بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله حمد الشاكرين، والصلاة والسلام على سيد الأنبیاء والمرسلین، وعلى آله وصحبه أجمعین. السلام علیکم ورحمة الله وبركاته.
ما زلنا ونحن نتدبر في سورة التكوير المباركة، نقف عند تلك الآيات العظيمة التي جاءت تبين مشاهد يوم القيامة كأنها حاضرة. ترسم تلك المشاهد بدقة وبتفصيل عميق، تفصيل يدخل في نفس السامع والمتدبر الاستعداد النفسي والمعنوي، والعقل والفكري، والوجداني، للإعداد لذلك اليوم.
وهذا هو الغرض الأساس من عرض مشاهد يوم القيامة بذلك التفصيل وذلك الوصف الدقيق الذي يأخذ لبّ المتلقي المتدبر إلى ذلك اليوم، إلى مسرح الأحداث، إلى المستقبل الغائب الحاضر، الذي ينبغي أن يكون حاضرا في الواقع.
وذكرنا فيما ذكرنا سابقا، وسنذكر كثيرا عند هذه القضية، أن غرض القرآن من هذا العرض أن يجعل ذلك المستقبل حاضرا في وجودك وعقلك وفكرك، فردا أو مجتمعا. ذلك أن استحضار يوم القيامة وموقف الحساب، وإدراك الإنسان لمآلات أفعاله وقراراته، يجعله إنسانا أكثر حكمة.
بين هذه المشاهد في الجزء الأول من السورة، وبين قضية الاستقامة في الجزء الأخير من السورة، وما بينهما، وكعادة القرآن، ينتقل بالسامع من الغائب الذي لا يراه، ويجادل فيه كما كان يجادل كفار قريش في وقوع يوم البعث، وفي قدرة الله سبحانه وتعالى على البعث بعد الموت، وفي وقوع ذلك اليوم المشهود. ينقل السامع من الغائب إلى الحاضر، إلى الواقع، في التفاتة سريعة عجيبة فريدة من نوعها، تجعل السامع لا يشعر بأي شكل من أشكال المفارقات أو الانفصام أو البعد ما بين الغائب المستقبل، وما بين الحاضر والواقع الذي يعيش.
تلك النجوم التي يقول عنها القائل سبحانه جل شأنه: "وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ" "وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ" في الجزء الثاني من السورة المباركة، ربي جل شأنه يقول: "فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ * وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ".
نفي القسم الذي ذكرنا ومررنا عليه في آيات سابقة، ذكر في القرآن في سبعة مواضع. وذكرنا فيما ذكرنا سابقا، ونؤكد أن "لا" هنا ليست بزائدة، ولكنها نافية للقسم "لا أقسم". ولنا أن نتساءل: ما الغرض من نفي القسم؟ وما الغرض من القسم في الأساس؟ وقد مررنا على ذلك سابقا ولكننا نؤكده هنا.
نحن نعلم جيدا، وذكرنا هذا، أن القسم أسلوب من أساليب الإثبات للسامع المتلقي الذي يشكك في كلامك. وهذا لا يليق بالله سبحانه وتعالى جل شأنه، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
إذا أغراض القسم ونفي القسم في القرآن تختلف تماما عن تلك الأغراض التي يسوقها الناس فيما بينهم في حديثهم وكلامهم. الله جل شأنه لا يسوق القسم ولا ينفي القسم لأجل أن يؤكد ما يؤكد من معلومات ومن قضايا، ولكن لها أغراض ومقاصد. وهذه الأغراض والمقاصد تتحدد وتتضح أكثر فأكثر بحسب سياق السور التي جاء فيها القسم أو نفي القسم.
نفي القسم جاء في سبعة مواضع، واحدة منها في هذه: "فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ". العلماء والمفسرون في سابق العهود والزمان فسّروها بأنها تلك النجوم والكواكب التي تخنس، تختفي وتظهر في النهار، تختفي في النهار وتظهر في الليل، وتختفي في النهار نظرا لبزوغ ضوء الشمس وضياء الشمس ونور الشمس فتخنس. والكلمة والمفردة معروفة عند العرب "الجوار الكنس" فهي تجري، وتعبير القرآن بدقة حين يتحدث عن حركة الكواكب "تجري"، "جوار"، سرعة الحركة. فالمسألة ليست مجرد حركة، لا، في سرعة في الحركة عبر عنها القرآن بالجري، قال "والجوار الكنس". والبعض من المفسرين فسّرها بأنها الوحوش تخنس وتكنس، تظهر في أوقات معينة، وتختفي في أوقات معينة.
ثم جاء العلم الحديث، وجاء أولئك الذين يهتمون بالتفسير وبالإعجاز العلمي في القرآن. ونحن دوما وأبدا نؤكد: القرآن العظيم ليس بكتاب نظريات علمية، ولا بكتاب فلك، ولكن القرآن العظيم فيه دلائل، فيه آيات، فيه إشارات، لأجل أن يتبصر الناس، وأن يدركوا في كل جيل وفي كل عصر، مهما بلغت كشوفات العلم، وما ما استطاع الإنسان أن يتعرف على ملكوت السماوات والأرض، وأن يكشف عن بعض أو جزء يسير من علم الفلك أو الكواكب والنجوم وحركة الأفلاك ومثلها، سيبقى محدود العلم، قليل المعرفة، بضاعته مزجات مهما بلغت. ولا يخفى التحدي في ذلك، هذا فيه تحد.
وقد يقول قائل: القرآن خاطب العرب وهم، يعني المفسرون الأوائل فسّروا بهذه الطريقة، فسّروها وأجروها على ما كانوا عليه. وسيجد كل جيل من هذه الأجيال ما ينظر إلى هذه الآيات وتستوقفه الآيات. فيقال لك على سبيل المثال من قبل العلماء اليوم بأن القرآن يسبق في ذلك العلم، ويتحدى العلماء، ويحدثنا في "الجوار الكنس" عن الثقوب السوداء التي كشف العلم الحديث أنها أجرام ذات جاذبية كبيرة، هي مختفية، أشبه ما يكون بأنها كآلات كونية تشفط كل ما يمكن أن يكون في طريقها، هذا ما يحدثنا العلم الحديث عنه. ولكن هذه الثقوب السوداء، سواء كانت هي في بالفعل هي المقصودة في الآية المباركة "الجواري الخنس" وهي حقيقة علمية كشف عنها العلم الحديث، وأخبرنا بأنها تشكل مرحلة من المراحل التي تكون باحتضار النجوم في واقع الأمر، ولنا أيضا أن نتدبر، وأن نحاول أن نكتشف، وأن نتساءل: هذه النجوم العملاقة التي تشكل الثقوب السوداء وهي حقيقة علمية كشف عنها العلم حديثا، هل لها علاقة بقوله جل شأنه في بداية السورة "وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ"؟ ممكن جدا، ممكن يكون هناك علاقة، وممكن أن يكون الحديث عن نهاية الكون، وممكن أن يكون الحديث عن مشاهد يوم القيامة وهي خافية عن الإنسان غير ظاهرة، والإنسان مهما بلغ من العلم ومن التقدم فلا شك بأنه سيبقى دوما وأبدا أمام علم القرآن وعظمة القرآن وآياته لا يعلم شيئا، "وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا".
[continue]# الغرض من ذكر الخنس الجوار الكنس
ويبقى السؤال مطروحا دوما: ما هو الغرض من كل ذلك؟ هل الغرض كما ذكرنا في مرات سابقة أن تقف عند تلك الدقائق والتفاصيل وتخوض في أغوارها وأعماقها، أم أن الغرض شيء آخر؟ من في القرآن؟ الغرض والمقصد الذي لا ينبغي أبدا أن يشغل عنه السامع قدرة الله سبحانه وتعالى، اليقين والوصول إلى مرحلة اليقين بقدرته جل شأنه التي لا يعجزها شيء في الأرض ولا في السماء، وأن هذا النظام الذي يسير عليه العالم والكون اليوم، والأجرام والأفلاك والنجوم، هذا النظام الذي قد يكشف الإنسان بتطوره في العلوم المختلفة عن جوانب فيه، هذا النظام يوم القيامة سيكون له ضوابط مختلفة وموازين مختلفة. وإن كان في الدنيا الإنسان استطاع أن يكشف عن شيء أو بصيصا من العلم حول تلك الأجرام والنجوم وحركة النجوم والثقوب السوداء، التي كما ذكرنا قبل قليل هي عبارة عن أجرام مختفية عملاقة ذات جاذبية كبيرة جدا تشفط، بحيث أنه فعلا أطلقوا عليها "شفاطات"، وهذا تماما يتسق مع المفردة، يقول هكذا علماء الإعجاز العلمي: "كنس"، تكنس كل ما حولها وما يأتي في طريقها.
ولكننا نبقى على قولنا بأن القرآن ليس كتاب نظريات علمية، ولا كتاب أفلاك وفلك وعلمه وأجرام سماوية وحقائق علمية. القرآن حين يحدثك عن هذه الأشياء ويتحدى بها الأجيال المختلفة التي يخاطب القرآن بها الآيات المختلفة، يريدك أن تلتفت إلى قضية أخرى، أن هذا النظام المتقن المحكم المتسق الذي أنت قد تصل بما علمك الله إلى جزء من يسير وفق قوانين محددة نظمها الخالق جل شأنه، وهي كلها لا تخرج كذلك عن المقصد العظيم الذي لأجله خلق الله الكون، هذه الأجرام التي أنت تنبهر أمام صنعتها ودقتها، هذه لا تجري هكذا من تلقاء نفسها، نظام محدد دقيق، تغير ذلك النظام يوم القيامة، هو لغاية ولمقصد، انتهت الحاجة إلى وجود هذا النظام، أصبح هناك أنظمة جديدة تتسق تماما مع اليوم الآخر وإحداثيات اليوم الآخر. وفي كل هذا القرآن العظيم يريد من السامع والمتدبر أن يلتفت إلى قضية أخرى.
قال: "فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ * وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ". نفى القسم، ونفي القسم له أغراض. واحدة من أعظم الأساليب والقواعد التي تمكن المتدبر للوصول إلى الغرض من نفي القسم في الصورة، النظر فيما قبل الآية وما بعد الآيات. وأنت وأنا حين نتدبر فيما جاء من آيات بعد هذه الآيات التي جاء فيها نفي القسم، نرى بأن الحديث كل الحديث عن القرآن، وأن الحديث كل الحديث عن رفع شان القرآن وهو رفيع الشأن، وإبعاد كل أشكال التهمة التي أرادها هؤلاء المكذبون، ويريدون عبر الزمن إلصاقها بالحبيب صلى الله عليه وآله وسلم. ولذلك سنأتي حين في قوله جل شأنه: "وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ" لنؤكد القول أن هذه القضية ليست فقط قالها صناديد قريش وكفار قريش، أبدا، هذه قضية حاضرة، أنت اليوم وأنا نكاتف، في كل أسبوع إن لم يكن أقل من الأسبوع تطالعنا الجرائد والصحف بقضايا تتعلق بـ، بإلصاق اتهامات بشخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم، محاولة النيل من، محاولة النيل من القرآن. ولذلك حديث القرآن ودفاع القرآن عن القرآن وعن شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس قضية تاريخية، ليست قضية تتعلق بكفار قريش كانوا يقولون عنه شاعر، ويقولون مجنون، ويقولون ساحر، وانتهى الموضوع. هذه قضية حاضرة في العصر الذي نعيش، وستبقى حاضرة بقوة، ولذلك أخذت مساحات واسعة في كتاب الله، هذه قضية تتعلق برسالة القرآن، ومن هنا جاء الدفاع عنها في كتاب الله جل شأنه أيما دفاع.
وقد يقول قائل: ولماذا الدفاع؟ من أراد أن يؤمن فليؤمن، ومن لم يؤمن لا يؤمن. الدفاع ليس لأجل أن يؤمن هذا الذي يجادل ويكابر ويعاند، وفي قلبه عشرات الموانع النفسية الذاتية التي تحول بينه وبين التصديق برسالة القرآن، لا، الدفاع لأجل أولئك الناس الذين يبقون في ترددهم وحيرتهم، تتنازعهم عشرات الشكوك، عشرات المخاوف. ولك أن تفهم وتتساءل: كثير من الناس اليوم، كثير من العالم اليوم، خاصة في البلدان الغربية، يعيشون ما يطلق عليه "إسلاموفوبيا"، "فوبيا"، خوف، ذعر شديد من كل ما يتعلق بالإسلام ورسالة القرآن وشخص الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم، نتيجة لما تضخه ماكينات الإعلام، [موسيقى] الغربي بشكل خاص من تشويه وتحريف وتزوير حول رسالة القرآن والإسلام. هذه معروفة في كل الكتب ومقالات، وكتب عنها، وما يزال يكتب عنها ويقال عنها الكثير. عمت هذه الشعوب الغربية، الغالب على هذه الشعوب أنها لا تعرف الكثير عن القرآن، ولا تعرف الكثير عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، إلا ما ينقله ذلك الإعلام المحرف المزيف.
إذا القرآن حين يدافع عن هذه الرسالة، وعن شخص الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم، ويجلي تلك الحقائق، هذا من قبيل الاستدلال، ليس لأولئك المعاندين الذين لا يزدادون إلا عنادا وإصرارا لما ركز في قلوبهم وعقولهم من موانع ذاتية، والقرآن تكلم عن هذه الموانع، هم لا يكذبونك ولكن هناك موانع ذاتية، إذا يكلم الشريحة الأوسع، ويخاطب الشريحة الأوسع التي ينبغي أن يصل إليها هذه، هذه أن تصل إليها هذه الرسالة. هناك أعداد من الناس حتى على سبيل المثال في أثناء المونديال الذي عقد مؤخرا في كأس العالم، وجاءت شعوب كثيرة مختلفة من دول العالم المختلفة إلى هذه المناطق العربية الإسلامية، وتعرفوا على الإسلام أكثر، وتعرفوا على العادات العربية والأعراف والتقاليد، الغالب على هؤلاء الانبهار الشديد، كانوا يتوقعون شيئا آخر، كانوا يتوقعون وحشية وهمجية وتخلف وتأخر. ولنا أن نتساءل: هم لماذا كانوا يتوقعون كل هذا؟ ما يضخه الإعلام المسموم المحرف، المحرف لهذه الحقائق.# أهمية تجلية الحقائق
إذا عملية تجلية الحقائق بالصوت والصورة، ودمغ الباطل، قضية مطلوبة في كل وقت، في كل زمان. فالقرآن حين ينفي القسم في هذا السياق، انظر إلى ما جاء قبله وما جاء بعده حتى تفهم لماذا ينفي القسم. ما جاء قبل يحدثنا عن مشاهد يوم القيامة وأحداث يوم القيامة، وختمت بقوله جل شأنه: "عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ". وقلنا أن جواب الشرط في الثلاثة عشر موضعا في آية واحدة: "عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ". إذا الخلاصة: علمت نفس ما أحضرت. ماذا ستحضر كل نفس؟ هل ما أنت تحضره يؤهلك لتلك الجنة التي أُزلفت، أم للجحيم التي سُعِّرت؟ وتحميل النفس البشرية الفردية المسؤولية كاملة أمام تلك التصرفات والقرارات.
وما جاء بعدها يحدثنا أنه "لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ". ما وجه الربط بين الجزء الأول من السورة والجزء الثاني من الصورة؟ الاستدلال على هذه القضية: أنت لا تستطيع أبدا ولن تتمكن من أن تعلم ماذا ستحضر وتقدم دون أن يكون لك منهج حياة. وعادة المنهج ما هو؟ هو الذي يجادل فيه المجادلون عبر الزمن، وجادل فيه الكفرة، ونفوا عنه الصدق وأنه وحي من عند الله، واتهموا صاحبه، العاقل سيد العقلاء، بالجنون، وبالسحر، وبالشعوذة، والشعر، والكهانة، وألصقوا به عشرات التهم.
إذا من الطبيعي جدا الآن أن نفهم لماذا جاء نفي القسم هنا. تبكيت لهؤلاء، ترك وتقليل لشأنهم، محاولة لطمس وتحقيير لمناهجهم المتدنية المختلفة. تقول لي: هو لماذا القرآن يخاطبهم بهذه الطريقة وبهذا الأسلوب؟ سياق، سياق غضب من الرحمن جل، وتقول لي: لماذا الغضب؟ الغضب يظهر تماما في قوله بعدها: "بِآيَاتٍ فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ". لماذا الغضب؟ ولله المثل الأعلى. اليوم أنا وأنت إذا طالعتنا بعض الأخبار أو الأقوال من الناس حول إشاعة حول شخص عُرف بالنزاهة، وعُرف بالنظافة، وعُرف بالأمانة، وعُرف بالرقي، ثم يأتي أناس يعرفونه حق المعرفة، ولكن في نفوسهم أغراض ومآرب أخرى، وينسجون حوله الأباطيل والأكاذيب، أنا أتساءل معك ونحن نتدبر في الصورة: كيف سيكون شعورك إزاء تلك القضية؟ عادي؟ ستأخذ المسألة بشكل عادي؟ أم ستأخذها بغضب، وتشعر بمعنى بكل وأقصى درجات الغضب؟ طبيعي جدا. لماذا؟ لأنهم، لأنك تُدرك تماما أن هؤلاء يعرفون هذا الشخص عن ظهر المعرفة. الغضب أكبر، الغضب أشد، لماذا؟ لأن هذا الكلام المحرف جاء ممن يعرف، وليس ممن لا يعرف. فإذا أنا وأنت وجدنا عذرا لمن لا يعرفه، أي عذر ستجد لمن يعرفه عن ظهر المعرفة؟ قل: لا عذر. ولله المثل الأعلى. السياق الذي جاء فيه نفي القسم، سياق غضب من الرحمن، لماذا؟ على تلك التهم الشائنة، غير اللائقة، الكاذبة، الأباطيل، الأكاذيب التي زورها صناديد قريش حول شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وما جاء وما نزل من الوحي عليه. ولك أن تتساءل: هم لماذا هكذا فعلوا؟ تخيل للحظة لماذا فعلوا هكذا؟ مصالح، مصالح عاجلة، مصالحهم الدنيوية، شهواتهم، السلطة الموهومة التي أعمت أبصارهم وبصائرهم، وأغشت على قلوبهم وعقولهم.
فحين تصبح كل تلك الحواجز الواهية محاولات لأجل طمس الحقائق وتزوير الحقائق، يكون نفي القسم هو المطلوب. تدبر معي في الترابط في كتاب الله جل شأنه. نفي القسم: "لَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ" التي لا ترون، والظواهر التي ترون كذلك نُفي القسم بها. "وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ"، هذه ظواهر أنتم ترونها. فلا يُقسم لا بما لا ترون ولا تعرفون، ولا بما ترون وتعرفون، لماذا؟ حتى يشعر المقابل الموجه له الخطاب بالدرجة الأولى بشناعة الجرم الذي يقترفه، بشناعة ذلك القول الذي يقترفه. كنتم تسمونه، وهو معروف بينكم بالصادق الأمين، وُلد بينكم، تربى بين أحضانكم، عاش فيما بينكم، تعرفون نسبه، وحسبه، وأصله، وفصله، وقوله، وخلقه، ليس هناك ولا حتى نقطة غموض في حياته وسيرته صلى الله عليه وآله وسلم قبل البعثة. ثم ما تلبثون بعد ذلك حين يأتيكم بالوحي والرسالة من عند الله جل شأنه أن تقولوا عنه مجنون؟ كنتم تحتكمون إليه في فضل نزاعاتكم وخصوماتكم، تحتكمون إليه في أكثر الأحداث حساسية في قضاياكم، احتكمتم إليه في وضع الحجر الأسود الذي يشكل كرامتكم ومكانتكم بين القبائل العربية، والآن حين يحدثكم بالوحي تقولون عنه مجنون؟ ولذلك ستأتي اللفظة أعظم لفظة: "وَمَا صَاحِبُكُمْ"، والصاحب مفردة، الصاحب هو الذي صاحبت ولازمت، وعرفت، وتعلمت عن، وتعرف عنه، صح من طول الصحبة، [موسيقى] "بِمَجْنُونٍ"، تتهمونه بالجنون وهو سيد العقلاء.
فلما تكون التهمة محض افتراء، وطمس للحقائق، وتزوير لتلك الحقائق، نفي القسم يكون مؤديا للغرض والمقصد الذي يتسق تماما مع غضب الله جل شأنه على هؤلاء الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، ويسمون رسالة القرآن بالكذب والتزوير، ويصفون الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم سيد العقلاء بالجنون. تدبر معي في هذه اللفظة العظيمة من القرآن. شيء آخر، سياق، سياق غضب يتسق معه هنا في القسم لإشعار السامع بشناعة ما يقوم به وما يتفوه به، هذه ليست مجرد كلمة. ولذلك اليوم ما يحدث في بعض بلدان العالم الغربي حين يرسمون الرسوم غير اللائقة، أو يفعلون، أو يكتبون، أو يضحكون، أو، أو ينشرون الأشياء التي لا تليق بشخصه صلى الله عليه وآله وسلم، في محاولة للنيل والاستفزاز المسلمين، ملايين المسلمين، هذه القضية مقصودة. ذات الوقت هي من أعظم القضايا التي تستجلب غضب البارئ جل شأنه. علاجها، استنكارها، أمل، كل ما ينبغي أن يعمل بالحكمة، بالحكمة، لأجل دحض هذه الافتراءات، أمر مطلوب تماما، كل حسب قدرته وحسب استطاعته.# دفاع القرآن عن النبي صلى الله عليه وسلم
تدبر معي في هذه المعاني العظيمة، وتدبر معي في القرآن حين يأتي بالدفاع الذي تعجز كل أشكال المحاماة عن تقديمه، عن القرآن، وعن شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم باعتباره المبلغ. والآيات ليس فيها فقط دفاع وبيان، ولكن وصف لكل ما يتعلق ويحيط بتنزل هذا القرآن العظيم، الرسول الذي بلغه، نزله ونقله جبريل عليه السلام، النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي أوصله وبلغه لكم، الكرم، رفعة الشأن، المكانة، هذه كلها أوصاف تحيط بتنزل هذا الكتاب وهذه الرسالة. فكيف يكون تلقي البشر لرسالة بهذه المكانة والعزة والعظمة؟ تدبر معي في هذه المعاني، والربط الواضح الصريح بين قوله جل شأنه: "عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ"، جواب الشرط، وبين الآيات التي جاءت بعدها: "إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ". بمعنى آخر: أن النفس، كل، كل النفوس، لأنه "نفس" كما ذكرنا هذه النكرة تفيد العموم، كل نفس لا يمكن أن تعلم حق العلم ما ستحضر دون أن يكون لها علاقة واضحة وقوية وصريحة وتصديق بهذا الكتاب العظيم. علاقتك بكتاب الله هي التي ستحدد ماذا ستحضر يوم القيامة، خيرا فخير، وإن شيئا آخر فشيء آخر.
تدبر معي في هذه المعاني العظيمة، حين تكون العلاقة بكتاب الله علاقة مهلهلة، وهي تحب القرعة، وفي بيتك نسخ من القرآن مذهبة، ومكتوبة، ومغلفة، وبأجمل غلاف إلى آخره، جميل، جميل جدا، وتقرأ القرآن، وفي رمضان تقرأ أكثر من مرة، وربما لديك تطبيق على الهاتف الجوال بالقرآن وتستمع إليه وتهز رأسك يمينا وشمالا، ولكن القرآن في حياتك لا يشكل شيئا، لا تحتكم إليه في قراراتك، ولا في مشاعرك، ولا في خواطرك، ولا في أخلاقك، ولا في تعاملك مع أهلك، وجيرانك، وأحبابك، وعملك، وعطائك، وصدقك، وأمانتك، واقتصادك، وشمائلك، ولا تتعامل معه، مطلقا، إعلامك في واد والقرآن في واد آخر، حياتك وما تفعله وما تجد نفسك فيه في واد، والقرآن في واد آخر، هل هذه علاقة فعلا قوية بالقرآن؟ "عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ"، لا يمكن لنفس أن تعلم ما ستحضر وما أحضرت بعيدا عن القرآن. القرآن يعلمك كل شيء بالتفاصيل، منهج حياة، افعل ولا تفعل، هذا كذا وهذا كذا، يوضح لك مآلات أفعالك وتصرفاتك، إن اتخذت هذا القرار هذه النهاية، إن فعلت كذا هذا كذا. تدبر معي في عظمة القرآن، ليس هناك أشياء مخفية، ولا هناك غموض، ولا هناك ألغاز، ولا هناك طلاسم.
وتدبر معي في الربط كذلك بين قوله جل شأنه: "فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ". لماذا بهذه النجوم؟ فسّرها هكذا وكانوا يفهمونها هكذا، وسواء كانت الثقوب السوداء أو النجوم التي تختفي وتظهر، أو ما كان، ليس الغرض الوقوف عند التفاصيل والدقائق والقطع بأنها هذه أو تلك، القصد، واحدة من المقاصد، أن هؤلاء القوم حين خاطبهم وجاءهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم برسالة القرآن، قالوا: هو من مع التعامل مع المنجمين ومع الكهنة. كلام كان، قضية التنجيم في حياة العرب في الجاهلية قبل القرآن ونزول القرآن كانت حاضرة بقوة، علم التنجيم وعلم الفلك ما كان بالنسبة له علم، كان يحيطه الغموض، ويحيطه، تحيطه الأقوال الكهنة، وأقوال السحرة، وكانوا يعرفون جيدا، والقرآن نزل ودحض هذه الافتراءات، ويعتقدون ويؤمنون بأن السحر لهم تواصل مع الشياطين والنجوم وكذا، ولذلك نفى القرآن فقال: "وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ". هذه كانت من ثقافتهم الدارجة المعروفة لديهم، كانوا هكذا يرون. تدبر معي في هذه المعاني العظيمة. فلما القرآن ينفي القسم بهذه كلها، ويؤكد من خلال نفي القسم هذا خلق من مخلوقات الله جل شأنه، رأيتم لم ترون، عرفتم لم تعرفون، كشف العلم أم لم يكشف، تعرفون تفهمون أم لا تفهمون، كل هذا لا يمكن أن يؤدي إلى غرض شعور الإنسان برسالة في هذه الحياة، الذي يجعلك فعلا تفهم وتستوعب العلاقة مع هذه الرسالة.
قال: "وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ". وتدبر معي في المفرد العظيمة. طيب "الْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ" أنتم لا ترونها ولا تعرفونها لأنها اختفت، تختفي بضوء النهار، أو هي تختفي لأنها ثقوب سوداء، أو، مكان الليل أنتم تشاهدونه، ما قال أقبل، قال: "عَسْعَسَ"، لأن عسعس تأتي بالإدبار وبالإقبال، الليل يقبل ويدبر، من ظواهر الليل، هذا الليل الذي نحن في واقع الأمر نراه كل ليلة، هذه ظاهرة طبيعية كل إنسان يشهدها، كل إنسان حي، عالم، جاهل، رجل، امرأة، صغير، كبير، الكل يعرف الليل إذا أدبر وإذا أقبل، قال: "عَسْعَسَ". لماذا تخير هذه اللفظة العظيمة بهذه الحروف العين والسين وهذا النبر فيها؟ يتسق تماما مع السياق، السياق الذي أشرنا إليه، بيان شدة غضب الله سبحانه جل شأنه ونقمته على كل أولئك الذين يكذبون برسالة القرآن، ويحاولون أن يطمسوا صدق هذه الرسالة بأكاذيبهم وافتراءاتهم وزيف أباطيلهم حول شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقلنا: لماذا كل هذا؟ صناديد قريش وانتهت؟ لم تنته. كل يوم عشرات المواقع إن لم تكن مئات، كلها تحاول أن تنال من القرآن، تحرف، وتزور، تؤخر، وتقدم، وتفعل الأفاعيل والعجائب، وكذا على شخصه صلى الله عليه وآله وسلم. المعركة مستمرة. [موسيقى] تدبر معي في عظمة القرآن، هذه معركة متواصلة، ولذلك هذه الآيات نحن أحوج ما نكون إليها اليوم. بعض الناس يقول لك: جزء عم كله يتحدث عن الكافرين، ولذلك من قال هذا؟ القرآن يحدثك عن الكفر، وعن الضلال، وعن نتائجه، والمنافق، والجاحد، ويخاطب الجميع بذات الخطاب، يتحدث عن قضية معينة وفئة معينة، ولكن أنت كذلك مقصود، منك أن تفهم، وتستوعب، وتتعلم، ولا تقع في الأخطاء، وتواجه تلك الافتراءات.
قال: "وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ". هل أحد يستطيع أن ينكر هذا؟ هذه الظاهرة التي ترونها أنتم كل ليلة تجادلون فيها؟ هل واحد منكم يستطيع أن يقول بأنه هو الذي يتحكم فيها؟ هل واحد من البشر مهما بلغ من الإمكانيات والتقدم والتطور يستطيع أن يقول ويدعي أنه يستطيع أن يتحكم بطول الليل والنهار وقصر النهار والليل؟ كل ما وصل إليه الإنسان من تقدم، هل يستطيع أحد أن يفتري هذا الكلام أو يدعي؟ أبدا، لأنه سيقولون عنه مجنون. تدبر معي في هذه المعاني. الظواهر التي تراها والتي لا تراها، ما تراه أقل بكثير مما لا تراه، خُلقت بيد من؟ الرب الذي خلق. تدبر معي في هذه المعاني العظيمة. هو الليل أساس، وجعل من الليل وكأنه فاعل للعسعسة، الإدبار والإقبال، هل الليل يفعل بذاته هذه العسعسة؟ لماذا نسبها إليه وكأنه هو الفاعل؟ تدبر معي في عظمة القرآن في التعبير هنا، كما في قوله جل شأنه: "وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ"، قضية تحدث كل ليلة، كل ليلة، كل ليلة، فنُسب إليه ليس لأنه يفعل بذاته، هو خلق من خلق الله، ولذلك يقول جل شأنه في آيات أخرى: "يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ"، تدبر معي في هذه المعاني، ولكن لأن السياق هنا سياق، وقطع لحججهم الواهية، جاء في هذه المعاني العظيمة.قال: "وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ". نحن أمام ظواهر تتكرر، ليل نهار، ليل نهار، يتعاقب فينا الليل والنهار، الليل والنهار. "وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ"، العجيب، العجيب أن الصبح في كتاب الله غالبا ما يأتي في سياق الحديث عن العذاب. أليس "الصبح بقريب"؟ والفجر في السياق العام، هذا دليل على أي شيء؟ هنا حين تأتي الآيات: "وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ"، ولم يقل: "الفجر"، والصبح في كتاب الله في الغالب تأتي، أو في كل المواضع تقريبا إلا ما حسب السياق، تأتي في كلام عن العذاب. تدبر ما قلناه قبل قليل، أن السياق سياق غضب وبيان للغضب، أن هذا الافتراء الذي تقولونه عن رسالة القرآن وشخص الحبيب صلى الله عليه وسلم مُستجلب لغضب الرحمن جل شأنه. فقال: "وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ"، ما قال: "الفجر"، يحمل معه معاني الوعيد. تدبر معي في هذه المعاني. "أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ" في غاية أخرى، أن موعدهم الصبح، موعدهم الصبح، "أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ"، وهنا: "وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ"، وتنفس، النفس أن يخرج النفس من الشيء، نفس، ونحن نقول نفس الإنسان يتنفس، يخرج النفس، الهواء من، تدبر في هذا، في هذه الصور البديعة التي تُرسم بالحرف، تُرسم بالحرف، كأنك أمام صورة كونية بديعة، ومشاهد كونية وطبيعية، صبح يتنفس من عمق ظلام الليل.
والسؤال يبقى: هو ما العلاقة؟ والتاء، لأن دوما وأبدا من أعظم قواعد تدبر القرآن النظر في المناسَبة، تناسب الآيات ما قبل وما بعد، أعظم أشكال التناسب. ما قبلها: "عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ"، ثم يأتي الكلام بعدها: "وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ" في إشارة، وبيان، وتحذير للإنسان: أيها الإنسان، هذا الصبح وهذا الليل اللذان يتعاقبان فيك كل يوم ونهار، وكل ليل يمضي، ويجري، ويذهب، ويعسعس، وصبح يتنفس، يذهب من عمرك، فماذا أحضرت؟ تدبر معي في التحذير، أعمارنا تجري، الليل والنهار يؤذنان فينا، في كل البشر، نُقص من عمرك يوم، نُقص من فترة بقائك على الأرض يوم. تدبر معي في هذه المعاني، كلما ازداد وعي الإنسان بتعاقب الليل والنهار وسرعة مرور الزمن وانقضاء الليالي، كلما زاد وعيه بضرورة الإعداد والاستعداد ليوم القيامة. يا لعظمة القرآن وجمال تناسب الآيات فيه، وبديع هذا التناسب. "وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ"، وكأنك تنظر إلى خيوط الفجر وهي تتنفس فعلا، تتنفس، تشعر بأنفاسها، وهي، لذلك القرآن في آيات كثيرة في كتاب الله يحث على التأمل، الذكر وقت الإشراق ووقت الغروب المصاحب للنظر والتأمل في تلك الآية الكونية العظيمة، عسعس الليل، وتنفس الصبح، يا لها من آية تستحق التدبر، والتأمل، والتفطن، والعودة العظيمة السريعة القوية إلى كتاب الله إيمانا، ويقينا، وعملا. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.