د.رقية العلواني

حلقة ١٠ من ١٢
تدبر سورة يوسف: الحلقة السادسة

مقدمة عن قصة يوسف عليه السلام في السجن

لازمنا في حديثنا عن سورة يوسف أن نمشي مع تلك المراحل التي مر بها يوسف عليه السلام في حياته، الإنسان الصديق المحسن ابن الأنبياء. يوسف عليه السلام، اليوم، لا يزال يعاني من السجن، ولكن السجن في حق يوسف عليه السلام ما كان سجناً. نذكر أننا ذكرنا، ونحن نتدبر في هذه الآيات، كيف أن السجن بالنسبة ليوسف كان خلاصاً، كان راحة بال، كان تغييراً في تلك البيئة الفاسدة التي كان يعيش فيها ويعاني منها. صحيح ما كانت تلك البيئة سجناً بالنسبة له، ليس فيها قطبان وليس فيها حبس لحريته في الحركة، ولكن كان له حبس من نوع آخر: حبس الإنسان المؤمن الصادق عن مزاولة ما يؤمن به ويصدق به. إحاطت كل أولئك المفسدين، أولئك القوم المفسدين من النساء وغيرهم، به من كل جانب، فكان سجناً من نوع خاص. كان يسكن قصر العزيز، ولكن القصر في حقه آنذاك بات سجناً، سجناً من نوع آخر، سجن معنوي. السجن ليس فقط السجن الحسي الذي به قطبان وحديد وتقييد لحرية الإنسان في حركته الحسية، السجن المعنوي هو تقييد لحركة الإنسان وحريته المعنوية، حريته في ممارسة ما يؤمن به، ما يرى بأنه الصواب، وأنه الحسن، وأنه الرسالة التي لأجلها يعيش.

وكما أن يوسف عليه السلام دخل السجن وفق تدبير الله سبحانه وتعالى له في كل حركة وفي كل سكنة، هكذا المؤمن الذي يصرف أموره وشؤونه الله سبحانه وتعالى، ولذلك هو مطمئن متوكل على الله سبحانه وتعالى.

خروج يوسف من السجن

يوسف، بطبيعة الحال، أراد أن يخرج من ذلك السجن بعد فترة، بعد حين، ولكن الله سبحانه وتعالى دبر ليوسف أن يخرج خروج المنتصرين الفائزين، خروج الأبرياء، لا خروج أولئك المتهمين الذين أنهوا أو قضوا فترة السجن التي حكم بها عليهم. يوسف كان بريئاً، يوسف دخل السجن وهو بريء، دخل السجن ليتخلص من كل تلك الضغوط التي كان يعاني منها من امرأة العزيز ومن حولها في سجن العزيز، في قصر العزيز الذي كان سجناً في حق يوسف. دخل السجن وهو يحمل تلك الرسالة العظيمة في قلبه وفي نفسه، وأراد الله له أن يخرج خروج المنتصرين، خروج الأبرياء، لا خروج المنهزمين أو المجرمين الذين تلوثت سمعتهم بما اقترفوه من آثام أو من جرائم.

فشاء الله سبحانه وتعالى أن يدبر ليوسف عليه السلام، وهو لا يعلم، رؤيا رآها الملك بعد فترة من الزمن، بعد سنوات، ويبحث عن من يعبر له تلك الرؤية فلا يجد. وعجز من كان حول الملك وقالوا إنها أضغاث أحلام. وتدبر معي حتى في الكلمات، الإنسان لا يظهر حسنه، ولا تظهر براعته، ولا روعة ما يقوم به أو ما يقوله إلا حين يواجه بضده. الله عز وجل أراد، كما تظهر لنا الآيات، أن يظهر لذلك الملك، "يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون". قالوا: "أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ ۖ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ". ظهر عجز الملأ من حول ذلك الملك، عجزهم عن أن يعبر تلك الرؤية التي رآها الملك، وفي ذات الوقت عجزهم وقلة رأيهم وعدم سداده حين قالوا إنها أضغاث أحلام. هم لا يعرفون الرؤى ولا يعرفون بتأويلها، ومع ذلك تعجلوا بإصدار الحكم عليها بأنها أضغاث أحلام. هذا التدبير الإلهي ليوسف عليه السلام ليتبين لذلك الملك منزلة يوسف عليه السلام، الفارق الشاسع بين يوسف الصديق العالم، ليس فقط بتأويل الأحاديث ولكن بكيفية التخطيط المستقبلي، كيفية التخطيط الحقيقي الاستراتيجي الذي يخدم المجتمع ويخدم الأمة ويخدم كذلك مصالح ملك هذا الملك، والفارق بينه وبين أولئك الملأ الذين كانوا يحيطون به.

براءة يوسف عليه السلام

وهنا تظهر قضية يوسف عليه السلام من جديد على السطح. وقال الذي نجى منهما، وادكر بعد أمة، "أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ". تذكر قصة يوسف، تذكر صدق يوسف، ولذلك حين جاء إليه وخاطبه، قال "يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ". يوسف صديق في قوله وفي أفعاله، صديق في تعامله، صديق في إحسانه، صديق في دعوته ورسالته. مع ذلك السجين الذي خرج قبل فترة من الزمن وتذكر وبقيت في ذاكرته صدق يوسف عليه السلام. أفتاه يوسف عليه السلام في رؤياه، رؤيا الملك، وقال: "تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ". هذا ليس تعبير رؤية فقط، هذا ليس تأويل للرؤية، هذا معه تخطيط، هذا معه علم. ولذلك حين رجع إلى الملك وقص عليه الرؤية وقص عليه تعبير يوسف عليه السلام لتلك الرؤية، سارع الملك فقال: "ائْتُونِي بِهِ".

ولكن الذي يلفت النظر أن يوسف السجين حين تأتيه البشرى برغبة الملك في إحضاره إلى قصره لا يطير قلبه فرحاً بذلك، وكأي إنسان عادي سجن ظلماً وتأتيه البشارة بأن الملك يريد أن تأتي إليه، بكل تأكيد سيستقبل الخبر بمنتهى الفرح، منتهى السعادة، ويبادر ويسارع لتنفيذ ذلك الطلب. ولكن يوسف شيء آخر، يوسف أدبه الإيمان، يوسف تربى في حجر نبوة يعقوب عليه السلام، يوسف ربته تلك المعاني العظيمة: معاني الرسالة والإيمان بالله عز وجل واليقين به. فلا يطير فرحاً بإقبال ملك، ولا يشتاط غيظاً، أو حزناً، أو ألماً على غضب ملك سجنه، العزيز. ولكن يقينه بالله لم يتغير. والآن يريد الملك أن يطلقه حراً، ولكنه كذلك لا يطير قلبه فرحاً. توازن! سورة يوسف تعلمنا التوازن في المشاعر والعواطف، التوازن في استقبال أحداث الحياة. لذلك القرآن في سورة أخرى يقول: "لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ". المؤمن متوازن، حين يحدث له ما ينتظره أو ما يسره لا يفقد توازنه، لا يفقد حكمته، لا يفقد طريقة التعامل مع الحدث التي ينبغي أن تكون. ولذلك يوسف عليه السلام كان حكيماً، كان محسناً في استقبال ذلك الحدث السعيد، الخبر، البشارة العظيمة التي جاءت إليه. فماذا قال؟ قال: "ارْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ۖ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ". قبل أن أخرج من السجن، أنا لا أريد أن أخرج من خلال مرسوم ملكي صادر بحقي، أنا أريد أن أخرج بناءً على براءتي، أنا أريد أن أخرج وقد أظهرت الحق الذي قد حصل، أخرج وأنا مرفوع الرأس. تدبروا معي في هذه المعاني العظيمة، المؤمن إنسان مرفوع الرأس. من أين جاءته تلك الرفعة؟ من أين جاءه ذاك الإحساس والشعور؟ إيمان، يقين بالله سبحانه وتعالى. الإيمان بالله يرفع رأس المؤمن عالياً، لا تكبراً ولا استعلاءً على الآخرين، ولكن يقيناً بأن الله معه، وأن الله، ولو بعد حين، سيظهر براءته، وأن الله سبحانه وتعالى لا يضيع أجر المحسنين، وأن الحق الذي أراد أولئك القوم أن يطمسوه من خلال سجن يوسف لا بد أن يظهر الآن، حصحص الحق كما سيأتي على لسان امرأة العزيز.

إذن، التريث والرجوع إلى الملك لكشف الحقيقة، كشف السر وراء سجن يوسف عليه السلام، وإظهار تلك البراءة التي تليق به وهو النبي بن الأنبياء. تدبروا معي في هذه المعاني العظيمة، خروج من السجن والالتحاق بخدمة ملك شيء دنيوي، ولكن إظهار الحق والبراءة وطهارة يوسف ونزاهة النبي يوسف عليه السلام أكبر من كل تلك المكاسب الدنيوية العاجلة. هكذا المؤمن حين يرى وينظر إلى الأشياء لا ينظر لها من زاوية ضيقة، زاوية المكاسب العاجلة، وإنما ينظر إلى ما هو أبعد، ينظر إلى الرسالة، ينظر إلى تلك المكانة التي رفعه الله سبحانه وتعالى بها.

شهادة امرأة العزيز

وهنا جاء الحق فعلاً. استدعى الملك بعد سنوات، تدبروا معي، الحق لا يموت، والحقيقة لا تندثر. قد يحاول البعض من الناس أن يطمسوا معالمها، قد يغيبوها تحت التراب قتلاً أو سجناً أو طمساً أو إسكاتاً، ولكن الحق لا يموت. أصحاب الحق الذين يعرفون الحق، وعلى رأسهم الأنبياء، يتيقنون بأن الحق لا يموت، قد يخفت لبعض الوقت نتيجة لكل تلك الضغوط التي يواجهها، ولكن هو لا يموت، والحقيقة لا تندثر. فهذا الملك الذي عبرت له تلك الرؤية، وكانت تلك الرؤية تدبيراً، ومسبب في هذه المعاني التي يسببها الله عز وجل، مسبب الأسباب جعل الرؤية سبباً لكل تلك الأحداث التالية اللاحقة التي جاءت في حياة يوسف عليه السلام. قال: "مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ". استدعى النساء، قلنا: "حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ". تدبروا في هذه المعاني العظيمة، كم مر من المرات ظهرت براءة يوسف الصديق عليه السلام على لسان آخرين؟ كم مر وشاهد شاهد من أهلها وهي اعترفت في نفسها في ذلك الموقف، واعترفت أمام النساء، قالت: "أَنَا رَاوَدْتُهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ". والآن النساء اللواتي حضرن الموقف بأكمله وبأسره يشهدن ليوسف: "قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ". قالت امرأة العزيز: "الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ". ظهر، تبين، وكأن ذلك الحق كان يمشي شيئاً فشيئاً بهدوء ليظهر كأنه الشمس. الشمس وهي تظهر بضيائها فتغير كل شيء مظلم، تزيل معها كل ظلام، تزيل معها كل ما يمكن أن يكون من خيوط الظلم. الحق، ومرة أخرى، تشهد كذلك ليوسف عليه السلام: "حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِي وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ". شهادة الناس ليوسف عليه السلام بالصدق ما جاءت من قبل أبي الذي يحبه، ما جاءت، جاءت على لسان أولئك الذين كادوا له وما كروا به. تدبر في هذا المعنى العظيم. هناك معان غابت عن حياتنا، أو أحياناً تغيب نتيجة لضغوط الحياة المادية التي نمر بها. نحن نعتقد أحياناً أن المكر والكيد والمؤامرات التي تمر بنا كبشر، كأشخاص، كأفراد، ونحن نتمسك بالحق الذي أمرنا الله بالتمسك به، أنها عمليات تشويه للسمعة، وبالتالي ابتلاء خطير جداً، ونتألم ونحزن. كبشر، نحن بشر في النهاية، نتأثر بظواهر الأحداث،

الذي يؤسفني ويؤلمني، وأنا أجهز وأعد المادة لتدبر هذه الآيات العظيمة معكم، وقفت على العديد من كتب التفاسير كما أفعل عادة. الذي لفت انتباهي أن هناك عدداً ليس بالقليل من هذه الكتب، قديماً وحديثاً، لا تزال تدور في فلك أن يوسف عليه السلام صدر منه الهم، وأنه أراد أن يفعل، وحدثته نفسه بأن يفعل شيئاً من الأشياء في قضية امرأة العزيز. بمعنى أنه يستجيب لما راودته هي عنه. ولكن الآيات والشواهد الصريحة في كتاب الله في سورة يوسف جاءت على لسان المرأة في أكثر من مرة، صاحبة الشأن التي هي، بطبيعة الحال، نتيجة لموقفها الضعيف الحساس، ستكون أحرص من تكون على أن تشير بأن يوسف هكذا وهكذا، أو حاول، أو صدر منه ما يريب، أو صدر منه ما تشاء. لفت النظر أن المرأة شهدت بصدقه مرة بعد مرة، وما أشارت ولو إشارة لصدور، ولو حتى حركة أو سكنة من سكنات يوسف، يمكن أن تشي بشيء غير الصدق، غير النزاهة، والعفة، والاسم التي شهدت له بها. فلماذا هذا الإصرار في كثير من كتب التفاسير القديمة والحديثة على هذه التأويلات التي أجزم بأنها تسربت إلينا من الإسرائيليات؟ لماذا؟ لماذا يطيش بنا الخيال بعيداً لنسج قصص نسجها بنو إسرائيل في حياة أنبيائهم وقد ذكرها القرآن في أكثر من موضوع، "مَا تَرَكُوا نَبِيًّا إِلَّا افْتَرَوْا عَلَيْهِ الْكَذِبَ"، من موسى عليه السلام، إلى سليمان عليه السلام، إلى داود عليه السلام، إلى كل الأنبياء، ومنهم كذلك يوسف عليه السلام. فإذاً ليس السؤال أنه نسجة إسرائيليات حول القضية، السؤال: كيف تحكمت في كثير من التفاسير تلك الإسرائيليات والقصص؟ ولذلك المتدبر في كتاب الله عليه أن يدرك وهو يقرأ كل هذه الشهادات بالبراءة والنزاهة والعفة والاسم والطهر ليوسف عليه السلام أن هذه الأقاويل لا بد أن ترفض. من أعظم قواعد التدبر أن يأتي النص القرآني واضحاً صريحاً فيعلمني كيف أرفض وأرد تلك الأقاويل والتفسيرات والتأويلات الفاسدة البعيدة عن المعنى العظيم الذي يأتيه في الآيات وفي سياقاته. وهذا معنى عظيم شهدت به في أكثر من موضع امرأة العزيز وما أشارت ولو مجرد إشارة ممكن أن تخفف شيئاً من الحكم عليها هي، موقفها حساس جداً، كان يمكن أن تتخلص، ولو بإشارة، من كل ما لاحق بها في هذه المسألة، ولكن الله سبحانه وتعالى أبى إلا أن يظهر الحق على لسان تلك المرأة وغيرها. ولذلك أقبلت فقالت: "ذَٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ". سورة يوسف تعلم الإنسان أن يكون صادقاً مع نفسه، صادقاً مع الله سبحانه وتعالى في السر كما في العلن، وأن الصدق في السر يقل إنسان من كل ما يمكن أن يراد له من دسائس ومن مكر ومكائد في الشدائد وفي المحن وفي العلن. قالت: "وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ۚ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ۚ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ". النفس قد تأمر بالسوء، ونحن نعلم بأن القرآن العظيم ذكر لي مراحل للنفس. النفس ممكن أن تكون أمارة بالسوء، النفس ممكن أن تكون نفس لوامة، ممكن أن تكون نفس نادمة، ممكن أن تكون نفس توابة. هذا كله يتراوح في تلك النفس بين مراحلها في العودة والرجوع لله سبحانه وتعالى.

تمكين يوسف عليه السلام

وهنا، وبعدما ظهرت كل الحقائق بين أمام الملك الذي تأكد من صدق يوسف وبراءة يوسف ونزاهة يوسف وعدالة يوسف وأمانة يوسف قبل أن يراه، هنا قال مرة أخرى: "ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي". تدبروا معي، المرة الأولى قال: "وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ" فقط، وعندما ظهرت الحقائق جلية، وظهر وأظهر الله عز وجل ما يليق بيوسف ومكانة يوسف ونزاهة يوسف، وقال الملك: "ائْتُونِي بِهِ"، ولكن هذه المرة قال: "ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي". أراد الله عز وجل يوسف أن يخرج من السجن عزيزاً مكرماً قد ممكن له في الأرض، أراد له أن يكون ويخرج كذلك بما ينبغي أن يخرج به. ولذلك حين دخل على الملك، ما دخل دخول الإنسان الذي يشعر بأنه قد أصابه الفرح وأصابه الخير نتيجة لما أسدى إليه الملك من معروف وخير بإظهار وخروجه من السجن. لا، يوسف خرج بريئاً كما دخله بريئاً، وخرج صديقاً كما دخله صادقاً أميناً. وهنا: "فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ". تدبروا معي، ربي عز وجل ذكر التمكين في أكثر من مرة في سورة يوسف، وهنا قالها بنص العبارة على لسان الملك: "إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ". لماذا مكن الملك ليوسف؟ ظهرت له كل مقومات الرئاسة والزعامة، وهذه كلمة عظيمة لكل أولئك المسؤولين وأصحاب القرارات ومن يريدون أن يولوا المناصب الحساسة للأصحاب والأشخاص. أعطانا كلمتين، كلمتين جاءت على لسان ذلك الملك الخبير الذي أدرك أن مجتمعه وأن مدينته وأن دولته وحكمه يمر بفترة عصيبة جداً، والفترات العصيبة في حياة الأمم والشعوب تحتاج إلى من؟ تحتاج إلى: "مَكِينٌ أَمِينٌ". أمكنك وأنا مدرك بأنك أمين. الأمانة مفتاح التمكين في كل المناصب الحساسة وغير الحساسة، الأمانة، الأمانة التي اتضحت عياناً لذلك الملك من خلال مواقف، من خلال تجارب، ولذلك لا بد أن يمر كل أصحاب المناصب الحساسة، قبل أن يولوا من تلك المناصب، باختبارات، بتجارب تكشف عن معدنهم، تكشف عن أمانتهم. الأمانة تختبر، ويوسف عليه السلام اختُبر في أمانته مرة بعد مرة، مرات، اختُبر في السر فظهرت براءته وظهرت أمانته، وشهد له القاصي والداني، وشهد له العدو قبل الصديق، شهد له كل أولئك الشهود أمام الملك ليمكن له بعد ذلك. وهنا جاءت كلمة يوسف عليه السلام: "قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ". ما كان يوسف يتوق لمنصب من مناصب الدنيا، إذن لماذا كان يريد أن يكون على خزائن الأرض؟ إتمام، إكمال لمهمته، رسالته. أي رسالة؟ رسالة الحق، رسالة العدل. العدل حين يحول إلى ممارسات، ممارسات اقتصادية وممارسات إدارية، الأمانة حين تحول إلى قرارات صائبة يستفيد منها المجتمع وتستفيد منها الدولة. ولذلك جاءت الآية التي بعدها: "وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ". من الذي مكن ليوسف؟ ليس الملك، رب الملك، ملك الملك سبحانه وتعالى الذي مكن. الكلمة جاءت على لسان الملك: "إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ"، ورب عز وجل يقول لنا: "وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ". ولكن هل سيتبوأ يوسف عليه السلام لأجل تحقيق المصالح الدنيوية العاجلة، أم لأجل تحقيق مكاسب لنفسه أو لذاته هو؟ قالها، كلمة، قال: "إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ". مستوجبات الأمانة حفظ وعلم، علم، علم بما يفعل، علم اقتصادي، وعلم إداري، وعلم سياسي، وأمانة، وحفظ تترجم إلى ممارسات يحتاج إليها ويحتاج لها الناس. قال: "نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ". مرة أخرى يوصف يوسف عليه السلام بأنه من المحسنين. ولذلك ذكرنا أن من أعظم محاور ومقاصد سورة يوسف الإحسان. الإحسان حين يتمثل في التصرفات الفردية، والتصرفات السلوكية، والتصرفات الإدارية. يوسف المحسن في بيته، يوسف المحسن في غربته، يوسف المحسن حين كان تحت يد العزيز، امرأة العزيز، ويوسف المحسن حين بات مكيناً أميناً حفيظاً عليماً عزيزاً على مصر وأهلها. "وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ". هذه مكاسب حصلت ليوسف عليه السلام في الدنيا حتى لا يقول الناس أن من يفعل الخير لا يجد جزاءه في الدنيا أبداً. من يفعل المعروف والخير لا يعدم جزاءه لا في الدنيا ولا في الآخرة. أجر الآخرة خير، ولكن أجر الدنيا سيظهر. وبالتالي أمانتك وصدقك وإحسانك مع الآخرين، وإن أساءوا، وصبرك على ذلك لن يضيع، "فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا". هذه حقيقة إذا استقرت في قلب الإنسان المؤمن وهو يباشر حركته في الواقع وفي الحياة وفي التعامل وفي السلوك مع الناس يعيش حراً كما عاش يوسف عليه السلام. يوسف عليه السلام عاش حراً وهو أسير، عاش حراً وهو سجين، وعاش في كل ذلك وفي كل تلك الفترات والمراحل صديقاً أميناً محسناً. نموذج، نموذج يحتذى للإنسان الأمين في وقت عزت فيه الأمانة وكثر فيه الكذب والخيانة. الأمانة، الأمانة صفة المؤمن الملازمة التي تلازم إيمانه، فالمؤمن لا يكون إلا أميناً، أمانته جزء لا يتجزأ من إيمانه بالله عز وجل، الرب سبحانه وتعالى الذي أمر بأداء الأمانات. وسنرى مواقف في سورة يوسف عليه السلام تعكس سلوك الأمانة وتعكس ذلك الإحسان في أبهى صوره. نلقاكم بإذن الله، السلام عليكم ورحمة الله.