بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وصلنا في تدبرنا من سورة الأعراف عند نهاية القصص التي جاءت مع الأنبياء، قصة النبي شعيب عليه السلام، ذلك النبي الذي أُرسل كما أُرسل غيره من الأنبياء برسالة التوحيد. تلك الرسالة التي ما جاءت لتكون فقط مصححة لطبيعة علاقة الإيمان بين الإنسان وربه، إنما جاءت لتصحح واقعًا فاسدًا أفسده الناس، أفسده المَلأ، أفسده أولئك أصحاب السطوة والنفوذ والجاه من المفسدين الذين لا يريدون خيرًا لا لمجتمعاتهم ولا لأهليهم ولا لبلدانهم. أولئك الأشخاص الذين تسلطوا على تلك الأمم فحالوا بينها وبين الإيمان، فكانت النتيجة العذاب، العذاب المقدم، عذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة، وسنة الله ماضية في الخلق.
بعد ذلك جاءت الآيات العظيمة قبل أن نبدأ بالقصة الجديدة، وهي أطول قصة لنبي في السورة، النبي موسى عليه السلام. قبل أن نبدأ بها جاءت بوقفة، هذه الوقفة حوت قوانين سنن الله سبحانه وتعالى في القرآن. يعلمنا أن له سننًا في الخلق، في قيام المجتمعات والأمم، في استمرار حالاتهم في الازدهار، في الرخاء، في الشدة، في الغنى، في الفقر. هذه السنن والقوانين ماضية لا تجامل أحدًا، لا تُداهم أحدًا، ولا تتخلف في أي وقت من الأوقات. والعاقل هو الذي يقف مع القرآن عند تلك السنن، يدرس، يتدبر، يعي.
والسنة حين تُعرض، هذه القوانين حين تُعرض في كتاب الله القرآن، يريد مني أن أربط بين تلك السنة والواقع الذي أعيش فيه، أقرأ، أرى، أتدبر، أتأمل، أسمع، أتسائل، أكتشف، أستشرف، أتوقع الأمور، أحسب للأشياء حسابات، لا بد أن تُحسب.
بعد كل القصص قال ربي سبحانه مبتدئًا السنن بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ (الأعراف:94)). والقرآن العظيم يعبر بلفظ القرية والقرى عن الأمم، مجتمعات، شعوب، كل الأمم والقرى أُرسل فيها أنبياء، جاءتهم رسالات، والنبي صلى الله عليه وسلم صاحب الرسالة الخاتمة، فلا نبي بعده. أُرسل النبي لأجل أن يُطلعهم على الأحوال فيفهموا ويبدأوا يقرأوا الأمور بقراءة مختلفة. الإنسان حين يُنعم الله سبحانه وتعالى عليه بكتاب ورسالة، يبدأ يرى الأمور بمنظر مختلف، يقيس الأمور بحسابات مختلفة، ليس كما كان يحسبها من قبل.
فربي سبحانه وتعالى نبّه على أول قانون في تلك الرسالات للأمم قائلًا: (خُذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ (الأعراف:94)). ابتلاءات، دروس، عبر، عضات التي ينبغي أن يكتشفها ويقف عليها أصحاب العقول من هذه الأمم، ويدرك أن ما يمر به من محن سواء كانت على المستوى الفردي أو على المستوى الجماعي، بأساء وضراء، في أنفسهم، في أموالهم، أولادهم، في صحتهم، حتى في الأرض التي يحيون ويعيشون عليها، كل ما يمرون به إنما هو لأجل تحقيق أمر ما، أن تتولد عند تلك الأمة والمجتمع، الفرد والجماعة على حد سواء، حالة من الضراعة.
أما إذا مرت تلك المحن، مهما كانت صعبة، سهلة، كثيرة، قليلة، هذه المحن إذا مرت على الإنسان والمجتمع والأمة ولم تولد عنده تلك الحالة من الضراعة، فقد أصبحت لا معنى لها، أصبح ذلك الإنسان غير قادر على أن يستقرأ ويقرأ بوعي وبموضوعية الأحداث التي يمر بها. والقرآن العظيم كتاب يعلمنا مع قراءتنا له أن نقرأ الواقع الذي نعيش فيه. الضراعة هي ما تحتاج إليه كل الأمم، وخاصة حين تمر بالمحن والأزمات. والضراعة ليست مجرد حالة نفسية فقط تبقى بين العبد وربه، ولا تخرج إلى واقع الحياة، ولا تصلح الفاسد، ولا تُغير في ذلك الفساد الذي قد تعمق وانتشر، لا، ولكنها في الأمم التي تخدرت فيها أجهزة الإحساس والاستقبال لا تولد شيئًا.
ممكن حتى قد تحدث حالة ضراعة، لأن الشدة بطبيعتها، الإنسان في ساعة الشدة لا شك أنه مهما كان، خاصة إذا بقي فيه شيء من الخير، تراه يعود إلى ربه منكسرًا متذللًا. والقرآن ذكر أصنافًا من الناس بما فيهم كذلك من كفرة وحاد عن الحق، في ساعة الشدة يعود لله سبحانه، حتى فرعون، وهو فرعون كما سنرى (قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (يونس:90)) حين وقع في الشدة. ولكن ليس هذا ما يريده القرآن، القرآن يريد أن تتولد حالة عند الإنسان تشعره بعجزه وفقره فيتوجه إلى من هو بيده الأمر قبل وبعد، يتوجه توجه القلب نفسيًا وعمليًا.
ولكن هؤلاء القوم ما أدركوا تلك السنن، فكيف تعامل القرآن مع هذا الوضع؟ كيف تسير السنة والقانون في ذلك الوقت؟ قال: (بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ (الأعراف:95))، مكان الضر أصبح نفع، مكان الشدة أصبح رخاء، مكان الفقر أصبح غنى، مكان المرض أصبح صحة، القلة أصبحت كثرة، فُتحت عليهم الدنيا. وهؤلاء الناس والأصناف من تلك الأمم والشعوب والأفراد، لأنهم لم يعوا رسالات الأنبياء، ولم يدركوا حقيقة الأشياء، اغتروا بظاهرها، حتى عفواً، زادت عليهم الأشياء، واعتقدوا أن الأمر بحكم إنهم قد ألفوه واعتادوا عليه شيء طبيعي، يوم سراء ويوم ضراء، يوم ضيق، يوم شدة، يوم رخاء، شيء طبيعي دون إدراك أو وقوف إلى الحكمة، دون استشعار ما الذي يريده الله مني من ذلك الابتلاء، ماذا يريد الله عز وجل منا كي يبتلينا وهو الغني عن ابتلائنا، غني عن ضعفنا، غني عن عجزنا، وهو القوي سبحانه، ماذا يريد منا؟ تدبروا معي في هذا المعنى. (وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ (الأعراف:95)) شيء طبيعي أن يكون هناك سراء وضراء، ليس هناك في الأمر أي نوع من أنواع الحكمة، ينظر إلى تقلب الأحوال في الأفراد والأمم والمجتمعات فلا تحرك فيه ساكن من الإيمان، لا تحرك فيه أملًا يدفع به للرجوع لخالقه سبحانه وتعالى.
إشكالية خطيرة جدًا إذا أصبحنا نألف تغير الأحوال في الأمم وفي أنفسنا وتقلبنا دون أن ندرك الحكمة من وراء ذلك، وقعنا في إشكالية خطيرة، هذه الأحداث لا ينبغي أن تُؤلف، هذه الأحداث العاقل يقف أمامها وقفة الإنسان المتعلم، الراغب في أن يدرك ما وراء الأشياء، يقرأ كما يقال ما بين السطور، يدرك أن الله سبحانه وتعالى لون له هذه الأحوال ليعود إليه، ليرجع إليه، البأساء والامتحان بالبأساء وبالشدة وبالرخاء له هدف، غاية. وكثير من الناس يرجع إلى الله في الشدة، ولكنه لا يرجع في الرخاء، لا يدرك أن الرخاء وأن تُفتح عليه الدنيا وأن يُؤتى من الأموال ومن الصحة ومن القوة وما شابه ابتلاء، كثيرون لا يصمدون أمام ذلك.
كذلك رُوي عن بعض السلف والصحابة قالوا: "ابتلينا بالشدة فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر". وهذا من ورعهم وزهدهم في الدنيا. ولكن في واقع الأمر أن الابتلاء بالنعمة من أشد أنواع الابتلاء، اختبار ربي سبحانه وتعالى حين يفتح على الأمم وعلى الأفراد أبواب الرخاء والسعة والترف، فربي سبحانه وتعالى إنما في واقع الأمر يبتلي، ما الموقف في مثل ذلك الحال؟ الموقف أن ندرك كما يدرك في الشدة أنه عاجز، وأن ربه القوي، أنه ضعيف، وأن الله سبحانه هو القادر على كل شيء قدير، وأن ما بكم من نعمة وما هم فيه من نعمة إنما هو من باب الابتلاء والاختبار، فلينظر كيف هو عمله، ما طبيعة ذلك العمل الذي يقوم به في حياته؟ فتحت عليه الدنيا، أموال، صحة، قوة، أمان، استقرار، ماذا فعلت بها؟ ماذا فعلت بالاستقرار الذي خولك الله به تلك النعم؟ ماذا فعلت؟ ماذا حققت؟ ماذا أنجزت؟ المسألة ليست ما تملك، وليس ما عندك، لأن ما عندك وما تملك إنما هو ابتلاء من الله سبحانه، هو عطاء الرب، ولكن السؤال: ماذا فعلت أنت بذلك العطاء؟ ماذا قدمت بذلك العطاء؟ ماذا حققت من إنجازات على صعيد مقاومة ومكافحة الفساد، وإقامة الصالح والخير والنفع للبشر؟ ماذا فعلت؟ ماذا حققت من الأشياء التي أمر الله عز وجل بتحقيقها في حياتك وحياة الناس؟ هذا هو السؤال.