تبدأ السورة بأوصاف كاشفة لأحوال الناس يوم القيامة، وخاصةً أحوال الذين لا يصدقون به. يقول الله تعالى: "ولا يسأل حميم حميمة". لماذا ذكر الحميمية هنا؟ لم يقل صداقة، ولا أخوة. سور أخرى تكلمت عن الأخلاء، "الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين". ولكن هنا، التركيز على الحميمية. يرون بعضهم البعض، والموقف عصيب، ورغم ذلك لا يسأل أي واحد منهم عن أحوال الآخر.
ما علاقة هذا بما نقوله عن الأحداث العصيبة في الدنيا؟ الإنسان في الدنيا، حين يمر بمأزق، أو ظرف صعب، أو حريق، أو انهيار مبنى، ترى الأم تسأل عن أبنائها، والأخ يسأل عن إخوته وأقاربه. "ماذا حصل لفلان؟" بحسب درجة الحميمية بينهم. لكن يوم القيامة، لشدة الأهوال، "لا يسأل حميم حميمة". يوم عصيب، شديد، وليس كغيره من الأيام.
يقول تعالى: "يبصرونهم". هم يرون بعضهم البعض، ولكن لا يسألون. شيء طبيعي، حين ترى إنساناً تحبه في مأزق، تسأله عن حاله. لكن يوم القيامة، "لا يسأل حميم حميمة". هذا الكلام كله عن الذين يكذبون بيوم الدين.
لماذا القرآن يأتي بالحميمية هنا؟ لأن الصداقة والمعارف والقرابة من أكثر العقبات التي وقفت في وجه الدعوة الإسلامية في مكة. صداقات وعصبيات قريش، الصداقات الفاسدة التي تجر أصحابها إلى النار. هناك أصدقاء حميمون، لكنهم لا يدلونك إلا على الشر، ولا ينهونك إلا عن الخير. القرآن العظيم أراد أن يعري أمامهم تلك الصداقات الفاسدة الموهومة. لأن من أعظم العقبات التي وقفت في وجه الدعوة في مكة تلك العلاقات والحميميات الفاسدة في قريش والعصبيات. ناس تخاف من الناس، وناس تغطي على أخطاء الناس وانحرافاتهم.
النتيجة: "ولا يسأل حميم حميمة". هؤلاء الذين أنتم أصحاب علاقات قوية معهم لن يسألوا عنكم يوم القيامة. "يبصرونهم" يرونهم. "يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببني".
هؤلاء لن يغنوا عنك شيء، حتى أقرب الناس إليك. يقول القرآن: "يود المجرم"، لأنه كما ذكرنا هذه الأحوال خاصة بمن يكذب بيوم الدين. أما الناس الآخرون، الصنف الآخر، حالهم مختلف تماماً. "يتعارفون بينهم"، ناس سيسألون عن بعضهم، الناس المؤمنين شيء آخر. "الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين". هذه خلة صداقة ومحبة الفاسدين المجرمين.
ماذا يفعل المجرم؟ قال: "لو يفتدي من عذاب يومئذ ببني". هل هناك أغلى من الأبناء؟ لماذا ذكر الأبناء وابتدأ بهم؟ لأن كثيراً من الإشكاليات في حياة الناس اليوم تقع من قبل أبنائهم. قد تقع في أكل المال الحرام، والعياذ بالله، لأجل توفير حياة كريمة لأبنائك.
هذا واقع، وإذا سألته، يقول لك: "ما أريد أبنائي أن يعانوا مثل ما أنا عانيت". يخي، خليهم يعانوا مثل ما عانيت بالحلال. "ما أطيِّبَ العيشَ الحلالَ ولو كان قليلاً، وما أبغضَ الحرامَ ولو كان كثيراً". لا تسعدهم بالحرام.
واجهه القرآن بالحقيقة: "يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببني". فداء، يقدم أبناءه فداءً لأي شيء من العذاب. سيضحي بكل شيء.
تدبروا في الكلمة، جمع كل شيء، جمع كل أحد في هذه الآيات. لأننا فعلاً، لو تدبرنا في واقعنا، لوجدنا أن كثيراً من الأخطاء والذنوب التي نرتكبها إنما هي من قبيل الأبناء، والصاحبة، والزوج، والأخوة، والأهل، والأقارب. ليس لأنهم بالضرورة يأمرونك بذلك، أنت تشعر أن لديك التزاماً تجاههم، فيوقعك ذلك أحياناً في أن تفعل أشياء لا يرضاها الله.
قال: "وصاحبته وأخيه وفصيلته التي تؤوي". الفصيلة كانت عند العرب شيءٌ يُدَقُّ على الوتر، وهو حامي فصيلته التي تؤوي. أنتم الآن تدافعون عن هذه العشيرة والفصيلة التي تنتمون إليها، ووقفت تلك العصبيات حائلاً بينكم وبين القبول للدين. واحدة من أكثر الأشياء التي جعلت صناديد قريش لا يؤمنون بدعوة النبي عليه الصلاة والسلام، وصرحوا بها، قالوا: "لبني هاشم نازحتمونا في كل شيء، خذتم منا كل شيء، الرياسة والسيادة، والآن تقولون منا نبي؟" نظروا إلى القضية من زاوية العصبيات.
وللأسف الشديد، هذه العصبيات لا تنتمي فقط إلى زمن أو فترة زمنية معينة. تعددت العصبيات والقضية واحدة، التعصب المقيت الذي لا يرضاه الله ورسوله. حتى اليوم، ونحن في هذا الزمن المتطور، ترى الناس يتعصبون لأشياء وكأنهم في الجاهلية.
"وفصيلته التي تؤوي". ذُكِرَت فصيلتك وعشيرتك وتعصباتك التي منعتك من أن تجري وراء هذا الدين. واليوم، يوم القيامة، أنت على استعداد أن تضحي بكل هؤلاء وتفتديهم لأجل أن تفتدي من ذلك اليوم.
قال: "ومن في الأرض جميعاً ثم ينجي". أسقط كل العلاقات. "ومن في الأرض جميعاً". طيب، إذا كان كل الناس ما يغنون عني، إذن أنا ماذا أفعل بهم؟ حتى عادةً نقول: "فلان أنا أخليه للوقت الصعب". إذا كان هذا أشد يوم سيأتيك، ولن تستفيد من هؤلاء، إذن ما المطلوب منك؟ المطلوب منك أن تتخلص من كل هذه العوائق. علاقاتك الإنسانية لا ينبغي أن تحول بينك وبين الله عز وجل. لن تغني عنك شيء. ولو كانت ستنفعك، لنفعت الكافرين في ذلك اليوم الشديد.
أنت من يقف معك في جدتك؟ في حياتنا الدنيا، من يقف معنا في جدتنا؟ الأهل والأقارب والعشيرة. حين تحدث حادثة أو وفاة، من يقف معك؟ الأهل والأقارب والأخوار. يوم القيامة من سيقف معك؟ تدبروا في الكلمة. إذا كانت العلاقات قائمة على الإيمان الوضع مختلف، ولكن إذا قامت على حسابات أخرى فالوضع مختلف تماماً.
يتمنى ويود أن يفتدي بكل الناس ثم يُنجيه. من شدة ما يرى من هول ما يرى. إذا كان الأمر كذلك، المطلوب منك في علاقاتك الإنسانية أن يكون الأول في حياتك الله سبحانه وتعالى ورضاه، ولا شيء قبله ولا شيء بعده. لا تقدم على رضى الله أي شيء ولا أي أحد.
[continue]لأننا في حياتنا أنهكتنا هذه العلاقات والمداعنات والمساومات والمجاملات، وأفسدت علينا في كثير من الأحيان صفو علاقتنا مع الله. كم مرة جاملت واستمعت إلى الغيبة والنميمة لأجل أن لا تجرح مشاعر ابن عمك أو بنت عمك؟ كم مرة خضت معهم فيما لا ينبغي أن تخوض فيه لأجل أن تداري مشاعرهم؟ كم مرة توقف وسألت نفسك السؤال الصريح: هل سيغنون عني يوم القيامة شيئاً؟
أبداً. من الذي ينفعك في ذلك اليوم؟ ما قدمت. ستأتي الآيات بعد قليل. قال: "كلا إنها لظى". كل هذا لن ينفع، وكل ما سيقدمه الإنسان يوم القيامة ليفتدي به من ذلك العذاب لن ينفع شيئاً. "كلا إنها لظى". لظى اسم من أسماء النار. لماذا القرآن قويٌّ، يقرع القلوب والوجدان في تلك الكلمات والمفردات؟ يوقظ الإنسان من غفلته. أنت لن ينفعك أي شيء تفتدي به يوم القيامة، بينما ينفعك ولو كانت كسرة خبز تصدقت بها.
كما سيأتي الحديث عن الصدقات. يوم القيامة، مستعد أن تضحي بكل شيء، وبكل أموالك، وبكل أحد. وفي الدنيا، بعض الناس من الشح قد بلغ مبلغه، ما مستعد حتى أن يُضاحِ بكسرة خبز. "كلا إنها لظى نزاعة للشوى". تقرأ، تنزع فروة الرأس والوجه والجلد. لماذا هذه الكلمات المفردات القارعة؟ قريش، صناديد قريش، كانوا يفعلون هذه الأفعال بالمسلمين.
ماذا يحدث للمسلمين في كثير من دول العالم؟ يتعرضون لمثل هذه الإشكال. القرآن يريد أن يوقظ هؤلاء المجرمين، إن كان فيهم بقية إحساس. أنت تستخدم فيه قوتك اليوم، الله أقدر عليك. ولك يوم. لأن هؤلاء ما في أحد يحاسبهم اليوم. ما في حساب، لا أنظمة دولية، ولا قوانين. طيب، هؤلاء يُتركون بلا حساب؟
لأن بعض الناس يقول: لماذا القرآن يستعمل هذه الألفاظ الموجعة؟ لأن كثيراً من هؤلاء المجرمين يفعلون أفعالاً موجعة، ولا يجدون من يردعهم. والقرآن يريد أن يوقظ هؤلاء، فيقول لهم: لكم يوم. وما تفعلونه بالناس سيفعل بكم، وأدهى وأمر. تدعو من هذه النار.
قال: "تدعو من أدبر وتولى، وجمع فأوأى". تدبروا معه، ذكر من مواصفات هؤلاء الكفار شيئاً يسيراً. قال: "أدبر"، أعرض عن هذا المنهج في حياته. إعراض الإنسان عن منهج الله في الحياة، واستخفاف بذلك المنهج، ماذا يفعل به؟ يجعل منه إنساناً مجرماً. ولذلك قال، وصف الوصف، الربط بين المجرم وبينه. "تدعو من أدبر وتولى".
قال: "وجمع فأوعى". ما ذَكَر من الإعراض عن دين الله، ولكن من الصفات السلوكية. "وجمع مال"، المال وكدسه وجعله في وعاء، دلالة وبيان للكنز. تعلق قلب بالمال. والقاعدة واضحة في الآية، كلما زاد الإنسان إعراضاً عن منهج الله، كلما زاد شحاً وحرصاً على المال. "وجمع فأوعى". هذه معادلة واضحة.
ولذلك، ليس من علامات الإيمان أن تزداد حباً للمال. واحدة من المؤشرات الخطيرة، راقب قلبك. تحب المال كثيراً؟ الإنسان يحب الخير، وهو المال، ولكن إذا أحببته كثيراً وتعلقت به إلى الحد أنك تصبح جامعاً له، اعلم أن هناك إشكالية خطيرة في إيمانك وتعلقك بالله.
لماذا القرآن الكريم قال: "جمع فأوعى"؟ لماذا استعمل هذه اللفظة؟ أنت ما خُلِقتَ لأجل أن تكون جامعاً للمال. أنت ما خُلِقتَ جابياً. أنت ما خُلِقتَ جامعاً للمال ولا كانزاً له. المال يخدمك، المال وسيلة تنفعك، فلا تقع في أسر المال. إذا وقعت، إشكالية خطيرة.
وانتقلت الآيات للكشف عن مواصفات الإنسان بشكل عام. قال: "إن الإنسان خلق هلوعاً". والقرآن، إذا جاء بمواصفات، ما ذكر "خلقنا الإنسان" ونسب الخلق إليه عز وجل. "خلقنا الإنسان في أحسن تقويم"، نسب الخلق إليه عز وجل. ولكن هنا قال: "خلق هلوعاً". ليس ذنباً، واستنكار.
وقد يقول قائل: بعض الناس يريد شيء حتى يحتج به. إذا الله خلق الإنسان هلوعاً، الهلع، فوبيا الخوف، ليس فقط خوف، خوف شديد يصل إلى حد الفوبيا، مرض نفسي، ولكن له درجات. طبيعة الإنسان في البداية الخوف الشديد. إذا ما عُولِجَ، سيتحول إلى فوبيا.
بعض الأشخاص لديه فوبيا أو خوف شديد من الأماكن العالية، لا يسكن في أدوار عالية، لا يستطيع أن يركب المصاعد أو الأماكن المغلقة، عنده مشكلة، يذهب للعلاج النفسي ويتعالج من هذه القضية. ولكن طبيعة النفس البشرية، إن لم تُهذَّبْ و تُرَبَّى بتعاليم القرآن، أنها في حالة خوف شديد.
ما العلاقة بين "جمع فأوعى" و"خلق الإنسان هلوعاً"؟ جمعك للمال دلالة على خوفك. تخاف، إنسان خاف. ولذلك، انظروا في حياتنا المعاصرة، كثير من الناس، "أريد أن أؤمن مستقبلي، أريد أن أؤمن مستقبل أولادي"، فتراه جامعاً للمال ليل نهار، كأنه زُلَّ له، لا يعرف للمال حقاً، ولا لرب المال حقاً. قال: "جمع فأوعى، إن الإنسان خلق هلوعاً".
وفسَّره: "إذا مسه الشر جزوعاً، وإذا مسه الخير منوعاً". هذا الكلام، حالة النفس الإنسانية في طبيعتها إن لم تُهذَّبْ بتعاليم القرآن. خوف، هلع شديد لما يأتي الشر بكل أشكاله وصوره، مرض، فقر، ابتلاء، فشل في علاقة، أي نوع من أنواع الفشل. جزوع، ما معنى جزع؟ الجزع بسرعة الغضب، وتوقع المكروه. جزع وسخط.
بمعنى ما مسه شيء لحد الآن. في بعض الناس يصحو، يستيقظ الصباح، سبحان الله، يأتي إلى سيارته يريد أن يشغلها، لا تشتغل، البطارية منتهية، فيها مشكلة، فيها عطل. ماذا يقول؟ جزوع. هذا اليوم من أوله معكر، تشاؤم، سلبية، جزع. لأن التشاؤم والسلبية علامات على الجزع، السخط.
"فإذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا". تدبروا في اللفظ القرآني. قال: "مسه الشر"، مجرد المس انفتح بالسلبية والتشاؤم والجزع والسخط على ما أعطاه الله عز وجل. ترى بعض الناس حتى يذهبوا للعبادات، مثل عبادة الحج، وسبحان الله، أصيب ببرد، أو إنفلونزا، أو شيء عارض صحي بداية الحج، أول ما دخل مكة، أو على المناسك. "عرفت، عرفت أني سأتمرض". وأنت ماذا تريد؟ تمن على الله بأن دعاك إلى بيته؟ مرض يصيبك، والشر ممكن أن يصيب الإنسان في كل الأحوال.وذكرنا في مرات سابقة، قلنا إشكالية خطيرة أن بعض الناس، وخاصةً الشباب، كانت ما تصلي، والله داومت تصلي، فاختبره وامتحنه وأصابه شيء. "أعرفت، أنا حسبتها، الأسبوع الذي بدأت أن أضم فيه على صلاة، بدأت المصائب على رأسي واحدة والأخرى". أعوذ بالله. "مسه الشر جزوعاً". صلاتك إكرام لك؟ أنت لا تفهم ما معنى أن يكرمك الله وأن تصلي وتقف بين يدي ملك الملوك سبحانه وتعالى.
ماذا لو أصابك؟ ألا يصيب الكافر المرض؟ ألا يصيب الكافر الفقر؟ ألا يصيب المجاعة؟ وأنت ماذا يحدث لك حتى إن أصابك، لا قدر الله، شيء من الشر؟ "مسه الشر تضعف لك الحسنات، وتكتب لك وترفع عنك وتمحى عنك السيئات". طب نفساً.
ثم إن القرآن يريد نفوساً متفائلة، إيجابية، حتى لما تنقع في المأزق. أي خير؟ سؤال: من أين يأتي للنفس المؤمنة هذه الطمأنينة والثبات؟ حسن الظن بالله، التي هي من أعظم العبادات. أحسن الظن بالله عز وجل، "والله عند ظن عبده به".
لنسوق المثال البسيط الذي ذكرناه، العطل في السيارة، لعله خير، لا تدري، لعله خير، الله لا يريد، أراد إليك، يكتب لك أن تذهب الآن، تذهب بعد نصف ساعة، أنت لا تعرف ماذا يحدث في التأخير. بمعنى آخر، عوِّد نفسك ولسانك على عدم التذمر من شيء. المشكلة الكبيرة في حياتنا المعاصرة، حتى الأطفال الصغار الآن، حتى في الصغار، تسأله: "كيف حالك؟" تراه متذمراً. هذه ظاهرة خطيرة في حياته، الجزع، التذمر، السخط.
قال: "وإذا مسه الخير منوعاً". طيب، حين يأتي للخير، ويفتح الله عليه بالنعم، ماذا يفعل بها؟ منوعاً. ونحن ذكرنا في مرات: "قرش الأبيض ينفع باليوم الأسود". أي قرش أبيض؟ أي يوم أسود؟ من ملأ رأسك بهذه الأفكار الفاسدة؟ القرش الذي لا ينفعك في حياتك وبعد مماتك وتقدمه لله سبحانه، تقدمه لنفسك. "وما تفعلوا من خير تجدوه عند الله". "وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله سبحانه وتعالى". إذا ما ينفعك، ما قيمة هذا القرش؟ "وإذا مسه الخير منوعاً". كل الناس؟ قال: "إلا المصلين".
لماذا بدأ بالصلاة؟ وتدبروا في اللفظة. ما قال: "إلا الذين يصلون"، لا، وصف دائم، ثابت، "إلا المصلين". ووقف، عدَّها، بس مصلين وصفهم بكل هذه الأوصاف، إلى "أولئك في جنات مكرمون". الصلاة تحقق كل هذا؟ كل هذا الكم الإيجابي من المواصفات في حياتي وبعد مماتي؟ بمعنى آخر، لأن بعض الناس يحتاج، بالقدر، يقول لك: إذا الإنسان، الله قال: "إنه خلق هلوعاً"، لماذا يحاسبه على الهلع؟
لأن الله لم يقدر عليك قدراً محتوماً هنا. أنت تستطيع أن ترتقي بنفسك، وتعالج الهلع اللي فيك. إن بعض الناس تسأله: لماذا يا فلان أنت عصبي؟ "طبيعتي هكذا، أنا من إن ولدت هكذا". يا فلان، لماذا أنت دائماً معبس وجزوع وهلوع؟ "طبيعة، إحنا أدنى في العائلة كلها هكذا، جينات، وراثة".
القرآن يرد على ذلك. صفاتك النفسية السلبية أنت تستطيع أن تتخلص منها. تستطيع أن تجاهد نفسك فتتخلص منها. عصبيتك، حدتك، حدة انفعالك، حدة مزاجك، عبوسك، تجهمك، جزعك، تستطيع أن تتخلص منها. جاهد نفسك. قال: "إلا المصلين". إذن هي ليست قدراً محتوماً. ليست قدراً محتوماً. ما في جبر هنا. لم يجبرك أحد أن تكون هلوعاً، ولا عصبي المزاج، ولا ما تستطيع أن تستحمل أحد، أبداً. هذا كله وهم.
"إلا المصلين". من هم هؤلاء المصلين؟ صفات، أخلاق، سلوكيات، حتى لا يتوهم الناس أن الصلاة لوحدها بدون هذه المواصفات التي تليها كافية في أن تخلصك من الهلع والجزع، وأن تكون حريصاً شديد الحرص والشح من أعنى الخير. لا، لا، لأن هنا بصيغة المفاضلة جاءت: منوعاً، هلوعاً، جزوعاً، لماذا؟ هذا واصل حداً على آخر. في بعض الناس حتى لا يريد أن يسلم على أحد، لا يتبسم في وجهه، وكأن الابتسامة، مجرد الابتسامة، تأخذ منه الخير الكثير، وهو لم يدفع عنها شيء. "أشحتنا على الخير". هذا الشح من أين جاء؟ النفس الشحيحة التي لم تُرَبَّ بتعاليم القرآن.
إذن القرآن حين نص على المصلين، أراد الصلاة الحقيقية التي تُثمِر في قلبك ونفسك العطاء. إذا أردت أن تعرف هل أنت تصلي صلاة حقيقية ولا صلاة نص نص، انظر إلى أثر الصلاة في نفسك وواقعك. هل الصلاة جعلتك إنساناً أكثر عطاءً، أكثر كرماً، أكثر سخاءً؟
قال: "والذين في أموالهم حقٌّ معلوم للسائل والمحروم". قابل بها أي شيء؟ "إذا مسه الخير منوعاً". السورة مكية، الزكاة لم تُفرَض بعد. لماذا قال: "حق معلوم"؟ زكاة ما فُرِضَت بعد. هو هذا الإنسان من شدة طيبة نفسه يرى أن المحروم، والإنسان المحروم من الخير، والسائل، والفقير، والمحتاج، كأنهم شركاء معه في ثروته. قال: "والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم".
حتى بعد ذلك، حين يُطلَب ويؤمر بأداء الزكاة، لا يرون أنهم يمنون على الله أن أعطوا الزكاة، كما كان يتوهم الأعراب. بعض الأعراب يمنون عليك أن أسلموا، "بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان". أنت لا تمن على الله بأنك أعطيت السائل أو المحروم، الله يمن عليك أن أعطاك مالاً، وأن جعل في نفسك حب العطاء. ولو شاء لتركك على طبيعتك الأولى، أن تكون للخير منوعاً.
هناك عدد كبير من المسلمين، ليس بالقليل، لا يستطيع أن يعطي خيراً. والخير كلمة جامعة، ليست فقط الأموال، هناك صحيح السياق، السياق الحديث عن الأموال، ولكن الخير كل الخير، معونة، مساعدة، نوع من أنواع التعاون النفسي، تمشية مصالح الناس بدل تعطيلهم. بعض الناس كأن تراها أحرص الناس على الصلاة في أوقاتها، وأشد الناس شحاً وحرصاً على أن لا يمشي شيئاً ولا يسهل أمراً. ليس في مخالفات أبداً، ولكن تراه يا سبحان الله مفتاح لكل شر، مغلاق لكل خير. من أين جاء؟ النفس الشحيحة التي لم تُرَبَّ بتعاليم القرآن.إذن القرآن حين نص على المصلِّي أراد الصلاة الحقيقية التي تُثمِر في قلبك ونفسك العطاء. قال: "والذين يصدقون بيوم الدين". "والذين هم من عذاب ربهم مشفقون". "إن عذاب ربهم غير مأمون". لماذا القرآن يقف عند هذه الكلمات، ويجعل من قضية يوم الدين حاضرةً في عمقه؟ الكلام عن الصفات التي تأتي للمؤمنين والمصلين. لا شيء يجعلك تُحسِّن في حياتك وصلاتك كالتصديق بيوم الدين.
بعض العلماء جاء إليه أحد الأشخاص يشكو إليه، يقول له: "أنا لا أجد نفسي في الصلاة، أنا لا أخشع في الصلاة، فكيف؟" كيف يكون الجواب؟ "صلِّ صلاة مودِّع، أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك". أنت تصلي لله، أنت في حضرته جل شأنه، "فإن لم تكن تراه فإنه يراك".
أعظم مفاتيح الخشوع في الصلاة أن تصلي صلاةً تليق بالإحسان، ومقام الإحسان أن ترى أنك تصلي بين يدي الله، وأنه ناظر إلى قلبك الذي هو محل الخشوع، ناظر إلى نفسك، ناظر إلى قولك، ناظر إلى سريرتك، فحسِّنها وطهرها كما طهرت ظاهرك.
نحن في الوضوء نطهر الأعضاء. وما هو الوضوء؟ طهارة الأعضاء، هذه الظاهرة، اليد والفم، إلخ، والوجه، والأعضاء الداخلية، الباطنة، السريرة، سريرتك كيف تنقيها وتطهرها؟ بأن تستحضر هذا المعنى وأنت تصلي بين يدي الله. أعظم المفاتيح التي تجعلك تحصل على الخشوع في صلاتك التصديق بيوم الدين، وأنك كما تقف في صلاتك وقد هيأ لك سبحانه وأكرمك أن تقف بين يديه، غداً أو بعد غد ستقف بين يديه.
"يصدقون بيوم الدين". هذا التصديق بيوم الدين جعلهم "من عذاب ربهم مشفقون". الشفقة هنا والإشفاق حالة نفسية وجدانية، رقة قلب، تجعل القلب رقيقاً، ليس فيه قسوة. وفسرها القرآن: "إن عذاب ربهم غير مأمون". لا أحد له أمان. لديك سِكّ، لديك سِكّ يقول لك بأنك ستدخل الجنة؟ ولا أحد.
ولذلك رُوي عن عمر، رضي الله عنه، بمعنى أنه لما سُئِل عن كيف ستشعر ومتى تشعر بالأمان، قال: "والله لو دخلت قدم رجلي الأولى دخلت في الجنة، لخشيت أن تكون الثانية لا تدخل". هكذا هو المؤمن، لا ينظر بعجب إلى نفسه. لو فعل كل ما يفعل، لو ملأ الدنيا تعليماً وصدقةً وأعمال بر وخير، وتكلم عنه الناس، ظنه بنفسه سيئ. لا يظن بنفسه خيراً، يظن كل الخير بربه، ولا يظن بنفسه إلا السوء. لماذا يظن بنفسه السوء؟ تأديب، زجر، حتى يقمع العُجْب فيها.
وتأتيك الآن بعض الدورات، وبعض العُجْب، تعليماتك التي تظهر على شغلات الثقة بالنفس، فيقول لك: "أنت حتى تزداد ثقة بنفسك كرر عشرين مرة، مئة مرة: أنا ممتاز، أنا طيب، أنا خلوق، وستصبح". حتى تزداد الثقة بنفسك. ما هذا الهراء؟ تدبروا في القرآن كيف يربي ويعلم. بالعمل، ولا بد أن تأتي على النفس فتهذبها وتؤدبها. ليس من باب جلد الذات، لأن القرآن لا يريد أن يصنع عُقَد، هو يحل العُقَد النفسية. القرآن لا يريد أن يربي أناساً لديهم عُقَد نفسية، معقدين، يقومون بجلد ذواتهم، لا، ولكن يريد أن يربي نفوساً رقيقةً تقع في حالة الإشفاق والخوف. إشفاق وخوف دائماً يجعلك في حذر، أن تقع في المحذور.
قال: "والذين هم لفروجهم حافظون، إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم، فإنهم غير ملومين، فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون". أُسدِل الستار على كل علاقة خارج الإطار الصحيح الذي جعله الله. لماذا؟ لأن الصلاة وهذه الأخلاق الراقية تجعل منه إنساناً حقيقياً، وليس إنساناً بهيمياً. فيه إنسان حقيقي، إنسان إنسان، وفيه إنسان بهيمي. الإنسان البهيمي لذا نتكلم عنه، ما هو؟ الذي لا يردعه رادع، هو فقط يريد أن يقضي شهوته أينما كان وكيفما كان وكيفما حصل، بدون رادع. هذا يُسمَّى تقدم، تطور، هذا الذي يروج له أعداء الإنسانية، وليس أعداء دين، أعداء الأخلاق والمثل والقيم.
وأصبحوا يزهدون للبنات والأبناء والشباب أنه لا بأس أن تقيم العلاقة، والعياذ بالله، خارج إطار الزواج من باب التجربة، وهل ترى أن الشخص مناسب أو غير مناسب؟ هذا تقدم هذا؟ تقدم بحساب من؟ هذه بهيمية، أن الإنسان يضع حاجته، ويضع شهوته في أي مكان كانت، دون رادع، دون حاجز، دون خط. الخطوط والتشريعات والآداب والتعاليم هي التي تجعل الإنسانية كمعنى. وانظر ما سقط فيه القوم، ما كفاهم، هم بدأت بالزنا، والعياذ بالله، ما كفاهم الزنا.
لأن حرام لا يشبه حرام، يزيد الإنسان جوعاً ولهثاً ونزولاً وانحداراً في الحرام، وفي البهيمية اللي أطلقنا عليها البهيمية. والقرآن يريده أناساً أصفياء، غاية الطهارة قلباً وقالباً. الطهارة ليست ثوباً ترتديه، وأنت في سريرتك وفي أخلاقك وعلاقاتك قد وقعت في ذلك الوحل، والعياذ بالله. يريدونها وحلاً. ما كفاهم الزنا، والعياذ بالله، جاءوا إلى أي شيء؟ إلى المثلية. هذه المثلية فقط مرحلة على فكرة، سيأتي ما بعدها، وسيبقى هذا النوع من البشر في التخبط كما قال القرآن "أسفل سافلين"، ليصل بالإنسان إلى أسفل السافلين، في مقابل من؟ الخلق التي خلقها الله، التي "أحسن تقويم".
ولهؤلاء جميعاً، هذه ليست قوانين تُمرَّر على الناس بدعوة المساواة والقرية والحقوق، هذه ليست حقوق إنسان، هذه ليست حقوق، تُمتُّ للإنسانية بصلة، هذه ليست إنسان، هذه بهيمية، هذه لا يمكن، هذا تردٍّ عن الإنسانية. فكيف؟ ولذلك ليس بالضرورة الإنسان أن يكون صاحب دين حتى يدافع عن هذه القضايا التي تتعلق بكرامة الإنسان، يحتاج أن يكون إنسان صاحب قيم، مثل، حتى يوقف هذا الزحف المغولي الذي أبى إلا أن يجعل الناس يرتكسون في هذه المستويات.
طب تقول لي: لماذا يُرَمَّج لها؟ طبيعة المجرم، طبيعة المجرم لا يقبل إلا أن يفسد كل من حوله. أترون في السجون في شيء اسمه "فرادي"؟ لما المجرم يصل حداً من الإجرام، يُرسَل إلى السجن الانفرادي، حتى لا يفسد غيره من السجناء. والسجناء قد يكون الإنسان دخل به بسرقة، بجريمة، بشيء، ولكن لا يختلط بهم حتى لا يزيدهم فساداً وإفساداً لفساده وانحرافه. الإشكالية الخطيرة أن هؤلاء من المفسدين اليوم أبداً إلا يريدون أن يفسدوا العالم بأسره، ويمرروا هذه الشرع الفاسدة التي قال عنها القرآن: "فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون". "وراء ذلك"، لماذا "وراء ذلك"؟ حتى هذه الكلمة فيها إعجاز.
لأن وراء هذا المنفذ الذي حدده الشرع، بالزواج، هذا المنفذ الذي حدده الشرع هنا، ما وراءه مفتوح، لأن العلاقات لن تقف، الفاسدة، الشاذة، لن تقف عند حد، لن تقف أبداً عند حد، سيبتدع هؤلاء البشر أشكالاً وصورًا مختلفة. قال: "فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون".ثم جاء إلى الانعكاس في واقعك: "والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون". والربط بينها وبين ما قبلها أن كل ما أعطاك الله عز وجل من غرائز، من أخلاق، من قيم، من كل شيء، هي أمانات عليك أن تراعيها. تدبروا فالربط بالقرآن، وكل ما جاء قبلها على فكرة، صلاتك أمانة، كل الالتزامات ما بينك وبين الله عز وجل، وما بينك وبين نفسك، وما بينك وبين الخلق، وما بينك وبين الكون، لا تخرج عن حيز الأمانة والعهد. أمانة وعُهود، مطلوب منك أن تكون راعياً لها. كلمة جامعة شاملة.
أنت تعرف أثر الصلاة التي قلنا، تكلمنا عنها، حتى لا يُقال بأن المسلم يصلي وتراه خائناً للأمانات. هذا صلاته لم تُغنِ عنه شيئاً. الصلاة التي تتكلم عنها هنا سورة المعارج صلاة يظهر أثرها في أي شيء؟ في كل شيء. في أمانته، في مراعاتك للعهود. على فكرة، العهود ولو لم تكن مكتوبة، ليس بالضرورة أن تكون العهود مكتوبة، لا، الكلمة عهد. أنت حين يُسرُّ إليك، أو يُقال لك بكلمة، أو أحد يقول من الناس يقول لك كلمة، ذا عهد، سواء قالها أو لم يقل، أو لم يوصيك أن لا تبوح بها، أنت دخلت في عهد. كن أميناً.
إذن القرآن هنا حين تحدث عن الصلاة، ليست صلاة فارغة، لا ترى لها أثر في الواقع أو في المجتمع، لها أثر، وإنما صلاة حقيقية يظهر أثرها في أمانتك، في مراعاتك للعهود، للمواثيق، في احترامك لكل شيء. نحن ذكرنا في أكثر من مرة معروفة قسم الطبيب، وقسم المعلم، وقسم المربي، قسم، يُقسِم أطباء، ولكن تعال لي للواقع وقل لي: كم من هؤلاء يراعون الأمانات؟ كم من هؤلاء لم يخالفوا ما أقسموا بالله على أن يصونوا؟ كم؟ لو كان هناك هذه المراعات، نحن نتكلم عن مجتمعات مسلمة، لا نتكلم عن مجتمعات غير مسلمة. القرآن يحفز الإنسان فيها.
السؤال يبقى: هو القسم، قسم الطبيب ولا قسم المربي، هذا يُقسِم به بس عند التخرج مرة ولا مرتين، أول ما يدخلوا، اثنتين، الصلاة خمس مرات في اليوم والليلة تذكرك بأن عليك أن تراعي الأمانات. تدبروا في الربط. القسم مرة، مرتين، في العمر تُقسِم أمام الناس، والله يشهد عليك، وإنه قسم عظيم على فكرة، ولكن الصلاة تذكرك مرةً بعد مرة، مرةً بعد مرة، مرةً بعد مرة، أن تصون الأمانة.
وتدبروا في اللفظة: "راعون". وما قالوا: "راعِي"، "راعون"، أصبحت صفة قائمة دائمة، فعل مستمر معهم، مو مرة أمين ومرة خائن، مرة النص ونص، ساعة ربي وساعة قلبي. بعض المسلمين يعتقد مرة أكون أمين، ومرة نص أمين، ومرة ربع، ألا ينفع الأرباع والأخماس. "راعون"، قائم مستمر في هذه الصفة.
قال: "والذين هم بشهاداتهم قائمون". لماذا الشهادات يقوم بها؟ وما هي الشهادات؟ بعض الناس يعتقد أن الشهادة فقط إذا طُلِبوا في المحكمة يروح يشهد، وبالتالي لا يحتاج أن يذهب ولا يشهد ولا يشهد. الشهادة إذا أردت تفسيراً لها انظر إلى ما جاء في كتاب الله في سور أخرى: "إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً". كم مرة شهد النبي، صلى الله عليه وسلم، في المحاكم ولا في القضاء؟ شهد. لا تنحصر في قضاء أو محاكم. إذن ما هي الشهادة؟ أن تقوم بالحق في كل شيء، وأن يكون فعلك شاهداً بما آمنت به. تدبروا في الشهادة. لذلك القرآن وصف هذه الأمة فقال: "لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً". "وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ". كيف تكونوا شهداء على الناس؟ تشهدوا عن الناس بالمحاكم؟ لا. إذن كيف تشهدوا؟ يقوم فعلك بتصديق ما آمنت به. تقوم بالشهادة. تدبر في الكلمة. تقوم بالحق الذي آمنت به. تقوم بالصدق.
سؤال: شهادة لا بد أن تُطلَب منك حتى تُدلِي بها؟ لا. تدبر في الكلمة. قال: "بشهاداتهم قائمون". ما طُلِبَت منك الشهادة، وأنت قائم بالشهادة. وقائم، ما اختار أي كلمة أخرى، لماذا؟ لأنك تُدلِي بهذه الشهادة طُلِبَت منك أو لم تُطلَب. بعض الناس، بعض المسلمين، يعتقد أنه لا يمكن ولا ينبغي عليه أن يقدم شهادةً أبداً إلا إذا طُلِبَت منه. يرى المنكر، يسكت عليه. شهادة باطلة، عند المنكر مطلوب منك أن تنكره. إذا سكت، ما قمت بالشهادة. يرى أخطاءً، يرى فساداً، يرى انحرافاً، يرى عثرات، يرى زلات، يرى غيبةً، يرى نميمةً، حتى في واقعه وفي أسرته، يسكت، يسكت، يسكت، يسكت. صلاتك أثمرت؟ صلاتك تجعلك شاهداً قائماً بالشهادة لله. تدبروا في الربط بين الطبيعة الإنسانية التي "خُلِق الإنسان"، لمن قال: "إن الإنسان خُلِق هلوعاً، إذا مسه الشر جزوعاً". هلع، خوف. ما الذي يجعل الناس لا يدلون بشهاداتهم بالحق؟ خوف. ما الذي يحررهم من الخوف؟ صلاتك. صلاتك إن لم تحررك من الخوف، وبقيت في الأسر، عليك أن تعيد النظر في صلاتك. صلاتك تجعلك إنساناً شجاعاً، لا تخشى أحداً، تقوم بالشهادة على وجهها. "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها". شهادة لها مكانة عظيمة في الإسلام، والمسلمون اختصروها وجعلوها في المحاكم والقضاء، ويا ريت قاموا بحقها. "وامشِ بجنب الحيط واسكت، والسكوت سلامة"، إلى آخره. "ويأثر السلامة". أي سلامة تلك التي تؤثر؟ واحدة تسكت عن منكر وانحراف وفساد وكذب وتجاوزات، أي سلامة؟ وإن أنت تكلمت عن السلامة الدنيوية، ليس كأنت تتكلم عن سلامة دنيوية. كيف سيسلم لك إيمانك؟ كيف سيسلم لك صدرك؟ كيف سلامة أنت بماذا تسلم؟ سلامة صدر، سلامة قلب، سلامة إيمان، أنت تُبرِّئ لدينك حين تنكر المنكر وتأمر بالمعروف. أنت تُبرِّئ لدينك، لا بد أن تُبرِّئ لدينك. تدبر في اللفظة، تدبر في المفرد، تدبر في الكلمة. قال: "بشهاداتهم قائمون". قائماً بالقسط، بالشهادة، بالعدل، بالإنصاف، بالخير.
السؤال الذي يطرح نفسه: كم من المسلمين يقومون بالشهادة؟ يُصَلُّون. من المؤسف، المؤلم، أن الكثير من، عدد ليس بالقليل من المسلمين اليوم، أخذ من الصلاة ظاهرها فقط، وترك أثرها في المجتمع. فعدنا نرى جموعاً من المصلين تتعجب لحسن وقفهم بين يدي عز وجل، وتستغرب جداً لواقعهم الذي يعيشون فيه خارج المسجد. صفوف متحدة، متلائمة، مرصوصة، وخارج المساجد قلوب متفرقة فرقتها الدنيا، ولو كانوا أهلاً، ولو كانوا أقارب، ولو كانوا عشيرة. أين الصلاة؟ تدبروا في الربط.
قال: "والذين هم على صلاتهم يحافظون". تقريباً، تقريباً الغالبية العظمى من المفسرين عندما جاءوا بالمحافظة على الصلاة قالوا: يحافظوا على أوقاتها، وأركانها، وشروطها، وواجباتها، وكل ما فيها، وخشوعها بطبيعة الحال الذي هو مقصودها. ولكن الآية واضحة في الربط، وفي موقع الآية مع الآيات التي قبلها، أن الجزء العظيم في المحافظة على الصلاة أن تأتي بأثرها في واقعك. معنى عظيم. تدبروا في الكلمة. قال: "على صلاتهم يحافظون". دعني أقرب الصورة. أنت صليت الصلاة، ليس كذلك؟ أتيت بركوعها وخشوعها وكل شيء فيها، أقمتها صلاة رائعة، ثم خرجت خارج المسجد، وما قمت بشهادة، ولا راعيت أمانةً، ولا قمت بواجبك حق القيام، ولا صدقت مع الناس، ولا فعلت كل ما طلبته الآيات وتكلمت عنه من أثر، السؤال: هل حافظت على الصلاة؟
لأن المحافظة على الصلاة لها ثلاثة مراحل. المرحلة الأولى قبل الصلاة، كيف قبل الصلاة؟ أن تقوم ما ذكرناه بالوضوء، وطهارة الأعضاء الظاهرة، والمحافظة على طهارة السريرة، وتنقية السريرة. اللسان اللي غسلته بالماء اغسله بالتوبة والاستغفار. تكلم عن ناس، إذا تكلمت عنه لازم تغسله. كيف تغسله؟ ليس فقط بماء الوضوء، طهره، والقلب وبقية الأعضاء كما ذكرنا. هذه المحافظة قبل الصلاة. المحافظة أثناء الصلاة أن لا تسهو، ولا تغفل، ولا تشرد، وأنت في الصلاة، وأنت واقف، وأنت خاطب الله: "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ"، أنت تفكر بفلان ستذهب له لأجل أن تطلب منه شيئاً. تقول: "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ". هذه المحافظة أثناء الصلاة، هذه المرحلة الثانية. المرحلة الثالثة المهمة جداً بعد الصلاة. ما هي المحافظة بعد الصلاة؟ تدبروا في اللفظة. "على صلاتهم يحافظون". الحفظ أن تحرص حرصاً شديداً ألا يطرأ إليها فساد. المحافظة بعد الصلاة مهمة جداً، كثير من المسلمين يغفل عنها. لا تفسدها بكل شيء مخالف لأمر الله عز وجل. أما أنت إذا "السلام عليكم، السلام عليكم ورحمة الله"، والتفتت على اللي بجنبك، وما خليت لا غيبة، ولا نميمة، ولا كلام بالسوء، ولا فساد، ولا خيانة لعهود ولا مواثيق، وأفسدت وكذا، هذا يا حل الإشكالية التي قلناها، لماذا بعض المسلمين يحافظ على صلاته ولكنه تراه شخصاً آخر خارج المسجد؟ يسب، ويشتم، ويرفع الصوت، ويقاتل فلان، وينازع فلان، ويأخذ حق فلان، والدنيا حلبة صراع عنده. هذا ما يحافظ على صلاته. القرآن يتكلم عن من يحافظ على صلاته. النقطة المهمة في نفس السياق أن المراحل الثلاثة مرتبطة مع بعضها بعضاً. إذا لم تقم بالمرحلة الأولى لن تصل للمرحلة الوسطى اللي هي المحافظة أثناء الصلاة، وإذا لم تحافظ على قلبك من الشرود والذهول، أقلِّك من الذهول أثناء الصلاة، لن تحافظ على الصلاة بعدها، بعد ما انتهت الصلاة. مراحل مترابطة. هذه معنى: "والذين هم على صلاتهم يحافظون". ما جزاؤه؟ ما دخل في التفاصيل، قال: "أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ". وتدبروا في الربط. قال: "مكرمون". لماذا جاء بالإكرام هنا؟ السياق سياق إكرام، تكريم. ما ذكر تفاصيل للجنة هنا، لأن هؤلاء في كرامة عند الله، وعلو منزلة لا تستدعي التوصيف الدقيق والدخول في التفاصيل. السياق، مُدخَل، تفاصيل هذه القصة، هذه قصة الإنسانية. ولذلك ذكرنا الربط، بعض الناس الذي يقول: "أنا بطبيعتي عصبي المزاج، أنا بطبيعتي ما أستحمل". هذه الطبيعة تحتاج إلى تربية. ليس هناك شيء اسمه طبيعتك، ولا شيء جبلت عليه، شيء اسمه تربية. والقرآن يسميها تسكية. "قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا". تزكي نفسك، تعود نفسك. ما الذي يعينك على كل ذلك؟ الصلاة. أعظم وسيلة من وسائل التسكية والتربية النفسية هي الصلاة. الصلاة ربيك. إذا الإنسان المسلم لم تربيه الصلاة، ماذا سيربيه؟ إشكالية خطيرة في حياة المسلمين اليوم، إذا صلاة الإنسان لا تربيه، ماذا سيربيه؟## تربيتك صلاتك
قال: "فما لكم لا تؤمنون؟". خطاب لمن؟ للكفار الذين كذبوا بالقرآن وبرسالة النبي، صلى الله عليه وسلم. "وما لكم لا تؤمنون؟". الكلام عن الصلاة، وعن أثر الصلاة في حياة المؤمنين. "فما لكم لا تؤمنون؟". تدبروا في اللفظة، ما قال: "فما لكم لا تُصَلُّون؟". الصلاة هي مفتاح الإيمان. ولكن بعض الناس قد يقول لك: لا، الإيمان هو مفتاح الصلاة. تدبروا في الآية الكريمة. الإيمان هنا يأتي منين؟ من الصلاة. الصلاة التي ذكرنا كل هذه الصفات، هذه الصلاة الحقيقية هي التي ستجعلك تؤمن إيماناً حقيقياً. ولذلك انظروا إلى حال بعض المسلمين، يصلي ويصلي ولا يؤمن. سؤال: لماذا لا يؤمن؟ لم يصلِّ الصلاة الحقيقية، صلاته لم تُثمِر كل ذلك. الصلاة تحتاج إلى إخلاص. أنت تصلي لله عز وجل وتخشع له في صلاتك، وتخلص له في صلاتك، وتناجي ربك، وتناجيه سبحانه، وتعرف قدره ومنزلته، وتناجيه، وتعرف حقيقة هذه المناجاة، وتطلب منه العون، أنت حين تطلب منه العون، "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ"، وتصدق في هذا الطلب، سيُعينك في كل شيء. "وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ۚ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلّا عَلَى الْخاشِعِينَ". "وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ"، ما الذي يعينك على الصبر، على الشدائد؟ الصلاة. الصبر، من أين يأتي؟ من الصلاة. الصلاة تُعينك على كل شيء.
قال: "أإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون؟". الإشكالية في السجود. لاحظوا الربط. هم لا يصلون، لا يسجدون، لا يصلون الصلاة الحقيقية. السجود أعظم مراتب الخضوع والعبودية. لماذا؟ لأن الإنسان حين يسجد لله، سبحانه وتعالى، يكون أقرب ما يكون إليه جل شأنه. "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء". أقرب ما يكون من الله، ولذلك لما عرج بالنبي، صلى الله عليه وسلم، إلى السماء، وقابله ربه سبحانه، أمره بأداء كم سجدة؟ خمسين. لما نزل من السماء، التقى بموسى، عليه السلام. قال له: "بماذا أُمِرتَ؟" قال: "أُمِرتُ بخمسين صلاة". قال: "ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف". رجع إلى الله، خفف إلى خمس صلوات. "ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف". رجع إلى الله، خففها إلى خمس، ولكن في الميزان كم؟ خمسين. "ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف". لماذا لم يرجع؟ قبل. ليس من باب "خذ وطالب"، لا، قبل بالتخفيف الذي خففه الله إليه. "ما أنا بمُزَيِّنٍ كلام ربي". هذه واحدة من دلائل نبوته. النبي، صلى الله عليه وسلم، على يقين، لو رجع إلى الله مرة أخرى سيُخفِّفها، ولكن ما رجع.
إذن ما السر؟ السجود. انتبهوا إلى القضية. السجود أعظم مراتب الخضوع والخشوع، فيه تذلل، فيه إكرام لك. أنت تُكرَّم حين تسجد لله سبحانه وتعالى. ما هذا الإكرام العظيم الذي يعطيك إياه الله، ومع ذلك أنت لا تريد أن تسجد له؟ "كلا سيأتيهم ما كانوا به يستهزئون". "كلا" هنا نفي لكل ما سبق من صفات المؤمنين وأثر الصلاة في حياتهم. "سيأتيهم ما كانوا به يستهزئون". أي شيء؟ يستهزئون بالقرآن، بالصلاة، بالمسلمين، بكل شيء. "كلا سيأتيهم ما كانوا به يستهزئون". هذا إنذار شديد اللهجة. "فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً". "جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ". هذا جزاء أفعالهم، "بما كانوا يكسبون". الأعمال هي التي تُكسِب.
ثم ختم السورة ببيان عظمة الله عز وجل، "فإذا رأيت الذين يتفكَّهون في آياتنا، فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره، وإما يُنسِيَنَّك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين". إذن الإنسان حين يرى هؤلاء الناس يتفكهون، يستهزئون، يتكلمون بأسلوب لا يليق بكلام الله، بآيات الله، ماذا تفعل بهم؟ أعرض عنهم. "فأعرض عنهم". هذا واجب. حتى يخوضوا في حديث غيره، أو أنت تنشغل بشيء آخر. لماذا؟ "وإما يُنسِيَنَّك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين". أعظم ما يُعينك على كل هذا؟ صلاتك. صلاتك تذكرك، تذكرك، صلاتك تُعينك، صلاتك هي طهارة قلبك. ولذلك ختم ببيان عظمة الله، عز وجل، وبيان قدرته على كل شيء. "وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ولكن ذكرى لعلهم يتقون".
لماذا يذكر بقدرته، عز وجل، في ختام السورة؟ السياق كلام عن جزاء، جزاء المؤمنين، جزاء الكافرين، "أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ". "كلا سيأتيهم ما كانوا به يستهزئون". "فإذا رأيت" الظالمين، تتكلم عن الظالمين والمجرمين، وجزاء الظالمين والمجرمين، السؤال: من الذي ينتقم منهم؟ من الذي سيأتي لهم بما كانوا يستهزئون به؟ الله. "قل إنما ربي". "أنسى" هنا التفات. "قل إنما ربي". "يُلْقِيَ الْحَقَّ ۖ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ". "هُوَ الرَّحْمَٰنُ الرَّحِيمُ".