كفارات لا ينظر إليها الإنسان المؤمن المتلقي لأوامر الله وأحكامه على أنها عقوبة تضرب به، أو يغرم مالًا أو ما شابه من ذلك، قدر ما ينظر إليها على أنها باب من أبواب التصفية والتزكية والتنقية لروحه ونفسه وذاته، ورفق لأشكال من المعاناة المختلفة عن غيره من البشر، وإشعار له بامتداد عمقه في داخل المجتمع الإنساني وشعوره بآلام ذلك المجتمع، وأن ما حصل له من قضية في بيته أو في أسرته إنما هو ينظر إليه كذلك من زاوية إيجابية أنه قد فتح باب خير لرفع بلاء أو تغيير حال إلى حال أفضل وقع مع إنسان آخر في مجتمعه.
كل هذه المشاعر تجعل من الإنسان الذي قد وقع في ارتكاب خطأ أو ذنب أو حتى جناية، يستشعر رحمة الله سبحانه وتعالى فيما قد وقع وما ألم به. وهذا مطلوب حتى لا يبقى ذلك الإنسان أسير اللوم والتقرية والتأنيب والإحساس المميت بالذنب والجناية.
يخرج من أسر تلك التجربة بكل ما تحمل من معانٍ، ليفتح صفحة جديدة فيها عزم وفيها قدرة على تجاوز تلك الأخطاء والبدء من جديد. ولكن ذلك لا يمنع أن في بعض الأحيان الإنسان قد لا يمتلك المال ولا القدرة المادية لأخذ أعلى مراتب الكفارة، ألا وهي تحرير رقبة. فما الحل؟
ولأن القرآن العظيم جاء يعالج واقعًا إنسانيًا بمختلف إحدافياته فهو يتعامل مع بشر. البشر ممكن أن يمر بظروف مادية صعبة لا يستطيع أن يدفع لتحرير رقبة فماذا يفعل؟
فإذا بالآيات العظيمة تنتقل به إلى مدرسة جديدة يتعلم فيها شكلًا آخر من أشكال التدريب على تجاوز الأخطاء وإقالة العثرات والبدء من جديد: "فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماس".
صيام شهرين متتابعين، الصوم الذي يشكل مدرسة تدريبية بامتياز، يتعلم فيها الإنسان كيف يكفح جماح شهوته وجماح نفسه، فلا ينطق اللسان إلا بما يرضي الله، ولا تأتي الجوارح إلا على ما يرضي الله سبحانه وتعالى.
مدرسة يتعلم فيها الإنسان الصبر ويتعلم كيف يمسك بزمام لسانه فلا ينطق إلا ما يرضي الله، وكل ما وقع فيه ذلك الإنسان المظاهر من زوجته كان من جراء التسرع والتعجل والوقوع في أسر اللحظة، لحظة الغضب والضيق والانزعاج.
هذا لا بد من أن يدخل دورة تدريبية مكثفة، وصيام شهرين متتابعين مما لا شك فيه أنه من أعظم الدورات المكثفة. لا تجد ما تدفع من المال لتحرير رقبة؟ المستوى الثاني: صيام شهرين متتابعين.
لنا أن نتساءل: لماذا صيام شهرين متتابعين؟ كما ذكرنا سابقًا جميع الكفارات التي ذكرت في كتاب الله جاءت لتدرب النفس والفرد على التصحيح على البدء من جديد. اليوم في زماننا في الأنظمة القضائية المختلفة في شيء يسمى بالعقوبات البديلة. هذه عقوبات أصلية وليست، المسألة كما ذكرنا، مسألة عقوبة بمعنى أن الإنسان يعاقب عقوبة تكلفه فوق طاقته، أو تحمله ما ليس في وسعه أبدًا، ولكن بمعنى أن يتحمل من خلالها المسؤولية الجزائية على ما قام به من عمل. أخطأ؟ يتحمل مسؤولية الخطأ. وقع في ذنب؟ ارتكب جناية؟ يتحمل مسؤولية العمل الذي قام به.
قال: "فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماس". الصيام مدرسة يتعلم فيها الإنسان ضبط النفس والتحكم بعصابه والتحكم بغضبه وعواطفه ومشاعره. شهرين متتابعين دون انقطاع تعني أن ذلك الإنسان بالفعل خلال الشهرين لا يمكن أن يجرأ، ولا يمكن أن يتجرأ بعدها، على الإقدام على عمل كهذا. فترة مراجعة للنفس، فترة تقلل من الحاجات المادية التي بحكمها وحكم سيطرتها على الإنسان قد تجره إلى اتباع تلك الشهوات، وتضيء بعض الأوامر التي ما كان له أن يتجاوزها. ولذلك الصيام شهرين متتابعين فيه تخفيف لحدة سلطة الشهوات والنزاعات البشرية والغريزية على التحكم في الإنسان.
تدبر معي في الربط: الصيام يقلل، هذا الإنسان الذي ينتنع عن الحلال في نهار الصوم هو إنسان قادر على أن يتحكم في مشاعره، لمعنى آخر، قادر على أن يقول لنفسه لا.
تذكروا مع ما ذكرناه حول قضية معالجة الإنسان للإدمان في تلك الدراسات الحديثة، وكيف يستطيع أن يبرمج أفكاره ويعيد برمجة ما يقول وما يصدر عنه من فعل أو قول أو شعور، وعدم الخضوع لسلطان النفس ولا حتى تحت سيطرة اللحظة، لحظة الغضب أو الانزعاج أو الضيق أو ما شابه. إنسان حر، والقرآن أعظم كتاب يعلم الإنسان كيف ينال حريته كاملة غير منقوصة، تلك الحرية التي لا تكون خاضعة لسلطان الشهوة، ولا لسلطان الغضب، ولا لسلطان الإكراه، ولا لسلطان النزوات المتعددة والغرائز في الإنسان.
قال: "فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينًا". ولنا أن نتساءل: إطعام ستين مسكينًا لماذا؟ ستين مسكينًا؟ تقلت الآيات: إنسان لا يستطيع، كما في حال ذلك الزوج الذي شكت المرأة التي جاءت تجادل نبينا صلى الله عليه وسلم في أمره، لا يستطيع الصيام فيه عذر. مرة أخرى، الآيات القرآنية العظيمة جاء التعامل واقعًا إنسانيًا يتعامل مع قدرات النفس البشرية ومتغيرات تلك النفس البشرية من حال إلى حال.
# إطعام المساكين: الشعور بالآخر وتوسيع دائرة الرحمة
إطعام ستين مسكينًا فيه إشعار الإنسان بحالة غيره من البشر، من المساكين ممن أربما يعانون من مشاكل ومن ظروف مادية لا يستطيعون من خلالها حتى أن يتناولوا اللقمة التي تسد جوعهم. لماذا القرآن يتعامل مع هذه الكفارات من هذه الأبواب المختلفة؟ القرآن العظيم يريد بالإنسان، الفرد، أن يشعر بغيره، وأن تكون تلك الأزمة التي مرت به في بيته ومع زوجه ومع أسرته منفذًا ومتنفسًا لغيره من البشر، وأن لا يبقى بصره معلقًا فقط بتلك الجزئية والمشكلة التي حصلت معه، وإنما يخرج من إطارها الضيق إلى إطار أبعد، ويشعر ويستحضر تمامًا أن حتى، حتى في أكثر الأزمات والمحن والمشاكل والمواقف الصعبة التي تمر بنا ثم متنفس ممكن الآخرين أيضًا أن يجدوا فيه مخرجًا، حتى نعرف دائمًا وأبدًا أن الأزمات والظروف الشديدة والصعبة التي تمر بنا لها وجوه متعددة: فيها صعوبات؟ نعم. فيها شدة؟ نعم. ولكن أيضًا فيها متنفس آخر، فلا يبقى الإنسان معلقًا فقط بطبيعة الأزمة التي مر بها، وإنما تجعل تلك الأزمة منه إنسانًا جديدًا ينظر إلى آلام غيره، ويأخذها كفرصة لأجل أن يخفف من آلامهم ومعاناتهم.
إطعام ستين مسكينًا: أزمتك ومشكلتك تخرج منها بإدخال السعادة وتخفيف آلام ومعاناة الآخرين. على فكرة، هذا مبدأ عظيم من المبادئ التي أقرها القرآن في غير من موضع: سلمًا تمر به شدة، تمر به أزمة، سواء كانت السعصة عليه أو لم تسعص عليه، داوها بالصدق، داو الآلام والأحزان، وواجه المشكلات والصعوبات والضائقة التي تمر بك بالصدقة، بالتوسع على الآخرين، بإدخال السرور عن الآخرين. أرأيت ما تمر به من آلام وأحزان؟ كثير من تلك الآلام والأحزان لا تخفف إلا من خلال الصدقة، صدقة تخفف بها من معاناة الآخرين. هذه ما عادت مشكلة إنسان ظاهر من زوجته، هذه أصبحت تفريجًا عن أسر ومساكين، وتخفيفًا لمعاناة وآلام وأحزان بشر يشاطرونك العيش في المجتمع الذي تعيش فيه، حتى تصبح إنسانًا أكثر رقة وأطف وإحساسًا بمعاناة الآخرين. فكأن تلك الأزمة التي تمر بها ومررت بها فتحت لك أبوابًا من الشعور والإحساس بآلام الآخرين وحزنهم.
قال: "ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله". والسؤال مطروح: هي الآية موجهة للمؤمنين؟ وإلا هو إذا لا يؤمن بالله ورسوله فلماذا يأتي على كفارة الظهار؟ ولماذا يستشعر كل هذه المشاعر؟ ولماذا تتخفف معاناته بهذه الطريقة؟ هذا تجديد للإيمان، ما حصل من ذنب وما اقترفت من تلك المعصية والمخالفة تحتاج تجديد الإيمان. الكفارات تجدد إيمانك بالله سبحانه وتعالى، تقيل عثرتك، تجدد معاني الإيمان. الإيمان يحتاج إلى تجديد. كيف يتجدد الإيمان؟ انظر إلى القرآن كيف يحيي في الإنسان قيمة التوبة والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى، حتى لا يشعر الإنسان المؤمن في أي لحظة يمر بها ومع أي خطأ أو جناية يرتكبها أن أبواب الإيمان قد انقطعت به، وسبل الوصل بينه وبين الله سبحانه وتعالى قد تقطعت. لا، تتقطع أبدًا، بل تتجدد بالإيمان، بالتوبة، بالكفارات، بالوقوف عند أوامر الله، بالرجوع عن ذلك الذنب وتصحيحه.
قال: "وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم". حدود جمع حد، والحد هو الشيء الفاصل بين طرفين، فأنت تقول حد السكين، حد السيف، طرفه الذي يوضع لأجل، لا، أن لا يتجاوز شيء على شيء آخر. الحدود وضعت لأجل أن لا يحصل تجاوز أو مخالفة أو اعتداء من طرف على طرف. فلما يقول: "وتلك حدود الله" بمعنى هذه الأطراف التي وضعها الله سبحانه وتعالى، الخطوط العريضة التي وضعها الله سبحانه وتعالى لعباده وسنها لعباده. لماذا سنها لعباده؟ ومن جملتها تلك الكفارات حتى لا يحصل اعتداء، حتى لا يحصل مخالفة، حتى لا يحصل تجاوز. ولما ينقع شكل من أشكال بوادر التجاوز والمخالفة والاعتداء على تلك الحدود، القرآن يعلمك كيف تعاد الأمور إلى نصابها، كيف تعود إلى ما قبل الخط وتقف عنده. صار في تجاوز؟ ظهر في تجاوز؟ فيه مخالفة؟ ولكن هل هذا يعني أنك لا تستطيع أن ترجع عن تلك المخالفة وتقوم بالتصحيح؟ لا، الباب مفتوح. الكفارة تعيدك إلى سابق عهدك، بعدها تكون إنسانًا أقوى. الإنسان المظاهر بعد قيامه وتقديمه لتلك الكفارة ما عاد إلى سابق عهده، عاد إلى سابق عهده من حيث العلاقة بينه وبين زوجته، وإباحة وحل العلاقة من جديد، ولكن هو عاد إنسانًا أقوى، أكثر عزمًا، أكثر إيمانًا، أعظم تمسكًا بأوامر الله سبحانه وتعالى، أشد حرصًا على الوقوف عند أوامر الله سبحانه وتعالى، أقوى عزمًا، أكثر صلابة، أكثر تحكمًا بما يقول وما يصدر عنه من قول أو من فعل، وكأنه ولد من جديد. تدبروا معي فيها لتعرفوا عظمة ورحمة الله سبحانه وتعالى بعباده، أن يخرج العباد بعد ارتكاب الذنب وبعد التوبة وكأنهم قد خلقوا من جديد، أكثر نقاوة وصفاء وقوة وعزيمة على عدم الرجوع إلى ذلك الذنب.
قال: "وتلك حدود الله". طيب، ماذا بعد الحدود؟ ماذا بعد كل تلك القوانين والأحكام والآداب التي سنها الله لعباده؟ قال: "وللكافرين عذاب أليم". لماذا "وللكافرين عذاب أليم"؟ لأن بعد كل ما سنه الله لعباده وما فتحه من أبواب الرحمة والأمل والعفو والمغفرة والتوبة للتائبين للخاطئين للمتجاوزين لتلك الحدود، يعود الإنسان بعد كل ذلك ويصر على أن يبقى على كفره وعناده ومخالفة أوامر الله. لأن من هو الكافر؟ هو المخالف، هو المصر على الذنب، هو المصر على المعصية وتجاوز حدود الله سبحانه وتعالى. قال: "وللكافرين عذاب أليم". جاء بلفظة أليم لبيان شدة الألم الذي يقع فيه ذلك الإنسان جزاء وفاقًا لذلك العناد والإصرار على الكفر.# بشارة للمؤمنين ونصرهم على الأحزاب
وإذا بالآيات العظيمة تنتقل إلى آية عدها كثير من المفسرين أنها بشارة للمؤمنين. بشارة لمن؟ بشارة لأولئك الذين عرفوا كيف يقفوا عند حدود الله فلا يتجاوزونها، وإذا ما حصل تجاوز في لحظة الضعف يثوبوا إلى رشدهم، ويعودوا لما قالوا، ويصححوا ما قد وقعوا فيه من أخطاء، ويتجاوزوا تلك العثرات، ويتعلموا الدروس، ويأخذوا العبر، فيخرجوا كأنهم ما من ذنب قد ارتكبوه. قال: "إن الذين يحادون الله ورسوله كبتوا كما كبت الذين من قبلهم". قال عدد من المفسرين هذه الآية بشارة للمؤمنين أن الله ناصرهم على الأحزاب، على من سيجتمعون ضدهم، على من ستتوحد صفوفهم لأجل أن يواجهوا المؤمنين، أن يا أحزاب كيف تهزمون؟ وما علاقة الكلام عن الهزيمة وميدان الحرب والمعركة بما قد ذكر من قضايا أسرية؟ ذكرنا سابقًا: النصر الأول والحقيقي في ميدان النفس، نصرك الأول على تلك التحديات الحقيقية التي تواجهها في بيتك ومنزلك ومجتمعك ومؤسساتك، بمعنى آخر، في الداخل. أنت لا تستطيع أبدًا أن تهزم أحدًا ولا تواجه تحديًا خارجيًا وأنت تكون قد هزمت في داخلك، في عقر دارك، في أسرتك، مع زوجتك، أمام نفسك التي جعلتك تضعف وتقول لا ينبغي أن تقول. إذا لم تهزم تلك النفس الأنانية وتخضعها لأمر الله جل شأنه لن تتمكن من مواجهة حزب أو عدو أو تحدٍ خارجي.
هنا نعرف كيف تمكن المسلمون من هزيمة الأحزاب. على أغلب الأقوال، أن غزوة الأحزاب قد وقعت في تلك السنة التي نزلت فيها سورة المجادلة. كيف هزم المؤمنون الأحزاب؟ وقد اجتمعوا وتكاتفوا وتوحدت صفوفهم، وتحالفت قلوبهم الفاسدة، على هزيمة المؤمنين ودحرهم: من يهود، منافقين، على كفار قريش، على قبائل عربية في شبه الجزيرة العربية، كلهم باتوا صفًا واحدًا. كيف سيهزم الجمع ويولون الدبر؟ بأي شيء؟ بما ركز في قلوب المؤمنين من إيمان، بما تجدد في قلوب المؤمنين من صدق وتوبة وإصلاح لأوضاعهم الأسرية والعائلية والداخلية والمجتمعية. هذه قاعدة: لما ازددت حرصًا على إصلاح أوضاعك الداخلية والأسرية والبيتية والمجتمعية، كلما تمكنت أكثر من إصلاح أوضاعك الخارجية، والله معك. فلما أقمت حدود الله في بيتك وأسرتك ومجتمعك، أقامك الله في ميادين التحديات والمواجهات الصعبة مع الأعداء، أقامك ولو كنت ضعيفًا متواضعًا في إمكانياتك المادية، أقمت شرع الله في مجتمعك فأقام الله سبحانه وتعالى لك العز والمنع والقوة والقدرة، ووقفت على قدميك كما يقال أمام العداء والتحديات ولو اجتمع وتوحدت صفوفه. يا لها من معانٍ عظيمة!
تدبروا في دقة المفردة، وتدبروا في العلاقة والترابط بين المفردات القرآنية. في الآية التي قبلها قال: "وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم". الآية التي بعدها قال: يحادون الله ورسوله. من هم الذين يحادون الله ورسوله؟ من هم الذين يحادون الله ورسوله؟ أولئك الذين حادوا، بمعنى خالفوا، حدود الله ورسوله. تدبروا في الترابط بين الكلمتين: حدود الله، وحادوا الله ورسوله. فكل محادد لله ورسوله إنما هو مخالف منازع لحدود من حدود الله سبحانه. الله وضع حدودًا وخطوطًا عريضة لحياة البشر: في الأسرة، في الاقتصاد، في المال، في النفس، في الروح، في الفقر، في كل شيء. فلا تتعد هذه الحدود ولا تتجاوزها. فحصل تجاوز؟ ذكر المكفارات وذكر العقوبات، وأضع الحدود بحسب، هذه كلها حدود. ولكن الذي يحادد الله ورسوله، إنسان خالف ونازع تلك الحدود التي وضعها الله للخلق، أراد تجاوزها، تجاوزها، لن يقف عند تلك الحدود. تدبر في الترابط بين كلمة حدود، يحادد. فالمعنى الشمولي للمحادد: كل إنسان تجاوز حدود الله جل جلاله وأصر على تلك التجاوزات، يكفر عن تلك التجاوزات، تعدى الحدود، وتجاوز ما وضع الله سبحانه وتعالى من القواعد والأحكام والتشريعات للبشر في حياتهم الأسرية، الزوجية، المالية، الاقتصادية، السياسية، التربوية، التنظيمية، إلى آخره. النتيجة؟ قال: "كبتوا". تدبر في المفردة العظيمة في القرآن: الكبت. هزيمة، إذلال، إخزاء، قهر. والكبت على شكلين ونوعين: كبت حسي، فيُكبت الإنسان بمعنى أنه يُداس أو يُدفع وجهه إلى، يُقع هكذا، يُدفع إلى الأمام مثلًا، من يدفع رأس شخص أو يكب ويكبت وجه ذلك الشخص هكذا، هذا شكل من أشكال الامتهان، شكل من أشكال الإشعار بالخزي والعار. ولذلك الإنسان لما يريد يعاقب أحدًا أو كذا يدفع به هكذا من رأسه أو مؤخرة رأسه كشكل من أشكال الإشعار بالامتهان والخزي. هذا الحسي. ولكن الكبت المعنوي: هي مشاعر الإهانة والخزي والعار والشعور بالإذلال والقهر والامتهان. قال: "كبتوا". من الذي كبتهم؟ من الذي كبتهم؟ الرب الذي حادوه. تدبروا معي في قمة المفردة، المفردة المحملة بعشرات المواقف والعواطف والمشاعر والتربية والسلوك. إنسان حاد الله ورسوله، هذه المحاددة التي تحمل في طياتها معاني المنازعة والمخالفة لأوامر الله وحدوده، ما هي الثمرة الناجمة عنها؟ الكبت، الإذلال، الامتهان، الخزي، العار، النفسي، المعنوي، والحسي.# الجزاء من جنس العمل: الكبت نتيجة لمحادّة الله
لنا أن نتساءل: لماذا والجزاء من جنس العمل؟ الإنسان لا يقدم على مخالفة أمر الله سبحانه جل شأنه إلا حين يحصل في نفسه شكل من أشكال عدم التقدير لله جل شأنه. والكافر أكثر المحادّين، أكثر إنسان لا يقدر الله سبحانه وتعالى حق قدره. ما قدر الله حق قدره. الله سبحانه وتعالى كل شيء لقدرته وسلطانه، كل شيء خاضع لقدرته نحن شئنا أم أبينا، نخضع لقدرته وسلطانه سبحانه، نأتمر بأمره، حتى الكافر، حتى الملحد، حتى المعاند، يأتمر بأمره، يأتمر بأمره قهرًا لا اختيارًا. المطلوب منك أن تأتمر بأمره اختيارًا، فتقف عند حدود الله. الكافر لا يقف عند حدود الله، يأتمر بأمر الله سبحانه وتعالى، لا يستطيع إلا أن يتنفس، الكون الحسي لا يستطيع، يأتمر بأمر الله، يتنفس، يأكل، يشرب، ويسير وفق قوانين الله جل شأنه السائدة في الكون، السائدة في النفس، السائدة في الجسد، السائدة في العقل. هذه أوامر الله سبحانه وتعالى الكونية، فهو مقهور على الامتثال لها. المطلوب أن يكون مختارًا كذلك لتلك الأوامر مؤتمرًا بها واقفًا عندها في المجال الذي فيه اختيار. أما وأنه قد حاد الله ورسوله، ولن يأتمر بأمر الله ورسوله في واقع حياته، لا في أسرة ولا في زواج ولا في طلاق ولا في شيء، النتيجة: "كبتوا كما كبت الذين من قبلهم". الخزي، العار، الكلمة، المفردة المحملة بمشاعر الألم والحزن. قد يتساءل الإنسان: أي شكل من أشكال الكبت الذي يواجهه الإنسان اليوم؟ انظر إلى الناس كيف قد كبتت، هذه كلمة نفسية وحالة نفسية عظيمة الأثر في المجتمع الإنساني، الكبت حتى المصطلح كمصطلح مستعمل في علم النفس، الكبت على المشاعر الإنسانية، ولكن هذا الضغط فيه إذلال وإهانة وخزي وعار. ليجعل القرآن العظيم الامتثال لأوامر الله والطاعة والخضوع لحكمه في واقع الحياة الإنسانية أعظم أشكال التحرر من الكبت. تدبر معي في الرابط بينها وبين ما ذكرنا من تحرر الإنسان من أسر الشهوات، والوقوع في سلطان نزوة أو مشاعر سلبية أو غضب أو ما شابه. تدبر معي كيف الإيمان يحررنا من ربقة الخضوع لهذه النزوات والشهوات والقضايا السلبية. والقهر والكبت، بعض الناس يقول لك: كيف تتحرر من الكبت؟ لا تتحرر من الكبت إلا بالإيمان بالله والخضوع لمنهجه. بعض الأشخاص يقول لك اليوم: لا لا لا لا، الخضوع للمنهج وللأوامر، وافعلوْا لا تفعلوْا، وهذا حلال وهذا حرام، يولد كبتًا في النفس البشرية. كذبوا فيما يزعمون. لا شيء كالإيمان والطاعة والامتثال لأمر الله جل شأنه يحرر الإنسان والبشرية من مشاعر الكبت المادي والنفسي، ولا شيء يوقع البشرية في المزيد من الكبت المادي والنفسي والمعنوي كمحادّة الله ورسوله ومخالفة أوامره. وانظر لواقع الحياة الإنسانية لترى صورًا عالمية للكبت الذي يعيشه العالم. المجتمعات المختلفة اليوم تعيش حالًا للكبت. من أين جاء ذلك الكبت؟ من أين جاء؟ من أين؟ سنة الله ماضية في الخلق: "كبتوا كما كبت الذين من قبلهم". وما كبت قوم إلا بمخالفة ومحادّة الله ورسوله. نقيض الكبت تلك الحرية التي يشعر بها المؤمن الممتثل لأمر الله سبحانه وتعالى: تحرر من الذنب، تحرر من تأنيب الضمير، تحرر من الرق والاستعباد للحظة ضائشة أو نزوة عابرة أو شهوة غامرة تسقط به في أقل الدرجات من الحيوانية. الإيمان يحرره، جعله حرًا إنسانًا طريقًا مسؤولًا مصححًا لأخطائه، قادرًا على مواجهة تلك الأخطاء وتصحيحها وتجاوزها. واحدة من أعظم أسباب الكبت الوقوع في الجنايات والأخطاء وعدم تصحيح تلك الجرائم. ولذلك كان المجرم في كل نواحي الحياة الإنسانية إنسانًا مكبوتًا نفسيًا، يشعر بالعار. علماء النفس يقولون لك: من أكثر الأشياء التي تشعر الإنسان بالخزي والعار ارتكاب الجنايات والأخطاء والجرائم. ولذلك الإنسان المجرم والعياذ بالله كلما ارتكب جناية ثم أتبعها بأخرى، ازداد خزيًا وعارًا وشعورًا بالامتهان، أي بالكبت. أكثر الأشياء التي تشعر الإنسان بالكبت هي الجريمة والجناية. كل الجرائم والجنايات هي مخالفة لأمر الله جل شأنه، ومحادّة لأمر الله ورسوله. فيها العظمة، القرآن.
قال: "وقد أنزلنا آيات بينات". تدبر معي في الربط بين الآيات البينات وبين حدود الله، لأنك لا تستطيع أن تقول هذا حد من حدود الله إلا بآية بينة ظاهرة، لا لبس فيها ولا خفاء في معناها ولا في فحواها. آيات بينات، بمعنى آخر، أن هذا الدين بحدوده واضح للعيان، وأن جميع ما يتعلق بالحدود ليس في دائرة الاجتهاد، حتى نقول بأن تتفاوت العقول في فهمه وفي الوقوف على معانيه ومقاصده. "وقد أنزلنا آيات بينات". قال: "وللكافرين عذاب مهين". تدبر معي في الربط: الأولى قال: "وللكافرين عذاب أليم"، في الثانية قال: "وللكافرين عذاب مهين". لأن الإهانة تتناغم وتتسق تمامًا مع معنى الكبت الذي فيه إهانة وخزي وعار. "وللكافرين عذاب مهين". هل فقط في الآخرة؟ أبدًا، في الدنيا. تدبر معي في الربط كما ذكرنا بين الحالة النفسية والشعور بالخزي والعار عند أولئك الذين يتجاوزون حدود الله، الاعتداء على أعراض الآخرين، وللعلم والطب النفسي يقول لك: بأن المجرمين أكثر الناس شعورًا بالخزي والعار. ها حقيقة. قال: "وللكافرين عذاب مهين"، حتى نعلم ما معنى أن يتفيأ الإنسان ظلال الطاعة. من أعظم نعم الله على الإنسان أن يكون خاضعًا لمنهج الله وحدوده في حياته. ينعم بالأمن، بالاحترام لذاته، بالعزة، بالهدوء النفسي، بالاستقرار. وما يقال عن المجتمع يُسحب على الفرد، وما يقال على الفرد يُسحب على المجتمع.# الاستقرار الأسري والأمن المجتمعي: ثمرة الخضوع لأمر الله
تدبر معي في القرآن كيف يعالج، هذه الآيات والسورة العظيمة، ما عادت مجرد قضية أسرية وزوجية. وكذلك تدبر معي في القرآن كيف يقيم قيم الأسرة: احترام، استقرار حقيقي وليس شكلي. بعض الناس وبعض الأسر وبعض الأزواج يعتقد أن الاستقرار أن يسكن بيتًا من طوب وحجر. الاستقرار النفسي أعظم، أهم. صحيح الاستقرار المادي مطلوب، ولكن الاستقرار النفسي والأمني لأفراد الأسرة والبيت الواحد هو الذي يحقق سلمًا اجتماعيًا حقيقيًا، أمنًا مجتمعيًا حقيقيًا. كيف يتحقق هذا الأمن؟ الخضوع لأمر الله سبحانه وتعالى رجالًا ونساءً، وليس الرجل يخضع والمرأة، يخضع، والرجل لا يخضع. والكل واحد يجر بالطول والآخر بالعرض. لا، منظومة متكاملة، كل الأسرة، نساؤها ورجالها، صغارها وكبارها، يخضعون لأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. إذا ما خضعوا تحقق هذا الاستقرار. في ربط بين عملية الاستقرار والأمن والسلم المجتمعي والأسري، والخضوع لأمر الله سبحانه وتعالى. وفي علاقة وطيدة بين غياب الأمن الأسري والأمن المجتمعي، وجود الخوف في الأسرة والمجتمع، ومخالفة أوامر الله ورسوله. لا تجد إنسانًا طائعًا خاضعًا لأمر الله في حياته وأسرته، وترى في قلبه من الحيرة والقلق والخوف ما تُطنش به الأفكار والعقول. والعكس صحيح، في تلازم بين الأمن والإيمان، في تلازم شديد. وفي تلازم بين الطاعة والخضوع لأمر الله، وتحقق الأمن الأسري في المجتمع. متى نعي هذه الحقائق؟ متى ندرك أن الأمن الحقيقي والأسري هو في ذاك التمسك بالقيم التي جاء بها القرآن العظيم؟ متى نعي هذا؟ وأننا إذا أردنا تحقيق سلم مجتمعي حقيقي وليس مزيفًا علينا الوقوف عند أوامر الله وحدوده، وعدم التجاوز بأي شكل من الأشكال؟ متى؟ متى ندرك أن قضايانا ومشاكلنا الأسرية لا تُحل في أروقة المحاكم قدر ما تُحل في بيوتنا وقلوبنا وعقولنا وأفكارنا التي ينبغي أن تُعمر بالإيمان وتقوى الله والخوف من المخالفة؟ متى ندرك؟ متى ندرك أن المحاكم ضجت بتلك القضايا الأسرية في مجتمعاتنا العربية والمسلمة، وارتفعت نسب المشكلات الأسرية ارتفاعًا مخيفًا حين ضعف سلطان الإيمان والطاعة والخضوع لأوامر الله ومنهجه في حياتنا؟ متى؟
تدبر معي في الآية التي جاءت بعدها، تعزز مبدأ الطاعة والخضوع لأوامر الله. قال: "يوم يبعثهم الله جميعًا". وفي وصل بين التهديد والوعيد في قوله جل شأنه: "وللكافرين عذاب أليم. وللكافرين عذاب مهين. يوم يبعثهم الله"، حتى نعلم أن العذاب الأليم والعذاب المهين ممكن أن يحصل في الدنيا، ومقدماته توابع في الدنيا لأولئك المتجاوزين لحدود الله، ولكن العذاب الحقيقي "يوم يبعثهم الله". لأن الآخرة هي دار الجزاء. قال: "يوم يبعثهم الله جميعًا". يبعثهم الله جميعًا: مؤمنهم وكافرهم، الطائع فيهم والمخالف، المحادّ لأوامر الله سبحانه جل شأنه، جميعًا. ليس هناك من أحد إلا يبعثه الله يوم القيامة. وماذا يوم البعث؟ قال: "فينبئهم بما عملوا". تدبر معي في القرآن كيف يحكم الرقابة الذاتية على نفس الإنسان وكلماته وخطواته وحركاته وسكناته وشعوره وأفعاله، حتى يجعل منه إنسانًا منضبطًا مؤتمرًا بأوامر الشرع. كيف؟ قال: "فينبئهم بما عملوا". والنبأ يختلف عن الخبر. الخبر ممكن أن تحصل عليه من أكثر من جهة، ولكن النبأ، والذي هو عادة ما يستعمل في القرآن، ويستعمل في القرآن فقط للأشياء العظيمة، عما يتساءلون عن النبأ العظيم، يعني شيء عظيم. فالنبأ لا يأتيك إلا من الجهة العليمة المحيطة به فقط، لا يأتيك من كل أحد، بمعنى آخر أعمالك لا ينبئك بها قاضٍ ولا حاكم ولا أب ولا أم ولا مجتمع ولا جهاز رقابة، لا لا لا لا، الله سبحانه جل شأنه، ولا ينبئك بها غيره. لماذا؟ لأن الله سبحانه وتعالى وحده لا شريك له، السميع، البصير، اللطيف، المحيط بما تشعر به، الذي يقرأ ويعلم خواطرك وأنت لا تُمتم بها، مطلع على أحاسيسك ومشاعرك وأنت لا تتكلم بها. فمن ذا هذا الذي ينبئك إلا الله سبحانه وتعالى؟ قال: "فينبئهم بما عملوا". بكل شيء عملته: بتفاصيل العمل، بالدوافع والبواعث التي كانت قبل العمل، بالنية التي جاءت قبل العمل، بالعزم الذي كان قبل العمل، بما كان يرافق ذلك العمل من مشاعر، نوايا، أحاسيس، دوافع، بواعث. قل لي بالله عليك: أي جهاز في الكون، كل الكون، يستطيع أن يُحاط بكل هذا؟ أجهزة المراقبة التي صنعها البشر تراقب الأفعال، الأفعال، الأعمال، سكنات، نظرات الآخرين. ولكن هل في جهاز في الدنيا يطلع على نيتك؟ يراقب ويحاسب عليك؟ لا. طب هذه الآية لما تأتيني، هذا الجزء من الآية: "فينبئهم بما عملوا"، ماذا تحدث في نفس الإنسان؟ تجدد الإخلاص، تجعل الإنسان قبل أن يتقدم بأي عمل بين يدي الله سبحانه وتعالى يفكر: أي فمرة أنا لما أعمل هذا؟ تجعل الإنسان يراقب خفايا العمل والنية قبل ظاهر العمل. ظاهر العمل الناس تنظر إليه، باطن العمل الله ينظر إليه، وينظر إلى ظاهره. صحح الباطن، صحح السريرة، نقّ نية، وإياك أن تقدم على عمل وقد بيت فيه نية لا يرضيها ولا يحبها الله ورسوله. أعمالنا، أعمالنا ترقى وتكبر لما قد عُمر في قلوبنا من النيات والصدق مع الله سبحانه وتعالى. فإذا خرجت فلا تخرج إلا لله، وإذا عملت فلا تعمل إلا لله، وإذا اجتهدت وقلت فلا تقُل إلا لله وإرضاء لله، وإذا سامحت وصفحت لا تصفح إلا لله، وإذا أخذت لا تأخذ إلا لله. وليكن الخروج والدخول والصدق والكلمة والموضع، قدم كل شيء لله. لماذا؟ هو الذي سينبئك بما عملت.# الله عليم بما يعملون: دعوة للمراقبة الذاتية
قال: "الله عليم بما يعملون". هذه فيها معنى التثبيت لما قبلها، وفيها معنى التربية، وفيها معنى المراقبة الذاتية. الله عليم بما تعملون. هذه الكلمة: الله عليم بما تعملون، تجعل الإنسان دائمًا وأبدًا في حالة يقظة، ينظر إلى أعماله بعين الله قبل أن ينظر إليها بعين الناس، يحاسب نفسه على أعماله قبل أن يحاسبه الناس. الله عليم بما تعملون، لا تخفى عليه خافية. يثبتها سبحانه وتعالى من جديد، لماذا؟ لتعلم أبدًا أن ما تفعله لا يُمحى، مهما كان حجمه صغيرًا، صغيرًا صغيرًا صغيرًا، كبيرًا كبيرًا كبيرًا. صغير لا يُرى بالعين المجردة. كل شيء، كل شيء محسوب عند الله سبحانه وتعالى. ولذلك قال: "الله عليم بما تعملون". بهذا نكون قد وصلنا إلى ختام هذه الآيات المباركات من سورة المجادلة، التي تحدثت عن قضية أسرية، ولكن القرآن العظيم جعل منها منطلقًا لمعالجة قضايا عظيمة في حياة الإنسان والمجتمع. قضية الظهار التي قد تكون مشكلة أسرية عابرة، جعلها القرآن منطلقًا لتربية الإنسان على معاني عظيمة في الحياة، من معاني التوبة، من معاني الصدقة، من معاني الرجوع إلى الله، من معاني تجديد الإيمان، من معاني مواجهة الأحزاب، من معاني تحقيق النصر في النفس قبل تحقيقه على الأعداء، من معاني الوقوف عند حدود الله، من معاني تجديد مراقبة الله في حياتنا، من معاني الإخلاص لله سبحانه وتعالى في أعمالنا. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
وإذا بالآيات العظيمة تنتقل إلى آية عدها كثير من المفسرين أنها بشارة للمؤمنين. بشارة لمن؟ بشارة لأولئك الذين عرفوا كيف يقفوا عند حدود الله فلا يتجاوزونها، وإذا ما حصل تجاوز في لحظة الضعف يثوبوا إلى رشدهم، ويعودوا لما قالوا، ويصححوا ما قد وقعوا فيه من أخطاء، ويتجاوزوا تلك العثرات، ويتعلموا الدروس، ويأخذوا العبر، فيخرجوا كأنهم ما من ذنب قد ارتكبوه. قال: "إن الذين يحادون الله ورسوله كبتوا كما كبت الذين من قبلهم". قال عدد من المفسرين هذه الآية بشارة للمؤمنين أن الله ناصرهم على الأحزاب، على من سيجتمعون ضدهم، على من ستتوحد صفوفهم لأجل أن يواجهوا المؤمنين، أن يا أحزاب كيف تهزمون؟ وما علاقة الكلام عن الهزيمة وميدان الحرب والمعركة بما قد ذكر من قضايا أسرية؟ ذكرنا سابقًا: النصر الأول والحقيقي في ميدان النفس، نصرك الأول على تلك التحديات الحقيقية التي تواجهها في بيتك ومنزلك ومجتمعك ومؤسساتك، بمعنى آخر، في الداخل. أنت لا تستطيع أبدًا أن تهزم أحدًا ولا تواجه تحديًا خارجيًا وأنت تكون قد هزمت في داخلك، في عقر دارك، في أسرتك، مع زوجتك، أمام نفسك التي جعلتك تضعف وتقول لا ينبغي أن تقول. إذا لم تهزم تلك النفس الأنانية وتخضعها لأمر الله جل شأنه لن تتمكن من مواجهة حزب أو عدو أو تحدٍ خارجي.
هنا نعرف كيف تمكن المسلمون من هزيمة الأحزاب. على أغلب الأقوال، أن غزوة الأحزاب قد وقعت في تلك السنة التي نزلت فيها سورة المجادلة. كيف هزم المؤمنون الأحزاب؟ وقد اجتمعوا وتكاتفوا وتوحدت صفوفهم، وتحالفت قلوبهم الفاسدة، على هزيمة المؤمنين ودحرهم: من يهود، منافقين، على كفار قريش، على قبائل عربية في شبه الجزيرة العربية، كلهم باتوا صفًا واحدًا. كيف سيهزم الجمع ويولون الدبر؟ بأي شيء؟ بما ركز في قلوب المؤمنين من إيمان، بما تجدد في قلوب المؤمنين من صدق وتوبة وإصلاح لأوضاعهم الأسرية والعائلية والداخلية والمجتمعية. هذه قاعدة: لما ازددت حرصًا على إصلاح أوضاعك الداخلية والأسرية والبيتية والمجتمعية، كلما تمكنت أكثر من إصلاح أوضاعك الخارجية، والله معك. فلما أقمت حدود الله في بيتك وأسرتك ومجتمعك، أقامك الله في ميادين التحديات والمواجهات الصعبة مع الأعداء، أقامك ولو كنت ضعيفًا متواضعًا في إمكانياتك المادية، أقمت شرع الله في مجتمعك فأقام الله سبحانه وتعالى لك العز والمنع والقوة والقدرة، ووقفت على قدميك كما يقال أمام العداء والتحديات ولو اجتمع وتوحدت صفوفه. يا لها من معانٍ عظيمة!
تدبروا في دقة المفردة، وتدبروا في العلاقة والترابط بين المفردات القرآنية. في الآية التي قبلها قال: "وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم". الآية التي بعدها قال: يحادون الله ورسوله. من هم الذين يحادون الله ورسوله؟ من هم الذين يحادون الله ورسوله؟ أولئك الذين حادوا، بمعنى خالفوا، حدود الله ورسوله. تدبروا في الترابط بين الكلمتين: حدود الله، وحادوا الله ورسوله. فكل محادد لله ورسوله إنما هو مخالف منازع لحدود من حدود الله سبحانه. الله وضع حدودًا وخطوطًا عريضة لحياة البشر: في الأسرة، في الاقتصاد، في المال، في النفس، في الروح، في الفقر، في كل شيء. فلا تتعد هذه الحدود ولا تتجاوزها. فحصل تجاوز؟ ذكر المكفارات وذكر العقوبات، وأضع الحدود بحسب، هذه كلها حدود. ولكن الذي يحادد الله ورسوله، إنسان خالف ونازع تلك الحدود التي وضعها الله للخلق، أراد تجاوزها، تجاوزها، لن يقف عند تلك الحدود. تدبر في الترابط بين كلمة حدود، يحادد. فالمعنى الشمولي للمحادد: كل إنسان تجاوز حدود الله جل جلاله وأصر على تلك التجاوزات، يكفر عن تلك التجاوزات، تعدى الحدود، وتجاوز ما وضع الله سبحانه وتعالى من القواعد والأحكام والتشريعات للبشر في حياتهم الأسرية، الزوجية، المالية، الاقتصادية، السياسية، التربوية، التنظيمية، إلى آخره. النتيجة؟ قال: "كبتوا". تدبر في المفردة العظيمة في القرآن: الكبت. هزيمة، إذلال، إخزاء، قهر. والكبت على شكلين ونوعين: كبت حسي، فيُكبت الإنسان بمعنى أنه يُداس أو يُدفع وجهه إلى، يُقع هكذا، يُدفع إلى الأمام مثلًا، من يدفع رأس شخص أو يكب ويكبت وجه ذلك الشخص هكذا، هذا شكل من أشكال الامتهان، شكل من أشكال الإشعار بالخزي والعار. ولذلك الإنسان لما يريد يعاقب أحدًا أو كذا يدفع به هكذا من رأسه أو مؤخرة رأسه كشكل من أشكال الإشعار بالامتهان والخزي. هذا الحسي. ولكن الكبت المعنوي: هي مشاعر الإهانة والخزي والعار والشعور بالإذلال والقهر والامتهان. قال: "كبتوا". من الذي كبتهم؟ من الذي كبتهم؟ الرب الذي حادوه. تدبروا معي في قمة المفردة، المفردة المحملة بعشرات المواقف والعواطف والمشاعر والتربية والسلوك. إنسان حاد الله ورسوله، هذه المحاددة التي تحمل في طياتها معاني المنازعة والمخالفة لأوامر الله وحدوده، ما هي الثمرة الناجمة عنها؟ الكبت، الإذلال، الامتهان، الخزي، العار، النفسي، المعنوي، والحسي.
لنا أن نتساءل: لماذا والجزاء من جنس العمل؟ الإنسان لا يقدم على مخالفة أمر الله سبحانه جل شأنه إلا حين يحصل في نفسه شكل من أشكال عدم التقدير لله جل شأنه. والكافر أكثر المحادّين، أكثر إنسان لا يقدر الله سبحانه وتعالى حق قدره. ما قدر الله حق قدره. الله سبحانه وتعالى كل شيء لقدرته وسلطانه، كل شيء خاضع لقدرته نحن شئنا أم أبينا، نخضع لقدرته وسلطانه سبحانه، نأتمر بأمره، حتى الكافر، حتى الملحد، حتى المعاند، يأتمر بأمره، يأتمر بأمره قهرًا لا اختيارًا. المطلوب منك أن تأتمر بأمره اختيارًا، فتقف عند حدود الله. الكافر لا يقف عند حدود الله، يأتمر بأمر الله سبحانه وتعالى، لا يستطيع إلا أن يتنفس، الكون الحسي لا يستطيع، يأتمر بأمر الله، يتنفس، يأكل، يشرب، ويسير وفق قوانين الله جل شأنه السائدة في الكون، السائدة في النفس، السائدة في الجسد، السائدة في العقل. هذه أوامر الله سبحانه وتعالى الكونية، فهو مقهور على الامتثال لها. المطلوب أن يكون مختارًا كذلك لتلك الأوامر مؤتمرًا بها واقفًا عندها في المجال الذي فيه اختيار. أما وأنه قد حاد الله ورسوله، ولن يأتمر بأمر الله ورسوله في واقع حياته، لا في أسرة ولا في زواج ولا في طلاق ولا في شيء، النتيجة: "كبتوا كما كبت الذين من قبلهم". الخزي، العار، الكلمة، المفردة المحملة بمشاعر الألم والحزن. قد يتساءل الإنسان: أي شكل من أشكال الكبت الذي يواجهه الإنسان اليوم؟ انظر إلى الناس كيف قد كبتت، هذه كلمة نفسية وحالة نفسية عظيمة الأثر في المجتمع الإنساني، الكبت حتى المصطلح كمصطلح مستعمل في علم النفس، الكبت على المشاعر الإنسانية، ولكن هذا الضغط فيه إذلال وإهانة وخزي وعار. ليجعل القرآن العظيم الامتثال لأوامر الله والطاعة والخضوع لحكمه في واقع الحياة الإنسانية أعظم أشكال التحرر من الكبت. تدبر معي في الرابط بينها وبين ما ذكرنا من تحرر الإنسان من أسر الشهوات، والوقوع في سلطان نزوة أو مشاعر سلبية أو غضب أو ما شابه. تدبر معي كيف الإيمان يحررنا من ربقة الخضوع لهذه النزوات والشهوات والقضايا السلبية. والقهر والكبت، بعض الناس يقول لك: كيف تتحرر من الكبت؟ لا تتحرر من الكبت إلا بالإيمان بالله والخضوع لمنهجه. بعض الأشخاص يقول لك اليوم: لا لا لا لا، الخضوع للمنهج وللأوامر، وافعلوْا لا تفعلوْا، وهذا حلال وهذا حرام، يولد كبتًا في النفس البشرية. كذبوا فيما يزعمون. لا شيء كالإيمان والطاعة والامتثال لأمر الله جل شأنه يحرر الإنسان والبشرية من مشاعر الكبت المادي والنفسي، ولا شيء يوقع البشرية في المزيد من الكبت المادي والنفسي والمعنوي كمحادّة الله ورسوله ومخالفة أوامره. وانظر لواقع الحياة الإنسانية لترى صورًا عالمية للكبت الذي يعيشه العالم. المجتمعات المختلفة اليوم تعيش حالًا للكبت. من أين جاء ذلك الكبت؟ من أين جاء؟ من أين؟ سنة الله ماضية في الخلق: "كبتوا كما كبت الذين من قبلهم". وما كبت قوم إلا بمخالفة ومحادّة الله ورسوله. نقيض الكبت تلك الحرية التي يشعر بها المؤمن الممتثل لأمر الله سبحانه وتعالى: تحرر من الذنب، تحرر من تأنيب الضمير، تحرر من الرق والاستعباد للحظة ضائشة أو نزوة عابرة أو شهوة غامرة تسقط به في أقل الدرجات من الحيوانية. الإيمان يحرره، جعله حرًا إنسانًا طريقًا مسؤولًا مصححًا لأخطائه، قادرًا على مواجهة تلك الأخطاء وتصحيحها وتجاوزها. واحدة من أعظم أسباب الكبت الوقوع في الجنايات والأخطاء وعدم تصحيح تلك الجرائم. ولذلك كان المجرم في كل نواحي الحياة الإنسانية إنسانًا مكبوتًا نفسيًا، يشعر بالعار. علماء النفس يقولون لك: من أكثر الأشياء التي تشعر الإنسان بالخزي والعار ارتكاب الجنايات والأخطاء والجرائم. ولذلك الإنسان المجرم والعياذ بالله كلما ارتكب جناية ثم أتبعها بأخرى، ازداد خزيًا وعارًا وشعورًا بالامتهان، أي بالكبت. أكثر الأشياء التي تشعر الإنسان بالكبت هي الجريمة والجناية. كل الجرائم والجنايات هي مخالفة لأمر الله جل شأنه، ومحادّة لأمر الله ورسوله. فيها العظمة، القرآن.# الآيات البينات وعذاب الكافرين
قال: "وقد أنزلنا آيات بينات". تدبر معي في الربط بين الآيات البينات وبين حدود الله، لأنك لا تستطيع أن تقول هذا حد من حدود الله إلا بآية بينة ظاهرة، لا لبس فيها ولا خفاء في معناها ولا في فحواها. آيات بينات، بمعنى آخر، أن هذا الدين بحدوده واضح للعيان، وأن جميع ما يتعلق بالحدود ليس في دائرة الاجتهاد، حتى نقول بأن تتفاوت العقول في فهمه وفي الوقوف على معانيه ومقاصده. "وقد أنزلنا آيات بينات". قال: "وللكافرين عذاب مهين". تدبر معي في الربط: الأولى قال: "وللكافرين عذاب أليم"، في الثانية قال: "وللكافرين عذاب مهين". لأن الإهانة تتناغم وتتسق تمامًا مع معنى الكبت الذي فيه إهانة وخزي وعار. "وللكافرين عذاب مهين". هل فقط في الآخرة؟ أبدًا، في الدنيا. تدبر معي في الربط كما ذكرنا بين الحالة النفسية والشعور بالخزي والعار عند أولئك الذين يتجاوزون حدود الله، الاعتداء على أعراض الآخرين، وللعلم والطب النفسي يقول لك: بأن المجرمين أكثر الناس شعورًا بالخزي والعار. ها حقيقة. قال: "وللكافرين عذاب مهين"، حتى نعلم ما معنى أن يتفيأ الإنسان ظلال الطاعة. من أعظم نعم الله على الإنسان أن يكون خاضعًا لمنهج الله وحدوده في حياته. ينعم بالأمن، بالاحترام لذاته، بالعزة، بالهدوء النفسي، بالاستقرار. وما يقال عن المجتمع يُسحب على الفرد، وما يقال على الفرد يُسحب على المجتمع.
تدبر معي في القرآن كيف يعالج، هذه الآيات والسورة العظيمة، ما عادت مجرد قضية أسرية وزوجية. وكذلك تدبر معي في القرآن كيف يقيم قيم الأسرة: احترام، استقرار حقيقي وليس شكلي. بعض الناس وبعض الأسر وبعض الأزواج يعتقد أن الاستقرار أن يسكن بيتًا من طوب وحجر. الاستقرار النفسي أعظم، أهم. صحيح الاستقرار المادي مطلوب، ولكن الاستقرار النفسي والأمني لأفراد الأسرة والبيت الواحد هو الذي يحقق سلمًا اجتماعيًا حقيقيًا، أمنًا مجتمعيًا حقيقيًا. كيف يتحقق هذا الأمن؟ الخضوع لأمر الله سبحانه وتعالى رجالًا ونساءً، وليس الرجل يخضع والمرأة، يخضع، والرجل لا يخضع. والكل واحد يجر بالطول والآخر بالعرض. لا، منظومة متكاملة، كل الأسرة، نساؤها ورجالها، صغارها وكبارها، يخضعون لأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. إذا ما خضعوا تحقق هذا الاستقرار. في ربط بين عملية الاستقرار والأمن والسلم المجتمعي والأسري، والخضوع لأمر الله سبحانه وتعالى. وفي علاقة وطيدة بين غياب الأمن الأسري والأمن المجتمعي، وجود الخوف في الأسرة والمجتمع، ومخالفة أوامر الله ورسوله. لا تجد إنسانًا طائعًا خاضعًا لأمر الله في حياته وأسرته، وترى في قلبه من الحيرة والقلق والخوف ما تُطنش به الأفكار والعقول. والعكس صحيح، في تلازم بين الأمن والإيمان، في تلازم شديد. وفي تلازم بين الطاعة والخضوع لأمر الله، وتحقق الأمن الأسري في المجتمع. متى نعي هذه الحقائق؟ متى ندرك أن الأمن الحقيقي والأسري هو في ذاك التمسك بالقيم التي جاء بها القرآن العظيم؟ متى نعي هذا؟ وأننا إذا أردنا تحقيق سلم مجتمعي حقيقي وليس مزيفًا علينا الوقوف عند أوامر الله وحدوده، وعدم التجاوز بأي شكل من الأشكال؟ متى؟ متى ندرك أن قضايانا ومشاكلنا الأسرية لا تُحل في أروقة المحاكم قدر ما تُحل في بيوتنا وقلوبنا وعقولنا وأفكارنا التي ينبغي أن تُعمر بالإيمان وتقوى الله والخوف من المخالفة؟ متى ندرك؟ متى ندرك أن المحاكم ضجت بتلك القضايا الأسرية في مجتمعاتنا العربية والمسلمة، وارتفعت نسب المشكلات الأسرية ارتفاعًا مخيفًا حين ضعف سلطان الإيمان والطاعة والخضوع لأوامر الله ومنهجه في حياتنا؟ متى؟
تدبر معي في الآية التي جاءت بعدها، تعزز مبدأ الطاعة والخضوع لأوامر الله. قال: "يوم يبعثهم الله جميعًا". وفي وصل بين التهديد والوعيد في قوله جل شأنه: "وللكافرين عذاب أليم. وللكافرين عذاب مهين. يوم يبعثهم الله"، حتى نعلم أن العذاب الأليم والعذاب المهين ممكن أن يحصل في الدنيا، ومقدماته توابع في الدنيا لأولئك المتجاوزين لحدود الله، ولكن العذاب الحقيقي "يوم يبعثهم الله". لأن الآخرة هي دار الجزاء. قال: "يوم يبعثهم الله جميعًا". يبعثهم الله جميعًا: مؤمنهم وكافرهم، الطائع فيهم والمخالف، المحادّ لأوامر الله سبحانه جل شأنه، جميعًا. ليس هناك من أحد إلا يبعثه الله يوم القيامة. وماذا يوم البعث؟ قال: "فينبئهم بما عملوا". تدبر معي في القرآن كيف يحكم الرقابة الذاتية على نفس الإنسان وكلماته وخطواته وحركاته وسكناته وشعوره وأفعاله، حتى يجعل منه إنسانًا منضبطًا مؤتمرًا بأوامر الشرع. كيف؟ قال: "فينبئهم بما عملوا". والنبأ يختلف عن الخبر. الخبر ممكن أن تحصل عليه من أكثر من جهة، ولكن النبأ، والذي هو عادة ما يستعمل في القرآن، ويستعمل في القرآن فقط للأشياء العظيمة، عما يتساءلون عن النبأ العظيم، يعني شيء عظيم. فالنبأ لا يأتيك إلا من الجهة العليمة المحيطة به فقط، لا يأتيك من كل أحد، بمعنى آخر أعمالك لا ينبئك بها قاضٍ ولا حاكم ولا أب ولا أم ولا مجتمع ولا جهاز رقابة، لا لا لا لا، الله سبحانه جل شأنه، ولا ينبئك بها غيره. لماذا؟ لأن الله سبحانه وتعالى وحده لا شريك له، السميع، البصير، اللطيف، المحيط بما تشعر به، الذي يقرأ ويعلم خواطرك وأنت لا تُمتم بها، مطلع على أحاسيسك ومشاعرك وأنت لا تتكلم بها. فمن ذا هذا الذي ينبئك إلا الله سبحانه وتعالى؟ قال: "فينبئهم بما عملوا". بكل شيء عملته: بتفاصيل العمل، بالدوافع والبواعث التي كانت قبل العمل، بالنية التي جاءت قبل العمل، بالعزم الذي كان قبل العمل، بما كان يرافق ذلك العمل من مشاعر، نوايا، أحاسيس، دوافع، بواعث. قل لي بالله عليك: أي جهاز في الكون، كل الكون، يستطيع أن يُحاط بكل هذا؟ أجهزة المراقبة التي صنعها البشر تراقب الأفعال، الأفعال، الأعمال، سكنات، نظرات الآخرين. ولكن هل في جهاز في الدنيا يطلع على نيتك؟ يراقب ويحاسب عليك؟ لا. طب هذه الآية لما تأتيني، هذا الجزء من الآية: "فينبئهم بما عملوا"، ماذا تحدث في نفس الإنسان؟ تجدد الإخلاص، تجعل الإنسان قبل أن يتقدم بأي عمل بين يدي الله سبحانه وتعالى يفكر: أي فمرة أنا لما أعمل هذا؟ تجعل الإنسان يراقب خفايا العمل والنية قبل ظاهر العمل. ظاهر العمل الناس تنظر إليه، باطن العمل الله ينظر إليه، وينظر إلى ظاهره. صحح الباطن، صحح السريرة، نقّ نية، وإياك أن تقدم على عمل وقد بيت فيه نية لا يرضيها ولا يحبها الله ورسوله. أعمالنا، أعمالنا ترقى وتكبر لما قد عُمر في قلوبنا من النيات والصدق مع الله سبحانه وتعالى. فإذا خرجت فلا تخرج إلا لله، وإذا عملت فلا تعمل إلا لله، وإذا اجتهدت وقلت فلا تقُل إلا لله وإرضاء لله، وإذا سامحت وصفحت لا تصفح إلا لله، وإذا أخذت لا تأخذ إلا لله. وليكن الخروج والدخول والصدق والكلمة والموضع، قدم كل شيء لله. لماذا؟ هو الذي سينبئك بما عملت.
قال: "الله عليم بما يعملون". هذه فيها معنى التثبيت لما قبلها، وفيها معنى التربية، وفيها معنى المراقبة الذاتية. الله عليم بما تعملون. هذه الكلمة: الله عليم بما تعملون، تجعل الإنسان دائمًا وأبدًا في حالة يقظة، ينظر إلى أعماله بعين الله قبل أن ينظر إليها بعين الناس، يحاسب نفسه على أعماله قبل أن يحاسبه الناس. الله عليم بما تعملون، لا تخفى عليه خافية. يثبتها سبحانه وتعالى من جديد، لماذا؟ لتعلم أبدًا أن ما تفعله لا يُمحى، مهما كان حجمه صغيرًا، صغيرًا صغيرًا صغيرًا، كبيرًا كبيرًا كبيرًا. صغير لا يُرى بالعين المجردة. كل شيء، كل شيء محسوب عند الله سبحانه وتعالى. ولذلك قال: "الله عليم بما يعملون". بهذا نكون قد وصلنا إلى ختام هذه الآيات المباركات من سورة المجادلة، التي تحدثت عن قضية أسرية، ولكن القرآن العظيم جعل منها منطلقًا لمعالجة قضايا عظيمة في حياة الإنسان والمجتمع. قضية الظهار التي قد تكون مشكلة أسرية عابرة، جعلها القرآن منطلقًا لتربية الإنسان على معاني عظيمة في الحياة، من معاني التوبة، من معاني الصدقة، من معاني الرجوع إلى الله، من معاني تجديد الإيمان، من معاني مواجهة الأحزاب، من معاني تحقيق النصر في النفس قبل تحقيقه على الأعداء، من معاني الوقوف عند حدود الله، من معاني تجديد مراقبة الله في حياتنا، من معاني الإخلاص لله سبحانه وتعالى في أعمالنا. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.