تدبر سورة إبراهيم – ٥

تدبُّر سورة إبراهيم

الحلقة الخامسة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسَّلام على رسولِ الله، وعلى آله وصحبهِ، ومن والاه

السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته

ونسأل الله (سبحانه وتعالى) أن يُثبِّتنا بالقولِ الثَّابِت في الحياةِ الدَّنيا وفي الآخرة.

وقفنا في تدبُّرِنا لسورة إبراهيم عند ذلك الموقف الشَّديد الصَّعب الَّذي يضع فيه القُرآن الكريم الإنسان أمام الحقيقة، ومن طبيعةِ الخطاب في القرآن الكريم أنَّهُ يُقرِّب مواقف الآخرة ويوم القيامة وكأنَّها حاضرة للعيان، وربِّي (عزَّ وجلَّ) بهذا الأُسلوب القُرآني العظيم، ومن خلالِ هذه الآيات يهزُّ الإنسان الغافل، ويطرُق على كُلِّ الأبواب الَّتي يمكن أن تُحدث عنده اليقظة، لأنَّ الإنسان في حالةِ الغفلة كالنَّائِمِ، وكُل ما يراه من أحداثٍ هي كالأحلامِ، ولا يمكن أبدًا أن يرى الحقيقة إلَّا إذا استيقظ؛ والقرآن العظيم يعرض موقفًا من مواقف القيامة يجعل الإنسان الغافل يستيقظ “وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا “من الآية 21 وكُلُّنَا يحتاج إلى تلك المواقف، يحتاج إلى ذلك الاستيقاظ. في المرَّةِ السَّابقة قلنا إنَّ الموقف الصَّعب الشَّديد في سورة إبراهيم هو عرض الأشخاص الَّذين كانوا تبعًا في حياتِهم لِأُناس تحكموا في مصائرِهم بطريقةٍ أو بأُخرى، سلَّموا مقاليدَ أُمورهم وحياتهم وشُؤونهم لهؤلاء والأسباب مُتعدِّدَة. النَّاس قد تسبح مع التَّيَّارِ إمَّا خوفًا أو طمعًا في شيء، أو مُجرَّد اعتياد على الوضعِ السَّائِد، ولكن في كُلِّ الأحوالِ القُرآن العظيم في هذه الآية يُحطِّم كُل جذور التَّبَعيَّة، ويُعطي للإنسان الاستقلاليَّة في الفكرِ والَّتي بدونها لا يمكن للإنسان المؤمِن أن يدرك معاني القُرآن العظيم أو يفهمها. القُرآن يحتاج لأجلِ أن يتدبَّره الإنسان ويتفاعل معه أن يكون حُرًّا طليقًا بلا قيود؛ فالقُرآن يُحرِّرُه ولا يمكن أن يتحرَّرَ بعيدًا عن القُرآنِ؛ إذ إنَّ التَّبعيَّةَ هي نوع من الأغلال والقيود والسَّلاسِل الَّتي يضعها النَّاس بأيديهم في أيديهم، ولابدَّ أن يتحرَّروا منها. سورة إبراهيم حرَّرت الإنسان من هذا الخوف من الكُبَراءِ ومن القادة حين يكون هناك فساد واضح؛ إذ إنَّ صفة القيادة في هذه الآية جاءت “لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا “من الآية 21. إذن القُرآن حين أراد أن يُحرِّرَهُم في هذه الآية عرض صورة مرئية لمشاهد القيامة ليجعل الإنسان يرى الحقائِقَ. أنت الآن تسير وراء التَّيَّار، وتسير وراء كائنًا من يكون، وألغيت العقل والفكر ولم تتأمَّل ولم تتدبَّر في آياتِ الله في الكونِ ولا في الكتابِ، ولكن عليك أن تدرك أنَّهُ في نهايةِ المطاف سيتخلى عنك كلُّ هؤلاء إذ إنَّه لا سُلطة لهم؛ ولذلك جاءت الآية لِتُبَيِّن كيف يكون هؤلاء يوم القيامة أمام الله (عزَّ وجلَّ) مسلوبي الإرادة فلا إرادة لهم ولا كلمة تُطاع ولا كلام يُسمع؛ فإذا كان شأنه كذلك فلماذا تسمع له في الدُّنيا وهو ليس له قُوَّة وليس له سُلطة؟ كيف توهمت أنَّهُ يمتلك سُلطة؟ أحيانًا الإنسان حين يكون في غفلة يرى الأشياء على غيرِ حقائِقهَا. فهو يظُن ويتوهَّم أنَّ هؤلاء البشر ممن يسير وراءهم يملكون له شيئًا، وهُم في واقعِ الأمرِ لا يملكون، ولكن هذا ما تصوَّره وتوهَّمه وعاش فيه كلَّ حياته، ثُمَّ جاءت الآية الَّتي بعدها لِتُبَيِّن ما هو أعظم وأكبر أنَّهُ حتى الشَّيطان الَّذي كان يسير البشرُ في الدُّنيا وراء وساوسه وهواجسه والخواطر التي يُلقيها في روعهم. هو في واقعِ الأمر ضعيف “وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ”من الآية 22 .سقطت الأقنعة، الوعد الَّذي وعدَ الله سبحانه عباده بالغيبِ حقّ “وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ” أمَّا وعد الشَّيطان فكذِبٌ: “وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ” من الآية 22 .نحن الآن نقرأ القُرآن ونحن في الدُّنيا لازالت الأنفاس تدخُل وتخرج، وندرك كيف يمكن أن يمُرَّ وتمُرَّ أوقات على الإنسانِ يوسوس له الشَّيطان بكثيرٍ من الوساوسِ، يُخيفُه من أمور كثيرة مثل المستقبل والعُمر والرِّزق والمرض وغيرها فهذه وساوس، ولكن الإنسان نتيجة لحال الغفلة الَّتي هو فيها يتصوَّرها حقائق، ويعيش العُمر وهو بعيد عن الحقِّ وعن كتابِ الله، في ذلك الموقف قال تعالى محذرًا: “وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ “من الآية 22 . ليس هناك أحد يمكن أن يُغني عن أحد ولا يُنقذ أحدًا، فاللوم لا يُوجَّه لأشياء، تدبَّروا معي في هذا المعنى العظيم، نحن في كثيرٍ من شؤوننا الدينية أو الدنيوية نحب أن نُلقي باللومِ على أحد آخر، بسببِ عدم الرَّغبة في تحمُّلِ المسئوليَّة عن الأخطاءِ، نقع في أخطاء ولكن دائمًا نحاول أن نبحث عما يُبرِّر ذلك الخطأ، وعما يُبرِّر ذلك التَّقصير وإذا لم نجد أحدًا من البشرِ ألقينا باللائمةِ على الشَّيطانِ ، وواقع الأمر أنَّ القُرآن يصنع إنسانًا حُرًّا كامل الإرادة بهذه الآيات العظيمة، إذ ليس لأحدٍ في عملِكَ في الدُّنيا عليك من سُلطانٍ، وتدبَّروا في الكلمةِ العظيمة واعتراف الشَّيطان الآن إذ قال: “وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي “من الآية 22 ولو نظرنا اليوم إلى الواقعِ المريرِ الَّذي يعيشه كثير من المسلمينَ من الَّذين لم يُوفقوا في حياتِهم الزَّوجيَّة فينفصلون، ويعزون الأمر إلى السحر أو الشيطان وكأنَّهُ هو العقل المحرِّك لما في هذا الكون لدرجة أن كثيرًا من المسلمين اليوم مسكونون بفكرة أنَّ هناك من يتصرَّف بالنيابةِ عنهم ويُحرِّكهُم وهُم مُجرَّد آلات مسلوبة الإرادة، وهذا الكلام، وهذا الفكر الخطير يتعارض مع ما في كتابِ الله (عزَّ وجلَّ) من أنهم هم المستجيبون: “دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي”. فالدَّعوةِ تأتي فإمَّا أن تستجيب، وإمَّا ألا تستجيب؛ ولذلك كان ردُّ الشيطان: “فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ” من الآية 22. وهو مُحِقّ في هذه الكلمة، فالإنسان حين يُخطىء، أو حين يفشل في زواج، أو في علاقة، أو في حياتهِ الدِّراسيَّة، أو في أي شيء من الأشياء، فلا ينبغي أن يُلقي باللائمة على أحدٍ إلَّا النَّفس. ولذلك ربِّي (عزَّ وجلَّ) أقسمَ بالنَّفسِ اللوامة.

لماذا؟ لأنَّ اللومَ في مثل هذه الحالة شيء إيجابيّ، لأجلِ التَّصحيحِ ولأجلِ أن أنظُر إلى الأمامِ. أنا وقعت في خطـأ وكُل ابن آدم خطَّاء، وليس العيب في أن تُخطىء، ولكن العيب الشَّديد والمنطق الَّذي لا يقبله القُرآن الاستمراريَّة في الخطأ، وأول نقطة في هذه الاستمراريَّة هي عدم الاعتراف بالخطأ. وذكرنا أكثر من مرَّة أنَّ عشراتِ الأمثالِ حتى الشَّعبيَّة سيطرت على عقليَّةِ الشُّعوبِ والبشرِ في كثير من المجتمعات الإسلاميَّة، وأصبحنا نكتفي بالقولِ (العين بصيرة، واليد قصيرة) قلنا هذا أكثر من مرَّةٍ، هذه النَّماذج وهذه الأقوال والأفكار لا يقبل بها القُرآن، ولا يمكن أن تتوافق ومنطق القُرآن، فالعين الَّتي تُبصِر الخطأ لابدَّ أن تتحرك لإيقافه، وتتحوَّل إلى شيء إيجابي، إذ ممكن أن أُغيِّر هذا الخطأ، أمَّا أن أُبصِر الخطأ وتبقى يدي مكتوفة لا أفعل شيئًا فهذا منطق غير مقبول؛ ولذلك الشَّيطان قال: “فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ” ولكن هل ينفع النَّدم واللوم في مثلِ هذا الموقف؟ أبدًا. لماذا يجعل القُرآن الغائب حاضرًا؟ فيوم القيامة غيب لم يحدُث بعد والقُرآن يُكلمني عنه بمنطق الحاضر. لماذا هذا الأسلوب القُرآني العظيم؟ ليجعل الآخرة ومواقف القيامة واضحة أمام الإنسان يستحضرها قبل أيِّ موقف يَمُرُ بهِ، أو أي كلمة يقولها، أو أي خُطوة يخطو بها في حياتهِ، تغيير وتغيير إيجابيّ جدًا ولا يمكن أن يحصُل بدون قضيَّة اللوم، ثُمَّ انتهت الآية بتبرئه منهم: “إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ “من الآية 22 .والآية واضحة أنَّ الإنسانَ حين يتَّخِذُ طريقًا بعيدًا عن الله (سبحانه وتعالى) يصير بعيدًا عن التَّوحيدِ ، وقلنا إنَّ سورة إبراهيم المقصد الأساسي فيها هو إخراج النَّاس من الظُّلُماتِ إلى النُّورِ، وأعظم ظُلمة في حياةِ البشريَّة هي الشِّرك. قال تعالى: “إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ” من الآية 22 . ولا ظُلم في الكونِ أعظم من الشِّرك بالله (سبحانه وتعالى) والكُفر به، والجحود بنعمتهِ والبُعد عن طريقهِ، ثُمَّ انتقل السِّياق مُباشرة إلى وصف الجنة وأهلها: “وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ “من الآية23 .وهؤلاء هم الَّذين آمنوا وعملوا الصَّالحات، ولا يأتي لفظ الإيمان في القُرآن إلَّا مُصاحبًا لعملِ الصَّالحات لأنَّ الإيمان اعتقاد وقول وفعل ومُمارسة وسلوك في واقعِ الحياةِ “آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ” وتدبَّروا في الكلمة قال: “وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آَمَنُوا” من الَّذي أدخلهم؟ الربّ الَّذي آمنوا بهِ، ربِّي (عزَّ وجلَّ) هو الَّذي يُدخِل النَّاس يوم القيامة الجنَّة وليست أعمالهم؛ إذن حتى وهو يعمل الصَّالحات هناك تصفية وتنقية للتوحيد. إنَّك لا تدخُل الجنَّة بعملِكَ، وإنَّمَا تدخُل الجنَّة برحمةِ الله (عزَّ وجلَّ) ولُطفهِ. والإيمان برحمتهِ ولُطفهِ سبحانه في هذا المجال هو محض التَّوحيد، هو صفاء ونقاء التَّوحيد.

وتدبَّروا كيف تنقِّي سورة إبراهيم توحيد الإنسان المؤمِن حتى في الخواطِر، لا تعتقد أنَّكَ تدخُل الجنَّة بعملِكَ، قال تعالى: “وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ “من الآية 23. تدبَّروا، تأكيد المعنى الأول أنَّ من تمامِ التَّوحيد ألَّا يلتفت القلب إلى عملٍ صالحٍ يعمله أبدًا، وإنَّمَا لا يرى في كُلِّ عمل إلَّا رحمة ولُطفًا وفضلًا من الله (عزَّ وجلَّ) فيزداد على الإيمانِ إيمانًا، ويزداد على الصَّلاح صلاحًا. هذا الإيمان عمليَّة مُتنامية، فالعمل الصَّالح لا يقف عند قيامك به، فليست آخر محطَّة في العملِ الصَّالِح أنَّكَ قُمت بالعملِ.. أبدًا. وإنَّما يبقى في حالةِ استمراريَّة مُتنامية وهذا يتناسب تمامًا مع الكلمات الَّتي جاءت بعدها “تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ “من الآية 23. لماذا كانت التحية في الجنة السلام؟ لأنَّ المؤمِن كلُّ حياتهِ سلام. وهذا ردٌّ واضح جدًا على كُلِّ أولئِك الَّذين يُسمُّونَ ويَصِمونَ الإسلام والقُرآن بأنَّهُ دين يُبرِّر للعنفِ أو للبُعدِ عن السَّلام، ولكن ذكرنا أكثرَ من مرَّةٍ _وسورة إبراهيم تُؤكِّد هذه المعاني_ أنَّ السَّلام الَّذي يصنعه القُرآن سلام حقيقيّ، وليس سلامًا مزيفًا ولا سلام شِعارات، إنَّهُ سلام يعيشه الإنسان في ذاتهِ. فمن أين جاء هذا السَّلام؟ من كلمةِ التَّوحيدِ لأنَّ الله (سبحانه وتعالى) ضرب للنَّاسِ مثلًا: رجُلًا سلَمًا لرجُل أي: سَلِمَ من كُلِّ الشُّرَكَاءِ، إذ ليس لأحدٍ أن يُوَجِهَهُ في حياتهِ، ولا يتوجَّه لأيِّ أحد في حياتهِ سوى الله (سبحانه وتعالى) فيعيش في سلامِ، وتدبَّروا في الرَّبطِ بين “تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ “وبين النِّزاع الَّذي تنازع به الضُّعفاء مع المستكبرينَ. حياة الإنسان الَّذي يعيش بوقًا وتبعًا للآخرينَ وسائرًا وراءهم في الغضبِ والرِّضا هي حياة مُمَزَّقة تجعل الإنسان مُشتتًا وفي حيرةٍ وألمٍ، والإسلام والقُرآن لا يريد للإنسان أن يعيش في حيرةٍ تتنازَعهُ الشُّرَكاء ما بين افعل ولا تفعل؛ وبهذه الكيفيَّة يعيش في حيرةٍ وعذابٍ؛ ولذلك هذا يُفسِّر لنا جانبًا من جوانبِ غيابِ السَّلامِ عن عالمنا المعاصِر على وجهِ العمومِ، صحيح هو يُدندِن بالسَّلامِ ولكن غابت عنه معاني السَّلام، وواحدة من أعظمِ أسبابِ غيابِ السَّلامِ ما يتَعلَّق بعلاقةِ الإنسان بربِّهِ؛ فكثير من البشرِ اليوم لا يعيش في سلام، لأنه يبحث عن السلام خارج نفسه، وينسى أن السلام شيء داخلي. السَّلام لا يبدأ من أروِقَةِ المجالسِ الدُّوَليَّةِ بل من الدَّاخِل من تلك العلاقة المصونة بين العبد وربهِ بكلمةِ التَّوحيد؛ فالمؤمِن الَّذي عاش حياته كُلها في سلام كيف ستكون تحيَّتُهُ يوم يلقى الله (عزَّ وجلَّ)؟ قال: “تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ “ولذلك في كثيرٍ من المواضع في القُرآنِ تكون كلمة السَّلام أول تحية: “سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ ۚ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ “الآية 24 / سوة الرعد إذن القُرآن كتاب يصنع سلامًا لا حروبًا ولا نزاعاتٍ، والَّذي يمكن أن يصنع النِّزاعات هو الفهم غير الصحيح لكتاب الله سبحانه، الفهم السَّيِّئ الَّذي يُؤدِّي إلى تطبيق سيِّئ؛ ولذلك جاءت الآية الَّتي بعدها لِتُبَيِّن هذه الحقيقة إذ قال تعالى: “أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) ” والخطاب لنبيِّنا (صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم) ولِكُلِّ من يقرأ هذا القُرآن، مُباشرة والآية جاءت بعد الحديث عن يوم القيامة، والموقف الصَّعب الشَّديد الَّذي عرضته الآيات بين الضُّعفاء وبين الَّذين استكبروا (وقد تكلمنا عنه في المرة السَّابقة) فلماذا تأتي هذه الآية الآن؟ لأنَّهُ لا يمكن أن يُخرج الإنسان من تلك الدَّوامة والحيرة والتَّبَعيَّة للآخرينَ والتَّيَّارات المختلفة إلَّا الكلمةُ الطَّيِّبة، ولا يمكن أن تكون الكلمة الطَّيِّبة (وهذا الَّذي أميل إليه في سياقات الآيات كلها) إلَّا شهادة أن لا إله إلَّا الله وأنَّ مُحمدًا رسول الله. كلمة طيِّبة وهذه الكلمة هي مِفتاح العلاقة بين الإنسان وربِّه، فهي المِفتاح الَّذي يدخل بهِ الإنسانُ الجنَّةَ، كلمة لها مكانة عظيمة وبهذه الكلمة العظيمة قامت السَّموات والأرض، وبهذه الكلمة العظيمة تُصحَّح العلاقة بين العبدِ وربهِ؛ ولذلك من أعظمِ ما يقوله الإنسان (لا إله إلَّا الله) تجديد للإيمانِ، تجديد للتوحيدِ، وللعلاقةِ بين العبدِ وربهِ (كلمة طيِّبة). ولكن تدبَّروا في أسلوب القرآن الذي يقوم على ضرب الأمثال، وافهموها: “كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ” صحيح أن عددًا كبيرًا من المفسِّرينَ قالوا: أوضح مثال للشجرة الطيبة يمكن أن يكون النخلة، والَّتي بطبيعتها كما وصف القُرآن في هذا المثل إذ قال: “أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ” لها عدة مُواصفات أولُهَا: أصلُهَا ثابت في الأرضِ؛ ولذلك نرى أي نخلة في العالمِ (الله ما إلَّا إذا أمام أعاصير تقتلع النَّخيل والَّتي تنزل على شكلِّ عذاب ينزل بالأُمَمِ ) ولكن النَّخلة لا تُقتلع فقط السَّعف يتحرك فيها وأصلها لا يتحرك ثابت وتد فيه الجذع لا تُحرِّكَهُ حتى الريح .

كلمة (لا إله إلَّا الله) في قلب المُؤمِن أصلُها ثابت وفرعُها في السَّماء وليس هذا فحسب، بل: “تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) ” كلمة التَّوحيد (لا إله إلَّا الله) ثابتة ولا شيء يُخرجك من كُلِّ فِتنِ الدُّنيا إلَّا هي، والَّتي ستأتي لاحقًا إذ تكلمنا في بداية السورة عن مقصدها وهو إخراج النَّاس من الظُلماتِ إلى النُّورِ؛ إذ لا يمكن أن يخرجوا إلَّا بالتَّوحيدِ، والَّذي لا يمكن أن تتحقق معانيه بأيِّ كتابٍ على وجه الأرض إلَّا بهذا الكتاب العظيم، الكلمة ذات الأصل الثابت ثبوتها في القلبِ وهي اعتقاد في القلبِ، ولكي يتم المثل بهذا الشَّكل لا بدَّ حين أقول لا إله إلَّا الله أن تأتي على القلبِ فلا تجعل فيه إلهًا ولا معبودًا إلَّا الله، تنزيه مُطلق عن كُلِّ الشُّركاءِ، والإنسان الَّذي يُؤمِن بأنَّ لا إله إلَّا الله يُؤمِن أنَّه لا رازقَ ولا مُعطيَ، ولا مُحيي ولا مميت، ولا مدبِّر للأمر إلَّا الله فيتساقط كُل الشُّركاء بعد ذلك من البشرِ ومن الحجرِ. إذا صحَّت كلمةُ التَّوحيد في القلبِ وصفت ورسخَ ذلك الجذر في الدَّاخِل، في الأصل في تُربةِ القلبِ قلب الإنسان المؤمِن فماذا يحصُل؟ هل يمكن أن تبقى له تبعيَّة لأحد؟ مُستحيل! لقد تخلَّصَ من كُلِّ التَّبَعيَّاتِ للأفرادِ إذ يُضِلونَهُ ويقودونَهُ هنا وهناك فلم يعُد ريشة في مَهبِ الرِّيح تتقاذفها أهواء وصراعات ونزاعات البشر، لا بل شجرة “أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ “من الآية 24 باسِقة سامِقَة، واللافت للنظر تشبيه كلمة التوحيد بالنخلة التي تمتد عموديًا في السماء، وكذلك هي بذرة التوحيد تنمو في القلب. وكل ما تثمر به من أعمال يصعد إلى السماء. “إليْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ والعَمَلُ الصَّالحُ يَرْفَعُهُ “آية 10 / سورة فاطر. أعمالنا لا ترتفع بحجمها، صدقاتُنا لا ترتفع إلى السَّماءِ ولا تُقبل عند الله بمقاييس العدد والحجم والكميَّة، وإنَّمَا ترتقي بقدرِ ما صاحبها من الإيمانِ والتَّوحيد بالله؛ ولذلك لا ينبغي للمُؤمِن وهو يقرأ هذه الآية أن يخلو أي عمل من أعماله أو حركاته دون استذكار مبدأ التَّوحيد العظيم في كُلِّ صغيرة وكبيرة، في كُلِّ عمل وفي كُلِّ خَطَّةِ قلم، وكُلِّ حرفٍ يكتبُه، وفي كُلِّ كلمة يقولها إذ تُصبح الكلمة عملًا وفي كُلِّ شيء.

تدبَّروا في هذه الآية العظيمة الَّتي تبين أثر التوحيد في تثقيل الأعمال وذلك التَّرابُط العجيب إذ قال تعالى: “وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ” الآية 23. العمل الصالح لأجلِ أن يُقبلَ لابد أن يكون نابعًا من التَّوحيدِ، خالصًا لله. فأخلص العمل لله (سبحانه وتعالى)؛ إذن هي بذرة الإيمان والتَّوحيد بالله (عزَّ وجلَّ) كُلَّمَا كَبُرَت، كُلَّمَا طُهِّرَت، كُلَّمَا ازدادت نقاء وصفاءً ازدادَ رُسوخُهَا في القلبِ، وازدادَ نُموُّهَا في السَّماءِ بالعملِ ولذلك لا تكبر أبدًا الأعمال الصَّالحة كمًّا ولا كيفًا إلَّا بما يُصاحبها من التَّوحيدِ. إذن كُل مدار الأعمال هو التَّوحيد بكُلِ تأكيد. “أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ “وما النَّتيجة؟ قال تعالى: “تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا “من الآية 25 .في كُلِّ وقت، في كُلِّ كلمة، في كُلِّ حركة، في كُلِّ سكنة أنت تقوم بها أصبح هذا العمل بما يُرافقه من التَّوحيدِ مثمرًا، ولذلك شبَّه كثير من المفسِّرينَ الكلمة الطَّيِّبة بالنَّخلة الَّتي لا يُرمى منها شيء، فكُلِّ شيء يُستفاد منه، والمؤمِن ليس في حياتهِ دقيقة ولا ثانيَّة يمكن أن تمُرَّ مع التَّوحيدِ إلَّا وتُؤتي ثمرتها، فهو إنسان مُثمِر وإيجابي يعيش بالتَّوحيدِ الَّذي هو أعظم دافع للإنجازِ، الكلمة الطَّيِّبة (لا إله إلَّا الله) تجعل منك إنسانًا مُنجِزًا ناجحًا في حياتِكَ مُثمرًا في كُلِّ مكانٍ تُوجد فيهِ. فلا يمكن للمُؤمِن أن يجلس مجلسًا إلَّا ويُثمِر فيه خيرًا إمَّا يتذكَّر، أو يُذكِّر أو الاثنان معًا. وهذا أعظم عمل. فهذا نابع من التَّوحيد الَّذي في القلبِ والَّذي هو الضَّمانة الوحيدة لعدم الغفلةِ عن ذِكرِ الله (عزَّ وجلَّ). ولذلك ربِّي (سبحانه وتعالى) قال في نهايةِ الآية: “لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ “من الآية 25 . يتذكرون بهذا القُرآن العظيم أنَّه لا يمكن أن يُقبل العمل بدونِ صفاء التَّوحيد ونقائه، ولا يمكن أن يخرج الإنسان من ظُلمةِ الجهل والتَّبَعيَّة وكُلِّ الظُلُمات الَّتي تكلمت عنها سورة إبراهيم بدون كلمة التَّوحيدِ.

وفي المقابِل قال: “وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ “من الآية 26. الشَّجرة الخبيثة ليست كما قال عدد من المفسِّرينَ (شجرة الثُوم أو الحنظل) المسألة ليست نوعيَّة نبات، كُل النَّاس قد يحدث في حياتهم ما هو ضارٌّ وغير نافع (شيء خبيث)، والإنسان ممكن في أي وقت من الأوقات أن يتعرض لشيء مُعيَّن ضارٍّ بصحتهِ وخبيث يُؤذيه وعلى سبيلِ المثال: المصاب بداء السُّكرىّ يكون السُّكر قاتلا بالنسبةِ إليه، ولكن هل السُّكر خبيث؟ لا ليس خبيثًا في ذاتهِ ولكن أصبح فيه من الضَّرر على مثل هذا الإنسان بحسب حالته، أما الخبيث الضار فقد جاء مثله في الكتاب العزيز: “وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ” طبيعة البشر حين يرى شيئًا لا ينفعه يجتثه أي يقتلعه من الأرض بقوة. لماذا؟ لأنَّ فيه ضررًا. وما هى الكلمة الخبيثة؟ نقيض التَّوحيد، الشِّرك والكُفر بالله (سبحانه وتعالى). قال تعالى: “اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ” من الآية 26. لماذا؟ حكمة التَّصرُّف الإنسانيّ إذا ما وجد شجرة فيها ما يُؤذي تركها وتجنب أذاها كالشوك في الشجر النافع. أما حين تكون الشجرة خبيثة فإن الإنسان ينتزعها من الأرض غير آسف عليها.كلمة الكفر والبعد عن التوحيد والشرك بالله تقتلع الإنسان من جذوره التي هي الفطرة السليمة والإيمان بالله فيُصبح كالشَّجرة “مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ “من الآية 26. فما عاد له استقرار في رأي ولا في حُكمٍ، ولا في أمرٍ ولا في نهىٍ (إنسان مُتَذبذِب) حائر يعيش كُل العُمر لا رأي له، تبعًا لأشياء مختلفة في حياتهِ، تُحرِّكهُ أهواؤه وشهواته ونزعاته فلا قرار له ولا ثبات، يمكن أن يُؤمِن بالله، ويلبس ويرتدي لباس الإيمان كالمنافقين على سبيلِ المثال إذا كان الدِّين بالنسبةِ إليه مصلحة، وينزع عنه لباس الدِّين إذا كان لا يصُبُّ في مصلحتهِ فيمشى مع التَّيَّارِ، مع الأهواءِ المختلفةِ “مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ”. هذه ليست كتلك. فكلمةِ الإيمان تُثبِّت الإنسان في اليقينِ بالله (سبحانه وتعالى)، أمَّا كلمة الكُفرِ والجحود والبُعدِ عن الإيمانِ فتقتلع الإنسان من جُذورِ فطرتهِ. والفطرة هي الإيمان والتَّوحيد. فما الَّذي اقتلع هذه البذرة والفطرة؟ الشِّرك بالله (عزَّ وجلَّ) والكُفر به، فيما سبق قلنا عن هذا النُّوع من البشرِ. فماذا نتوقع منه حين يلقى الله (عزَّ وجلَّ)؟ كيف سيكون لقاء الله (سبحانه وتعالى) له؟ قال تعالى: “يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27) ” لا يمكن أن تكون ثابتًا ساعة الموت أو الاحتضار أو لقاء الله (عزَّ وجلَّ) وأنت لم تثبُت في الدُّنيا، تنازعتك الأهواء والشَّهوات والمطالب والشُّرور والآثام، ما الَّذي يُثبِّت المرء؟ كلمة التَّوحيد إذا ثبتَّ عليها يثبتْك الله؛ ولذلك قال تعالى: “يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ” ولذلك من أعظمِ وسائل الثَّبات في أيامِ الفتن (لا إله إلَّا الله). الإشكاليَّة الخطيرة هي أنَّ الكلمة لها كرامة عظيمة عند الله. يعني مُجرَّد القول (لا إله إلَّا الله) فهذا قول عظيم جدًا، ولكن الَّذي يزيدُهَا عظمة وأثرًا في حياةِ الإنسان المؤمِن أن يتدبَّرَ في معناها، أن يُدركَ آثارها، أن يجعلَ ذلك الإيمان وذلك التَّوحيد عملًا مُثمِرًا ويُحوِّله إلى سلوك في حياتهِ، ولكن أن لا يكونَ لذلك التَّوحيد صدًى في واقعِ الحياة فذلك حوَّل كلمة (لا إله إلَّا الله) إلى ألفاظ فقط. وهي على كرامتِهَا ومنزلتِهَا وعظمتِهَا لا يمكن أن تُؤدي فعلها في حياةِ الإنسان المؤمِن. ما الَّذي يجعلها ثابتة راسخة؟ حتى النَّخلة الَّتي سبق ذكرها وضرب الله سبحانه بها مثلًا، إذا لم ترعها بالماءِ والسِّقايةِ وما تحتاجه لنموِّهَا هل ستبقى على ثباتها أم تموت؟ تموت. فلا شيء يعيش بدون رعاية. كلمة التَّوحيد في قلبِنا تحتاج إلى الرِّعايةِ، تحتاج إلى سقي وري، وريُّها العمل الصَّالح، والإخلاص لله (سبحانه وتعالى)، ولذلك “يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ “من الآية 27. ومن أعظمِ النِّعم الَّتي يُنعِم الله (سبحانه وتعالى) بها على الإنسان المؤمِن هي الثَّبات، ولماذا الثَّبات خاصَّةً في سورة إبراهيم؟ لأن المرء يرى أمامه ظُلُمات الفتن فمن الممكن أن يتزعزعَ الإيمان في شكلِ مُنحنًى صاعد أو هابط فما الَّذي يُثبِّتَهُ؟ الأصل والقول الثَّابِت الَّذي ثبَّتَهُ التَّوحيد؛ ولذلك أول ما يُسأل عنه العبد عند لقاء الله (عزَّ وجلَّ) شهادة أن لا إله إلَّا الله؛ فالقلبُ الَّذي عاشَ (لا إله إلَّا الله) اعتقادًا وقولًا وسلوكًا وعطاءً هو القلب الَّذي سيُلهم الشَّهادة يوم لقاء الله (عزَّ وجلَّ)، أمَّا القلب المتَزعزِع الَّذي ضرب القُرآن له مثلًا وقال: “مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ “من الآية 26 فهو في خطر.

لو نظرنا إلى واقعنا اليوم لوجدنا أنَّ هذه النِّعمة العظيمة (التَّوحيد) هي أعظم نِعَم الله على الإنسانِ. ليست أعظم النِّعَم أن تكون في صحة، وفي عافية، وفي مال، وفي رزق، ولديك أولاد، بل أعظم نعمة أن تكون مُوَّحِدًا تقول: لا إله إلَّا الله محمد رسول الله، أن تدخُل في زُمرةِ لا إله إلَّا الله وليس هناك نعمة أعظم منها أبدًا. فكُلُّ النِّعم الأُخرى طارئة إذا لم يكن معها (لا إله إلَّا الله). قال تعالى: “أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) ” القيادات الفاسدة الَّتي تعرف كيف تُبدِّل كلمة التَّوحيد وتجعلها مُجرَّد حُروف صامتة ساكتة لا تنطق بالحقِّ، وهي بخلافِ ذلك تمامًا فهي تنطق بالأفعالِ؛ تنطق حين لا يكون هناك معبود في الكونِ إلَّا الله، ولا وجهة توجهها يمينًا أو يسارًا، ولا تتلقى الأوامرَ إلَّا من الله. هذه هي الحُريَّة الَّتي يصنعها القُرآن حُريَّة حقيقيَّة. فالنَّاس يمكن أن يكونوا أحرارًا يمشون في الشَّوارعِ بدون قيود ولا أغلال في أيديهم، ولكنَّهم يرسفون في القيودِ والأغلال؛ أغلال القلوب الَّتي كبَّلت كلمة التَّوحيد فجعلتها مُجرَّد كلمة تُقال باللسان، ولا أثرَ لها في واقعِ الحياة ولا في السلوكِ. قال تعالى: “أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ” فأيّ نعمة الَّتي بدَّلُوها؟ نعمة التَّوحيد بدَّلوها بالكُفرِ وقال: “وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ “قيادات فاسدة تسوق شعوبها وأفرادها إلى الهلاكِ حين تجعل من التَّوحيد مُجرَّد كلمة أو شعار لا أثر له في واقع الحياة. فلا عملَ ولا سلوكَ ولا صدقَ ولا تفانيَ ولا أوامرَ ولا تطبيقًا لشرع الله في واقعِ الحياة، وهذا أمر مؤسف. ونحن ذكرنا هذا أكثرَ من مرة فالقُرآن لا يُجزَّأ؛ الآن في بعضِ المناهج بدأت تُجزىء القُرآن سورة التَّوبة وكذلك سورة الأنفال؛ إذ يتخيَّرون من كلامِ الله، وكلام الله لا يُتخيَّر منه، فهذا كُله كلام الله؛ الرَّبِّ الَّذي أمرَ بالسَّلامِ، وجعل دينه شعارًا للسَّلام، صنع سلام الأقوياء، سلامًا حقيقيًا وليس مُزيَّفًا؛ ولذلك تدبَّروا في ذلك الرَّبط العظيم “أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ(28) ” والنَّتيجة تدبَّروا في الفعلِ قال: “وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ” والأقوام ما بالهم؟ أُناس سلبيون لم تُحرِّك فيهم (لا إله إلَّا الله) التَّوحيد، ولا العمل، ولا الإيجابيَّة، ولا الفعل الصَّالح، ولا تغيير المنكر، ولا إحقاق الحقّ، ولا ردّ الباطل قال تعالى موضِّحًا مآلهم: “جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) ” ولذلك قال ربِّي (عزَّ وجلَّ) في هذه الآية العظيمة فقط: “بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا “ولم يذكر تفاصيل ماذا فعل بهم، ولَّا ما حلَّ بهم.

لماذا؟ لأن مُجرَّد أن يتخبطَ الإنسان بعيدًا عن كلمةِ التَّوحيدِ فردًا أو جماعة معناها جاء النَّذير، نذير بالشَّرِ، نذير بكُلِّ البؤسِ والشَّقاء للِأُمم ولذلك قال: “وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ”خسارة. فالشيء عندما يبور يكسد حتى لو كان أحسن بضاعة اقتصاديَّة أو غيرها لكنَّها بارت لماذا؟ خلت من كلمة التَّوحيد ممكن أن تكون الأسواق رائجة، والاقتصاد مزدهرًا ولكن حين يخلو من كلمة التَّوحيد يصير فارغًا لا تنتفع به الأُمم ولا الأفراد، ولذلك لربما نُلاحظ في واقعنا المعاش أنَّ النَّاسَ الآن يتكلمون بلغة ومنطق الأرقام، وصارت الأموال تتضاعف ولكن أين البركة في الحياة؟ في أشياء خلت وذهبت وتسرَّبت من بين أيدينا دون أن نشعُر بها، صفاء ونقاء التَّوحيد تلك الكلمة الَّتي تفرض عليك وأنت في مالك ألاَّ يكون ذلك المال مدعاة للفساد ولا للإفساد، مال حلال طيب.

وكلمة لا إله إلَّا الله ليست كلمة فحسب، بل التزامًا أن يُؤمِن المرء بأنَّه لا رازقَ إلَّا الله. فعندما يؤمر بالزكاة يدفعها عن طيب نفس، وذلك لشعور قويٍّ بأنَّ الله هو الرَّزاق ذو القُوَّةِ المتين؛ فإذا قال إنَّ الرِّبا حرام أمتنعُ عنه، وفي واقع الأمر توجد أشياء وأُمور كثيرة في حياتنا تحتاج إلى تفعيل كلمة التَّوحيد، وهي كلمة عظيمة حتى في ترديدِهَا بركة وعظمة في حياتنا. وفعلها في واقعِ الحياة موجود تمامًا، وهو أقوى من أيِّ شيء آخر في حياةِ الفرد والمجتمع والمشكلة أنَّك لم تُفعِّلهُ. وكمثال من واقعِ الحياة عند تعبئة بطاقة الشَّحن للهاتف أو غيره تصلك رسالة تطلب منك أن تقوم بتفعيلِهَا، وكذلك الحال بالنسبةِ إلى كلمةِ التَّوحيدِ إذ تحتاج إلى تفعيل. ففعِّلهَا في حياتِكَ ليس ترديدًا فقط. هل فعلًا (لا إله إلَّا الله) في حياتِكَ؟ هل تُؤمِن فعلًا بأنَّه لا معبودَ إلَّا الله؟ ولماذا كل هذه الكلمات؟ حتى لا يتخبَّط النَّاس في الشِّركِ؛ وتدبَّروا معي في الرَّبطِ العظيمِ بالكلماتِ قال: “وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) ” لماذا الكلام عن الأنداد؟ نفس السِّياق الَّذي نتكلَّم عنه؛ كلمة التَّوحيد حين لا تُفعَّل في واقعِ الحياة ماذا يحدُث؟ “وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا “من البشرِ أو من الحجرِ أو من الصُّورِ من كُلِّ شيء فالأنداد ليسوا شكلًا واحدًا، ولكن كيف تكون النِّدِّيَّة؟ على سبيلِ المثالِ: أنت لا ينبغي أن يحكُم في حياتِكَ ولا يأمُر ولا ينهى إلَّا الله؛ فمن الَّذي يأمر وينهى في حياتِكَ؟ من هو الآمِر الناهي؟ هذه نِدِّيَّة لله سبحانه. وعندما أقبل أن يُشرِّع لي أحد من دونِ الله فيقول لي: افعل هذا ولا تفعل ذاك، وأتلقى الأوامر من أي جهة إلَّا الله (عزَّ وجلَّ) فهذا معناه أنَّ لديّ إشكاليَّة في قضيَّة التَّوحيد أحتاج إلى تفعيلِهَا ولذلك قال: “وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا”ولم يذكُر شيئًا سوى أنَّهم جعلوا لله أندادًا “لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ “تدبَّروا معي في هذه الآيات العظيمة وفي هذه السورة الكريمة الَّتي تهُزُّ الوجدان وتُوقِظ القُلوب وتُعيد الأُمور إلى نصابِهَا؛ وتجعل الإنسان المؤمِن يستشعِر معنى كلمة التَّوحيد استشعارًا فعليًا لأنَّهُ لا يمكن أن يكون هناك نُور في حياتي بعيدًا عن كلمةِ التَّوحيدِ إذ تُنير الحياة أمامي فتجعل الوجهة واحدة (وجَّهت وجهي للَّذي فطر السَّمواتِ والأرضِ حنيفًا مُسلمًا وما أنا من المشرِكينَ) فهذه ليست كلمة تقال.

أسقِط كُل الأنداد ووجِّه قلبك لله (سبحانه وتعالى) وحده لا شريك له، كثير من المسلمينَ في إشكاليَّة خطيرة في حياتهم. هو فعلًا لا ينظُر إلى نقاء كلمة التَّوحيد وما أصابها وعلقَ بها من شوائبِ؛ والشَّوائب ليست البدع والانحرافات العقدية فحسب فالرِّياء أعظم شائِبة. وعدم الإخلاص لله (سبحانه وتعالى)؛ وعدم توجُّه الإنسان في حياتهِ لله فهذه كلُّها شوائب، ولذلك نحن نقول إن المطلوب هو تفعيل كلمة التَّوحيد (لا إله إلَّا الله) في حياتِكَ.

السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *