بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حمد الشاكرين والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وقفنا في تدبرنا في سورة الفرقان عند تلك الآيات العظيمة التي جاءت تأمر نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم وعباد الله المؤمنين الذين يواجهون الزيف والباطل والكذب والفساد في الأرض بأعظم العبادات، عبادة التوكل على الله وعبادة التسبيح. قال: ﴿وتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَىٰ بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا﴾.
ثم إن الآية التي جاءت بعدها جاءت كذلك تربط بأن من تتوكل عليه وتسبحه وتقدسه وتنزهه سبحانه وتعالى هو المستحق لذلك، الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن ﴿فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا﴾. هذه الآية العظيمة التي جاءت لتبين معنى مقتضى الإيمان والتسبيح والتوكل على الله سبحانه وتعالى.
وفي ذات الوقت جاءت في سياق الذم والتوبيخ والإستنكار لأولئك المكابرين المعاندين الذين يدعون لله شريكًا في الملك ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم. قال: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اسْجُدْ لِلرَّحْمَٰنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَٰنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا﴾.
وتدبروا في الترابط، الأمر بالسجود للرحمن الذي يحرر الإنسان من كل عبودية لغير الله عز وجل. هؤلاء استكبروا في أنفسهم عن عبادة الرحمن قالوا: ﴿وَمَا الرَّحْمَٰنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا﴾. وتدبروا في بيان ودقة اللفظة في بيان عنادهم وفضح ما كان في نفوسهم من تعجرف وتكبر وحسد لمقام نبينا صلى الله عليه وسلم. قال: ﴿أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا﴾ ما وقف بينهم حائلًا بينهم وبين السجود للرحمن؟ أنك أنت الذي تأمرنا بالسجود، وما يأتي من طرفك ومن قبلك لا نريده ﴿وَزَادَهُمْ نُفُورًا﴾، أَجْرَفَ في نفوسهم استعلاء نفور نفور تلك النفوس الضيقة عن عبادة الله سبحانه وتعالى.
ومن هنا جاءت الآيات العظيمة تثني على الله سبحانه وتعالى، وهي كلها ثناء عليه جل شأنه ﴿تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا﴾. لتبين سفاهة عقول هؤلاء وحماقة رأيهم وسوء منطقهم وأخلاقهم. ﴿تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا﴾ تستكبرون عن عبادة الرحمن والسجود له، وهي أعظم مقام من مقامات العبودية. سجودك لله يحررك من كافة أشكال العبودية لغيره، يرفع مقام العبد عند الله، يزيد العبد شرفًا وعزة ومنعة ونصرة من الله له سبحانه وتعالى.
﴿تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا﴾ ذاك الربط العجيب في سورة الفرقان بين آيات القرآن العظيمة وبين معنى التوحيد وبين الآيات المبثوثة في الكتاب المنظور. ذاك الربط الشديد الواسع الأصيل الذي يجعل من عبادة التفكر والتأمل في مخلوقات السماوات والأرض جزء لا يتجزأ من عبادة الله سبحانه وتعالى. من الفرقان الذي جاءت السورة ونزلت السورة وسميت على هذا الاسم، هذا الفرقان الذي يجعلك تفرق بين الحق والباطل يحتاج منك ويقتضي منك أن تتدبر وتتفكر في هذه الآيات المبثوثة في الكتاب المنظور.
من هنا كانت عبادة التأمل في ملكوت السماوات والأرض من أعظم الوسائل التي تجعل الإنسان يميز بين الحق والباطل، يفرق بين الخير والشر، يفرق بين ما ينبغي أن يقوم به وما لا ينبغي، بين ما ينبغي أن يقول وما ينبغي أن يحجم عن قوله. قال: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا﴾ الليل والنهار يخلف واحد منهم الآخر في نظام متوازن دقيق، ولكن هذا التعاقب بين الليل والنهار، ذاك القمر المنير بالليل، تلك الآيات المبثوثة، هذه لمن؟ قال: ﴿لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا﴾.
وتدبروا معي كم عبادة في هذا الكم من الآيات في سورة الفرقان: عبادة قلبية وعبادة الجوارح وقفت عليها هذه السورة العظيمة: التوكل، التسبيح، التدبر، السجود، تأمل في ملكوت الله سبحانه، التذكر والشكر لله سبحانه وتعالى. مبينة أن هذه العبادات العظيمة لا يمكن أبدًا أن تتولد إلا من خلال التأمل في ملكوت السماوات والأرض. أعظم عبادة الذين يتفكرون في خلق السماوات والأرض ﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾. هذه العبادات العظيمة لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال تلك التذكرة التي تتولد في نفس الإنسان المؤمن، في نفس الإنسان المؤمن وهو ينقل بصره في ملكوت السماوات والأرض.
فإذا ما تنقل البصر في السماوات والأرض، وإذا ما استمع هذا السمع والعقل والفكر لتلك الآيات التي تتنزل في هذا الكتاب العظيم أحدثت فيه عبادة الشكر التي هي من أعظم العبادات لله. وتدبر في ذاك الترابط العجيب بين هذه الآيات العظيمة وبين حال أولئك الكفار المعاندين الذين يزدادون نفورًا ﴿وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ﴾ في كتاب الله عز وجل آمرة لهم بالسجود لله سبحانه ﴿زَادَتْهُمْ نُفُورًا﴾.
وبين ذاك الصنف الراقي من العباد الذين أطلق عليهم القرآن العظيم في سورة الفرقان صفة عباد الرحمن، نسبهم للرحمن سبحانه وتعالى هذه الصفة العظيمة، مقام التشريف، مقام التكريم، هذا المقام العظيم نالوه بأي شيء؟ نالوه بعكس ونقيض ما نال هؤلاء الكفار المعاندين غضب الله سبحانه وتعالى. قالوا: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ﴾، وتدبروا في اختيار اللفظة في البداية ﴿السَّوَّىٰ عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَٰنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا﴾ ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَٰنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَٰنُ﴾. وهنا أول ما افتتح ذلك المقام العظيم قال: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا﴾.
ونحن قلنا أن من أعظم ما يميز هذه السورة الكريمة ذاك التقابل والتضاد بين الأصناف المختلفة، بين المواقف المتعددة. الموقف يختلف عن الموقف الذي يقابله في السورة. القرآن العظيم في سورة الفرقان قدم أنموذجًا لهؤلاء المتكبرين المعاندين الذين حين يؤمرون بالسجود يقولون: ﴿وَمَا الرَّحْمَٰنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا﴾، وبين ذاك الصنف من العباد ﴿الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا﴾.
والقرآن العظيم حين جاء بمواصفات هؤلاء وجعلهم في أشرف مقام، مقام العبودية لله، وتدبروا معي مقام العبودية لله أعظم وأشرف منزلة، ولذلك امتن على عبده صلى الله عليه وسلم فقال: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا﴾ مقام العبودية التي هي شرف. فالإنسان حين يكون عبدًا حقًا حقيقيًا لله سبحانه يتحرر حينها من العبودية لكل شيء سواه. يتحرر من العبودية للبشر من الطغاة ومن الظالمين ومن المتكبرين والمتجبرين، يتحرر من العبودية للدرهم والدينار، يتحرر من العبودية للهوى الذي تحدثت عنه الآيات العظيمة قبل كم آية قال: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا﴾. لا يتمكن الإنسان من التحرر من العبودية للهواء إلا حين يكون عبدًا لله.
من هنا جاءت الآية مفتتحة بقوله عز وجل: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ﴾، وبدأ بتعداد تلك الصفات العظيمة التي تجعل هؤلاء العباد أنموذجًا حقيقيًا، أنموذجًا لمن؟ أنموذجًا لأولئك الذين يفرقون بين الحق والباطل. وتذكروا معي تلك الآية العظيمة التي وقفنا عندها قول الله عز وجل: ﴿وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا﴾. عباد الرحمن صورةٌ وأنوذج لعباد يجاهدون العالم كله بكتاب الله عز وجل دون أن يرفعوا سيفًا ولا أداة للحرب.
ولكن في عدة مواضع في كتاب الله في السورة في مواصفاتهم، الآيات تتكلم عن السلم والسلام، وتجعل من أعظم مواصفات أولئك العباد أنهم يمشون في الأرض بالسلام، وأن التحية التي يلقونها يوم يلقون الله عز وجل ما هي إلا السلام. السلام الذي عمر قلوبهم، السلام الذي عملوا لأجله الصالحات، السلام الذي هو رسالة القرآن الذي أمر الله بالجهاد به فقال: ﴿وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا﴾. تدبروا في الترابط في سورة الفرقان ﴿وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا﴾، ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا﴾. من أعظم الجهاد بكتاب الله عز وجل أن يصبح العبد من عباد الرحمن، أن تشمله تلك المواصفات العظيمة، تلك الأخلاقيات الراقية السامقة التي تقدم أنموذجًا يحتذى لتطبيق القرآن في سلوك الفرد والمجتمع.
قال: ﴿يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا﴾، ﴿وَيَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا﴾ تحتم المعاني متعددة. يمشون بتواضع، يمشون بلين، بعيدًا عن التجبر والتبختر والتكبر ورؤية النفس والعجب بها، تلك الأمراض الدخيلة التي لا يمكن أن تزيد العبد إلا ابتعادًا عن منهج الله سبحانه. ﴿وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا﴾، لا تمشي في الأرض متبخترا متعاليا مترفعا على عباد الله وعلى خلق الله، أنت خلق من ذلك الخلق، أنت من عباد الله في الأصل وفي النشأة. قال: ﴿جَعَلَ مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾.
إذن هذه الآيات العظيمة المترابطة ممكن جدًا أن يكون كذلك من معانيها أن عباد الرحمن يمشون على الأرض بلين بتواضع بطاعة وخضوع لله سبحانه وتعالى. وليست عملية المشي، الهيئة التي يجعلها القرآن أول ما يفتتح به من مواصفات عباد الرحمن أن يمشي الإنسان متماوتًا متهالكًا متضاعفا، المسألة ليست مسألة مظهر أو هيئة خارجية فقط، ولكن ثَمَّت أعمال من القلوب إنعكست على ظاهر هؤلاء من عباد الرحمن. وكذلك من معاني أن يمشي الإنسان من عباد الرحمن على الأرض هونًا أن يمشي بين الناس بتواضع وبتبسط وبتلبية لحاجاتهم المختلفة. المشي على الأرض هونًا ليس فقط التواضع، وليس فقط أن لا يمشي متبخترا أو متعجرفا أو متعاليًا على الآخرين، ولكن أن يمشي بتفكر بتبصر بتأمل مدركًا تمامًا أن المشي على هذه الأرض إنما كان ويكون لأجل تحقيق الغاية والمقصد التي لأجلها خلق البشر، والتي يقتضي من ضمن ما يقتضي أن لا يمشي متسرعًا، لا يمشي دون هدف، لا يمشي كما ذكرنا قبل قليل مترفعا على الآخرين، يرى لنفسه الأحقية أن يكون هو ولا أحد سواه. ذاك الإيمان وتلك العبودية لله سبحانه وتعالى والخضوع بين يديه والانصياع لأمره انعكست على ظاهره، فكان من أعظم سماته أنه يمشي على الأرض هونا.
وفي ذات الوقت ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾. والجاهل هنا لا يقصد به ضد العالم، وإنما الجاهل السفيه مقابل الحليم. تدبر في الفرقان كيف يفرق ويفرق بين الحق والباطل، يفرق بين الجهل والسفه وبين الحلم والأناة. خاطبهم الجاهلون قالوا: سلاما. كما ذكرنا، تذكرون حينما قلنا: ﴿وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا﴾ قلنا أن من أشكال الجهاد بالقرآن أنك تبادر، وأنك تقابل السيئ بالحسنة، وأنك تقابل الجهل بالأناة والسلام. هذا الجاهل كيف تجاهد جهله؟ كيف تجاهد حماقته؟ كيف تجاهد سفاهته؟ وتدبر معي في الترابط بينما جاء في صفات عباد الرحمن، وبينما كان يواجهه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في واقعه، كان يواجه الجاهلين، كان يواجه السفهاء من قومه، كان يواجه هؤلاء الذين لا منطق لهم ولا عقل يحكمهم ولا تصرف يمكن أن ينقاد إليه إنسان عاقل يقومون به. كيف كان يواجههم؟ ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾. لماذا قالوا سلام؟ لأن واحد من أعظم مقاصد القرآن وأعظم مقاصد منهج القرآن أن تعيش ناشرًا للسلام، أن تعيش مقيمًا بانيًا للسلام في حياتك وأسرتك. ما جئت لأجل أن تنشر الشقاق ولا النزاع ولا الخلاف، ولا أن تصنع حروبًا، ولا أن تكون طرفًا في حروب ولو كانت تلك الحروب مجرد حروب كلامية. من عادة وصفات وأعظم مواصفات عباد الرحمن اللي يخوضوا في السفاهات ولا في التفاهات ولا في الحماقات من الأقوال ولا في الحروب الكلامية. خاطبهم الجاهلون قالوا سلام.
ولذلك من أعظم ما يستفاد من هذه الآيات العظيمة في مواقف حياتنا اليومية أن لا تقابل السفاهة بالسفاهة، ولا تقابل الجهل والحمق بجهل مثله ولا بحماقة مثله. إذن فما هو الفرق بين عباد الرحمن وعباد غير الرحمن؟ فرق شاسع في الأخلاقيات، في السلوكيات، في التعاملات. أنت حين يقابلك ويخطئ في حقك أحد من الناس أنت لا تقابل ذلك الخطأ وتلك السفاهة بألفاظ على ذات المستوى، لا يمكن، لا يليق. أنت عبد للرحمن، تصنعك آيات الرحمن، يصنعك منهج الرحمن الذي أنزله على عبده ليكون للعالمين نذيرًا. أنت رسالة سلام ليس فقط من كلمة السلام ولا من تحية السلام، ولكن من تلك الأخلاق العظيمة التي لا يمكن إلا أن تنشر السلام. أخلاق المؤمن كلها سلام.
قال: ﴿وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا﴾. تدبروا في الربط، في النهار يعيشون ينشرون رسالة السلام قولًا وفعلًا، ونشر رسالة السلام بالقول والفعل هذه ليست عملية سهلة، هذه عملية تحتاج لمجاهدة نفس، ضبط الانفعال، الرغبة في أنك ترد على ذلك السفيه بأكثر مما يقول لأنه على باطل وأنت على حق، ولكن النفس تكبح جماح هذه النفس، تكبح جماح الغضب في ساعة الغضب وتتوقف فلا تقول إلا سلاما. هذه العملية الشديدة الصعبة من المجاهدة ﴿وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا﴾، تجاهد الحمق بالحلم، تجاهد السفاهة بالأناة، تجاهد الغضب بالصبر، بالتصبر. هذه الأعمال العظيمة التي تقوم بها في أثناء معاشك وحياتك وتعاملك مع الناس تحتاج إلى زاد، تحتاج إلى طاقة. من أين لك ذاك الزاد؟ قال: ﴿يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا﴾. كلما زدت سجودًا وخضوعًا بين يدي خالقك بالليل وقيامًا ووقوفًا بين يدي، كلما زادك قوة، قوة في البدن، قوة في العقل، قوة في الخلق، قوة في الصبر، حكمة في المنطق حين تتكلم، قوة في الأخلاق. أرأيت إن كنت تطلب الأخلاق الحسنة؟ من أعظم ما يكون عونًا لك على هذه الأخلاق أن تقوم بالليل بين يدي الله سبحانه وتعالى، وأن تبيت لربك ساجدًا. لماذا السجود حاضر بقوة في سورة الفرقان؟ سجودك لله يرفعك، سجودك لله ينفعك، سجودك لله يقويك، يكون عونًا لك على أن تجاهد بهذا القرآن جهادًا كبيرًا.
قال: ﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا﴾. لماذا لم يتقدموا ويتوجهوا بالدعاء لأي شيء من الأشياء التي يزخر بها الواقع الذي يعانون منه ويعيشون فيه؟ هذا الواقع الصعب الشديد كان يعيشه هؤلاء من المؤمنين من عباد الرحمن. لماذا لم يتوجهوا بالدعاء لله سبحانه وتعالى أن يرفع عنهم البلاء؟ أن يكف عنهم أذى هؤلاء من السفهاء من المشركين من المعاندين؟ لماذا لم تذكرهم الآيات هؤلاء من عباد الرحمن؟ الهم الأكبر الحقيقي الذي استقر في نفوسهم وعقولهم هم الآخرة. ولذلك أعظم ما كانوا يلهجون به ويتضرعون به إلى الله أن يصرف عنهم عذاب جهنم ﴿إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا﴾. هذا مكان القرار، وتدبر في الربط في الكلمات، الآخرة هي دار القرار، الدنيا ليست دار القرار، الدنيا فترة بسيطة، رحلة بسيطة، ولكن القرار الحقيقي والمقام الحقيقي هناك. تدبر في المفردات القرآنية ﴿مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا﴾. يدركون حقيقة الإيمان بالآخرة، يدركون أن الدنيا ليست دار قرار وليست بمقام لهم، فكل العيون وكل القلوب وكل الاهتمام موجه نحو دار الاستقرار والمقام التي هي الآخرة. من هنا كان الدعاء ﴿اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ﴾.
ثم تنتقل الآيات في ترابط عجيب ﴿بَاتُوا﴾ الليلة سجدا وقياما بين يدي خالقهم عز وجل، كيف أصبحوا؟ ﴿إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا﴾. ذلك الخضوع والسجود لأمر الله والانصياع لأمره بالليل انعكس على التصرفات بالنهار، حتى في مجال الإنفاق بالمال. فالمؤمن من عباد الرحمن يدرك تمامًا أن المال أمانة بين يديه، وأنه مستخلف في ذلك المال، كثيرًا كان أو قليلاً، نقص أو زاد، هو مستخلف وسيسأل عن ذلك المال من أين اكتسبه وفيما أنفقه. من هنا كان ثم الترشيد في الإنفاق، فلا إسراف ولا تبذير في المال، وكل أوجه المال تدخل تحته حتى ولو كان في ماء الوضوء الذي تستعمله، نهي المؤمن من عباد الرحمن عن الإسراف في الماء، ماء الوضوء، نهي عن تبديد أي شكل من أشكال المال، مالًا، ماء، ثروة، لباسًا، شرابًا، كل أشكال الإسراف والتبذير. قال: ﴿وَلَمْ يَقْتُرُوا﴾، لا إسراف وتبديد للأموال ولا تقتير وبخل في المواطن والحقوق التي ينبغي أن تنفق فيها. القوام، التوازن، ﴿وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ﴾. من أين تعلم هذا العبد من عباد الرحمن قيمة التوازن في الحياة؟ من أين تعلمها؟ من مدرسة قيام الليل. مدرسة قيام الليل مدرسة حقيقية تربوية، هي ليست مجرد سجود وركوع بين يدي الخالق سبحانه وتعالى دون أن يكون له مقصد عظيم من تحقيق مقام العبودية بين يدي، مقام العبودية الذي يقتضي ويفرض على ذلك العبد المؤمن كما يفرض عليه السجود والركوع والقيام، يفرض عليه أن يقيم الوزن بالقسط ولا يخسر الميزان. من أعظم مقاصد القرآن العظيم تحقيق التوازن في حياة الفرد والمجتمع، ترشيد الاستهلاك ﴿وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا﴾. إذن قيام الليل ما عاد مجرد عبادة ولا عدم مجرد سجود أو خضوع فقط أن تضع الجبهة على الأرض، ولكن هو خضوع في الانقياد لمنهج الله سبحانه كاملًا متكاملًا في الإنفاق وفي المال كما في العبادة وفي الصلاة. تدبروا في الترابط، في التعامل مع الناس كما في التعامل مع الله سبحانه وتعالى الذي أمر بالعفو والصفح والحلم.
قال: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ﴾ التوحيد الحاضر دومًا وأبدًا في آيات الكتاب، التوحيد ليس مجرد أن يكون كلمة أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، على عظمة هذه الشهادة العظيمة، ولكن التوحيد الذي يتحول إلى عقد التزام كامل متكامل، التزام يجعل من عباد الرحمن عبادًا ملتزمين بأعلى الدرجات الأخلاقية، أعلى درجات الحلم، أعلى درجات العفو، أعلى درجات السلام ونشر السلام في الحياة. ﴿لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ﴾، إلى هنا، ﴿إِلَٰهًا آخَرَ﴾ بكل أشكال الشركيات تركوها، هجروها، الشرك الأصغر، الأكبر، الخفي، الرياء، العجب، كل الأشكال. ثم إن ذكر التوحيد في سياق الآيات التي جاءت في الحديث عن المواصفات والتعاملات والأخلاقيات يؤكد تمامًا أن هؤلاء من العباد جعلوا التوحيد عمليًا حاضرًا في مواقف الحياة المختلفة، ليؤكد القرآن أن التوحيد التزام، أن التوحيد عمل، أن التوحيد أخلاق.
قال: ﴿وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ أصم الناس من دمائهم ومن الاعتداء عليهم، هذا الاعتداء على النفس يمكن أن يخطر على بالهم، ﴿وَلَا يَزْنُونَ﴾، ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا﴾. تدبروا في الترابط في مقاصد السورة، مقاصد عظيمة جدًا، حرمت عليهم كل أشكال الاعتداء على النفس البشرية، كل أشكال الاعتداء على أعراض الناس، لا قتل ولا زنا ولا اعتداء بأي شكل من الأشكال، لا باللسان ولا باليد ولا بأي جارحة من الجوارح التي أعطاهم الله سبحانه. التوحيد الذي يجعل الإنسان إنسانًا نزيهًا، إنسانًا نظيفًا، يخلق من الإنسان إنسانًا صالحًا بكل معاني الصلاح والفلاح، ذاك الصلاح الذي ترجوه الأمم، ذاك الصلاح الذي تطلبه المجتمعات وتتشوق إليه المجتمعات التي أصبحت في حال الضمأ الشديد للشعور بالأمان، النفس على أعراضها وعلى أنفسها وعلى أموالها وعلى دمائها من أي اعتداء. الدول الكبرى الآن تعاني من هذه الأمراض، ما بين يوم وآخر وأحيانًا ما بين ساعات النهار الواحد، حادثة اعتداء على طلاب في مدرسة، حادثة اعتداء على أطفال صغار في مدرسة، ثقافة الاعتداء بكل أشكاله وصوره، الاعتداء لا ينحصر فقط في الاعتداء على الأموال، الاعتداء على الأعراض سواء ما كان والعياذ بالله من جريمة الزنا أو ما كان بالاعتداء على الناس في أعراضهم، التجريح بهم أو التشنيع بهم أو اغتيابهم أو عشرات الأشكال والصور. أين النجاة من كل هذا؟ لا نجاة بعيدًا عن التوحيد، توحيد الذي يجعل من نفس الإنسان المؤمن رقيبًا عليه، تحاسبه قبل أن يخطئ، تحاسبه قبل أن يقدم على عمل يخالف ذلك المنهج. هذا التوحيد قال: ﴿يَلْقَ أَثَامًا﴾، وتدبر في الربط مع الجزاء الأخروي، الآيات لم تحدثنا هنا عن جزاء دنيوي ولا عن قصاص ولا عن أي شيء، حدثتنا عن الجزاء الأخروي لأنه يتناسب مع مقام التوحيد. التوحيد هو الذي يجعل الإنسان يخشى العذاب والعقاب الأخروي قبل أن يفكر في العقاب الدنيوي. قد يفلت الكثير من المجرمين من العقاب الدنيوي، ولكن التوحيد وحده، التوحيد هو الذي يصنع الشعور واليقظة والخشية والخوف من العذاب الأخروي، وبذلك تعصم الأموال، وبذلك تعصم النفوس والدماء، وبذلك تعصم الأعراض. بذلك التركيز على جانب العقاب الأخروي ﴿يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾.
لماذا الحديث عن التوبة؟ لماذا الحديث عن فتح أبواب التوبة؟ التوبة من أعظم الأبواب التي يصلح بها المجتمع، لأنك أنت حين تغلق باب التوبة قطعت الطريق على هؤلاء من المجرمين. القرآن لا يقدم مثاليات بعيدة عن الواقع، الواقع الإنساني أنه من الممكن تمامًا أن يكون هناك بعض المجرمين والفئات الظالة في المجتمع. ماذا تفعل في هؤلاء المجرمين والمنحرفين؟ تبقيهم على إجرامهم وانحرافهم حتى يمتدوا بفساد أخلاقياتهم إلى بقية أفراد المجتمع؟ أم أنك تحاول أن تصلحهم؟ لا شيء أعظم من التوبة يصلح أولاء. أبواب التوبة المفتوحة على مصراعيها أمام هؤلاء من المنحرفين والظالمين أنهالهم، إن الله يغفر الذنوب جميعًا. ما أخطأ؟ ما وقع منك من خطأ ومن انحراف ومن جرائم متعددة ومختلفة، اصلحوا بالتوبة، ليس فقط بالتوبة، العمل الصالح الذي يجب ما قبله ﴿يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ﴾، السيئات التي فعلتها ربي سيبدلها حسنات، اعمل صالحًا. تدبروا في ذاك المنهج التربوي الفريد في كتاب الله عز وجل ﴿وَمَنْ تَابَ﴾، تدبر في التأكيد، ﴿تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا﴾. التوبة أعظم وسائل الإصلاح ومواجهة الانحراف في المجتمع، التوبة أعظم معالجات الانحراف، التوبة، لأنك أنت تستل ذلك المجرم والمنحرف تستل من أعماق نفسه وذاته بذور الانحراف وتأتي به إلى مسارات التوبة، تأتي به إلى فضاء التوبة الواسع الرحيم لتشمله تلك التوبة، التوبة من الله سبحانه وتعالى التي تؤكد أنك لا بد أن تتبع تلك التوبة بالعمل الصالح، وأن تصلح ما أفسد يدك. امتدت بالفساد على سبيل المثال إلى أي عمل، إلى أي ناحية من نواحي المجتمع، أصلح ما أفسدت بالقول، بالفعل، بالعمل، بكل الوسائل المختلفة. هذه من مقتضيات التوبة وشروط التوبة: الندم على ما فات، العزم على عدم العودة إليه، إصلاح ما يمكنك أن تصلحه في واقعك ومجتمعك.
ومن هنا جاء القول بعدها والترابط معها ﴿وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾. ما العلاقة بين التوبة وبين الزور وبين الانحرافات الأخلاقية؟ شكل من أشكال التصحيح للانحرافات أن لا تشهد زورًا، الزور باطل بكل أشكاله وصوره، كل أشكال الباطل بالقول، بالفعل، بالإعلام، بالشكل، بالكتابة، بالقلم، بكل المقالات المختلفة، كل الأشكال، كل أشكال الباطل. المؤمن الذي سكن الإيمان في قلبه، هذا المؤمن لا يمكن أبدًا أن يحضر مجلس زور وباطل، لا يقبل بالزور، لا يقبل بالكذب، لا يقبل بالزيف، لا يقبل بالخداع، لا يقبل بالغش. لماذا؟ليس هناك أنصاف حلول مع هؤلاء عباد الرحمن. تدبروا معي في القوة في التغيير والإصلاح في المجتمع، يقف في وجه الزور. المسألة لا تنحصر أبدًا عند شهادة الزور كما يظن البعض، شهادة الزور يشهدها الإنسان مخالفة للواقع ومناقضة له في المحاكم، أبدًا، في الواقع الإنسان الرحب بكل ميادينه ونواحيه الواسعة. ﴿لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ﴾، لا يقبل الزيف ولا الكذب ولا الخداع لا في عمله ولا في مهنته ولا في متجره ولا في مستشفى ولا في مشفى ولا في أي مكان منه ولا في مصنعه. وتدبروا في الربط قال: ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾. تدبروا في التناسق والتوازن، في ذات الوقت الذي هم لا يقبلون به بالباطل ولا بالزيف ولا بالغش ولا بالخداع، حين يمرون على الكلام الفارغ الذي لا فائدة منه يمرون مرور الكرام، لا يقفوا عنده، يتجاوز، خلق التغافل، التغافل عن ذلك اللغو والكلام الفارغ الذي لا قيمة له. لماذا ارتفعت كلماتهم؟ لماذا علت أرواحهم؟ لماذا سمى منطقهم؟ لماذا هؤلاء من عباد الرحمن حتى الكلمات يحسبون لها ألف حساب؟ ارتقت أخلاقهم، ارتقى بهم الإيمان، العبودية لله سبحانه وتعالى تجعل الإنسان المؤمن عفيف اللسان طاهر الجنان. هذه النزاهة وهذه الطهارة وذلك العفة جعلت حتى الكلمات، اللغو الفاضل، الفارغ الذي لا فائدة من ورائه، لا ينطقون بها.
﴿وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا﴾. آيات الله سواء ما كانت الآيات التي في كتاب الله عز وجل، الكتاب المقروء، أو آيات ربهم التي هي الكتاب المنظور. نحن ذكرنا في السورة الآيات جاءتنا بأصناف متنوعة: آيات الكتاب التي هي في القرآن، وآيات الكتاب المنظور الدالة على الإسلام، آيات الله في خلقه من سماء إلى أرض إلى غيث إلى قمر إلى ليل إلى نهار. قال: ﴿لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا﴾. إذن ماذا يفعلون؟ يتفاعلون مع تلك الآيات، آيات القرآن تحدث في قلوبهم خشوعًا فيسجدون لتلك الآيات. تدبروا في السجود التي ذكرنا قبل قليل ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَٰنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَٰنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا﴾. عباد الرحمن على العكس من هؤلاء، بالنقيض من هؤلاء، صورة مغايرة تمامًا، وحين يمرون بآيات ربهم المبثوثة في الكون يتفاعلون معها، تحدث فيهم انفعالًا عجيبًا، لا يمرون عليها صمًا وعميانًا، ينفعلون بها، يتحركون بها، تحدث معهم من فعال حقيقي ينعكس على حياتهم بالعمل الصالح النافع، بالاكتشاف والاختراع والإبداع والتقدم والتطور في تلك الآيات، كما كان يفعل المسلمون الأوائل وكما فهموا من رسالة القرآن العظيمة.
﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾. في خضم تلك الالتزامات المتعددة المتنوعة لم يخفلوا عن أسرهم، لم يخفلوا عن حياتهم الأسرية والعائلية والزوجية. كثير من الدعاة والمسلمين اليوم إذا انشغل بالحياة العملية والحياة الدعوية ترك أسرته وأهمل عائلته، لا أبناء يسأل عنه ولا زوجة يتفقد أحوالها، ولا حياة أسرية، ولا أقارب، ولا صلة رحم، ولا أي شيء، والعذر موجود: أنا منشغل بعباءة الدعوية، أنا منشغل بعباءة الكثيرة، أنا منشغل بخدمة الناس. تدبروا في الربط في الآيات ﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ﴾، لأن الدعاء للأزواج والذرية من باب البر بهم والصلة الأرحام بهم، تلك الصلة التي أكدتها الآية بطريق غير مباشر. أنت حين تدعو لهم جانب من ذلك الدعاء أن تقوم بحقوقهم، بنفقاتهم، بتفقد أحوالهم ورعايتهم ماديًا ونفسيًا ومعنويًا، ﴿وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾. تدبروا في الربط ﴿رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ﴾، الحياة الأسرية والزوجية لا تتطلب منك فقط النفقات المادية. بعض الأزواج، ومنهم أزواج من الصالحين، لا يرى حقًا للزوجة إلا ما ينفقه عليها، فإذا سألته عن أي حق آخر من مداراة وتعامل طيب وتفقد لأحوالها تراه يقول: لا، أنا أنفق عليك، لا شيء ينقصك. الإنسان والزوجة والمتطلبات والأسرة والأبناء ليست فقط نفقة مادية، نفقة معنوية، نفق من جهدك، نفق من عواطفك، نفق من اهتمامك إلى الحد الذي يجعلك تدعو لهم ليلة نهار ﴿هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ﴾. النتيجة: ﴿أُولَٰئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا﴾. الغرفة درجة رفيعة في الجنة كما ذهب كثير من المفسرين، درجة رفيعة جاءت مجملة، ليست فقط الجنة بدون تفصيل، لعلو مكانتها، لعلو النعيم الذي فيها، فلم يقف حتى على التفاصيل فيها. ولكن تدبروا في الربط قال: ﴿بِمَا صَبَرُوا﴾. لماذا؟ تلك المواصفات والأعمال من عباد الرحمن تحتاج إلى صبر، ذاك الجهاد الذي أمر به نبيه صلى الله عليه وآله وسلم والمصلحين ﴿وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا﴾ يتطلب الصبر، صبر على الطاعة، صبر عن المعصية، صبر على الغضب، صبر على السفاهة، صبر على ما تلقاه من حماقات الآخرين، صبر على ما تلقاه من سفاهة السفهاء، صبر على الباطل وأنت تكابده وتعالج بأحسن الطرق وبأحسن الوسائل، صبر على الزور بأن تصلحه وتعدله، صبر على الباطل بأن تغيره بما استطعت بالحكمة والموعظة الحسنة. صبر على كل أشكال الباطل والزيف والخداع، كلها تحتاج لصبر.
﴿وَيُلْقَوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا﴾. لماذا السلام؟ لماذا يلقون بالسلام؟ عاشوا للسلام، السلام سكن قلوبهم، السلام سكن عقولهم، السلام سكن أرواحهم، عاشوا به وعاشوا بالسلام، ﴿قَالُوا سَلَامًا﴾، عاشوا الحياة كل الحياة ينشرون السلام، لأن رسالة الإسلام هي السلام، لأن رسالة القرآن هي السلام، ونشر رسالة السلام ليس بالأمر الهين، يحتاج إلى صبر، يحتاج إلى مجاهدة، مجاهدة بالقرآن وتعاليمه خاصة في ظل الظروف التي يعيشها الناس من حرب من عنف. هذا كيف تواجهه إلا بالسلام؟ فكان الجزاء من جنس العمل، ﴿وَيُلْقَوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا﴾. وتدبروا في الربط، هم كانوا يدعون في الدنيا يقولون: ﴿رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا﴾، فكان الجزاء ﴿خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا﴾. ربي سبحانه وتعالى يجازي بالإحسان إحسان، صبرك، جهادك لذاتك، جهادك لنفسك حتى لا تتكلم وتتفوه بالكلمة السيئة البذيئة غير اللائقة، جهادك حين لا تقابل الإساءة بالإساءة، هذا كله لن يضيع هكذا، ستلقاه تحية وسلام وخلود في جنان الخلد وفي الغرفة. تدبروا في تلك الآيات العظيمة.
ثم انتقلت الآيات لتختم بهذا النداء العجيب ﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ﴾. عود على بدء مع هؤلاء المكابرين المعاندين، ﴿فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا﴾. ما يفعل بكم ربي سبحانه وتعالى لو لا دعاؤكم؟ ربي سبحانه وتعالى غني عن عباده، فأنتم الفقراء إليه ولدعائه والتضرع إليه. أما وقد كذبتم، ﴿فَقَدْ كَذَّبْتُمْ﴾، فسوف يكون لزام، حين يكذب الإنسان بمنهج الله سبحانه وتعالى لن يلازمه إلا الشقاء. تدبروا في الترابط وتدبروا في بداية السورة وأواخرها ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾، وختام السورة ﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا﴾. كذبتم بالإنذار الذي نزل إليكم، كذبتم بالفرقان الذي أنزل عليكم، يلازمكم الشقاء، يلازمكم نتيجة ذلك التكذيب. هذه الحقائق القرآنية التي فرق الله بها في سورة الفرقان بين الحق والباطل، بين الضلال والهدى، بين اليقين والشك والتردد، بين سوء العمل وصلاح العمل، بين عباد الرحمن وبين أولئك المكابرين المعاندين الذين اتخذوا الهوى آلهة من دون الله لا يسوون عند الله شيء. طبيعي أن الإنسان حين يتخذ الهوى إلهًا يكون عبدًا لكل الأهواء، تتنازعه في الدنيا، عبدًا للمال، عبدًا للمنصب، عبدًا للجاه، عبدًا لكل شيء ما عدى الله سبحانه وتعالى. ولكن عباد الرحمن تحرروا من كل تلك الآلهة المزيفة ليكونوا عبادًا خُلَّصًا لله وحده لا شريك له، فحين صفت العبادة والعبودية لله صفت أخلاقهم وارتقت صفاتهم وأقوالهم وأفعالهم. أفعالك وصفاتك وأخلاقك لا ترتقي إلا بمزيد العبودية ومقام العبودية وتحقق العبودية لله سبحانه. كلما ازددت وترقيت في درجة العبودية لله سبحانه كلما رقت أخلاقك، ترقت أخلاقك، سمت صفاتك، استطعت أن تتحرر من كل تلك الصفات السيئة التي جاء البعض منها في سورة الفرقان: الأناد، الاستكبار، النفور، السخرية من الآخرين، التعالي عليهم، عدم الخضوع والانصياع للحق حين يأتيك. هذه الصفات السيئة أنت يكون لك نصيب منها على قدر ما يكون تحقق العبودية لله فيك. تدبروا في الربط بين هذه الآيات، وتدبروا في ذاك الترابط الأخير، ختام السورة التي جاء بمواصفة عباد الرحمن، وبين مفتتح السورة العظيمة ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾. وهؤلاء عباد الرحمن من هؤلاء العباد الذين نزل الفرقان عليهم، ولكن شتان بين من ينزل الفرقان عليه فينصاع لأمر الله مطبقًا ومنفذًا له في واقعه فارقًا بين الحق والباطل، مفرقًا بين الزيف والكذب والخداع والصدق والحق الذي جاء ونزل الفرقان به في حياته بأفعاله وسلوكه، وبين أولئك الذين ﴿كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا﴾. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.