د.رقية العلواني

جميع البحوث

إشكالية التأويل في الأديان

تمهيد

يتناول هذا البحث دراسة نشأة علم تأويل النصوص الكتابية وتطوره في الفكر الديني في اليهودية والمسيحية والإسلام. كما يتناول المراحل التاريخية والعوامل الاجتماعية والظروف الفكرية والتيارات الفلسفية التي تزامنت مع التطورات التي مر بها هذا العلم في الفكر الغربي والإسلامي.

تنهج الدراسة المنهج التحليلي التاريخي في طرح هذا الموضوع، وتعتمد على العودة إلى المراجع المعتمدة لدى أهل الأديان في سبيل التوصل إلى نظرة موضوعية محايدة في التتبع والشرح والتفصيل قدر الإمكان.

يقف البحث على واحد من أهم المحاور في الفكر الديني، ويحاول تقديم مساهمة نوعية في محاولة جادة لفهم الآخر وخلفية وأبعاد تصوراته لنصوصه الكتابية.

يظهر أثر هذا الفهم جلياً عند محاولة البعض من الكتاب المعاصرين تنزيل وتطبيق مناهج التأويل الغربية على نصوص القرآن الكريم دون تمييز أو تفرقة. فهم يتجاهلون طبيعة النصوص الكتابية المختلفة من جهة، وخطورة تبني المناهج الغربية وتطبيقها دون مراعاة فوارق بيئة الخطاب وطبيعته وغير ذلك من العوامل التي لا ينبغي تجاوزها.

فالدراسة، من خلال تبنيها للنهج المقارن، تحاول تقديم إسهام متميز في فهم أبعاد ومخاطر تبني المناهج الغربية في التأويل واستزراعها دون إدراك لظرفية البيئة والطبيعة التي أفرزتها.

مقدمة

اتفق أتباع الديانات المختلفة من يهودية ومسيحية وإسلام على ضرورة فهم وتأويل النصوص المقدسة لديهم، فهي تمثل لدى أصحابها المرجعية المعصومة التي يمكن استنباط واستقاء الأحكام الشرعية منها.

ومما لا شك فيه أن المسار التأويلي للنصوص يختلف تبعاً لعوامل عديدة منها: الموروث الثقافي للمؤول ذاته بكل ما يحمل من خلفيات علمية ودينية، والظروف السائدة إبان ظهور التأويلات المختلفة من اجتماعية وسياسية وثقافية ونحوها، إضافة إلى النص الكتابي ذاته من حيث المصداقية والشرعية لدى أتباعه ومعتنقيه ومن حيث وضوحه ودلاليته على معناه.

تنبع هذه الاختلافات من عوامل أخرى متعددة باتت بمجموعها تشكل نواة لفن استقل بذاته وصار يعرف بفن التأويل أو "الهرمينوطيقا" في الفكر الغربي.

لقد مر فن التأويل بمراحل مختلفة عبر التاريخ وتداخلت عوامل عدة في تشكيله والتأثير على سيره ومسيرة محاوره. وتروم هذه الدراسة الوقوف على أهم المحاور التي يدور حولها فن تأويل النصوص الكتابية المقدسة في الديانات السماوية المختلفة: اليهودية والمسيحية والإسلام.

كما تقف الدراسة على عدد من الظروف التاريخية والفكرية التي أثرت على سيره في تتبع تاريخي يمتد إلى العصر الراهن. وتأتي أهمية هذه الدراسة في الوقت الحاضر على وجه الخصوص ضمن محاولات فهم الآخر وتتبع خلفيات مذاهبه الفكرية والعقدية. ولا تخفى أهمية هذا النهج في عملية الحوار مع الآخر بناء على فهم مختلف خلفياته وإثرائها.

مفهوم النصوص الكتابية

في الديانة اليهودية

وتشتمل النصوص الكتابية في الديانة اليهودية على:

  1. العهد القديم: وهو مجموعة الأسفار التي جمعها رجال المجمع الأكبر الذي تأسس عقب العودة من السبي البابلي، وقد تم جمعها في عام ٤٤٤ ق. م. ومجموع هذه الأسفار ٣٩ سفراً (أو أربعة وعشرون في حساب من يعتبر الأسفار المزدوجة سفراً واحداً). العهد القديم مقسم إلى ثلاثة أقسام: التوراة، والأنبياء، والكتب والصحف (١). هناك نظريات متباينة حول الفترة التي تم فيها جمع هذه الأسفار، منها أنها ذات ارتباط بمسألة السبي البابلي حيث برزت الحاجة لذلك (٢). وقد وجهت انتقادات عديدة حول مصداقية العهد القديم وصحة نسبته، ولكن مصداقيته لأتباع اليهودية ثابتة، فهو يشكل الشريعة المدونة.

  2. التلمود: يشكل التلمود الشريعة الشفوية في عقيدة الربانيين، وكلا التوراتين (المدونة والشفوية) يشكلان نواة تشريعية هامة. وهو عبارة عن روايات شفوية نُقلت عبر العصور عن طريق سلسلة من الثقات، وقد تم جمعها بعد السيد المسيح بمائة وخمسين سنة في كتاب "المِشنا". أُدخلت عليه تعديلات كثيرة من قبل علماء فلسطين وبابل. وهناك العديد من الشروح عليه عرفت بـ "الجمارا". فالتلمود يتكون من المثنا والجمارا. والتلمود الذي يعتبر أكثر انتشاراً وتداولاً اليوم هو تلمود بابل. تشكل اجتهادات علماء اليهود وأخبارهم وتأويلاتهم لتلك النصوص سلطة تكاد تكون مطلقة في إجراء أي تعديل أو تحوير بل ونسخ لبعض النصوص الكتابية التوراتية.

في الديانة المسيحية

أما في الديانة المسيحية فيعتبر الإنجيل هو الكتاب المقدس لديهم. غالب الروايات التاريخية تشير إلى ضياعه، وقد ظهرت عوضاً عنه عشرات الأناجيل في الفترة ما بين ٦٠-١٢٥م. معظم هذه الأناجيل قد حُظر تداولها إلا أربعة منها: إنجيل متى، مرقص، لوقا، يوحنا.

إلا أن الإنجيل، رغم الشكوك الدائرة حول صدقه حتى لدى بعض أتباع المسيح عليه السلام، فهو يبقى ممثلاً للمرجعية المعصومة لديهم كما انعقد إجماعهم على ذلك في مجمع ترانت في عام ١٥٤٥م. الأكثرية على أن عدد أسفاره سبعة وعشرون سفراً، وجملة إصحاحاته ٢٦٠، وهي الأناجيل الأربعة، وأعمال الرسل، ورسائل بولس الثلاثة عشر، والرسائل الكاثوليكية.

في الشريعة الإسلامية

أما النصوص في الشريعة الإسلامية فالمراد بها خطاب القرآن الكريم أو السنة النبوية. وقد اعتمد العلماء هذا المعنى للنصوص، فسائر الأدلة الشرعية تعود في جملتها إلى آحاد هذه النصوص في الكتاب والسنة (٣).

مفهوم التأويل (الهرمينوطيقا)

وهو الفن الذي يُعرف باللغة الإنجليزية بـ Hermeneutics. والهرمينوطيقا نظرية تعنى بشرح وفهم النصوص المقدسة أو الكتابية على وجه الخصوص (٤).

تذهب الموسوعة الكاثوليكية إلى أن كلمة الهرمينوطيقا (٥) ترجع في جذورها إلى اليونانية وتعني اسم الإله هيرمس Hermes، والتي تعني في اللاتينية مفسر أو مؤول الآلهة (The interpreter of the gods). ولكن استعمال المصطلح حدد الكلمة وجعلها علماً يدل على تأويل النصوص المقدسة (٦).

أما التأويل في الفكر الديني في الإسلام، فهو لدى العلماء المتقدمين تفسير للفظ وبيان لمعناه فقط. إلا أن المتأخرين من العلماء اتفقوا على أن التأويل هو نقل للفظ من ظاهره إلى ما يخالفه. يقول ابن قيم الجوزية رحمه الله في ذلك:

"التأويل صرف اللفظ عن ظاهره وحقيقته إلى مجازه وما يخالف ظاهره، وهو مراد المعتزلة والجهمية وغيرهم من فرق المتكلمين، وهو الشائع في عرف المتأخرين من أهل الأصول والفقه" (٧).

اتجاهات التأويل المبكرة في الفكر الغربي واليهودي والمسيحي

يرتكز تأويل النصوص في حقيقته على مسألة هامة تناولها فلاسفة والعلماء قديماً وحديثاً، وهي الجدلية القائمة بين العقل والنقل. تلك الجدلية التي لم تخل منها ديانة سماوية ثابتة بالوحي على وجه الخصوص.

بل إن العالم اليوناني، على الرغم من جذوره الغائبة عن الوحي، شهد كذلك صراعاً بين ما يشبه تلك الثنائية، كالصراع بين العقل والآلهة، وبين العقل والمادة.. ذلك الصراع الذي ورثته الفلسفة الغربية وتقاليدها (٨).

وفي ثنايا تلك الصراعات الفكرية والفلسفية، اعتمد عدد من فلاسفة اليونان على العقل وتقديراته وأحكامه. وظهر منهم أمثال خريزيبوس (Chrysippus ٢٠٥ ق.م) ممن أرجع التحسين والتقبيح في الأشياء للعقل وحده. وتعتبر فكرته تلك البذرة الأولى للحوار الدائر حول النص والعقل: فالشيء لا يكون حسناً لأن الله قد أمر به، ولكن الله أمر به لأنه حسن. فالصواب والخطأ مستقلان بالطبيعة، وليس من قبيل الإدانة أو التقليد. فقانون الطبيعة الماثل بقانون الله شُرف بالعقل الذي يأمر بالواجب عمله، وينهى عن الواجب تجنبه.

التأويل المبكر في اليهودية

ظهرت بواكير الاتجاهات المختلفة في التأويل منذ عهد مبكر. ففي اليهودية، ظهرت فرقة الفريسيين (Pharisees) التي ازدهرت في فلسطين منذ عام ١٦٠ قبل الميلاد. عُرف الفريسيون بتمسكهم الشديد بالتوراة غير المكتوبة (التوراة الشفوية). كما حاولوا عزل أنفسهم - كما يظهر من تسميتهم في العبرية - عن الثقافات والفلسفات الهيلينية واليونانية والرومانية من خلال تمسكهم بالتوراة (٩). ولا تزال عقيدتهم تشكل الأساس في الفكر اللاهوتي اليهودي إلى اليوم.

يعتبر الفريسيون "المِشنا" التي تم جمعها في القرن الثاني الميلادي جزءاً هاماً من القانون اليهودي المنزل على موسى عليه السلام. ويرى الفريسيون أنفسهم أكثر الجماعات اليهودية التزاماً بالتوراة، من غير وقوف على حرفية النصوص، وعلى هذا أُطلق عليهم اسم "المجددين الأحرار" في فهم التوراة وتفسيرها (١٠). فالوحي عندهم يشمل التوراتين: المدونة والشفوية.

يذهب الفريسيون إلى ضرورة استعمال العقل في تفسير وشرح التوراة لملاءمة ومواجهة المشاكل المعاصرة. وعلى هذا قاموا بتأويل النصوص وفق "روح القانون" بدلاً عن الالتزام بحرفية النصوص، لتطويع اليهودية لمطالب العصر والظروف المتغيرة (١١). وقد كان ذلك المسلك المرن تجاه النصوص سبباً في استمرارية عقيدة الفريسيين وانتشارها أكثر من غيرها.

كانوا يسيرون في سلوكهم وفق تفاسير عزرا ونحميا للأسفار الخمسة، آخذين في فهمهم وتأويلاتهم التحولات التاريخية التي أفرزها الأسر البابلي. كما عرف عنهم جرأتهم في الاجتهادات الشرعية واستنباط الأحكام، وعلى هذا اتهموا من قبل الفرق اليهودية الأخرى بالابتداع، فهم يفتون للناس بما لا نص فيه في التوراة المدونة، كما حاولوا تطويع اليهودية لمتطلبات التحديات الاجتماعية من خلال تأويلاتهم المستحدثة للنصوص (١٢).

كما ظهر الاهتمام بوضع ضوابط للتأويل في اليهودية على يد المعلم الكبير الراباي هيليل (٧٠ ق. م / ١٠م)، ويعد هيليل أكبر معلم وفقيه في ذلك العصر. وإلى هيليل يعود الفضل في إرساء قواعد ما يمكن أن يُعرف بمدرسة الرأي المرن (a lenient school) في اليهودية، التي عرفت بمنحاها المعتدل مقارنة بالمدرسة التي تقابلها، والتي يمكن أن يطلق عليها اسم مدرسة شماي، التي تولى إمرتها معاصره الرباي شماي، فقد عرفت الأخيرة بمنحاها المتشدد.

أكد هيليل على أهمية ضبط عملية تأويل وشرح التوراة (١٣) من خلال تقديمه للقواعد السبع (١٤) التي عرفت بقواعد هيليل السبعة (Seven Middot of Hillel). ومن هنا اتسمت مدرسة هيليل بقدرتها على تحقيق اجتهاد وفهم للنصوص المقدسة، يتمشى مع روح القانون والشريعة اليهودية دون التركيز على حرفية الشريعة أو حديتها، من خلال ما عرفت به من تأويل عقلاني للتوراتين المكتوبة والشفوية. كما اهتمت بالتركيز على المآلات والمقاصد الأخلاقية والروحانية لكل قانون أو حكم توراتي.

كان للثقافات الأجنبية أثرها البارز في تحديد مسار التأويل في اليهودية. فقد تعرض فيلو الإسكندراني (Philo of Alexandria) الذي عاش في الفترة الواقعة ما بين (٢٠ ق. م - ٥٠م)، زعيم مدرسة الإسكندرية اليهودية، للبحث في جدلية الصلة بين النقل والعقل (١٥). ويعد فيلو أول من اخترع "قانون التأويل" كمنهج لتحديد العلاقة بين الوحي والعقل في قولته الشهيرة: "الحكمة هي الصاحبة والأخت الرضيعة للوحي".

أكد فيلو على أن الوحي والعقل طريقان موصلان إلى الحق في النهاية. كما انتقد الاتجاه الظاهري المتمسك بحرفية النص الكتابي (١٦). وخلص إلى أن العلاقة بين الدين والعقل لا بد أن ترتكز إلى متابعة العقل لتقريرات الوحي (١٧). ومثل للوحي بسارة وللعقل بهاجر، وبقول إبراهيم عليه السلام: "هذه جاريتك في يدك فافعلي بها ما يحلو لك" (١٨)، فالعقل تابع للوحي (subservient).

ظهر اتجاه آخر للتأويل في اليهودية مع ظهور فرقة القرائين التي ظهرت في بابل في القرن الثامن الميلادي. وتعود نشأة تلك الفرقة إلى عنان بن داود الذي ظهر أيام الخليفة العباسي المنصور (ت ١٥٨هـ / ٧٧٥م). وقد عُرف بالغلو والنزعة نحو التطرف ورفض شرعية التلمود بناءً على رفضه وتحريمه للتأويل وتمسكه بظواهر النصوص، ومن هنا جاءت تسمية أتباعه بالحرفيين (١٩).

التأويل المبكر في المسيحية

في المنظومة المسيحية، برز عدد من آباء الكنيسة الأوائل ممن تبنى قانون فيلو للتأويل القائم على التوفيق بين العقل والوحي، ومنهم كليمانت الإسكندراني (ت ٢٤٥م)، والقديس أوغسطين، الذي جعل للعقل مجالاً وللنقل مجالاً. فالعقل لا يستطيع وحده أن يصل إلى الحقيقة كلها، والنقل يعطي الحكمة كاملة عن الله.

وفي العصور الوسطى كذلك، ظهر توما الأكويني (ت ١٢٧٤م) الذي ذهب إلى عدم وجود تعارض بين العقل والنقل البتة. فالمعرفة الفلسفية قائمة على المبادئ العقلية التي وضعها الله في الإنسان، فالنقل لابد أن يكون متطابقاً معها، لأن المصدر لكليهما هو الله.

بيد أن ثمة تيارات معارضة لهذا المنحى التوفيقي في مجال الفكر الديني في اليهودية والمسيحية ظهرت في الساحة. كما ظهر من أسس للقطيعة بين العقل والنقل معتمداً على ضرورة الالتزام والتمسك بحرفية الوحي والنصوص المقدّسة.

وجد اتجاه رد التأويل آذاناً صاغية في المسيحية لدى ترتوليان (Tertullian) الذي توفي عام ٢٢٥م، والذي اتخذ موقفاً معادياً للحكمة ومحاولات عقلنة الإيمان (٢٠). فقد رأى ترتوليان في الوحي غنىً عن أي معرفة أخرى، وحمل على الفلسفة وقرر عداوتها للدين، وروي عنه قولته المشهورة: "بعد المسيح والإنجيل لسنا بحاجة إلى شيء". وردد بعد قرون في اليهودية مقولته هذه بحذافيرها، يهودا هاليفي (١٠٨٠ - ١١٤١م) (٢١)، الذي لاقت كتاباته وأفكاره رواجاً واسعاً وقبولاً لدى الكنيسة الكاثوليكية الرومانية (٢٢).

اتجاهات التأويل المتأخرة في الفكر الغربي

دشن فن التأويل في الديانتين اليهودية والمسيحية مرحلة جديدة مع بدايات ظهور الحركة الإصلاحية فيهما. تلك الحركة التي فتحت السبيل أمام التأويلات المتعددة والنظريات المستحدثة على اعتبار حرية المتلقي في الفهم والتأويل.

فقد دعا مارتن لوثر (١٤٨٣ - ١٥٤٦م) وزوينجلي (١٤٨٤ - ١٥٣١م) وغيرهما من رواد الحركة الإصلاحية إلى حرية المتلقي في فهم النص وتأويله. وكانت نداءات الإصلاحيين تستهدف تحديد دور الكنيسة ورفض احتكارها لتأويل النصوص، فالعقل الفردي قادر على التعامل مباشرة مع النص وفهمه واستيعابه. كما استهدفت تلك الحركة القول بوحدة المصدر المتمثل في الكتاب المقدس (Sola Scriptura)، وحكمت بهذا على تراث الكنيسة بالإلغاء.

برزت فكرة حرية التأويل والقول بالتعددية التأويلية في دائرة النصوص الدينية عند العديد من رجالات الحركة الإصلاحية، على قدر من الاختلاف في مدى الاعتماد على ذلك (٢٣). وتعتبر محاولة الإصلاحيين في الاعتماد على الكتاب المقدس دون سواه، الأولى من نوعها في تاريخ اللاهوت المسيحي (٢٤).

بيد أن تلك النداءات اتخذت مسارات مختلفة بين صفوف البروتستانت في العصور التالية. فقد مهدت لقبول مختلف النظريات النقدية المستحدثة التي بات أغلبها يهدد قدسية النصوص الكتابية وينازلها. فعلى الرغم من الاتفاق العام على صدارة الكتاب المقدس، اختلف البروتستانت حول قضية تأويله.

فالذين قبلوا نتائج المدرسة النقدية التاريخية للإنجيل، التي ظهرت خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، قاموا بتطبيق وتمرير نتائج تلك المناهج على النصوص الكتابية، وخرجوا بعدم صدق العديد منها، كما قاموا بتأويل البعض الآخر بتأويلات مجازية وإشارية.

أما البروتستانت المحافظون ومعهم غالبية الإنجليكانيين، فقد أصروا على التمسك بالحرفية المطلقة للكتاب في مسائل العقيدة والتاريخ والجغرافيا وغيرها (٢٥). ولاقت تلك التوجهات ردود فعل عنيفة من قبل أتباع المنهج "السلفي" في الفكر الديني اليهودي الحديث على وجه الخصوص، واعتبروا السير وفق تلك الحرية التأويلية موصلاً دونما شك إلى ردة دينية، يتم من خلالها إسقاط كل الخصائص اللغوية والقومية والدينية لليهود (٢٦).

مع دخول أوروبا عصر النهضة وانحسار دور الكنيسة، انتقل الدين في الوعي الغربي من مصدر للمعرفة والحقيقة إلى تراكم تاريخي وصدى لزمان وواقع ينبغي تجاوزه، وحل العقل محل الدين. وبهذا تم إخضاع كل المعارف لقوانين العقل وشروطه ومسلماته.

مثل هذا الاتجاه الوضعي قمة الهجوم على الكنيسة ورجالاتها، ودعا إلى نبذ الدين والفلسفة معاً. فالدين مجرد خرافات مبتدعة (Myths of Superstitions)، كما أن الفلسفة جهد عبثي ضائع لا طائل من ورائه. وقد انخرط الكثيرون من مفكري الغرب في هذا الاتجاه (٢٧).

استعاد العقل حريته التي فقدها تحت سلطان الكنيسة وتشريعات رجالاتها. تلك الحرية التي وهبت العقل حق مراجعة كل المعتقدات السائدة ووضعها على محك النقد والتحليل والتأويل. وبهذا أصبح العلم محوراً للفلسفة الوضعية (Positivism) التي اصطلح على أسسها مشاهير الوضعيين من أمثال: أوجست كونت وسيجموند فرويد (١٨٥٦ - ١٩٣٩م) وغيرهما.

تم النظر إلى النصوص الكتابية من جديد بمنظار العقل وقوانينه. فالعقل الغربي وحده قادر على التوصل إلى المعرفة والحقيقة دون الحاجة إلى نصوص غيبية أو ميتافيزيقية. وعلى هذا، فقد استثنى العديد من الوضعيين أي احتمال للخوارق والمعجزات، والذي نجم عنه تأويل علمي وضعي للنصوص الكتابية وأحداثها ورجالاتها. واعتبروا بذلك كل الأحداث الخارقة الموصوفة في التوراة من وضع واختراع آباء الكنيسة الأوائل.

على الرغم من ردود الفعل المختلفة والمناقضة في بعض الأحيان للفلسفة الوضعية (٢٨)، إلا أن أصداءها وتأثيراتها بقيت واضحة المعالم في الفكر الغربي. وهنا عادت إشكالية التأويل للمركزية من جديد. كما امتدت صراعات التأويل في الفكر الغربي إلى ساحة الأدب في القرن العشرين.

طرح المتأخرون من الإصلاحيين في اليهودية والمسيحية على حد سواء - من أمثال سبينوزا وهوبز - دراسات متشعبة حول النصوص المقدسة، خلصوا من خلالها إلى وسائل عديدة لنقد النصوص الكتابية. والتي تم من خلالها النظر إلى النصوص المتضمنة لبعض الخوارق والمعجزات التي توحي إلى عظمة الرب وقدرته على أنها خرافات وشعوذات وتصورات تنبئ عن عجز العقل الإنساني في تلك المرحلة.

تعتبر نظرية النقد التاريخي من أبرز الاتجاهات وأخطرها في مجال نقد النصوص. وقد ظهرت في القرن الثامن والتاسع عشر الميلادي في ألمانيا على وجه الخصوص، وسرى تأثيرها إلى مختلف المناطق فيما بعد. فقد تغيرت حياة اليهود في الغرب في ذلك الوقت بسبب الأفكار الجديدة والأجنبية التي عمل اليهود الذين تربوا في بيئات أجنبية على نشرها. واشتغل هؤلاء بالفلسفة غير اليهودية واقترحوا بناءً على ذلك إجراء تحليلات جديدة لنصوص التوراة وأعلنوا تحديهم الصريح لسلطة الأحبار اليهود.

بدأت الدوائر اليهودية التقدمية في برلين وباريس وفيينا تنعم بعصر التنوير، والذي نُبذت فيه الحياة اليهودية التقليدية ومعه لغة الييديش (لغة الحيتو اليهودي) والطقوس والشعائر. بل وتحول بعضهم واعتنق المسيحية. لقد حمل عصر التنوير الكثير من التحديات والتي بلغت حد منازلة النصوص المقدسة في المسيحية واليهودية تبعاً لمسايرة التطور والعصرنة (٢٩).

بهذا ألغت مناهج نقد النصوص الكتابية (Biblical Criticism) المرجعية الإلهية للنصوص الكتابية في العهد القديم والجديد معاً. وتمخض عن تلك المدرسة النظرة إلى النصوص الكتابية باعتبارها صدى لتاريخ مضى وباد وانقرض، والوحي ما هو إلا تراكم تاريخي خاضع لسنة الزمان والمكان والتحولات. فالتوراة كتاب تاريخي يُسجل تاريخ إسرائيل، وحياة عيسى في الناصرة، وتاريخ الكنيسة المبكرة في نصوص بشرية ألهمت من قبل الرب. وحيث أن التوراة عمل تاريخي، فهو خاضع للتحقيق التاريخي ونتائج البحث التاريخي (٣٠).

تضافرت تلك التوجهات مع انتشار وتأثير نظرية التطور الدارونية، التي حاول العديد من المفكرين في الغرب إسقاطها على مختلف مجالات العلوم والمعارف، وامتد أثرها ليشمل دائرة تأويل النصوص المقدسة أيضاً. وحاول البروتستانت إيجاد تأويلات جديدة للخبرة الدينية، وفهم للتاريخ يساير تطبيقات ونتائج نظرية التطور. كما أنكروا إلى حد كبير أن التوراة وحي إلهي، وتاريخية السيد المسيح والإنجيل، وركزوا على السلوك الأخلاقي عوضاً عن التمسك بالمذاهب الشكلية كأساس للحياة المسيحية (٣١).

بيد أن تيار الليبرالية اللاهوتية (Theological liberalism) السابق الذكر، عارضه تياران آخران صدرا كرد فعل للتيار الإصلاحي:

  1. الحركة الأصولية (Fundamentalism): اعتبرت الأصولية قدسية النص أصلاً، فلا عبرة بنتائج العلوم وضغوطات الواقع المتغير مهما كانت صورها وأشكالها. يعتبر اليهود الأصوليون أن الإخلاص الكامل ينبغي أن يكون للكتاب المقدس. كما تتصل الأصولية اليهودية بالتلمود، الجزء الكبير من القانون والأساطير الذي تم تجميعه ما بين القرن الأول والخامس الميلادي. ويمتد تقديس الأصولية اليهودية للنصوص ليشمل التعليقات والمبادئ وكلمات جمهور المصلين وخطب المواعظ الدينية حتى هذا اليوم. وعلى هذا لا يتطرق النقد لديهم لكتابات فيلسوف القرن الثاني عشر موسى بن ميمون أو صوفي القرن السادس عشر إسحاق لوريا. ولا يتطرق النقد لديهم إلى الحاخامات الذين كتبوا التلمود، أحياءً كانوا أو أمواتاً، فهم يعتبرونهم تجسيداً للنصوص المقدسة المتضمنة في مجموعها لكلمة الرب (٣٢). ويعتقد أصحاب هذا الاتجاه الأصولي في المسيحية كذلك بإطلاقية النصوص المقدسة، فلا ينبغي تجاوزها أو استبدالها بمتغيرات الواقع (٣٣). وقد قامت تلك الحركة المحافظة برد ورفض التأويل التاريخي للإنجيل واعتباره مجرد تراكمات تاريخية، كما ردّت محاولات تأويله في ضوء التغيرات والتطورات العلمية المعاصرة. وطالب العديد من أصحاب هذا الاتجاه بتحريم ومنع تدريس نظرية دارون في التطور في محاولة منهم لدعم مبادئهم في الحفاظ على قدسية الإنجيل.

  2. لاهوت الأزمة أو الأرثوذكسية الجديدة (Crisis theology or neo-orthodoxy). (لم يفصل النص في هذا التيار الثاني).

إلا أن العقل النقدي الغربي في العصور الحديثة استمر في دائرة الشك وبنى على الشك عناصر مقوماته وانطلق منها. فأصبح عقلاً لا يهتم بإيمان بنص مقدس أو غيره، فكل النصوص لديه على السواء قابلة لكل أنواع النقد دون تمييز بين المقدس أو غيره.

بهذا تم اعتبار المماثلة بين النصوص المقدسة والأدبية وغيرها، وإمكانية إخضاعها لمختلف القوانين والقواعد النقدية دون اختلاف على الإطلاق. وأصبح القارئ أو المتلقي صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في الحكم على التأويلات المختلفة (٣٤).

يعتبر أمبرتو إيكو مؤسساً للنظرية الداعية إلى فتح آفاق النص لمختلف التأويلات. ويرجع بجذور أفكاره إلى عصر البدايات والمدارس الفلسفية القديمة، فيقوم بعملية حفر جريئة في الفلسفة اليونانية القديمة ومن ثم يثبت أن معظم ما هو متداول من مفهومات الآن بخصوص التأويل والتأويل المضاعف للنصوص كانت موجودة بالقوة أو بالفعل في تلك الفلسفات والعقائد القديمة. فكل نص، بحسب التصور الذي سعى لتأصيله في القدم، هو أفق مفتوح لجميع التأويلات. فالتأويلات تتعدد بتعدد المؤولين، بل وتتغير بتغير المؤول الواحد داخل قشرته وتتلون بما يكون عليه من حال، وبحسب استراتيجية القراءة، وصيرورة ذاته ووعيه (٣٥).

اتجاهات التأويل المتأخرة في الفكر الإسلامي

الانحرافات المبكرة في التأويل الإسلامي

تحوّل التأويل، في بعض الحالات، من أداة طيعة للفهم السليم للنصوص وغاياتها وتطبيقها بموضوعية، إلى أداة لتمرير المعاني البعيدة عن مقاصد الشارع وفرض الأحكام المسبقة والتوجهات الجاهزة عليها. وهذا الانحراف والتسيب والتعسف في تأويل النصوص يعني استخراج معنى لا يتوافق مع النص، بل قد يخالفه، مع عدم توافر دواعيه وآلياته عند المؤول، وعدم الالتزام بالضوابط المتعارف عليها في الاجتهاد والتأويل.

غالباً ما كانت القضايا التي تم الخوض في تأويلها بهذا الشكل تدور حول قضايا سمعية غيبية لا يتمكن العقل من الاستقلال بفهمها أو تأويلها أو إدراك كيفيتها وغائية ذكرها. فالخوض في تأويلها لا دليل عليه، بل لابد من إجرائها على ظواهرها.

لا يُفهم من ذلك التوجه القول بالحجر على العقول والاجتهاد أو الدعوة إلى غلق بابه. وإنما المراد بذلك استدعاء اهتمام الباحثين إلى أن الحرية في الاجتهاد والتأويل لا تعني إلغاء الضوابط والسير وفق الرغبات أو الاجتهادات العقلية المحضة. بل لا بد من استحضار الضوابط التي تحفظ للتأويل والفهم مجالهما وموضوعيتهما. كما أن الانضباط لا يعني بحال إلغاء دور العقل أو الحجر عليه، بل التوفيق بينهما، وهو وارد ثابت بالشرع والعقل.

ولدت تلك النزاعات التجريدية المبكرة في الفكر الإسلامي (مثل الخلاف حول الصفات الإلهية والقضاء والقدر) بروز نوع جديد من التأويل يقود المؤول إلى الرغبة في الانتصار للذات عن طريق التعسف في تأويل النص وتطويعه لدوافعه ونزعاته الشخصية. فينطلق المؤوّل بفهم مسبق من الذات إلى النص لينتزع منه تأويلاً يلائم ما يدعو إليه ويؤيده (Justification).

إن ما حدث في الفكر الإسلامي في تلك الحقبة، مهد لزعزعة قانون التأويل لا في مسائل الصفات والقضاء والقدر فحسب، بل بوجه عام. فقد فتحت تلك النزاعات والخلافات الباب على مصراعيه للحرية (غير المنضبطة) في تأويل النصوص، التي امتدت لتشمل دائرة النصوص السمعية الغيبية، وباتت عملية التأويل متعددة الوسائل متشعبة الطرائق.

مع تراكم هذا النوع من التأويلات وانتشارها، لم تعد النصوص نقطة انطلاق نحو المتلقي أو المخاطب، بل نقطة ارتكاز وبؤرة تبرير لمبادئ وأفكار مسبقة في ذهن القارئ أو المؤول. وهكذا بدأ التحول من الاهتمام المباشر بالنصوص ومعانيها الظاهرة ومحاولات تنزيلها على الواقع لتهذيبه وترشيده (كما كان على ذلك الصحابة ومن تبعهم)، إلى التحول باتجاه المؤول والاهتمام بالرد والتفنيد لتأويلاته وأفكاره وعقيدته إن اقتضى الأمر.

ألمح الإمام ابن تيمية (٣٩) إلى خطورة هذا النوع من الاتجاه التأويلي، كما أشار تلميذه ابن قيم الجوزية إلى انتشار هذه الظاهرة بقوله:

"فكل صاحب باطل قد جعل ما تأوّله المتأولون عُذراً له فيما تأوله هو، وقال: ما الذي حرم علي التأويل وأباحه لكم؟ ... وقالوا: كيف نحن نعاقب على تأويلنا وتؤجرون أنتم على تأويلكم؟" (٤٠).

وقد وجد أصحاب هذا النوع من التأويل في بعض المفاهيم السائدة مدخلاً لإضفاء الشرعية والقبول على تأويلاتهم البعيدة، كالقول بأن "كل مجتهد مصيب". وأصل المسألة الحديث الوارد في ترغيب القضاة: "إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر وإن أصاب فله أجران" (٤١). فقد اعتبر أصحاب هذا الاتجاه القيام بتلك التأويلات محض اجتهاد يؤجرون عليه، سواء في ذلك الخطأ والصواب. بيد أن أصحاب هذا الاتجاه أغفلوا أهمية الإتيان إلى النصوص بذهنية قابلة للاحتكام إلى مقاصد النصوص وشروط الاجتهاد الصحيح.

لم تظهر خطورة ذلك المنحى التأويلي بشكل كامل في ذلك العصر، فقد انبرى لفيف من العلماء السابقين رحمهم الله للعديد من الاتجاهات الزائفة في التأويل في محاولة لتبيان زيفها وانحرافها. وتمت محاصرة التأويلات المنحرفة المتعلقة بقضايا العقائد والصفات في الفكر الديني في الإسلام بإرساء قواعد وضوابط للتأويل. بيد أن تلك الضوابط لم تتواصل الجهود للمحاورة فيها وتطويرها خارج نطاق مسائل الصفات ونحوها، فاستمرت بذلك التأويلات المتعددة دون ضابط يحكمها في النواحي الأخرى من النصوص، والتي اهتمت بالمعاملات والتنظيمات ونحوها.

اتجاهات التأويل الحديثة في الفكر الإسلامي (تأثرًا بالغرب)

شهدت المجتمعات المسلمة في الفترات الزمنية المتأخرة من تاريخها تحولات كبيرة مع زحف التحدي الحضاري الغربي الحديث. وبرزت الحداثة في المجتمع خلال القرن التاسع عشر وما تلاه كاتجاه يحاول طرح التغيير على الذهنية المسلمة في كافة المجالات.

الحداثة ظاهرة غربية المنشأ والمنبت، تدور حول عقدة التمحور حول الغرب واعتباره مرجعية تُستفتى في كل صغيرة وكبيرة (٤٢). وقد تنوعت استجابات العديد من المفكرين في العالم الإسلامي لها، إما بمحاولة نقضها أو تقصتها أو التكيف معها. فالحداثة كمفهوم لم ينبثق من نصوص القرآن الكريم أو السنة النبوية، ولم يقم بتقديم نظرة أصيلة تستحضر مقاصد تلك النصوص أو غاياتها، بل طرح النهج المقارن مع الغرب وتبناه واحتكم إلى منطقه في كثير من الأحيان.

دعت العديد من الكتابات إلى التغيير وتبني التقدم والتمدن بمفهومه الغربي السائد للخروج من حالة الضعف والتخلف الذي منيت به المجتمعات المسلمة آنذاك. ولجأ أصحاب هذا الاتجاه إلى تأويل العديد من النصوص القرآنية والأحاديث النبوية وفق الفلسفات السائدة آنذاك. ويظهر ذلك جلياً في النصوص المتعلقة بالمرأة على وجه الخصوص.

كما برز اتجاه الاستقلال الدلالي للنص (semantic autonomy) وحرية المتلقي في الفهم والتأويل، بل وإعطاء الحرية الكاملة للمؤول في النظر إلى النصوص واعتبارية تلك الاستقلالية مهما بلغت تجاوزاتها. وقد كان لهذا الاتجاه الأثر البارز في تعدد التأويلات وانفتاحيتها وهدم المرجعية المركزية للنصوص المقدسة في المسيحية.

ممن ساند اتجاه الاستقلال الدلالي في الفكر الغربي، غادامير (Gadamer) الذي اكتفى في نظرته إلى النص بعلاقة المتلقي به فحسب. وقد كرس غادامير مؤلفاته للبحث في الفلسفة اليونانية وإشكالية التأويل (٤٥). ولقيت نظرية غادامير آذاناً صاغية لدى العديد من النقاد الذين لم يروا في النصوص الكتابية - كما أشرنا من قبل - اختلافاً عن غيرها من الكتابات الأدبية الأخرى، وعليه ينبغي محاكمتها وإخضاعها للقواعد النقدية المختلفة في المجال الأدبي.

أعطت نظرية غادامير أهمية بالغة للتأويل نازلت بها أهمية وقدسية النصوص الكتابية. وعلى الرغم من كثرة الانتقادات والمطاعن الموجهة لنظرية الاستقلال الدلالي للنص، إلا أنها في نهاية الأمر أدت إلى القول بحرية التأويل والفهم: فكلٌ يفهم ما يشاء وكيفما يشاء.

وبرزت نظريات متعددة في التأويل وجدت شرعيتها في مبادئ الإصلاحيين، كما وجدت شرعيتها في المجتمع الغربي الحديث القائم على الفردانية وتقديس آراء الفرد واحترام الحرية الفردية في التعبير وغيرها (٤٦). فالتأويل جهد عقلي ذاتي يخضع فيه النص الديني لتصورات المتلقي ومفاهيمه وأفكاره.

وترغب هذه الفلسفة الجديدة في جعل تأويل الكتاب المقدس حقاً لكل شخص. فما يعنيه النص لشخص ما، لا يعني أنه هو بعينه ما يقصده لشخص آخر. فلكل واحد الحرية في تأويل وفهم النصوص الكتابية طبقاً لتراثه الخاص وتجربته الإنسانية. وبمقتضى هذا المذهب الجديد: ليس هناك مقياس محدد للهيئة، وإنما كل متلق يصبح قانوناً على نفسه.

"فالدين يقدم افتراضاً يوحي إيحاء، والعلم الإنساني يتخذه فرضية عمل ينبغي التحقق منها في الواقع. وهذا يعني أن التفسير هو اكتشاف واكتناه للواقع، فلا يعود سبيلاً نازلاً من النص إلى الواقع، وإنما يغدو سبيلاً صاعداً من الواقع إلى النص. بهذا تتصوب رؤيتنا إلى الدين: إنه وليد الواقع، ناشئ منه وإليه يعود. وبهذا يتموضع الدين كعلم إنساني، وما تحول الثيولوجيا (علم الكلام) إلى أنثروبولوجيا (علم الإناسة) سوى مقدمة لتحويل الدين إلى أيدولوجيا" (٤٣).

انتقلت العديد من تلك الاتجاهات التأويلية إلى بعض الدوائر الفكرية في المجتمعات المسلمة عن طريق التأثر الحاصل بفكر التنوير والنهضة الوافد من الغرب، إضافة إلى العديد من الفلسفات المصاحبة له.

فقد ذهب مارتن لوثر من خلال فكره الإصلاحي إلى أن كل اختلاف في التأويل معطى سلفاً وموجود في النص، وقال بهرمينوطيقيا متعددة الطرق في التأويل تفيد في فهم تاريخ التأويلات من بصفتها تداولاً للآفاق (الماضي والحاضر) (٤٤)، في محاولة منه لمحاصرة دور رجالات الكنيسة وسلطتهم المطلقة في التأويل. وهكذا أسهم انتشار المذهب البروتستانتي في نشأة ظاهرة الاستقلال الدلالي للنصوص.

إن ما وقع فيه الكثيرون من أصحاب الاتجاهات النقدية الحديثة في التعامل مع نصوص القرآن والسنة، يرجع إلى عدم القدرة على فهم إمكانية مخاطبة القرآن الكريم لمختلف الأجيال على مر العصور والأزمان بنص واحد ثابت له قواعد محددة في تأويله ودلالات ألفاظه على أحكامه.

من هنا، فقد اتجه الكثير من الكتاب إلى تأويلات جديدة في محاولة لليّ أعناق النصوص في كثير من الأحيان بما يتلاءم مع متطلبات العصر ومتغيراته والفلسفات السائدة فيه (٤٧). واستند أصحاب هذا الاتجاه في التأويل إلى القول بأن معنى النص متغير حسب أحوال المتلقي والفروق والبيئات الثقافية والعصور المختلفة. فقد يأخذ النص الواحد معاني مختلفة طبقاً لمراحل عمر الإنسان وتجاربه الخاصة، وبهذا يكون النص مساوقاً لتطور الفرد في مراحل عمره ومساوقاً لمجموع التغيرات في كل عصر (٤٨).

وهكذا انتقلت تلك النظريات بكل ما تحمله من جذور مغايرة لمبادئ الإسلام إلى فلسفة التأويل في المجتمعات المسلمة عن طريق كتاب ومؤلفين رأوا في الخروج على ما اجتمعت عليه الأمة الإسلامية لقرون طويلة حرية في الرأي والفكر لا بد من ممارستها من خلال تأويلاتهم لنصوص القرآن الكريم والسنة. وتم النظر إلى النصوص على أنها وضع بشري ناسب طور الطفولة للعقل، ثم أن العقل تجاوز تلك المرحلة فأصبحت النصوص تاريخية توافق المرحلة التي وردت فيها.

"فأحكام التشريع في القرآن ليست مطلقة ولم تكن تشريعات مجردة مطلقة، فكل آية تتعلق بحادثة بذاتها فهي مخصصة بسبب التنزيل وليست مطلقة. وكل آيات القرآن نزلت على الأسباب، أي لأسباب تقتضيها سواء تضمنت حكماً شرعياً أم قاعدة أصولية أم نظماً أخلاقياً. إنها أحكام مؤقتة ومحلية تنطبق في وقت محدد وفي مكان بعينه.. وبوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم انتهى التنزيل وانعدم الوحي ووقف الحديث الصحيح وسكتت بذلك السلطة التشريعية الإلهية" (٤٩).

إن محاولة أصحاب هذا الاتجاه تنصب على نقل وترجمة المناهج النقدية الغربية بحذافيرها لنصوصهم الكتابية، ومن ثم تطبيقها على نصوص الكتاب والسنة دون تمييز بين الفوارق الهائلة التي لم تخف على الغربيين أنفسهم بين تلك النصوص وبين القرآن والسنة.

إضافة إلى أن المناهج بطبيعتها لها بعد اجتماعي وبعد ثقافي، وهي تعبير عن البيئة والحاجة التي دعت إلى ظهورها. فعملية نقلها واستزراعها في العلوم الإسلامية عملية لا تخلو من محاذير جمة ومخاطر عديدة ومحاولات عبثية فاشلة، إضافة لما لها من مصادرة لأصالة الفكر الإسلامي.

المفاهيم والتصورات الكلية ليست مثلاً أفلاطونية خالدة، ولا هي نيازك تتساقط من السماء من مجال تداول إلى آخر. بل إن التصورات الكلية العامة لأية دائرة حضارية لها سمتان: بعد تاريخي، بمعنى أن البيئة تفرزها في ظرف تاريخي معين؛ وبعد جمعي، فهي وليدة جهد جمعي مشترك لتلك البيئة.

وقد دلت الشواهد والوقائع التاريخية على أن عمليات الاستزراع تنتهي إلى مساوئ ثلاث متضايفة:

  1. تورث خروجاً وشذوذاً عن طبائع الأشياء من الناحية النفسية.
  2. عبث لا طائل من ورائه من الناحية العملية.
  3. مخاطر جمة من الناحية الأخلاقية.

وهكذا بقي التأويل مشروعاً منفتحاً لمختلف التيارات الفكرية والفلسفية، وقضية شائكة بحاجة إلى جهود متضافرة للتواضع على قانون يحكم سيره ويرشد دوره.

خاتمة

تبنت هذه الدراسة إشكالية التأويل في الأديان، والتي تعد من أبرز إشكاليات التعامل مع النص في دوائر الفكر الديني المختلفة قديماً وحديثاً.

كشفت الدراسة عن مدى تأثير الظرفية الاجتماعية والتيارات الفكرية والفلسفية في مسيرة التأويل وتشكل اتجاهاته المختلفة.

أسفرت الدراسة عن خطورة تقمص المناهج الغربية وطرائق تأويلها للنصوص الكتابية لديهم، ومن ثم تطبيقها على نصوص القرآن الكريم دون إدراك للفروق الهائلة بينها.

أبرزت الدراسة الحاجة الملحة إلى التواضع على إطار عام وقانون يضبط اتجاهات التأويل المختلفة في الفكر الإسلامي على وجه الخصوص، ويرشد مسيرها وفق منهج أصيل مستمد من نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية.

إشكالية التأويل في الأديان
تنزيل البحث ←