بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وقفنا في لقائنا السابق عند الحديث عن الإطار العام الذي نزلت فيه سورة يونس. سورة مكية نزلت على النبي عليه الصلاة والسلام وهو يمر بفترة عصيبة من فترات الدعوة على المستوى الشخصي وعلى المستوى العام.
النبي عليه الصلاة والسلام نعم كان بشراً ولكنه كان نبياً رسولاً، وليس هناك ثمة فصل في الأجواء التي نزلت فيها السورة بين بشريته وإنسانيته عليه الصلاة والسلام وبين نبوته ورسالته. فكان يحزن وكان يتألم وكان يطمئن وكان يرتاح وكان يتفائل. ولكن تلك الفترة التي نزلت فيها سورة يونس عليه كان يمر فيها بفترة حزن وألم. لم تكن أحزانه عليه الصلاة والسلام متصلة فقط بأشياء أو بأمور شخصية. حتى حين نبحث في حزنه على السيدة خديجة أو حزنه على عمه أبي طالب نجد فيه الإنسان الذي بطبيعة الحال يتعرض لحال الحزن، ولكن نجد كذلك النبي، النبي الذي يتألم لفقدان من يمكن أن يكون عوناً أو سنداً له من البشر في الرسالة التي يدعو الناس إليها.
كان يدرك في قرارة نفسه عليه الصلاة والسلام، وهو سيد الصابرين، أن سنده الحقيقي وعونه في الدنيا وفي رسالته وفي كافة شؤونه الرب الذي أمره بالرسالة والإبلاغ. لكن ذلك لا يتنافى مع وجود حضرة الحزن والألم والشعور بأنه وحيد في ذلك المجتمع الذي كان فعلاً يعاني فيه من الصد والأعراض من قومه وعشيرته.
جاءت سورة يونس لتعالج تلك الجوانب، جوانب الحزن والألم. سورة يونس كما ذكرنا في المرة السابقة نزلت بعد سورة الإسراء، السورة التي شهدت تلك الرحلة العظيمة، رحلة الإسراء والمعراج، الرحلة التي كانت تسلية لقلبه عليه الصلاة والسلام. وجاءت سورة يونس لتتمم ذلك العمل، لتتمم تلك التسلية، لتشعر النبي عليه الصلاة والسلام، وكذا كل المؤمنين، بأن الله سبحانه وتعالى قريب ممن دعاه، يكشف الضر، يجيب السائل، يعطي ويمنع سبحانه. كل شيء عنده بقدر، التدبير والتصريف في كل أمر من أمور الكون لا يخرج عن حكمته وعدله عز وجل. حكيم، والمطلوب من الإنسان المؤمن أن يدرك تلك الحكمة سواء بانت أو ظهرت أم لم تظهر في كل ما يمر به، ليس فقط من شؤون حياته الخاصة، ولكن حتى أحداث الحياة. ليس ثمة شيء يقع في الدنيا وفي الكون بدون حكم. ليس شيء يتم ويحدث إلا وله سبب وله حكم، وربي عز وجل.
ونحن لازمنا نتحدث عن مقصد سورة يونس والمناسبات والكشف عن الربط والأحداث فيما بينها الذي اعتدنا عليه. وقلنا في أكثر من مرة أن من مناهج تدبر الكتاب العظيم أن يقف المتدبر عند المناسبة. والمناسبة أشكال وأنواع. هناك تناسب بين بداية السورة وآخر السورة التي قبلها في المصحف. وهناك تناسب بين بداية السورة وآخر السورة. وهناك تناسب بين موضوعات السورة ومقصدها العام، أشكال التناسب. وهناك كذلك تناسب بين السورة وما تعالجه من قضايا وموضوعات وبين الواقع الذي نزلت فيه السورة. والإنسان المتدبر حين يقف على الأجواء التي نزلت فيها السورة، ولا يقول قطعاً بأن القرآن قد نزل لتلك الأجواء فحسب، أبداً. هو يحاول أن يفهم من خلال تلك الأجواء ما يمكن أن تعالجه السورة اليوم في واقعه. والواقع الإنساني متعدد، متعدد الجوانب. ولذلك سيجد في القرآن بغيته وما يبحث عنه في كل شيء في كل أمر، لأن الواقع الإنساني متعدد الجوانب. المهم أن يتعلم كيف ينظر إلى الأمور وينتقل من تلك الأجواء ويعبر إلى أجوائه وحياته وزمنه الذي يعيش فيه. وهذه غاية من غايات التناسب.
لو وقفنا عند أول آية في سورة يونس في قوله عز وجل: "الم * ذلك الكتاب الحكيم". الحروف المقطعة التي ذكرنا في أكثر من مرة أن الكثير من سور القرآن افتتحت بها، البعض منها بحرف، البعض منها بحرفين، البعض بثلاثة، بأكثر. حروف مقطعة، الله أعلم بمرادها. ممكن أن يكون المراد منها أن هذا القرآن المكون من هذه الحروف التي تعرفونها، والقرآن كما نعلم خاطب ونزل أول ما خاطب وتحدى الله سبحانه وتعالى به إلى عرب الأمة التي تتحدث بهذا اللسان، لسان عربي، بهذه اللغة. والقرآن يحدثهم بذات اللغة ولكن عجزت عقولهم وفصحتهم على الإتيان بمثله أو جزء منه. والقرآن في غالب الأحيان حين يبدأ بالآيات أو بالحروف المقطعة في أول آية من آيات السورة لابد أن تأتي في الغالب الآية التي بعدها لتصف هذا القرآن العظيم. وهذا إن دل على شيء فهو يدل كذلك على أن هناك فعلاً صلة واضحة بين هذه الحروف المقطعة التي افتتحت بها السور وبين الحديث عن القرآن العظيم في هذه السورة. ربي سبحانه يقول: "الم * ذلك الكتاب الحكيم". واحدة من أوصاف هذا القرآن العظيم الحكمة، الحكيم والحكيم والحكمة وهي مأخوذة من الحكمة والحكم والإحكام، لا تخرج عن معاني عديدة متعلقة بإحكامه وإتقانه وعدم وجود أي شيء يمكن أن يقود إلى خلل أو عدم إحكام فيه. وكلمة حكم ويحكم تأتي من المنع، المنع الذي يكون لإصلاح وصلاح. ومنهما استعمل في كلام العرب القرآن محكم وفيه حكمة. محكم متقن في حروفه، في إعجازه، في بلاغته، في كل شيء فيه. وكذلك هو يأتي بالحكمة، والحكمة التي بمعنى أنه يحكم في الأشياء ويفصل بينها وبين الأمور بشكل لا يمكن أن يتسرب إليه أي شكل من أشكال مناقضة هذه الحكمة أو مجانبة الصواب أو مجانبة الخير والصلاح في شؤون الإنسان والحياة.
الذي يلفت النظر كذلك ونحن نبحث في قضية التناسب الآية الأخيرة من سورة يونس، الآية الأخيرة من سورة يونس يقول فيها الله سبحانه: "قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل. واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين". الرب سبحانه وتعالى يحكم في كل شيء، يحكم ويفصل بين الأمور وبين الناس والبشر وبين الأقوام وبين الأشياء وبين الحقائق، وهو خير الحاكمين. وهذا القرآن العظيم الذي وصفه الله بأنه حكيم، كلما اقترب الإنسان منه ازداد حكمة، والحكمة أن يختار الإنسان أحسن الأشياء وأنسبها في القول والعمل ليتحقق فيها الصلاح في حياته وآخرته، في معاشه وفي عاقبة أمره. القرآن حين يصفه الله عز وجل بأنه حكيم وليس فقط محكم ومتقن، هو كتاب كلما اقتربت منه تعلمت الحكمة لأن الله سبحانه وتعالى قد أنزل فيه الحكمة، وأثنى على عباده الذين كذلك يقتربون من هذا القرآن العظيم بأنهم يؤتون الحكمة، "ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً". والحكمة ليست فقط في التصرفات ولا في الأقوال ولا فقط في الأفعال، حكمة في كل شيء حتى في الأفكار. الحكمة في الاختيارات، الحكمة في القرارات، الحكمة كذلك في توقيت الزمن المحدد المناسب الملائم لفعل شيء معين أو تصرف ما. والقرآن كل هذه الأوصاف تنطبق عليه كلما اقترب المؤمن، كلما اقترب الإنسان من هذا الكتاب العظيم. ولذلك جاءت آخر آية، تدبروا في التناسب في سورة يونس: "واتبع ما يوحى إليك من ربك". الاتباع، الاقتراب من القرآن لا يكون فقط بالتلاوة، وإن كان ذلك جزء لا يتجزأ، ولكن الاتباع يعني أنك بعد أن تديم الصلة بكتاب الله عز وجل تجعل تلك الآيات منهجاً في حياتك تسير عليه. هذا الاتباع، تنظر فيما يأمر وفيما ينهى، تتوقف عندما ينهى وتسير على ما يأمر به، وتحكم بما يحكم به هذا الكتاب العظيم في حياتك وتعاملك وتصرفاتك وأقوالك. ولذلك القرآن كتاب يعلم الإنسان الحكمة، والإنسان يصيبه من الحكمة بقدر ما تكون صلته بهذا القرآن قوية متينة عظيمة لأنه يدرك بأن الله سبحانه وتعالى هو الذي أنزله، وأنزله بحكمة، وأنزله العليم الحكيم. ولذلك الآية التي جاءت بعدها، ربي سبحانه وتعالى جاء استنكاراً على البشر: "أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربه". كيف؟ إذا كان هذا القرآن في كل شيء، ربي سبحانه وتعالى يعالج الأمور فيه بحكمة، فمما العجب؟ مما هو مقتضى تلك الحكمة؟ كيف يتعجب الكفار؟ كيف يتعجب الناس؟ أن النبي الذي أرسل إليهم بهذا الكتاب واصطفاه الله عز وجل إنما هو رجل منهم، من جنسهم، من بينهم، من قومهم، من عشيرتهم، يعرفهم ويعرفونه، يعرفون تاريخه وأصله وحسبه ونسبه، يعرفون كل شيء عنه، يعرفون صدقه ويعرفون أمانته وحكمته، ما جربوا عليه كذباً قط، فلما يتعجب القوم مما لا عجب فيه؟ بل العجب أن يأتي النبي من خلاف جنسه أو من خارج قومه وجنسه. وأصل الأمر الذي يدعو إلى التعجب ليس فيه عجب، ولكن العكس.
ولماذا القرآن العظيم جاء في سورة يونس منذ البداية قال: "أكان للناس عجباً؟" لأن الإنسان حين تنقصه الحكمة، حين يفقد الحكمة يتخبط، يرى العجب فيما لا عجب فيه، ويترك بجهله وقلة حكمته الأشياء الظاهرة للعيان، الأشياء التي لا تدعو للاستغراب بل تدعو للإيمان والتسليم والتفويض. وتدبروا معي في ذلك التناسب بين الآيات: "آيات الكتاب الحكيم * أكان للناس عجباً". الإنسان الحكيم لا يتعجب مما لا عجب فيه، ولكنه يتعجب من الشيء الذي يدعو إلى الاستغراب. ولذلك القرآن نهاها بقوله عز وجل، ختم الآية بقوله: "قال الكافرون إن هذا لساحر مبين". هذا الذي يدعو للعجب، الذي يدعو للعجب أن يقول الكافرون عن هذا النبي الكريم أنه ساحر وأن سحره واضح ومبين، وهم الذين يعرفونه وما جربوا عليه لا سحر ولا كهانة ولا كذب ولا افتراء، ولا أنه يطرق أبواب السحر والكهنة والعرافين، فكيف يسمون هذا القرآن العظيم بأنه فعلًا سحر، وأن صاحبه النبي الذي قام بتبليغه له وإصاله عليه الصلاة والسلام ساحر؟ هذا الذي يدعو للعجب، لأن هذا القول خلا من الحكمة، لا حكمة فيه، صاحبه يتخبط، لا يدرك ولا يعي ماذا يقول، ولا يفهم الافتراءات التي يأتي بها على هذه الرسالة وعلى هذا الكتاب وعلى صاحبه عليه الصلاة والسلام. وما يقول القرآن في أول آيات سورة يونس يطرحه في كل آيات السورة بأشكال متنوعة. تخبطات الإنسان، فرداً كان أو جماعة أو قوم، حين يغرب عنه هدي القرآن العظيم، حين لا يهتدي بهدي القرآن، حين لا يعيش مع القرآن، حين لا يسلم أمره إلى هذا الكتاب، حين لا يحكم القرآن في حياته، وقبل أن يحكم القرآن في حياته القرآن لا بد أن يحكم في عقله وفكره وقلبه. إذا ما حكم أصبح ذلك الإنسان متبعاً يسير بهدي القرآن، بأخلاقه وسلوكه. وإذا ما تخبط وابتعد عن هذا القرآن وتعجب من أمره ونزوله على هذا النبي الكريم، إذا بهذا الإنسان يتحول إلى إنسان متخبط جاهل عاجز، تخلو تصرفاته وسلوكياته من أي نوع من أنواع الحكمة. عبثية، يتصرف بعبثية، لا هدف من وراء ما يقوم به. يقوم ويقعد ويجلس ويعطي ويمنع ويأخذ ويحكم، ولكن كل تلك التصرفات عبث، لا هدف ولا مقصد من ورائها.
هذه المعاني العظيمة التي جاءت في سورة يونس تؤكد لنا مقصداً عظيماً من مقاصد السورة. سورة يونس تتكلم عن لقاء الله عز وجل، هذا اللقاء الذي يدركه الإنسان المؤمن بقلبه وإحساسه وشعوره، وهو متيقن أنه سائر إلى ذلك اللقاء، ابتعد أو اقترب هو سائر إلى ذلك اللقاء. على عكس الإنسان العابث الذي لا يرى لحياته معنى ولا هدف ولا غاية، يعتقد أن ذلك اللقاء لا يأتي وليس هناك ما يرجوه من ورائه، فيبتعد ويطمئن بالعاجل الذي يرى، حياة الدنيا، ويركن إليها، فيزداد عبثاً وغروراً وتمرقاً. هذا الكتاب الذي في عملية اصطفاء النبي الذي أنزل وأرسل إليه ما خضع لقوانين ولا لأحكام البشر. سورة يونس تعلم البشر، تعلم الإنسان أن مقاييسنا كبشر تختلف عن مقاييس الرب سبحانه وتعالى، وأن الإنسان العاقل إذا أراد فعلاً أن يأخذ من الحكمة عليه أن يدرك أن المقاييس والموازين التي يحكم الله عز وجل فيها بين عباده ويفصل، مقاييس فيها حكمة، أنزله العليم الحكيم، أنزله خير الحاكمين، يفصل ويحكم. وفي فصله وحكمه لا يخرج الأمر عن حكمته، بانت أو لم تَبِن للبشر أو في أوقات معينة من حياته وظروفه.