانه قريب، يستجيب لمن دعاه، يكشف الضر عما ناداه، يرفع المرض. حين تغلق الأبواب وتسد ولا يبدو أمام ناظريك أي منفذ للخلاص، كن متيقنًا أن الله سيخلص، أن الله عز وجل سيأخذ بيديك، أن الله سيرفع عنك. إيمانك، توحيدك، يقينك، ثقتك بالله سبحانه، حسن ظنك بالله عز وجل من أعظم معاني العبادة.
وتدبروا في الكلمة، ونحن ذكرنا في عدد من المرات أن المفردة القرآنية في موضعها في الآية، في السورة، لها دلالات عظيمة جدًا لابد للمتدبر أن يعتني بها. قال: "رحمة من عندنا". هذه تتمشى مع السياق الذي جاء في قوله ودعاء أيوب عليه السلام حين قال: "وأنت أرحم الراحمين". فكانت الآية التي تليها قال: "رحمة من عندنا". بمعنى آخر، ظنك بالله ما هو؟ إن كنت تظن أن الله سبحانه وتعالى سيكشف ما بك من ضر، فإن الله كاشف ما قد وقع بك. وإن كان ظنك، والعياذ بالله، غير هذا، ظن سوء، فاعلم أنك ستصاب بذلك الذي ظننت به الله سبحانه وتعالى. "أنا عند ظن عبدي بي". "رحمة من عندنا". قال: "وذكرى للعابدين". لماذا جاء وصف أيوب عليه السلام هنا بالعبادة؟ لماذا على الرغم من أننا لا نجد هنا صلاة أو حديثًا عن الصلاة أو ما شابه؟ الدعاء أعظم منازل العبادة. أيوب عليه السلام هنا نادى ربه، الدعاء، الصبر من أعظم منازل العبادة، من أعظم مراتب العبادة والعبودية لله سبحانه وتعالى.
فاعلم أن العبادة لا تنحصر في ركوع وسجود، وأن العبادة لها من المعاني القلبية ما لا يعلم مداها إلا الخالق عز وجل. ولذلك جاء بها هنا، فقال: "وذكرى للعابدين". اعلم أنك أنت في صبرك على الابتلاء والمحنة والشدة والمرض أنت تترقى في منازل العبودية لله سبحانه وتعالى. فاطمئن. وكلما دعوت الله عز وجل وتوجهت إليه وتضرعت إليه واستعنت به واستغضت به، وذاك من الأعمال القلبية العبادية، إنما أنت تترقى في منازل العبودية لله عز وجل.
ثم أردفها القرآن العظيم بالحديث العابر عن إسماعيل وإدريس وذا الكفل، قال: "وإسماعيل وإدريس وذا الكفل، كل من الصابرين". حديث عن الصبر. كيف صبروا؟ على أي شيء صبروا؟ ما ذكر لنا تفاصيل القرآن في سورة الأنبياء، ذكرها وفسرها في بعض السور عن بعض الأنبياء. هؤلاء الأنبياء صبروا على الابتلاء، صبروا على الامتحان، صبروا على الوقوع في الشدة. تباينت الابتلاءات والامتحانات بحسب تباين أحوال النفوس البشرية، حتى ولو كانوا من الأنبياء. المهم أن ما يواجه المؤمن به الابتلاء هو الصبر. والصبر على فكرة لا يعني السلبية، ولا يعني أن يجلس الإنسان واضعًا يده على خده هكذا مسلّمًا الأمر فقط وتتقلب به الأحوال، لا، يأخذ بكل الأسباب المشروعة التي أراد الله وأمر الله سبحانه أن يأخذ بها الإنسان، ولكن في ذات الوقت يصبر، يعطي الأمور وقتها، يدرك أن الوقت والزمن جزء من الابتلاء والاختبار. الحياة بكل ما فيها وكل إحداثياتها وأحداثها لا تتغير فيها وتتبدل الأحداث بين ساعة وأخرى، ممكن ربي عز وجل قادر على تغيرها، ولكن اصبر. ولذلك قال: "كل من الصابرين". تدبروا في المواصفات، عابدين، صابرين. قال: "وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين". عابدين، صابرين، صالحين. أين وصف النبوة هنا؟ حديث ليس هنا عن وصف النبوة. كل الكلام في سورة الأنبياء وعرض قصص الأنبياء ليس هو حديث عن رسالات أو نبوات. تدبروا معي في كل هذا، كل ما عرضه القرآن في الحديث عن قصص أولئك الأنبياء ما حدثنا عن رسالات قدر ما حدثنا عن مواقف لنفوس هؤلاء الأنبياء، مواقف إنسانية بشرية التي تعتريني وتعتريك، تخصني وتخصك. لماذا؟ لأن هذا موضع الاقتداء، هذا السياق الذي جاء في سورة الأنبياء. ولذلك ذكرنا في أكثر من موضع، لا تكرار في قصص الأنبياء في سور القرآن، سياقات. انظر إلى السياقات التي جاءت ووردت فيها سور وقصص الأنبياء حتى تفهم وتدرك أنه لا تكرار هنا، وإنما الكلام عن جوانب ما ذكرت في سورة أخرى وليس لها ما يماثلها في القرآن. تأكيد لمعنى جديد هنا، التأكيد في سورة الأنبياء على إنسانية وبشرية هؤلاء الأنبياء الكرام، وفي ذات الوقت موضع الاقتداء بهم.
لو ما كانوا بشرًا، لهم مشاعر وأحاسيس وآلام وأحزان، كيف أنا وأنت نقتدي بهم؟ لو كانوا كالملائكة لا يشعرون بألم ولا يحسون بحزن ولا يبكون ولا يتضرعون، أين موضع الاقتداء؟ إنما هم بشر، لهم مشاعر، لهم حزن، لهم آلام يصبرون عليها. ولذلك هذا ما نقله القرآن العظيم في سورة الأنبياء. "وأدخلناهم في رحمتنا"، الدلالة على أن الصبر يدخلك في رحمة الله. إذا فتح لك باب الصبر، مهما كان صبر على شدة، صبر على محنة، صبر على النعمة، صبر على قوة، صبر على ضعف، صبر على مرض، صبر على صحة، وأرأى الله سبحانه وتعالى وهو العليم بالنفوس منك خيرًا، أدخلك في رحمتي. وإذا أدخلك في رحمتي كنت من الصالحين. فالربط قال: "وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين". صلاحك مرتهن بأن تدخل في رحمة الله، لأن أعظم أعظم جوانب رحمة الله بك أن يجعلك من الصالحين. صالحين الذين صلحت أحوالهم، الصالحين الذين يتقربون إلى الله عز وجل بصلاحهم. صلاحنا، صلاح كلمة عامة، صلاح النية، صلاح القلب، صلاح القصد، صلاح الهدف، صلاح الاعتقاد، صلاح القول، صلاح العمل، صلاح السلوك، صلاح الواقع الذي يدفع بك لأن تكون مصلحًا في واقعك وسلوكك. لا يمكن، لا يمكن لأي إنسان يريد أن يقتدي بالأنبياء أن يكون مصلحًا في واقعه ولا يكون مصلحًا في حياته، في ذاته، في قلبه، فأصلح مشاعرك وأحاسيسك التي لا يطلع عليها إلا الله، أصلحها. كيف تصلح؟ بكل العبادات التي ذكرت في هذه الآيات المعدودة، المعدودة التي جاء الكلام فيها عن أيوب عليه السلام. أصلح نيتك، أصلح مشاعرك، أصلح مشاعرك حين يحدث لك ما لا يروق لك، أصلح العبادة بينك وبين الله عز وجل، لأن للقلب عبادات لا يطلع عليها إلا الله سبحانه وتعالى. تعهد بالصلاح، تعهد بالرضا عن الله عز وجل، تعهد بحسن الظن بالله سبحانه. فإذا ما خالجك أمر من الأمور، شيء يغم قلبك، تنبه وتذكر دومًا أن حسن الظن بالله سبحانه وتعالى من أعظم العبادات، ترقى به. وعلم أن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يكشف ما بك من ضر. ولذلك فمن أعظم العبادات الدعاء الذي يدعو به العبد الله سبحانه وتعالى إن حل به ضر: "ربي إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين". وفق الدعوة التي دعا بها أيوب عليه السلام حين قال: "أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين". السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.