د.رقية العلواني

جميع البحوث

التقليد في الفكر الأصولي

ظاهرة التقليد في الفكر الأصولي

د. رقية طه جابر العلواني 1

مقدمة:

التقليد من الظواهر التي تزامنت مع وجود المجتمعات البشرية على مختلف أنماطها وأماكن تواجدها. فالتقليد - كما يقول ابن خلدون ـ عريق في الأدميين سليل.

وقد تناول الأصوليون الحديث عن التقليد وأفاضوا في تفصيل دقائقه، وما يتعلق بمسائله وآراء العلماء فيه وحدوده وأحكامه. كما تعرض بعضهم لآفاقه ومخاطره وأبعاده الفكرية على الفرد والمجتمع.

وسلكت تلك الدراسات في مجموعها، مسار التنظير الفقهي كوسيلة معرفية لفهم وعلاج التقليد. فكان الإطار المرجعي الذي تحتكم إليه غالب تلك الدراسات، يعود إلى شعار تنظيري يحول في فلكات الفقه والأصول.

وعلى الرغم من تعرض العديد من الكتابات لخطورة هذه الظاهرة وسلبياتها المتعددة، إلا أنها في غالبيتها لم يتم التركيز فيها على مرحلة نشأة الظاهرة والظرفية التاريخية والاجتماعية المقارنة لها في دراسة جامعة مستقلة، يُسلط الضوء فيها على تلك العوامل. فإذ لم تظهر أسباب ظهورها وعوامل استمراريتها، بقيت إرهاصات الدواء بعيدة عن متناول العديد من تلك الدراسات.

إن غياب مفهوم وضرورة التركيز على دور الظرفية الاجتماعية والتاريخية في مسألة التقليد وغيرها، يسوق إلى الارتماء في أروقة النزعة التنظيرية عوضاً عن اللجوء إلى دراسة عميقة لواقع الظاهرة في المجتمع، ومن ثم محاولة توصيف العلاج الملائم لتجاوزها.

ومن هنا تأتى هذه الدراسة في محاولة جادة متواضعة لتقصى وتتبع طبيعة الظروف الاجتماعية والدواعي النفسية والفكرية، التي أسهمت في إرساء قواعد العقلية التقليدية، ذات الخضوع لوجهات النظر الجاهزة في الفهم والحكم والتأويل. تلك العقلية التي أرست دعائم عمليات الاجترار الفكري وتكرار الذات والدوران في فلك الآخرين دون قدرة على نقد أو تحليل واستقصاء باعتبارها جهودا بشرية غير معصومة، يجرى في حقها الخطأ والصواب.

لقد بدأ داء التقليد بالاستشراء في منتصف القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، حين تعرضت الأمة لمختلف العوامل السياسية والفكرية والاجتماعية التي تركت آثارها البليغة وبصماتها العميقة في مختلف مظاهر الحياة. فتوقف النشاط الاجتهادي، وتمحور العمل والتأليف والتصنيف حول آراء أئمة المذاهب الأربعة وغيرهم من العلماء السابقين رحمهم الله. وأصبح فقه السابقين - رحمهم الله - مرتكزا لكل رأى فلا يكاد يحيد عن دائرته أحد.

وعلى هذا تتناول الدراسة ظاهرة التقليد في أثناء تلك الحقبة الزمنية الممتدة منذ القرن الرابع الهجرى إلى القرن الثاني عشر تقريبا، نظرا لتشابه وتداخل الظروف والعوامل خلال تلك الفترة على وجه التحديد.

وتنتهج الدراسة في سبيل الوصول إلى تحليل تلك العوامل والغور في تداعياتها، منهجا متعدد الاتجاهات. فلا تقوم الدراسة على منهج أحادي النظرة، يعتمد النظرة الأصولية والفقهية للمفهوم فحسب، بل يتسع المنهج لاستدعاء مختلف الجوانب الاجتماعية والنفسية والتاريخية بغية الكشف عن جذور تلك الظاهرة ودواعي انتشارها واستمراريتها.

ومن أبرز النتائج التي أسفرت عنها هذه الدراسة، أن للتقليد وجها اجتماعيا ونفسيا عميقا، ظهر ضمن أجواء تاريخية مؤدلجة، وأن كل أشكال التقليد والتبعية الفكرية وليدة ذلك المعنى المتراكم للتقليد في الذهنية المسلمة. فالتقليد مسألة أساسية تمس معنى الإنسان وقيمه ونفسيته وبرامج تعليمه وعلاقاته وأوضاعه في مجتمعه.

كما كشفت الدراسة عن أهمية توظيف الظرفية الاجتماعية والوقوف عليها في الإحاطة بمختلف الظواهر وليس ظاهرة التقليد فحسب. وعليه فالدراسة توصى بأهمية البحث في الأسباب التاريخية والاجتماعية والعلمية والسياسية السائدة إبان تناول العديد من الظواهر في تاريخنا الإسلامي في القديم والحديث.

التقليد في اللغة:

ق ل د القلادة التي في العنق، وقلده فتقلد، ومنه التقليد في الدين، وتقليد الولاة الأعمال، وتقليد البدنة أن يعلق في عنقها شيء ليعلم أنها هدى2. وجاء في التعريفات: أن التقليد عبارة عن اتباع الإنسان غيره فيما يقول أو يفعل معتقدا للحقيقة فيه من غير نظر وتأمل في الدليل، كأن هذا المتبع جعل قول الغير أو فعله قلادة في عنقه، فهو قبول قول الغير بلا حجة ولا دليل3.

التقليد في الاصطلاح:

فيتضح من عبارات الأصوليين حول التقليد وحكمه، أن الغالب في تعريفه في عرف المتقدمين من الأصوليين والفقهاء: الأخذ بقول الغير مع عدم معرفة دليله. أو هو العمل بقول الغير من غير حجة4.

بيد أن هذا التعريف لم يسلم من اعتراضات عدد من العلماء، ومنهم إمام الحرمين الجويني (٤٧٨هـ) رحمه الله وغيره. فقد أوضح في كتابه الاجتهاد، أن هذا التعريف لا يُعد تقليدا بالمفهوم العام الدارج تناوله لدى العلماء، من حيث إن تقليد العالم وقوله حجة في حق من سأله واستفتاه، فيخرج بذلك من مفهوم التقليد ودائرته. يقول في ذلك: «... ذلك ليس بتقليد أصلاً فإن قول العالم حجة في حق المستفتى؛ إذ الرب تعالى وجل نصب قول العالم علما في حق العامي، وأوجب عليه العمل به، كما أوجب على العالم العمل بموجب اجتهاده، واجتهاده علم على علمه، وقوله علم على المستفتي، ويخرج لك من هذا الأصل أنه لا يتصور على ما نرتضيه رحمة (يعني بها التقليد) مباح في الشريعة، لا في أصول الدين ولا في فروعه؛ إذ التقليد هو الاتباع الذي لم يقم به حجة ..»5

كما أورد أبو المظفر السمعاني (٤٨٩هـ) قول بعض العلماء أن رجوع العامي إلى قول العالم ليس بتقليد أيضًا؛ لأنه لابد له من نوع اجتهاد، فلا يكون تقليدا6، ونقل قول الإمام الشافعي (٥٠هـ) رحمه الله في بعض المواضع أنه لا يجوز رحمة7 أحد سوى الرسول ﷺ، ولكنه علق على ذلك بأن هذا مذكور على طريق التوسع لا على طريق الحقيقة8.

وقد نقل القاضي في التقريب الإجماع على أن الأخذ بقول النبي ﷺ، والراجع إليه ليس بمقلد، بل هو صائر إلى دليل وعلم يقين. كما ذكر إمام الحرمين أن الاختلاف الواقع في هذه المسألة، اختلاف في عبارة يهون موقعها9.

ومن هنا قام عدد من الأصوليين بوضع قيود لتعريف التقليد وذلك لمنع إدخال ما ليس داخل في مفهوم التقليد. وقد ساق الشوكاني تلك التعاريف التي مفادها أن التقليد: قبول رأى من لا تقوم به الحجة بلا حجة. فيخرج العمل بقول الرسول ﷺ، والعمل بالاجماع، ورجوع العامي إلى المفتى، ورجوع القاضي إلى شهدة العدول فإنها قد قامت الحجة في ذلك10.

وقد اتخذ التقليد مسارا أكثر محدودية من ذلك المفهوم، عندما بات يُطلق عند المتأخرين من العلماء ويراد به: اتخاذ أقوال رجل بعينه بمنزلة نصوص الشارع لا يلتفت إلى قول سواه، بل ولا إلى نصوص الشارع، إلا إذا وافقت نصوص قول من اتبعه.

يقول أبو شامة المقدسي (٦٦٥هـ) في ذلك: «اشتهر في آخر الزمان على مذهب الشافعي تصانيف الشيخين أبي إسحاق الشيرازي وأبي حامد الغزالي، فأكب الناس على الاشتغال بها وكثر المتعصبون لهما، حتى صار المتبحر المرتفع، يرى أن نصوصهما كنصوص الكتاب والسنة لا يرى الخروج عنها وإن أخبر بنصوص غيرهما من أئمة مذهبه بخلاف ذلك لم يلتفت إليها ...»11

ويقول ابن قيم الجوزية (٧٥١هـ) رحمه الله بعد أن ساق هذا المفهوم المحدد للتقليد: «فهذا هو التقليد الذي أجمعت الأمة على أنه محرم في دين الله، و لم يظهر في الأمة إلا بعد انقراض القرون الفاضلة»12. ويقول في موضع آخر من كتابه مؤكدا على ورود التقليد بهذا المعنى والمفهوم: «ما حدث في الإسلام بعد انقضاء القرون الفاضلة في القرن الرابع المذموم على لسان رسول الله ﷺ ، من نصب رجل واحد وجعل فتاويه بمنزلة نصوص الشارع بل تقديمها عليه وتقديم قوله على أقوال من جاء بعد رسول الله ﷺ من جميع علماء أمته والاكتفاء بتقليده عن تلقى الأحكام من كتاب الله وسنة رسوله وأقوال الصحابة»13.

وأوضح هذا المعنى الشوكاني (١٢٥٥هـ) حيث يقول: «من أعجب الغفلة وأعظم الذهول عن الحق اختيار المقلدة لآراء الرجال مع وجود كتاب الله ووجود سنة رسوله ووجود من يأخذونهما عنه ووجود آلة الفهم لديهم وملكة العقل عندهم»14. فهؤلاء المقلدة من أهل الإسلام استبدلوا بكتاب الله وبسنة رسوله كتابا قد دونت فيه اجتهادات عالم من علماء الإسلام15.

ويقول في موضع آخر: «التقليد والانتساب إلى عالم من العلماء دون غيره والتقيد بجميع ما جاء به من رواية ورأى، وإهمال ما عداه من أعظم ما حدث في هذه الملة الإسلامية من البدع المضلة والفواقر الموحشة»16.

وليس ثمة تناقض أو تضارب في تعريف العلماء للتقليد. فالمصطلحات على وجه العموم قابلة للتغير والتبدل والتطور حسب وضع اللغة وعرف الاستعمال، وهو أمر لا مندوحة عنه، فالمفاهيم والمصطلحات تمر بجملة تغيرات تسوق إلى نوع من التخصيص والتحديد فيها.

ومما يؤكد مسلك العلماء المتأخرين في تعريف التقليد، عباراتهم التي حملوا فيها على التقليد وحاربوه بشدة وذهبوا إلى عدم جوازه مطلقا، في حين أن المتقدمين منهم تعرضوا للتفرقة والتمييز بين التقليد في الفروع عن العقائد والأصول باعتبار تعريفهم له في زمانهم وليس باعتبار ما يستجد فيما بعد وتحدد عند المتأخرين.

والمراد بالتقليد في هذه الدراسة، التقليد في عرف المتأخرين وهو المشار إليه والمستنبط من كتابات ابن القيم والشوكاني وغيرهما من العلماء الذين حملوا على التقليد والمقلدة. وقراءة أعمال ابن القيم والشوكاني والصنعاني رحمهم الله وغيرهم، تؤكد ارتباط ذلك المفهوم بهذا المسمى الخاص.

حكم التقليد في الكتابات الأصولية:

قبل المضى في استقصاء وتتبع حكم التقليد في كتابات العلماء، لابد من التأكيد على جملة أمور منها: أن شيوع التقليد بالمعنى الذي تتبناه الدراسة - لا يعني بالضرورة خلو العصور المختلفة والحقب الزمنية المتعددة من المجتهدين مطلقا، فقد ظهر العديد من العلماء الذين خالفوا المنهج التقليدي وحملوا عليه وحاربوه في كتاباتهم ومؤلفاتهم المختلفة، ولكنه يعنى سيادة التقليد وغلبة تياره. كما أن التقليد لا يحدث فجأة أو عبر فترات زمنية قصيرة، وإنما تتجمع وتتضافر روافده خلال أزمنة تاريخية طويلة. هذا إلى أن التقليد لا ينفرد بظهوره وشيوعه عامل واحد، وإنما هو وليد جملة من العوامل المتداخلة بعضها مع بعض لدرجة يصعب في كثير من الأحيان، فك الارتباط بينها لتتبع مديات تأثير كل منها على حدة. فظاهرة التقليد تتشكل على مهل وتتضافر المؤثرات الاجتماعية والنفسية والسياسية المختلفة في صياغتها واستمراريتها.

وعلى هذا، فالنظرة الأحادية لتفسير هذه الظاهرة أو محاولة ردها إلى عامل ومؤثر واحد، أمر ينبغي تجاوزه والاستعاضة عنه بمحاولة تقديم نظرة شمولية تعنى باستقصاء وتتبع مختلف العوامل والمؤثرات. كما أن التقليد كظاهرة لا يرتبط بمرحلة تاريخية معينة، وإنما تبرز هذه الظاهرة كلما تجددت تداعياتها ومسبباتها.

وقد تعرض المتقدمون من الأصوليين للبحث في حكم التقليد بمفهومه لديهم آنذاك، وعلى هذا ذهبوا إلى التفريق والتمييز في الحكم عليه في المسائل المختلفة. أما التقليد الذي تتبنى الدراسة مفهومه، فلا خلاف في منعه17.

واختلافهم في حكم التقليد إنما كان منحصرا في الأحكام الشرعية العملية أو الفروع. فجمهور الأصوليين على أن التقليد فيها جائز، لأن المجتهد فيها إما مصيب وإما مخطئ مثاب غیر آثم، فجاز التقليد فيها. فتكليف العوام رتبة الاجتهاد يؤدى إلى تعطيل الحرف والصنائع والمصالح المختلفة. وحرمه عدد من العلماء من أمثال ابن عبد البر وابن قيم الجوزية والشوكاني وغيرهم18.

وقد ذهب عدد من العلماء والمجتهدين في مختلف العصور إلى تحريم وإبطال التقليد - بالمعنى الذي تتبناه هذه الدراسة - لما له من آثار وخيمة على الفرد والمجتمع والمسار الفكرى لهما، فهو تكريس لمعنى التبعية المطلقة الذي نهى عنه الإسلام، إضافة لما لهذه الظاهرة من أثر في تعطيل قوى العقل وقدراته على الاجتهاد والابتكار والتجدد والعطاء.

وقد انطلق هؤلاء العلماء في منعهم المسار التقليد من خلال فهمهم للنصوص القرآنية المتضافرة على المنع منه. ومن هذه النصوص ما يلي:

  • قوله تعالى ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ﴾ [البقرة : ١٦٥]. يقول القرطبي في تفسيره : « وفي هذا دليل على الأمر باستعمال حجج العقول وإبطال التقليد .. »19
  • قوله تعالى : ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ وَآبَاءَنَا﴾ [المائدة: ١٠٤]. يقول الشوكاني في تفسيرها : « وفي ذلك دليل على قبح التقليد والمنع منه والبحث في ذلك المطلوب»20.

وقد أفرد الشوكاني مؤلفاً مستقلاً أسماء: «القول المفيد في حكم التقليد» للبحث في التقليد والتأكيد على إبطاله ومنعه.

  • قوله تعالى : ﴿وَاتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [التوبة : ٣١]. يقول الشوكاني رحمه الله : « وفي هذه الآية ما يزجر من كان له قلب أو وهو شهيد عن التقليد في دين الله وتاثير ما يقوله الأسلاف على ما في الكتاب العزيز والسنة المطهرة، فإن طاعة المتمذهب لمن يقتدى بقوله ويستن بسنته من علماء هذه الأمة مع مخالفته لما جاءت به النصوص وقامت به حجج الله وبراهينه ونطقت به كتبه وأنبياؤه هو كاتخاذ اليهود والنصاري للأخبار والرهبان أربابا من دون الله للقطع بأنهم لم يعبدوهم بل أطاعوهم وحرموا ما حرموا وحللوا ما حللوا، وهذا هو صنيع المقلدين من هذه الأمة»21.
  • ساق الشوكاني رحمه الله العديد من النصوص القرآنية التي تبين نهج القرآن الكريم في ذم تقليد الآباء والرؤساء، مؤكدا أن العلماء احتجوا ببعض الآيات التي وردت في سياق توبيخ الكافرين والمشركين على تقليدهم للآباء والأسلاف، إلا أن كفر أولئك لا يمنع من الاحتجاج بها؛ فالتشبيه لم يقع من جهة كفر أحدهما وإيمان الآخر، وإنما وقع التشبيه بين المقلدين بغير حجة للمقلد، كما لو قلد رجلاً فكفر، وقلد آخر فأذنب، وقلد آخر في مسألة فأخطأ وجهها، كان كل واحد ملوما على التقليد بغير حجة؛ لأن كل ذلك تقليد يشبه بعضه بعضا وإن اختلفت الآثام فيه22.

  • ما ورد عن عمر رضي الله عنه حيث يقول: « إن حديثكم شــــــــــر الحديث، إن كلامكم شر الكلام، فإنكم قد حدثتم الناس حتى قيل: قال فلان وقال فلان، ويترك كتاب الله، من كان منكم قائما فليقم بكتاب الله وإلا فليجلس ». فهذا قول عمر لأفضل قرن على وجــــــه الأرض، فكيف لو أدرك ما أصبحنا فيه من ترك كتاب الله لقول فلان وفلان»23.

  • وقال ابن حزم بالإجماع على النهي عن التقليد. ونقل عن مالك أنه قال: « أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي، فما وافق الكتاب والسنة فخذوا به، وما لم يوافق فاتركوه »، وكذلك الشافعي وأبو حنيفة. فالمنع من التقليد إن لم يكن إجماعا فهو مذهب الجمهور24.

وقد استدل العلماء ببعض الأدلة العقلية لرد التقليد والنهي عنه. ومن ذلك احتجاج المقلد بعدم العلم والإحاطة بتأويل كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، في حين أن العالم الذي يقلده قد علم ذلك، وهذا في حقيقته ضرب من التبرير غير المسوغ له، فهم يحاولون تبرير تقليدهم وعجزهم عن النظر والبحث وبذل الجهد، بهذا القول، والأمر أن العلماء اختلفوا فيما بينهم ولم يجتمعوا على شيء من التأويل، فلو اجتمعوا لكان هذا هو الحق، فلا مسوغ لاتباع بعضهم دون البعض الآخر وكلهم عالم25.

  • نهى الأئمة الأربعة عن تقليدهم وذموا من أخذ أقوالهم بغير علم بالحجة. يقول ابن القيم رحمه الله في هذا السياق: « والأئمة الأربعة منعوا الناس عن تقليدهم، ولم يوجب الله سبحانه وتعالى على أحد تقليد أحد من الصحابة والتابعين الذين هم قدوة الأمة وأئمتها وسلفها، فضلاً عن المجتهدين وآحاد أهل العلم. بل الواجب على الكل اتباع ما جاء به الكتاب والسنة المطهرة، وإنما احتيج إلى تقليد المجتهدين لكون الأحاديث والأخبار الصحيحة لم تدون، ولكن الآن بحمد الله تعالى قد دون أهل المعرفة بالسنن علم حديث رسول الله ﷺ، وأغنوا الناس عن غيره، فلا حيا الله عبدا قلد و لم يتبع ولم يعرف قدر السنة وحمد على التقليد»26.

وقد أفاض ابن القيم رحمه الله في الرد على المقلدين وذم التقليد في كتابه: «إعلام الموقعين عن رب العالمين» في مواضع متفرقة لا سيما في فصل خاص عقده بعنوان: « في عقد مجلس مناظرة بين مقلد وبين صاحب حجة منقاد للحق حيث كان ». وبلغت أوجه إبطال التقليد أكثر من ثمانين وجها.

والمتأمل في الكتابات الأصولية عند المتقدمين من العلماء، يلحظ عدم تعرضهم للتقليد وحكمه بهذا المفهوم، وهو أمر له ما يبرره؛ فالتقليد بهذا المفهوم وبالتداعيات التي صاحبته، لم يظهر إلا في مرحلة متأخرة (كما يظهر ذلك من كتابات المتأخرين) وعلى هذا يفهم عدم تعرضهم للحديث عن تحريمه أو منعه أو ما شابهه من أدلة على ذلك. فإذ لم يظهر المفهوم بتلك المحدودية، لم يكن ثمة حاجة لتناوله أو دراسته.

فالدراسات الأصولية والفقهية كانت في عصورهم، انعكاسا لواقعهم ومرآة لمجتمعاتهم وظواهرها، وليست ضربا من الافتراض أو التوقع، بل صديات الواقع ومفرزاته.

جذور التقليد ونشأته التاريخية في الفكر الإسلامي:

لعل من نافلة القول التأكيد على أن التقليد كظاهرة فكرية اجتماعية لا يُراد بها التقليد المطلق أو التبعية التامة العامة الشاملة للكل. فقد بقيت المجتمعات المسلمة وفي مختلف الفترات والحقب الزمنية المتعاقبة، تنجب في ثنايا محنها الفكرية، علماء ومجتهدين خرجوا على سبيل التقليد الجارف ومنحاه العام. بيد أن السمة الغالبة والتيار السائد في المجتمع، كان ينحى التقليد منهجا وسبيلاً. ولم يأت ذلك المنحى وليد يومه وساعته، بل تمخض عن عوامل عديدة، وتداخلت في صياغته جملة ظروف ووقائع، تضافرت جميعها وعلى مدى فترات زمنية امتدت في تاريخ الأمة.

لقد كانت العقلية المسلمة في العصور الخيرية الأولى تنتهج نهجا فكريا سليما في التوصل إلى العلوم والحقائق وأحكام المسائل المختلفة. فكان القرآن الكريم والسنة الصحيحة المأثورة عن النبي ﷺ، الميزان الحاكم المهيمن على كل المناهج، الضابط لها، فلا يقدم عليهما رأي أو معقول أو تقليد أو قياس27.

فبرزت العقلية الناضجة النائية عن التعصب للأشخاص، الواقفة مع الحجة والاستدلال، السائرة مع الحق أينما سارت ركائبه، المستقلة مع الصواب حيث استقلت مضاربه. تلك العقلية التي متى ما بدا لها الدليل، أخذت به وسارت على نهجه. عقلية أرسي قواعد ومناهج تفكيرها القرآن الكريم وتعاليم السنة النبوية، فجعلت منهما معيارا على المناهج المختلفة وميزانا تزن به المذاهب المتعددة. وعلى هذا لم تظهر مناهج الاستبداد بالرأى أو التعصب أو نفى التعددية الفكرية بأي شكل من الأشكال.

يقول الأمير الصنعاني (۱۱۸۲هـ) في ذلك : « لا يتصور أن إماما من الأئمة الأعلام مهما بلغ من العلم والحفظ والضبط والإتقان والفضل والوجاهة يستقل بالحكم على الشيء ويستبد برأيه ويفرضه على الآخرين فرضا»28.

وفي تلك الأجواء الحرة دخل المجتمع في حركة فقهية واجتماعية هائلة، وقام العلماء بتلبية حاجات المجتمعات من خلال اجتهاداتهم وآرائهم المتفاعلة مع الواقع ومستجداته المتزايدة، وفق منهج القرآن الكريم والسنة. فازدهرت الحركة العلمية وأينعت ثمارها في عدد من المدارس والمناهج الفكرية السائرة على نهج النبوة والرسالة، فكان العصر العباسي الأول (۱۳۲هـ - ٢٣٢هـ) عصر الإبداع في الحضارة الإسلامية: ولا نتشار وازدهار تلك الحركة العلمية الهائلة عوامل عديدة من أهمها، اهتمام الخلفاء بالعلم والعلماء، وتوجيه اهتمام خاص للمعرفة. فقاموا بتقريب العلماء وإعلاء منزلتهم في المجتمع29، وخصصوا مجالس للعلم والمناظرة. ونبغ العديد من العلماء في مختلف حقول العلم والمعرفة، وظهر الأئمة المجتهدون؛ فازدهرت حركة التدوين في مختلف الفروع العلمية30.

وكان لانبساط رقعة الدولة الإسلامية ووفرة ثرواتها واستقرار اقتصادياتها، أثره البالغ في خلق تلك النهضة العلمية الثقافية، التي لم يشهدها الشرق بأسره من قبل، حتى بدا الناس جميعا في تلك الأجواء طلابا للعلم وأنصارا له31.

وكان الجمع بين الاجتهاد في العلوم الشرعية والمسائل الفقهية والإبداع في العلوم الطبيعية، ديدنا للعلماء وطلبة العلم. فكان النجاح الذي حققه المسلمون في مختلف ميادين العلم والمعرفة، وأضحت الحضارة الإسلامية محصلة لتفاعل تكاملي بين دراسة العلوم الطبيعية والعلوم الشرعية دون ثمة فاصل بينهما.

وهذه الحقيقة لم يستطع إنكارها المستشرق جولد تسهير حين قال: « كذلك يصدق على القرآن ما قاله في الإنجيل العالم اللاهوتي التابع للكنيسة الحديثة (بيتر فيرنفلس): كل امرئ يطلب عقائده في هذا الكتاب المقدس، وكل امرئ يجد فيه على وجه الخصوص ما يطلبه»32. فعالم الطبيعة والفيزياء في معمله، وعالم الشريعة في مسائله وفتاويه .. كلهم يجد في القرآن الكريم مبتغاه.

وكذلك المستشرق (هورتن) أستاذ فقه اللغات السامية بجامعة بون الذي أدرك قدرة المسلمين على التلاقح الفكري والانفتاح على حضارات وثقافات الأمم الأخرى مع المقدرة على إبقاء تعاليم القرآن الكريم والسنة مهيمنة، قاضية حاكمة على ذلك كله في نسق معرفي نادر المثال. يقول في ذلك: «إن روح الإسلام رحبة فسيحة بحيث إنها لا تكاد لا تعرف الحدود، وقد تمثلت كل ما أمكنها الحصول عليه من أفكار الأمم المحاورة، فيما عدا الأفكار الملحدة، ثم أضفت عليها طابع تطورها الخاص»33.

وبهذا أصبح الفقه من أعظم العلوم التي شهدت تضخماً هائلاً في البحث والتقنين خلال القرون الخيرية. وامتص الفقه من الطاقات الفكرية ما بلغ به لتكوين ما لا يقل عن تسع عشرة مدرسة فقهية منذ حوالى منتصف القرن الأول إلى أوائل القرن الرابع الهجري34. يقول المقدسي (٦٦٥هـ) في ذلك: «وكانت تلك الأزمنة مملوءة بالمجتهدين، فكل صنف على ما رأى، وتعقب بعضهم بعضا مستمدين من الأصلين الكتاب والسنة وترجيح الراجح من أقوال السلف المختلفة بغير هوى، ولم يزل الأمر على ما وصفت إلى أن استقرت إذنه المدونة»35.

بيد أن رياح التغيير بدأت تهب على المجتمع المسلم شيئًا فشيئًا، ولعبت الفتن والتقلبات السياسية والتغيرات الاجتماعية دورها في فسح المجال أمام عدد من الأمراض الاجتماعية والفكرية في المجتمع، ومال الناس إلى الانصراف التام إلى الدنيا والانشغال الكامل بلذاتها المادية، وتفننوا في ضروب الاستمتاع بها حتى سرت روح العبث والمجون بين العديد من أفراد وطبقات المجتمع.

وهذه المرحلة التي وصل إليها المجتمع هي التي أشار إليها ابن خلدون في مقدمته وأطلق عليها مصطلح طور الفراغ والدعة لتحصيل ثمرات الملك مما تنزع طبائع البشر إليه، فإذا فسد الإنسان في قدرته على أخلاقه ودينه فقد فسدت إنسانيته وصار مسخا على الحقيقة36.

وأسهمت الانشطارات السياسية والجغرافية التي بعثرت دولة الخلافة ونثرتها دويلات مجزئة، في تسريع سريان وتغلغل تلك الأدواء إلى المجتمع بشكل واسع النطاق.

كما ساهمت حركات الشعوبية التي بدأت بالتغلغل والانتشار في العصر العباسي في ظهور وتفاقم مختلف الأمراض الاجتماعية والفكرية، حاملة معها مظاهر من الانحسار الأخلاقي والزندقة، المغايرة لكل القيم والسلوكيات والمظاهر الأخلاقية التي نشأ المجتمع عليها37.

وبرزت ردود الفعل العنيفة من قبل العلماء والعامة من الناس تجاه تلك المظاهر والمؤشرات الواضحة على الفساد الأخلاقي في المجتمع، تجسدت في عدد من مواقف المواجهة بين العلماء وأصحاب السلطة والحكام. فحارب عدد من العلماء تلك المظاهر محاربة عنيفة، تظهر جلية في كتاباتهم المتعددة حول مظاهر اجتماعية وأمراض فكرية ونزعات شكية، ما عرفها المجتمع المسلم من ذي قبل، إلا أنها كانت صديات تفاعل مع واقعهم آنذاك، ومرآة صادقة تعكس حجم التحديات التي تصدوا لمواجهتها38.

وتضافرت تلك العوامل قاطبة لتنعكس آثارها السلبية على أجواء الحركة العلمية والثقافية، محدثة هوة سحيقة ازدادت بمرور الأيام وتعاقب الأجيال، بين القيادة السياسية والفكرية في المجتمع المسلم. فسرى الولوع بالنظر التجريدي والتأملات العقلية والقياس المنطقي، وأهملت المظاهر العلمية التي اتسمت بها العصور السالفة معلنة بداية الشلل في الحياة العلمية والاقتصادية والاجتماعية على حد سواء. ووصلت المحنة إلى أوجها بالاكتساح المغولي لبغداد وهدم عاصمة الخلافة الإسلامية عام ٦٥٦هـ.

وعلى الرغم من بروز عدد من العقليات الاجتهادية في ثنايا تلك العصور والمحن، والتي رفضت العكوف على التقليد والاستمرار في عمليات الاجترار الفكري، إلا أنها بقيت آثارا ذائبة في نسيج التقليد الهائل39.

وتضافرت تلك العوامل لتتمخض عن عقلية منكفئة على الذات، تروم الاحتماء وراء جدران التقليد لتبقى على البقية الباقية من تراثها المهدد بالتآكل ومحو الهوية. واتخذت العقلية المسلمة طريق الاستصحاب والتكرار لمختلف الموضوعات والمسائل التي تناولها العلماء السابقون، فأبعدت عن الواقع وبدأت التحرك ضمن فضاء التنظير والتجريد والفرضيات.

ولعبت العوامل السياسية والاجتماعية والفكرية الآنفة الذكر، دورها في تعزيز النفسية القابلة للانكفاء على القديم، فاشرأبت رءوس عقليات خالفت النهج الاجتهادي وانحرفت عنه، ورأت في محض التقليد، نهجا جديرا بالاتباع، حتى غدا التقليد والتعصب ديدنا للكثيرين، وأصبح ظاهرة تحدث عن خطبها العلماء، وصارع آفاتها العقلاء40.

ويذهب لفيف من العلماء إلى أن بدعة التقليد حدثت في القرن الرابع الهجرى على وجه التعيين، وهو ذات الوقت الذي أعلن فيه بعض العلماء سد باب الاجتهاد41. يقول الصنعاني (۱۱۸۲هـ) رحمه الله في كتابه «إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد»: « كان الفقه الإسلامي في القرون المشهود لها بالخير في ازدهار مستمر ونمو متواصل وتقدم دائم وكانت اجتهادات الأئمة بين الأخذ والعطاء والرد والقبول حتى في أوساط أصحابهم إلى أن فشا التقليد في نصف القرن الرابع، وبدأ التعصب المذهبي يبيض ويفرخ، ولم يأت قرن بعد ذلك إلا وهو أكثر فتنة وأوفر تقليدا وأشد انتزاعا للأمانة من صدور الرجال حتى اطمأنوا بترك الخوض في أمر الدين، وبأن يقولوا: إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون»42.

وقد استمرت ظاهرة التقليد بكل تداعياتها السلبية على مدى قرون طويلة، ولا تزال العقلية المسلمة تعاني من أشكال التبعية والتقليد إلى يومنا هذا، وإن بدا خمود حدة تلك الظاهرة من وقت لآخر، وتباينت تداعياتها ومسبباتها43.

وتحدث عدد من العلماء والمؤرخين في كتاباتهم عن الآفات التي تعرضت لها الأمة من جراء التقليد والتعصب، وحفظت كتب التاريخ والتراجم44 العديد من الفتن والمحن، وبلغ التعصب حد القتل والتخريب والنهب والسلب بين أتباع المذاهب المتعصبين لأقوال مذاهبهم وأئمتها.

يقول الصنعاني رحمه الله في ذلك : « من المؤسف المحزن المخزى أن الجذوة التقليدية الجائرة لم تخمد حتى الآن في أوساط أتباع إذنه في كثير من البلدان ولو كان الأمر بأيديهم لأخذوا الجزية من أتباع إذنه الأخرى، كما قال محمد بن موسى البلاساغوني المبتدع قاضي دمشق المتوفى ٥٠٦هـ ، لو كان لي أمر لأخذت الجزية من الشافعية. يتقطع القلب حزنا وأسى على رضاهم عن تلك الداهية الدهياء والمصيبة الصماء التي شتتت شمل الأمة أسوأ تشتيت في الماضى وتمزقها في المستقبل شر ممزق»45.

وهكذا ورثت المجتمعات المسلمة على اختلاف أزمنتها وحقبها التاريخية موروثات التقليد وآفاته إلى جانب مخلفات العصور التي مرت بها بكل معاناتها وإفرازاتها السياسية والفكرية وتراكماتها المتدهورة، فساد الجمود الفكري والركود وشاع لبوس التقليد والتعصب.

وبات التقليد وهو من أخطر البدع، منهجا سائدا وتيارا مألوفًا غالبا46. فعكف الفقهاء على التلفيق والتجميع ولم تخرج جل محاولاتهم عن مسار التقليد والركود الفكري. وأصبحت التراكمات الظرفية والتاريخية والسياسية صدفة متحجرة تحجب جوهر الدين وتعاليمه النقية.

دواعي التقليد الاجتماعية:

لم تنفرد عوامل محددة في تشكيل وتكريس ظاهرة التقليد، بل تضافرت العديد منها في صياغة تلك الظاهرة وانتشار آفاتها. وتعد العوامل الاجتماعية من أولى وأهم تلك الدواعي لظهور التقليد وانتشاره.

فالبنية الاجتماعية تعد المحضن الأول والأهم للشخصية الفردية. فمهما تكن المعية الشخصية وعبقريتها العقلية، إلا أنها تبقى ضمن إطار بنية المجتمع. ولا يعنى ذلك التقليل من قيمة الدور الذي يلعبه الأفراد من المجتهدين والأئمة والشخصيات الكبرى في التاريخ، ولكن ذلك كله يبقى ضمن البنية الاجتماعية. كما أن ذلك لا يعنى أن المجتمع يمتص الفرد كلية ويحدد سلوكه بفرض قوة الإلزام للمجتمع، فالإنسان هو الكائن الحي الوحيد الذي يتأثر ويؤثر اجتماعيا في الوقت ذاته47، وتأثير الوسط الاجتماعي والبيئة على الأفراد أمر معلوم، فالأفراد على وجه العموم مادة قابلة للتشكل حسب الأوضاع السائدة في كل مجتمع.

ويجمع علماء النفس والاجتماع على أن الكائن البشرى مدني بطبعه، أي خاضع للتأثير العام لجو المجتمع، كما أنه في نزوع دائم للاتصال بالجماعة بطبيعة تكوينه لإشباع الحاجات الفطرية الطبيعية التي جبل عليها الإنسان48.

ومن هنا قام علماء النفس بتفسير ظاهرة تولد وانتشار أبعد الأساطير والأقاصيص عن الصواب في الجماعات المختلفة، فوجدوا أن فرط استعداد الفرد للتلقن من مجتمعه وبيئته، وتأثره الشديد بذلك التلقى يكمن وراء ذلك الانتشار. فالحياة البشرية تقوم على المحاكاة والتقليد، وبهذا تستمر الأجيال في كل الأمم، تتوارث العقائد والتصورات والقيم والعادات وأنماط التفكير وصيغ السلوك مهما بلغت من درجة الخطأ أو الصواب، ومن هنا كان سلطان التقاليد على الجماعات لا ينكر49.

أما الإدراك الموضوعي فهو حالات استثنائية لا يصل إليها سوى عدد محدود جدا من الناس، وهؤلاء القلة هم مصدر التجدد والتطور والارتقاء والانبثاق الحضاري وبدونهم تبقى التقاليد الكليلة رازحة وحائمة50.

كما أن البنى الاجتماعية غالبا ما تعطى الشعور بالولاء للأفكار الأسبق والأول تسربا للعقول والأذهان من الناحية التاريخية. فالعقل البشري قياده للأسبق من المعلومات ويتشكل بالانطباعات الأولى غالبا.

وهذا يفسر لنا دوافع استمرارية التقليد كمنهج فكرى لدى أفراد المجتمع وتناقله جيلا بعد جيل، رغم كل ما يحمله من آفات وأضرار لا تخفى. وقد عبر الغزالي (٥٠٥هـ) رحمه الله عن هذا الولاء للأسبق في سياق حديثه عن موانع العلم والحق بقوله: « .. المطيع القاهر لشهواته المتجرد الفكر في حقيقة من الحقائق قد لا ينكشف له ذلك (أي الحق) لكونه محجوبا عنه باعتقاد سبق إليه منذ الصبا على سبيل التقليد والقبول بحسن الظن، فإن ذلك يحول بينه وبين حقيقة الحق، ويمنع من أن ينكشف في قلبه خلاف ما تلقفه من ظاهر التقليد، وهذا أيضا حجاب عظيم، به حجب أكثر المتكلمين والمتعصبين للمذاهب، بل أكثر الصالحين المتفكرين في ملكوت السماوات والأرض لأنهم محجوبون باعتقادات تقليدية جمدت في نفوسهم ورسخت في قلوبهم وصارت حجابًا بينهم وبين درك الحقائق»51.

وتبقى المعلومات الأسبق أكثر سيطرة على العقول، وما تتطلبه لتخرج من تلك العقول زمنا طويلاً. وعلى هذا يُفسر تأخر الجماعات عن العلماء والفلاسفة عدة أجيال في ميدان الأفكار52. يقول بيار مانوني في هذا السياق: « الأحكام المسبقة والمقولبات تتوسط هي أيضا الحياة الاجتماعية، فكلاهما تعابير عن أفكار يقر بها الأفراد انتماءهم لرتبة ما وانتسابهم الضمني لأحكام تجرى في الجماعة التي هي مرجعهم.. وهي تمثل المحتوى النفسي التي يدين بها هذا الفرد لأفكار الآخرين والتي غالبا ما يرثها رغما عنه»53. ويؤكد مانوني أن المعلومات والأحكام المسبقة أو المقولبات تقوم مقام اسمنت اجتماعي يحول دون التوصل إلى الجديد الذي قد يحمل في ثناياه الكثير من الصحة والصواب والعقلانية.

والفرد يكتسب في الجماعة بفعل العدد الشعور بالقدرة على الإقدام على سلوكيات لم يكن ليفعلها وهو منفرد. وذلك من حيث زوال الشعور بالمسئولية الذي يرد جماح الأفراد على الدوام.

ويوضح هذا المعنى الفيلسوف غوستاف لوبون حيث يقول: «إن أبرز أمر في الجماعة النفسية هو أن الأفراد الذين تتألف منهم، مهما كانوا ومهما تماثلوا أو اختلفوا في طراز حياتهم وأعمالهم وأخلاقهم وعقولهم، هو أنهم إذا ما تحولوا إلى جماعة، منحتهم هذه الجماعة ضربا من الروح الجامعة، وهذه الروح الجامعة تجعلهم يشعرون ويفكرون ويسيرون على وجه يخالف ما يشعر به ويفكر فيه ويسير عليه كل واحد منهم وهو منفرد ...»54.

فالجماعة لا تسأل عن أفعالها لشيوعها بين جميع الأفراد، فلا يشعر الواحد منهم بما قد يجره العمل عليه من التبعة، وهذا هو الزاجر للنفوس عما لا ينبغي55. فلو كان الفرد بمعزل عن جماعته في اتخاذ موقف معين، لراجع نفسه فيما يفعل ولأحجم بشدة عما يفعله وهو منساق مع التيار العام، ومرجع ذلك كله ضعف شعور الفرد بمسئوليته، فهو فرد في جمع حاشد من الناس56.

وعلى هذا يتولد الشعور بالتخوف لدى الأفراد من الخروج على هذا التيار العام أو مواجهته، وما يتبع ذلك من تألب العامة. وقد أسهم هذا الشعور في خلق حالة من الذعر في نفوس من يحاول التصدي لتيار التقليد السائد، ذلك الخوف الذي حدا بالكثيرين من أئمة المذاهب المجتهدين إلى السكوت على نسبتهم إلى مذهب من المذاهب، على الرغم من أنهم كانوا مجتهدين لا مقلدين، وما ذلك إلا بسبب ازدياد الضغط النفسي الآتي من قبل العوام عليهم.

ويعبر القنوجي (١٣٠٧هـ) عن تلك الحالة بقوله: « وقد تعصب أصحاب الطبقات المذهبية في تعداد أهل نحلتهم، حيث أدخلوا فيها من ليس منهم، وغالب أئمة المذاهب ليسوا بمقلدين وإن انتسبوا إلى بعضهم بل هم مجتهدون مختارون لهم أحسن الأقوال وأحق الأحكام وبعد النظر والاجتهاد، فعدهم في زمرة المقلدة بأدنى شركة في العلم ليس من الإنصاف في شيء، وإنما خافوا فتنة العوام في ادعاء الاجتهاد أو عدم الاعتداد بالتقليد، فصبروا على نسبتهم إلى مذهب من تلك المذاهب»57.

وقد عبر الشوكاني رحمه الله عن تلك الحالة الرهيبة من الخوف والذعر، الذي يلحق بمن حاول الخروج على تيار التقليد السائد بقوله: «وأما في هذه الأزمنة فقد أدركنا منهم من هو أشد تعصبا من غيرهم، فإنهم إذا سمعوا برجل يدعى الاجتهاد ويأخذ دينه من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، قاموا عليه قياما تبكى عليه عيون الإسلام واستحلوا منه ما لا يستحلونه من أهل الذمة من الطعن واللعن والتفسيق والتنكير والهجم عليه إلى دياره، ورجمه بالأحجار والاستظهار، وتهتك حرمته، وتعلم يقينا لولا ضبطهم سوط هيبة الخلافة أعز الله أركانها وشيد سلطانها لاستحلوا إراقة دماء العلماء المنتمين إلى الكتاب والسنة وفعلوا بهم ما لا يفعلونه بأهل الذمة، وقد شاهدنا من هذا ما لا يتسع المقام لبسطه»58.

وهذا الداعي يفسر المواقف التي تعرض لها عدد من العلماء وصلت حد الإهانة والتنكيل من قبل العوام. ولم يكن ثمة سبب وراء ذلك كله إلا خروج هؤلاء العلماء على سيل التقليد الجارف ومنحاه العام الغالب، ولم تقف معاناة المجتهدين عند العوام فحسب، بل جاءت من قبل بعض العلماء في عصورهم ممن ارتاؤا منهج التقليد وساروا عليه. ويرى ذلك واضحا في تراجم العلماء المجتهدين وأقوال خصومهم فيهم ممن عاصروهم أو ممن جاءوا بعدهم، ولم يكن هؤلاء من جريره إلا الاجتهاد والدعوة إليه ومخالفة النهج التقليدي السائد59.

يقول الأستاذ مدكور في هذا السياق: «تهيب العلماء نقد زملائهم نتيجة الضعف الخلقي، فكان إذا طرق أحدهم باب الاجتهاد انقضوا عليه، وهاجمه فريق من هؤلاء إما بدافع الحمية الدينية المتوهمة وإما بدافع الغيرة والحقد»60.

وعلى هذا لم يتمكن كثير من المصلحين والدعاة والعلماء من الخروج عن إطار عصرهم، سواء في التصور أو المنهج أو فيهما معا. فركنوا إلى التوافق الاجتماعي بدل تغيير ما ينبغي تغييره من الأفكار والعادات المخالفة للدين والمناهج المضادة للفكر السليم. وقليل منهم من تكون له الشجاعة الكافية لتحدي العقبات التي تعترضه خارجا عن الإلف والعادة ومسايرة الرأي العام61.

ومن الأسباب التي أسهمت في تكريس ظاهرة التقليد في المجتمع كذلك، تأثير الشعور الجماعي العميق على قيام الأفراد بممارسات وسلوكيات قد لا يقدمون عليها بمفردهم. وقد تصل هذه الحالات عنفوانها وحدتها البعيدة لدرجة يطلق عليها علماء النفس: هستيريا الشعور الجماعي. وهو نوع من الهوس بالمشاركة الجماعية تنتعش من خلاله بواطن النفس فتتشكل في نوع من ردود الأفعال غير المنضبطة. وبذلك تبقى أفكار الجماعة وآراؤها العامة بعيدة عن رقابة العقل محتمية بالألفة والتكرار، في منأى عن التحليل والمراجعة. وعلى هذا بقيت ظاهرة التقليد بعيدا عن المراجعة والنقد، بعد أن باتت ظاهرة جماعية وتيارا سائدا مألوفًا.

فالمجتمعات البشرية تبقى مستمسكة بما ورثته من عادات ومظاهر وما اعتادته من اهتمامات وما درجت عليه من اتجاهات .. فالتخلى عن المألوف يشبه في عسره محاولة اقتلاع حبل من مكانه، حتى ولو كان هذا المألوف هو مصدر الشقاء، وهذا أمر تؤكده وقائع التاريخ التي لا تحصى، فلم يحصل أي انتقال من مرحلة حضارية دنيا إلى مرحلة حضارية أعلى إلا كان مصحوبا بمخاضات عسيرة متصلة، وتشهد لذلك قصص الأنبياء عليهم السلام مع أقوامهم.

وعلى هذا يقول ابن القيم معبرا عن حالة التقليد السائدة في عصره: «..المتمسك عندهم بالكتاب والسنة صاحب ظواهر، مبخوس حظه من المعقول، والمقلد للآراء المتناقضة المتعارضة والأفكار المتهافتة لديهم هو الفاضل المقبول، وأهل الكتاب والسنة المقدمون لنصوصها على غيرها جهال لديهم منقوصون»62.

دواعي التقليد الفكرية:

إن قدرة العقلية الإنسانية على الإنتاج والإبداع قدرة كبيرة هائلة، ولكن هذه القدرة أرادت لها تعاليم القرآن الكريم أن تكون مشاعة وليست قصرا على نخب علمية وعقليات عبقرية عرفها التاريخ. من هنا كانت القرون الخيرية الأولى من تاريخ الإسلام، مرآة صادقة وانعكاسا أمينا لتلك التعاليم القرآنية والإرشادات النبوية. فأسهمت أجواء تلك القرون في تحفيز النشاط العقلي والعلمي ومحاصرة الجهل بمختلف أنماطه وأشكاله. وشهدت تلك المرحلة في التاريخ إبداعات متنامية وخبرات هائلة في مختلف الميادين وفي سائر العلوم والمعارف الإنسانية، تنم عن قدرة الأمة بأسرها على العطاء والتنمية والإضافة الحضارية المتميزة وتقديم الجديد في مختلف مساقات الحياة.

ولعل المؤلفات الضخمة التي خلفها العلماء في تلك العصور في سائر العلوم والمعارف، خير شاهد ومؤشر على تلك القدرات الهائلة التي أنتجتها الأمة في تلك العصور. فقد نزل الفقه إلى ميدان الحياة فصال وجال وأضاف وأعطى، وقام بتشكيل مفردات الحياة الإسلامية في المجتمع وأنزل مطالب الشريعة إلى قلب الواقع وأعاد صياغتها وفق مقاصد الشرع وتعاليمه، ومنح للحضارة الإسلامية القدرة على التواصل والتجدد والعطاء.

فكانت المؤلفات والمصنفات الضخمة تعكس تفاعل العلماء السابقين رحمهم الله مع واقع عصورهم وأزمنتهم وقضايا مجتمعاتهم. وأسهمت الأجواء المواتية - كما أشرنا إليها سابقا - في صياغة وتكريس تلك المنهجية وتنفيذها. وانعكست حسن ملكات السابقين في التعليم والصنائع وسائر الأحوال على مؤلفاتهم الثمة عن ذكاء متقد وفكر رصين واجتهاد أصيل في نسق معرفي متكامل الجوانب.

وورثت الأجيال اللاحقة تلك المؤلفات والمصنفات المختلفة، فعكفت على دراستها وتحصيلها، وعاينت من خلال ذلك كله، قدرات السابقين الهائلة في التعايش والتجاوب مع واقعهم، حتى ظن اللاحقون أن ذلك تفاوت في الحقيقة الإنسانية بينهم وبين السابقين63.

وقد تم التعبير عن توهم ذلك التفاوت بصور مختلفة، لعل أبرزها القول بالعجز عن الاجتهاد. وتوجهت الهمم إلى فهم ما أثر عن العلماء السابقين من النصوص والقواعد في محال الأحكام، وانصرف الاهتمام إلى استظهار وحفظ تلك المصنفات والتعليقات؛ فانحصر الحوار مع تلك المصنفات والمؤلفات المدونة، دون محاولة قراءتها من خلال فتح سبل الحوار والنقاش حول ما ورد فيها، أو القيام بمراجعتها في ضوء التغيرات الحاصلة والمستجدات المتزايدة في المسائل والأحكام.

وأسهمت طبيعة الأجواء العامة والظروف السياسية والاجتماعية في تكريس ذلك كله، من خلال القيام بمحاولات تكميم الأفواه وغلق أساليب الحوار والمناظرة على نقيض ما شهدته القرون الخيرية السابقة.

ولا يخفى أثر المحاورة والمناظرة العلمية الهادفة المتسمة بمواصفات الحوار الإسلامي الهادئ، في تحفيز ملكة العلم والتعلم وشحذها وتمرينها. ويُعد فتق اللسان بالمحاورة والمناظرة في المسائل العلمية، من أيسر طرق تحصيل ملكة العلم والتعلم، فهو الذي يقرب شأنها ويحصل مرامها. ومن هنا فقد غلب على مجالس العلم والتعليم في تلك العصور على كثرتها وتنوعها، التزام الصمت والابتعاد عن المحاورة وإلغاء نهج المناظرة العلمية.

يقول ابن خلدون في توصيف تلك الحالة وآثارها على عقلية الإنسان وقابليته للتعلم : « تجد طالب العلم منهم وقد ذهبت أعمارهم في ملازمة المجالس العلمية، سكوتا لا ينطقون ولا يفاوضون، وعنايتهم بالحفظ أكثر من الحاجة فلا يحصلون على طائل من ملكة التصرف في العلم والتعليم ثم بعد تحصيل من يرى منهم أنه قد حصل، تجد ملكته قاصرة في علمه إن فاوض أو ناظر أو علم، وما أتاهم القصور إلا من قبل التعليم وانقطاع سنده، وإلا فحفظهم أبلغ من حفظ سواهم لشدة عنايتهم به، وظنهم أنه المقصود من الملكة العلمية وليس كذلك»64.

ومما تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد أهمية التمييز والتفرقة بين الحوار العلمي الهادف الذي تميزت به العصور الخيرية السالفة، وبين الجدل والخلاف الذي نشأ وانتشر في العصور اللاحقة. فلم تكن الأخيرة بقصد إظهار الحق أو اتباعه، بل للاستطالة ونيل الحظوة أمام الحكام والوزراء، فكانت المجالس تعقد لذلك أمام الوزراء والحكام بقصد التغالب والتفاخر، كما بسط حالهم الغزالي رحمه الله في آفات الجدل والمناظرة65.

وفي حديث ابن خلدون إشارة إلى أن التركيز على القدرة على الحفظ والاستظهار دون محاولة الاهتمام بتنمية باقي القدرات العقلية التي زوّد الله سبحانه بها الإنسان، أمر له من الآثار السلبية الكثير الكثير. فقد تكون لدى الإنسان القدرة على خزن المعلومات واسترجاعها، ولا تكون لديه القدرة على تحليلها أو فهمها أو تقويمها.

وعلى هذا فقد شهدت تلك العصور بدء العناية بالسرد والرواية من قبل المعلمين والوقوف عند الحفظ والاستظهار من قبل الدارسين في مختلف الميادين وخاصة ميدان الفقه والعلوم الشرعية. وقد صاحب ذلك، كثرة المؤلفات والمصنفات، كما أشار إلى ذلك ابن خلدون بقوله : «واعلم أنه مما أضر بالناس في تحصيل العلم والوقوف على غاياته كثرة التأليف واختلاف الاصطلاحات في التعليم وتعدد طرقها، تم مطالبة المتعلم والتلميذ باستحضار ذلك، وحينئذ يسلم له منصب التحصيل. فيحتاج المتعلم إلى حفظها كلها أو أكثرها ومراعاة طرقها ولا يفى عمره بما كتب في صناعة واحدة إذا تجرد لها، فيقع القصور، ولابد دون رتبة التحصيل. ويمثل ذلك من شأنه الفقه في المذهب المالكي بالكتب المدونة مثلاً وما كتب عليها من الشروحات الفقهية»66.

وهكذا انصرف الاهتمام في التعليم إلى الحفظ والاستظهار دون محاولة التعمق أو التحليل والفهم لما جاء فيها، ومن ثم محاولة القيام بقراءة نقدية لها. ولا يخفى أن الاهتمام بقدرة عقلية معينة وتنميتها والتركيز عليها مع إهمال الإنسان للقدرات الأخرى، يُعد من أهم عوامل ضمور تلك القدرات، خاصة عند انعدام استعمال تلك القوى.

وساد الركود والجمود على أقوال السابقين وآرائهم، ولم يعد للفقه أثره السابق في صياغة الحياة والتناغم مع مستجداتها ومعالجة مشاكلها وتقديم الحلول الناجعة لها، فغابت القدرة على الاجتهاد والتفاعل مع مستجدات الحياة وتنظيمها وفق منهج الكتاب والسنة.

وعلى الرغم من مساهمة عدد من العلماء بحظ وافر في محاولة تنشيط الحركة العلمية والقيام بتصنيف عدد كبير من المؤلفات، إلا أن معظمها ترواح بين البسط والشرح والاختصار مع قلة العمق والإبداع.

ويرجع ذلك كله إلى غلبة تيار التقليد على عامة العلماء، والتعصب للمذاهب السائدة في كل منطقة أو بيئة. فأغلب الفقهاء يتقيدون بمذهب إمامهم لا يكادون يخرجون عنه حتى في فروعه. وغاية جهدهم التحقيق في الأقوال الراجحة في المذهب دون الخروج على رأى إمامهم أو أقواله، لاعتقادهم بأن إمامهم يوافقه الصواب مطلقا. وعلى هذا حرموا الاجتهاد عن سواهم بحجة عدم التمكن من الوصول إلى مرتبة المجتهدين مطلقا. فكان الاجتهاد المطلق الذي ينطلق من مصادر التشريع الأصلية المتمثلة في الكتاب والسنة دون التقيد بمذهب معين، يكاد يكون منعدما.

وتم إنزال معطيات العلماء السابقين وأقوالهم على واقع الحياة لعصور لم يشهدوها، وعلى ظروف ومتغيرات لم يعاينوها، دون إدراك لما وقع من تغير في الأحوال وما يمكن أن ينجم عن ذلك من مخاطر جمة. يقول ابن خلدون في ذلك: « القياس والمحاكاة للإنسان طبيعة معروفة، ومن الغلط غير مأمونة، تخرجه مع الذهول والغفلة عن قصده، وتعوج به عن مرامه، فربما يسمع السامع كثيرا من أخبار الماضين ولا يتفطن لما وقع من تغير الأحوال وانقلابها فيجربها لأول وهلة على ما عرف، ويقيسها بما شهد، وقد يكون الفرق بينهما كثيرا فيقع في مهواة من الغلط»[^67].

وفي ظل تلك الأجواء الفكرية السائدة، ساد التقليد ونما، وانحصرت...

الحواشي

Footnotes

  1. دكتوراه في أصول الفقه، أستاذ مساعد في قسم الدراسات الإسلامية بجامعة البحرين.

  2. محمد بن أبي بكر الرازي، مختار الصحاح، ت: محمود خاطر، مكتبة لبنان ناشرون، بيروت، ١٤١٥هـ / ١٩٩٥م ، ص ٢٢٩. وانظر كذلك أحمد بن محمد الفيومي الصباح المنير، المكتبة العلمية، بيروت، بدون تاريخ، ص ۵۱۲، ۰۵۱۳.

  3. علی بن محمد الجرجاني، التعريفات، ت: إبراهيم الإبياري، دار الكتاب العربي، بيروت، ١٤٠٥ هـ، ج ۱، ص ٠٩٠.

  4. في تعريفات الأصوليين للتقليد انظر: أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني، البرهان في أصول الفقه، تحقيق: عبد العظيم الديب، مكتبة الوفاء، مصر، الطبعة الرابعة، ١٤١٨هـ، ج ۲، ص ۸۸۸، أبو إسحاق إبراهيم بن على الشيرازي، اللمع في أصول الفقه، دار الكتب العلمية، بيروت، ١٤٠٥ هـ / ۱۹٨٥م، ج ۱، ص ۱۲۰ عبد الله بن أحمد قدامة المقدسي، روضة الناظر، تحقيق: عبد العزيز السعود، جامعة الإمام محمد بن سعود، الرياض، الطبعة الثانية ١٣٩٩هـ، ج ۱، ص ۳۸۲. أبو المظفر منصور بن محمد السمعاني، قواطيع الأدلة في الأصول، تحقيق: محمد حسن الشافعي، دار الكتب العلمية، بيروت، ۱۹۹۷م، ج ۲، ص ٣٤٠.

  5. أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله الحويني، الاجتهاد، تحقيق: عبد الحميد أبو زنيد، دار القلم، بيروت، ١٤٠٨هـ، ج ۱، ص ٩٧.

  6. أبر المظفر منصور بن محمد السمعاني، قواطيع الأدلة في الأصول، تحقيق: محمد حسن الشافعي، دار الكتب العلمية، بيروت، ۱۹۹۷م، ج ۲، ص ٣٤٠.

  7. يستعمل بعض الأصوليين كلمة رحمة، ويعنون بها تقليد.

  8. السمعاني، مرجع سابق، ج ۲، ص ٣٤٠.

  9. الجويني، مرجع سابق، ج ۱، ص ٩٦، محمد بن على الشوكاني، إرشاد الفحول، تحقيق: محمد البدري، دار الفكر، بيروت، ١٤١٢هـ / ١٩٩٢م، ج ۱، ص ٤٤٤.

  10. انظر في جميع هذه التعاريف عند : محمد بن على الشوكاني المرجع السابق ، ج ١، ص ٤٤٢ ، ٤٤٣.

  11. أبو شامة عبد الرحمن المقدسي، مختصر المؤمل، ت: صلاح الدين مقبول، دار الصحوة الإسلامية، الكويت، ١٤٠٣هـ، ج ۱، ص ٦٨.

  12. ابن قيم الجوزية، اعلام الموقعين عن رب العالمين، تحقيق : طه سعد، دار الجيل، بيروت ، ۱۹۷۳ م ، ج ۲، ص ٢٣٦.

  13. ابن قيم الجوزية، المرجع السابق ، ج ٢ ، ص ٢٦٣.

  14. الشوكاني، فتح القدير، دار الفكر، بيروت، ج ۲، ص ۱۹۹.

  15. المرجع السابق، ج ۲، ص ٤١٢.

  16. الشوكاني، فتح القدير ، ج ٤، ص ٤٥.

  17. لا يجوز التقليد عند جمهور الأصوليين في العقائد كوجود الله تعالى ووحدانيته ووجوب إفراده بالعبادة ومعرفة صدق رسوله ﷺ، فلا بد في ذلك عندهم من النظر الصحيح والتفكر والتدبر المؤدى إلى العلم وإلى طمأنينة القلب، ومعرفة أدلة ذلك. ثم عند الجمهور يلحق بالعقائد في هذا الأمر كل ما علم من الدين بالضرورة، فلا تقليد فيه، لأن العلم به يحصل بالتواتر والإجماع، ومن ذلك الأخذ بأركان الإسلام الخمسة. انظر في ذلك ابن قيم الجوزية، المرجع السابق، حكم التقليد.

  18. ابن قيم الجوزية، إعلام الموقعين، ج ۲، ص ۲۱۱، ونقل نهيهم كذلك : ابن تيمية، كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية في الفقه، ت عبد الرحمن العاصمي مكتبة ابن تيمية، السعودية، ج۲۰، ص ۲۱۱، وانظر كذلك الشوكاني، إرشاد الفحول، مرجع سابق، ج ۱، ص ٤٤٩، ابن حزم، النبذة الكافية، ت: محمد أحمد عبد العزيز، دار الكتب العلمية، بيروت، ١٤٠٥هـ، ج ۱، ص ۷۲.

  19. أبو عبد الله محمد بن أحمد القرطبي، تفسير القرطبي، تحقيق: أحمد عبد العليم البردوني، دار الشعب، القاهرة، الطبعة الثانية، ١٣٧٢ هـ، ج ۱، ص ۲۳۱.

  20. محمد بن على الشوكاني، مرجع سابق، ج ۱، ص ١٦٧.

  21. الشوكاني، فتح القدير، ج ۲، ص ٣٥٣، وانظر كذلك : أبو محمد على بن أحمد بن حزم، النبذة الكافية في أصول الفقه، مرجع سابق، ج ۱، ص ۷۱، وما بعدها. وانظر في نفور العلماء من التقليد، الجويني، البرهان في أصول الفقه، ج٢، ص ٦٢٥.

  22. ابن قيم الجوزية، إعلام الموقعين، ج ۲، ص ۱۹۰ وما بعدها، وانظر كذلك في إيراد الأدلة على منع التقليد: صالح بن محمد العمري، إيقاظ الهمم دار المعرفة، بيروت، ۱۳۹۸هـ، ج ۱، ص ٣٥.

  23. ابن قيم الجوزية، إعلام الموقعين، ج ۲، ص ١٩٤ - ١٩٥.

  24. الشوكاني، إرشاد الفحول، ج ١، ص ٤٤٦.

  25. ابن قيم الجوزية، إعلام الموقعين مرجع سابق، ج ۲، ص ۱۹۸.

  26. ولي الله الدهلوى الإنصاف في مسائل الخلاف، ت: عبد الفتاح أبو غدة. دار النفائس، بيروت، ط ٢، ١٩٨٤م، ص ٩٩، صديق بن حسن القنوجي، أبجد العلوم، ت: عبد الجبار زكار، دار الكتب العلمية، بيروت، ۱۹۷۸م، ج ۲، ص ٤٠٣.

  27. انظر في هذا المعنى : ابن قيم الجوزية: إعلام الموقعين عن رب العالمين، ج ۱، ص ٦.

  28. محمد بن إسماعيل الصنعاني، إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد، ت: صلاح الدين مقبول، الدار السلفية، الكويت، ١٤٠٥هـ، ج ١، ص ١٤.

  29. محمد مصطفى شلبي، المدخل في التعريف بالفقه الإسلامي، دار النهضة العربية، بيروت، ١٤٠٥هـ، ١٩٨٥م، ص ۱۲۹ وما بعدها.

  30. محمد فاروق النبهان، المدخل للتشريع الإسلامي، وكالة المطبوعات، الكويت، الطبعة الثانية، ۱۹۸۱، ص ۱۲۳ وما بعدها.

  31. Nicholson, Literary History of the Arabs, Cambridge, 1930, p281.

  32. أجنتنس جولد يسهر، مذاهب التفسير الإسلامي، ترجمة: عبد الحليم النجار، مكتبة الخانجي، مصر، ومكتبة المثنى، بغداد، ١٩٥٥ - ١٩٧٤، ص ٣.

  33. سهيل فرح، الفلسفة العربية المعاصرة، مركز دراسات الوحدة العربية، ١٩٨٨، ص ٠٢٦٣.

  34. محمد إقبال، تجديد التفكير الديني في الإسلام، ترجمة عباس محمود لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، الطبعة الثانية، ١٩٨٦م، ص ۱۸۹ - ۱۹۰.

  35. أبو شامة عبد الرحمن المقدسي، مختصر المؤمل ت: صلاح الدين مقبول، مكتبة الصحوة الإسلامية، الكويت، ١٤٠٣هـ، ج١، ص ٤١.

  36. عبد الرحمن بن خلدون المقدمة دار القلم، بيروت، ١٩٨٤ ط ه ، ج ۲، ص ٤٩٣.

  37. انظر في ذلك: أحمد أمين، ضحى الإسلام، مكتبة النهضة المصرية، الطبعة الثامنة، بلا تاريخ، ج ۱، ص ٤٩. Hamilton A.R. Gibb on the civilization of Islam, Princeton University Press, New Jersey, 1982, p. 69. والزندقة تطلق على معان متعددة منها التهتك والفجور والتبجح بالقول الذي يصل إلى ما يمس الدين والترعات الشكية والارتيابية ومنها ما كان اتباع المذهب ماني المجوسي مع التظاهر بالإسلام، وقد فشت الزندقة في ذلك العصر وقام بالدعوة إليها عدد من المؤلفين الفارسيين الأصل الذين لم يتمكنوا من التخلي عن ماضيهم وآثار دياناتهم القديمة من زردشتية ومانوية. للمزيد حول ذلك راجع: سورديل دومنيك وجانين، الحضارة الإسلامية في عصرها الذهبي، دار الحقيقة، بيروت، ۱۹۸۰م، ص ١٢٣. أحمد أمين. مرجع سابق، ج ۱، ص ۱۲۳.

  38. حول تلك الكتابات راجع: أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية، مجموع فتاوى شيخ الإسلام، جمع وترتيب: ابن قاسم، السعودية، ١٣٩٨هـ / ۱۹۷۸م، ج ۲۰، ص ۳۹۲.

  39. راجع في نشأة التقليد ابن القيم المرجع السابق ، ج ۱، ص ۷. (Note: This footnote seems incomplete or incorrectly referenced in the original OCR)

  40. ابن قيم الجوزية إعلام الموقعین، ج ۲، ص ۲۰۸. (Note: Seems like footnote 2 from page 15)

  41. محمد بن إسماعيل الصنعاني إرشاد النقاد، مرجع سابق، ج۱، ص ٢٣. (Note: Seems like footnote 3 from page 15, slightly different text compared to 28)

  42. يرى عدد من العلماء أن التقليد لا يزال ممتداً منذ القرن الرابع أو بداية الخامس وإلى اليوم، محمد بن الحسن الحجوى، الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي، تعليق: عبد العزيز القارئ، المكتبة العلمية، المدينة المنورة، ١٣٩٧هـ، ۱۹۷۷م، الجزء الثاني القسم الرابع، ص ١٦٣. (Note: Seems like footnote 1 from page 16)

  43. عبد الحي بن أحمد الدمشقي، شذرات الذهب في أخبار من ذهب، دار الكتب العلمية، بيروت، بلا تاریخ، ج ۲، ص ۱۸۸. (Note: Seems like footnote 2 from page 16)

  44. الصنعاني، إرشاد النقاد، ج ۱، ص ٢٣ وما بعدها. (Note: Seems like footnote 3 from page 16)

  45. ابن حزم، الإحكام في أصول الأحكام، مرجع سابق، ج ۶، ص ٢٩٢. (Note: Seems like footnote 4 from page 16)

  46. عرب عالم الاجتماع الدوركيمي من تفسير كيفية انتقال تأثير المجتمع إلى الفرد وتحديد سلوكه بتأكيده جبرية الظواهر الاجتماعية وفرضه قوة الإلزام للمجتمع. انظر: محمد سعيد فرج، البناء الاجتماعي والشخصية، دار المعرفة الجامعية، مصر، ۱۹۸۹م، ص ۸ وما بعدها. (Note: Footnote 1 from page 17)

  47. هذا ما ذكره أرسطو واعتبره علماء الاجتماع من المسلمات الكلاسيكية من أن الإنسان حيوان اجتماعي ومدني، بمعنى أنه لا يعيش ولا يمكن دراسته منفصلاً عن المجتمع، أحمد الخشاب، التفكير الاجتماعي، دراسة تكاملية للنظرية الاجتماعية، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت، بلا تاریخ، ص ۱۳۳. (Note: Footnote 2 from page 17)

  48. غوستاف لوبون، روح الجماعات، ترجمة: عادل زعيتر، دار المعارف، مصر، ١٩٥٥م، ص ۷۸. انظر للمؤلف كذلك: روح الاجتماع، ترجمة: أحمد فتحى زغلول باشا، مطبعة الشعب، مصر، ۱۹۰۹، ص ٥٩. (Note: Footnote 3 from page 17)

  49. انظر إبراهيم البليهي موقع منتدى الكتاب الرياض الإلكتروني على الانترنت. (Note: Footnote 1 from page 18)

  50. أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين، دار المعرفة، بيروت، ج ۳، ص ١٤. (Note: Footnote 2 from page 18)

  51. غوستاف لوبون روح الاجتماع، مرجع سابق، ص ٦١. (Note: Footnote 3 from page 18)

  52. بيار مانوني، علم النفس الجماعي، شركة انتربرس للنشر، قبرص، بلا تاريخ، ص ۷۸ وما بعدها. (Note: Footnote 4 from page 18)

  53. غوستاف لوبون المرجع السابق، ص ٣٠. (Note: Footnote 1 from page 19, refers back to 48 potentially)

  54. غوستاف لوبون، روح الاجتماع، مرجع سابق، ص ۲۱. (Note: Footnote 2 from page 19, refers back to 48/51 potentially)

  55. فؤاد البهي السيد، سعد عبد الرحمن، علم النفس الاجتماعي، دار الفكر العربي، مصر، ١٩٩٩م، ص ٧٥. (Note: Footnote 3 from page 19)

  56. القنوجي أبجد العلوم: مرجع سابق، ج ۲، ص ٤٠٥. (Note: Footnote 1 from page 20)

  57. الشوكاني، القول المفيد: ج 1، ص ٦٦. (Note: Footnote 2 from page 20)

  58. عوض الله جاد حجازي ابن القيم وموقفه من التفكير الإسلامي، دار الطباعة المحمدية، مصر، ۱۳۸۰هـ ١٩٦٠م، ص ٣٨ - ٣٩. (Note: Footnote 3 from page 20)

  59. محمد سلام مدكور، مناهج الاجتهاد في الإسلام جامعة الكويت، الكويت، ۱۹۷۳، ج ۱، القسم الثاني، ص ٤١٥. (Note: Footnote 1 from page 21)

  60. إبراهيم عقيلي، تكامل المنهج المعرفي عند ابن تيمية، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، أمريكا، ١٤١٥هـ، ١٩٩٤م، ص ٦٣. (Note: Footnote 2 from page 21)

  61. ابن قيم الجوزية، مدارج السالكين في منازل إياك نعبد وإياك نستعين، تحقيق: محمد حامد الفقي، دار الكتاب العربي، الطبعة الثانية، بيروت ۱۹۷۳، ج ۱، ص ۵. (Note: Footnote 1 from page 22)

  62. انظر في ذلك ما قاله ابن خلدون عن التفاوت الحاصل بين الحضر والبدو : «لما امتلأ الحضري من الصنائع وملكاتها وحسن تعليمها ظن كل من قصر عن تلك الملكات أنها لكمال في عقله وأن نفوس أهل البدو قاصرة بفطرتها وحملتها عن فطرته». ج ۱، ص ٤٣٣. (Note: Footnote 1 from page 23)

  63. ابن خلدون، المقدمة، ج ۱، ص ٤٣١ - ٤٣٢. (Note: Footnote 1 from page 24)

  64. الحجوي، مرجع سابق، ج ۲، القسم الثالث، ص ١٤٤ وما بعدها. (Note: Footnote 2 from page 24)

  65. ابن خلدون، ج ۱، ص ٥٣١. (Note: Footnote 3 from page 24)

  66. ابن خلدون : ج ۱ ص ۲۹. (Note: Footnote 1 from page 25)

التقليد في الفكر الأصولي
تنزيل البحث ←