بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن ولاه السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وقفنا في تدبرنا لسورة التوبة عند قضية احترام تلك الأشهر الحرم التي جعلها الله سبحانه وتعالى شريعة ومنهاجا لكل البشر. فيها تتوقف الحروب، ليس فيها تلاعب من أحد، لا تخدم مصالح أحد إلا أولئك الضعفاء، أولئك الذين لم يشاركوا في الحروب. وحتى الذين شاركوا في الحروب، فرصة لمراجعة الحسابات، فرصة لأجل أن يعيش العالم بأسره بلا حروب، بلا نزاع، بلا قتال، بلا سفك للدماء مهما كانت دوافع تلك الحرب.
والقرآن العظيم ذكر لنا أن هذا القانون الذي كانت تعرفه العرب قبل الجاهلية، تلاعب به أهل الجاهلية. أرادوا أن يوظفوه لحساباتهم الخاصة، فإذا كان في مصلحتهم أن يؤخروا الحرب أجلوا، وإذا كان في مصلحتهم أن يستمروا في الحرب كذلك أخروا فيه ومدوا. وأكد القرآن أن هذه القضية ليست قابلة للتلاعب بأي شكل من الأشكال، وأن الاعتداء عليها إنما هو اعتداء على ذلك النظام الذي جاءت سورة التوبة ببنائه وإرساء قواعده.
ثم بعد ذلك بدأت الآيات تمهد وتفتح الطريق أمام واحدة من أصعب وأكثر المواجهات شدة وصعوبة التي عاشها المسلمون في عصر النبي عليه الصلاة والسلام. مواجهة بين حق وباطل، مواجهة عادلة، مواجهة لإيقاف ظلم وفساد وطغيان وخروج على تلك التشريعات التي أراد القرآن أن يرسي دعائمها. ولكن القرآن كعادته، وقبل أن يأتي بتفاصيل تلك المواجهة، جهز النفوس، جعل القلوب تستعد استعدادا نفسيا ويجهزها قبل أن تبدأ الأوامر والتشريعات. وهذه لفتة عظيمة، القرآن يعلمنا أن الحروب والمواجهات ليست في الواقع فحسب، المواجهات الحقيقية لا بد أن تبدأ في النفوس، في القلوب، قبل أن تدخل في المواجهة مع الآخر.
الإنسان الذي لا يستطيع أن يواجه نفسه بضعفها، بعجزها، بتخاذلها، بنقاط الضعف فيها، ويعالج تلك النقاط، هو أعجز ما يكون عن مواجهة غيره. ولذلك بدأ القرآن بهذا الإعداد النفسي لنفوس المؤمنين الذين أمرهم الله سبحانه وتعالى بأن يخرجوا نصرة للحق وإيقافا للباطل والعدوان والظلم والطغيان.
فطبيعة الباطل والفساد والظلم يبدأ ببؤر صغيرة كبؤر السرطان والأمراض الخبيثة، إذا لم تستأصل، إذا لم تعالج في الوقت المناسب انتشرت وشاعت وكبرت وتمددت وتوسعت، وعندها لن يقف في وجهها شيء. فالقرآن العظيم قال مخاطبا للمؤمنين مواجهة مع النفس يخاطب فيها المؤمن، يخاطب المؤمن، المؤمن إنسان، والقرآن كما ذكرنا ونذكر مراراً أن القرآن يعالج النفس الإنسانية في ضعفها وقوتها، في عجزها وفي قدرتها، في خلاجاتها، يدخل إلى خلاجات النفس.
أحياناً الإنسان قد تحدث نفسه بأشياء لا يبيح بها لأحد، ولكن القرآن يواجه النفس البشرية بما في ذات صدورها. قال: "إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله" صوت إعلان للمواجهة وللحرب، كلمة انفروا من انزعج عن الشيء وإلى الشيء، هذه الحركة وهذا الفعل لا بد أن يكون في سبيل الله. ولذلك القرآن حين يذكر كلمة جهاد وما شابهها كذلك من ألفاظ ومفردات يضع الضابط لها في سبيل الله. لا تخرج في سبيل مصلحة شخصية، ولا تخرج في سبيل مكسب ما، أنت خرجت في سبيل الله. انفروا في سبيل الله، ما هي ردة الفعل؟ وأنتم بالفعل خاطبهم بأنهم مؤمنين، قال: "الثاقلتم إلى الأرض". وتدبروا معي في الكلمة، في إعجاز الكلمة، الثاقلتم إلى الأرض، ماذا في الأرض حتى يتثاقل الإنسان إليها؟ حتى يركن إليها؟ الأرض فيها العناصر الترابية الجسدية، فيها الحاجات الجسدية للإنسان: الراحة، الطعام، الشراب، الأزواج، البيت، السكن، الدنيا، هذه الأشياء الأرضية. حين يجر الإنسان انفروا في سبيل الله هذا شيء علوي، هذا أمر، أمر علوي، هذا أمر يتعلق بروح الإنسان. والله سبحانه وتعالى حين يستنفر المؤمنين يريد أن يرتقي بهم، أن يرفعهم، يرفعهم بذلك النداء، يجعلهم يترفعون عن تلك المطالب الجسدية الترابية، هذه المطالب التي تفرض عليهم أن يركنوا إلى الأرض، أن يثاقلوا إلى الأرض.
في آيات أخرى على سبيل المثال أخلد إلى الأرض، حالات الإنسان في استجابته وتجاوبه وتعاطيه مع متطلباته الجسدية، كيف يخلصه القرآن؟ قالت: "ثاقلتم إلى الأرض" ركونك إلى هذه المطالب واستجابتك المطلقة إليها تجعلك ثقيلا، تشعر بثقل الطاعة، بثقل الخطاب العلوي. النداء هذا نداء تكريم، تكليف: "يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله". هذا تكليف، لماذا يشعر المؤمن إذن بثقل هذا الأمر الإلهي؟ لما قد يحصل في نفسه من تمسك بتلك الدواعي والمتطلبات الدنيوية الجسدية. والكلام تمهيد لغزوة تبوك التي حدثت في وقت الحر الشديد، والناس ومنهم هؤلاء المؤمنين الذين يخاطبهم القرآن يريدون أن يفعلوا، يكونوا في ذلك المكان الذي فيه ظل وفيه ثمار وفيه طيب العيش، لا أن ينفروا في الصحراء في عز الحر وشدة الحر لمواجهة جيش كجيش الروم. فالقرآن أراد أن يخلص تلك النفوس ويعدها قبل أن تواجه عدوها. النفوس إذا لم تعد إعدادا صحيحا في داخلها قبل أن تواجه العدو، هذه نفوس كتب عليها أن تهزم، يعني هزمت في داخلها. فالقرآن أراد أن يخلص تلك النفوس، فوضع أيدينا هنا على هذا الداء. "اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة؟" مقارنة واضحة جدا، "ترضون بالحياة الدنيا بمتاع الحياة الدنيا؟" المؤقت الزائل الفاني، هذه طبيعة الدنيا، الدنيا دنيا، أغيار أحوالها، تتغير، شابها يشيب، صحيحها يمرض، صغيرها يكبر، غنيها يفتقر، عزيزها قد يذل، إلا من أعزه الله، وهكذا هذه طبيعتها. "أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة؟" مقارنة، الآخرة على العكس من ذلك تماما. معادلة بسيطة يضعنا القرآن أمامها: "فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل" الدنيا ولو حيزت لك متاعها مقارنة بما عند الله في الآخرة قليل، لا شيء يذكر. إذن أول ما بدأ في إعداد النفوس وتهيئتها نفسيا ومعنويا وروحيا بوضع وتشخيص الداء، تثاقل، الشعور بأن هذا الأمر وهذا التكليف ثقيل عن النفس. والإنسان حين يضغى عليه وتضغى عليه الجوانب المادية تثقل عليه الطاعات. ولذلك كما نرى في زماننا الذي نعيش فيه أحياناً الإنسان قد يتثاقل عن حتى القيام للصلاة، الإنسان قد يتثاقل عن تلاوة القرآن، يتثاقل بهذه الأعمال التي تقربه إلى الله وترتقي بنفسه وروحه وتقربه لله عز وجل. لماذا يتثاقل؟ وهناك معناها زيادة في الركون إلى الجوانب المادية. قرآن يشخص الداء، ثم يأتي بعد ذلك الوعيد وبيان خطورة التثاقل إلى الأرض والتقاعس عن القيام بالتكليف والأمر الإلهي. "إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما" إذن هو العذاب، هو العذاب، ليس بالضرورة أن يكون كارثة أو طوفان أو صائقة كما حدث في أمم سابقة، لا، العذاب ممكن أن يكون أشكال أخرى ومن جانب وألوان. العذاب أن يصلط الله المفسدين والفاسدين والمنحرفين والظالمين على رقاب المؤمنين المظلومين، هذا نوع من أنواع العذاب. لماذا؟ لأن الله عز وجل حين يستنفر عباده المؤمنين للقيام للجهاد هو لا يستنفرهم لأجل تحقيق مكاسب مادية، وإنما يستنفرهم لإيقاف ظلم وطغيان وعدوان وتأسيس عدل وكرامة وحرية ومساواة، قيم للنظام العالمي الذي أرسته سورة التوبة. إذن ليس هناك أي سبب يدعو الإنسان المؤمن بالله سبحانه وتعالى أن لا يلتزم ولا يلب النداء. "ويستبدل قوما غيركم ولا تضره شيئا" وهنا قضية خطيرة جدا، قضية الاستبدال. رب عز وجل حين خلق الإنسان وجعله خليفة في الأرض طلب منه مطالب، كلفه بتكاليف. هذه التكاليف إن لم يقم بها رب عز وجل من سننه في الأنفس والمجتمعات والخلق الاستبدال، يستبدل قوما غيركم ولا تضره شيئا. ما معنى يستبدل؟ أنتم الآن لكم شرعية في أن تكونوا السابقين لإحقاق الحق وإبطال الباطل، فإذا ما تقاعستم عن ذلك عن هذا التكليف ما عدتم تستحقون أبدا لا قيادة ولا تحقيق الحق ولا إبطال الباطل، ما عدتم تستحقون إلا أن تستبدلوا بغيركم، ولا يؤثر ذلك في ملكه سبحانه شيء. قال: "والله على كل شيء قدير" تدبروا في آيتين، شخص الداء، وذكر الأسباب، وعرض علاج، علاج قوي، شديد، فيه تهديد، فيه وعيد، أن هذا الصوت القوي المدوي بالاستنفار لإيقاف الباطل والظلم والطغيان والعدوان، هذا الصوت لا بد أن يلبه، وإن لم يلبه وتثاقل الإنسان إلى الأرض أصبح هناك ليس من مكان يعيش فيه بدون باطل ولا طغيان ولا ظلم. وسنأتي على تفاصيل غزوة تبوك ولماذا خرج المسلمون فيها.
ثم يأتي القرآن بقضية عظيمة جدا، قضية تضع الإنسان على المحك وتبين له أن الحق في النهاية سينتصر، سينتصر، وأن الله سبحانه متم نوره ولو كره الكافرون، هذه مسألة مفروغ منها، سنة من السنن. ولكن ليس السؤال هنا، التجربة والتأكد، هل سينتصر الحق في النهاية أو سيظهر دين الله أم لا يظهر؟ لأن هذا مفروغ منه، إجابة مفروغ منها، ولكن السؤال هل ترغب أن تكون ممن ينصر هذا الحق وهذا الدين أم لا؟ هذا السؤال الذي يوجهه كل فرد، كل مؤمن لذاته ونفسه. قال: "إلا تنصروه فقد نصره الله" يذكرهم بأي شيء؟ نحن في سورة التوبة من أواخر ما نزل في المدينة، يذكرهم بليلة الهجرة، ليلة الهجرة من مكة إلى المدينة، يأخذهم سنوات إلى الخلف. تدبروا معي كيف القرآن يحضر الماضي في قلب الحدث، في قلب الواقع، لماذا؟ هكذا طبيعة القرآن، يعلم، يربي، يجعل الإنسان يربط الأحداث مع بعضها البعض ليصل إلى نتائج، فليس من حدث ولا من شيء في هذا الكون يسير بطريقة عشوائية أو اعتباطية، كل شيء وفق سنن ولحكمة. قال: "إن لا تنصروه فقد نصره الله" هذا النبي العظيم، النبي الكريم، إن لم تنصروه أنتم ربي ناصره، وأعطاهم مثالا حيا، هذا المثال: "أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار" أخرجه الكفار في ليلة الهجرة، ما كان من أحد معه إلا صاحبه أبو بكر، ولكن صاحبه في ذات الوقت القرآن يقول لي يبين لي: "إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا" صاحبه كان في حالة ترقب وخوف وقلق على حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومستقبل الدعوة، من الذي كان يثبته؟ من الذي كان يرسخه باليقين الذي سكن قلبه؟ النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، لماذا؟ متيقن أن الله ناصره. اجتمعت قريش واجتمع رؤوس قريش ووقفوا على الغار، ولذلك القرآن نص على الغار، قال: "إذ هما في الغار" ووقفوا على الغار، وكان معهم من يقص الأثر، ووصلت الآثار إلى الغار، ما نظروا في داخله، من الذي منعهم؟ الله الذي نصر، من الذي جعل كما تروي لنا كتب السير جعل الحمامة والعنكبوت تنسج تلك الخيوط على فم الغار فلا ينظرون فيه؟ من؟ ربي سبحانه وتعالى، سخر له جنودا لم تروها، وكل شيء في الكون من جنود الله سبحانه، الذي خلق، الذي قدر، الذي أعطى، الذي ينصر سبحانه. "إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا" تدبروا معي الثبات واليقين، القرآن يعد القلوب للثبات للمواجهة، جيش الروم كبير، جيش مهول، قوة وعتاد وسلاح وقوة مادية مغولة، قوة عظمى بكل المقاييس. كيف يواجه المسلمون هذا الجيش القوي؟ بالإيمان، باليقين، أعدوا العدة، صح، ما استطاعوا من عدة مادية، ولكنها لا تقارن بتلك العدة التي عندها هؤلاء. أين الحسم والفيصل؟ اليقين والإيمان من الله سبحانه وتعالى. "لا تحزن" كلمة خالدة، "إن الله معنا" إذا كان الله معك نصرك، وأيدك، وثبتك، وقواك، وأعطاك، وفتح لك، ووفقك، ويسر لك كل شيء. هذه القضية المهمة في كل شيء، في كل قرار تتخذه في حياتك عليك أن تسأل نفسك قبل أي شيء الله معي أم أن الله ليس معي؟ والله لا يكون مع ظلم، ولا مع باطل، ولا مع زيف، ولا مع نفوس ضعفت عن مواجهة ضعفها وعجزها أبداً. الله مع الحق، الله مع العدل، الله مع الحرية، الله مع المظلوم وإن كان ضعيفا أو فقيرا لا يؤبه له، الله مع تلك القيم التي أرستها سورة التوبة. فالسؤال اسأل نفسك الله معي أم ليس معي؟ ولأجل أن يكون الله معك لا بد أن تكون على الحق، لا بد أن تخرج في سبيله، لا بد أن تمتثل لأوامره، حتى في طلب الرزق لا بد أن يكون الرزق حلالا كي يكون الله معك. أرأيتم سارقا يسرق أو يقطع طريق ويقول يا رب كن معي، يا رب ساعدني في سرقتي، ساعدني في قطع، لا يمكن، يرتكب جريمة. الله مع كل أولئك الذين يخضعون لأمره، يمتثلون لأوامره، لتكاليفه. فماذا كانت النتيجة؟ "فأنزل الله سكينته عليه" تدبروا معي، متى تنزل السكينة؟ تنزل السكينة عند اليقين، عند شعورك واستشعارك بأن الله معك، بأن الله لن يخذلك، بأن الله يؤيدك، بأن الله ناصرك، والله لا ينصر إلا أصحاب الحق. "وأيده بجنود لم تروها" ما كان معه جيش، ما كان معه بشر، من أيده؟ الرب سبحانه وتعالى بجنود لم تروها، لأجل أي شيء؟ "وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم" إذن تخليص النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونجاة النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك الموقف الشديد الصعب كان لأجل إحقاق حق، لأجل أن تكون كلمة الله هي العليا. الحق، إعلاء الحق، إعلاء كلمة الله في الأرض، وليس لأجل ترهات مادية، وليس لأجل توسيع نفوذ، أو فرض سيطرة، أو قضية موازنة للقوى. نبينا عليه الصلاة والسلام لا يخرجه إلا الحق، لا يخرجه إلا إعلاء كلمة الحق. وكلمة الذين كفروا سفلى، بأي شيء؟ يمتلكون كل شيء، كل العدة المادية. الباطل لا ينتصر بعدة مادية، الباطل لا يمكن أن يعلو بعدة مادية إن وجد حقا وأهل حق يواجهونه ويصدونه. الباطل ينتصر لفترة مؤقتة، يرتفع لفترة مؤقتة، يطفو على السطح حين يكون أصحاب الحق ضعفاء، عجزة، غير قادرين على نصرة ذلك الحق. ولذلك جاء في ختام الآية: "والله عزيز حكيم" سبحانه، العزيز له ولرسوله وللمؤمنين.
قال: "انفروا خفافا وثقالا" الآن جاء الأمر، الأمر الذي لا مجال بعد ذلك للمماطلة فيه، انفروا خفافا وثقالا، شبابا، شيوخا، صغارا، كبارا، ضعافا، أقوياء، انفروا، انفروا، لأجل أي شيء؟ لأجل مكاسب دنيوية؟ لأجل أن تغِيروا على جيش الروم وتأخذوا الغنائم والأموال؟ لا، ما هذا يخرج المؤمن أبدا، ما هذا هو الاستنفار. قال: "انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله" من الذي أعطاك المال؟ الله، من الذي وهبك الحياة؟ الله، وهو الذي يأمرك أن تستعمل ما أعطاك فيما يطلبه منك سبحانه. تدبروا معي في هذا المعنى، ما أعطاك يأمرك أن تستعمله فيما يأمرك به، فيما يطلب منك سبحانه. وتدبروا معي في الكلمة: "وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله" وليس في سبيل أي شيء آخر. وهذه الآية فيها معنى عظيم، انفروا خفافا وثقالا، القرآن العظيم لا يستعمل أن الإنسان قد بلغ سن معين فيحال على التقاعد، إيمانك لا يحيلك على التقاعد، ليس هناك تقاعد في رحلة الإنسان على الحياة، تقاعد في المؤسسات البشرية، في الأنظمة البشرية، يضعها البشر لأنفسهم، لأنفسهم، أما في الإيمان ليس هناك تقاعد، طالما أن لديك القوة والقدرة على رفع هذا الحق ونصرة الحق، إذن انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بكل ما أعطاكم الله، بالمال، بالنفس، بالقلم، بالكلمة، بكل شيء، في سبيل الله، في سبيل الله. لأجل أي شيء كل هذا النفير؟ لأجل أن تبقى كلمة الله هي العليا. الحق سينتصر، سينتصر، ولكن الحق يرتفع بمن يجب، يرفعه وينصره. ربي عز وجل سينصره، ولكن أهل الحق يحتاجون أن يرتقوا إلى أن يرتفعوا إلى مستوى نصرة ذلك الحق فينصره الله على أيديهم. "ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون" الجهاد بالمال والنفس فيه نقص، أنا حين أنفق وأعطي من مالي ومن نفسي فيه بذل، فيه تضحية، معناها أنها فيها نقص، معناها أن المال على وجه الحقيقة من الناحية المادية ينقص، وقد تذهب نفسي في هذه المواجهة. والقرآن يقول لي: "ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون" نعم ربي عز وجل يقول: "ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون" خير لكم ليس فقط في الآخرة، خير لكم في حياتكم أن تبذل وتجاهد بمالك ونفسك وكلمتك، خير لكم إن كنتم تعلمون، خير لكم لأجل محاصرة الباطل والظلم والطغيان، خير لكم لكي لا يتحول الظلم والطغيان إلى غول يأكل كل شيء أمامه، تسونامي يجرف كل شيء أمامه، لا يترك أخضرا ولا يابسا. خير لكم، خير لكم لأجل أن تعيشوا حياة كريمة تليق بإنسانيتكم، تليق بكرامتكم، تليق بذلك الحق الذي أمركم الله بنصرته والدفاع عنه. تدبروا معي في هذه المعاني العظيمة، خير لكم، نحن لا نرى ذلك الخير من الناحية الظاهرية، يرى فيه الإنسان نقص، في النفس، في المال، في كذا، والقرآن يعلمني أنه خير لي، خير لي في نفسي، خير لي في مالي، خير لي في كل شيء، خير لي في آخرتي، خير لي لمستقبل أولادي. مستقبل الأولاد لا يضمن بشيكات في البنوك ولا بإيداع أموال في الحسابات، لا، هذا جزء يسير، الجزء الأكبر أنك تسهم في بناء حياة كريمة لكم، حياة كريمة لا تكون فقط بأكل رغيف من الخبز. الحياة الكريمة في الحفاظ على إنسانية الإنسان، كرامة الإنسان من أن تهان، أو تذل، أو يداس عليها تحت الأقدام، تحت باطل الأقدام، هذا الذي يربيه القرآن، وهذا الذي تبنيه سورة التوبة. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته