الحلقة الثانية (من الآيةِ الأولى إلى الثالثةَ عَشْرَةَ)
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله حمد الشاكرين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وقفنا في تدبرنا في سورة الشورى عند تلك الآيات العظيمة التي جاءت تبين أوجهًا من التناسب بين مفتتح السورة وخواتيمها، وبين مفتتح السورة وخواتيم سورة فُصِّلَتْ، وقلنا إن القرآن العظيم في هذه السورة المباركة جاء يقدم لنا أساليب من التعامل مع إشكالية الاستعلاء في الأرض ووقفها عند حدها قبل تفاقم شرها وخطرها، وسريانها في كافة مفاصل المجتمع لتودي به إلى حَافَةِ الهاوية، وذكرنا فيما ذكرنا أن هذه السورة المباركة جاءت تبين أشكالًا وآليات من هذا التعامل مع هذه الإشكالية الْخَطِرَة في حياة الفرد وفي حياة المجتمع، من هنا بدأت السورة المباركة بالحديث عن قدرته (جَلَّ شَأْنُهُ) قال: ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الشورى: 4، 5]، وقلنا فيما قلنا، إن ذكر الملائكة واستغفار الملائكة للمؤمنين جاء في سورة الشورى وسورة فُصِّلَتْ وسورة غافر، ذاك أن الخطب جلل، وأن صراع الإيمان مع الشر ومع الباطل صراع طويل مرير يحتاج فيه المؤمن إلى زاد وتقوى، كما يحتاج فيه إلى استغفار الملائكة له، ومن هنا جاء دور الملائكة في استغفارهم للمؤمنين ﴿يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الشورى: من الآية 5]، ذاك أن الإنسان في رحلته مع الصراع والتدافع بين الخير والشر والحق والباطل تعتريه لحظات ضعف، كما تعتريه لحظات القوة، تعتريه لحظات الضعف بحكم عجزه، بحكم محدوديته، بحكم بشريته، وتعتريه لحظات القوة بحكم إيمانه ويقينه وتوكله على خالقه (جَلَّ شَأْنُهُ)، قال: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ﴾ [الشورى: 6].
وهنا تبين الآيات العظيمة ومنذ بداية السورة دور النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ودور الإنسان المصلح في مجتمعه، أولئك الذين يحيدون عن طريق الحق ما أنت عليهم بحفيظ وما أنت عليهم بوكيل، الله حفيظ عليهم، الله حفيظ على ما يقولون وما يسرون وما يعلنون، ومن هنا قالت الآية التي بعدها: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾ [الشورى: 7] دورك دور البلاغ، دورك دور الإنذار، الله (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى) أوحى إليك قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا، كل قرى العالم، والقرآن العظيم يعبر بمفردة القرى عن الدول والأمم والشعوب والعالم، أنت لست رسالة خاصة فقط بهؤلاء القوم، رسالتك بكل العالم ولكل العالم، تنذر أم القرى من حولها وتنذر بأي شيء؟ قال: ﴿يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾ [الشورى: من الآية 7] وكأن الرسالة بأكملها التي جاءت محملة بعشرات التعاليم والتشريعات يضع القرآن العظيم أبرزها في يوم الجمع، يوم القيامة الذي كانوا به يكذبون، ذلك اليوم الذي يفرق الناس، قال: ﴿فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾ [الشورى: من الآية 7]، ما الذي يحدد من في الجنة ومن في السعير؟ الإيمان بيوم البعث، الإيمان بيوم الجمع، الذي يؤمن بيوم الجمع ويعمل له ألف حساب وما سمي يوم جمع إلا لِأَنَّ الناس فيه يجتمعون، وتدبروا في اختيار اللفظ قال: ﴿يَوْمَ الْجَمْعِ﴾ مع الحديث في ثنايا السورة عن التفرق والخلاف، يوم القيامة الناس يجتمعون، وكما أننا نرى في الدنيا على سبيل المثال كيف أن المصائب تجمع الناس، والهموم والأحزان والغموم التي يشترك فيها الناس تجدهم قد اجتمعوا على كلمة واحدة، في أثناء حصول المصيبة أو الهم أو الغم أو ماشابه، إذن يوم الجمع يجتمع فيه الناس جميعًا على صعيد واحد، تفرقوا في الدنيا، تفرقوا بإيمانهم ومعتقداتهم، واحد يكذب والآخر يؤمن ويصدق، ولكنهم يوم الجمع سيجتمعون على صعيد واحد ليوم الفصل، هذا يوم الجمع الذي لا ريب فيه ولا شك في وقوعه، هو الذي يفرق ويفصل بين الناس ﴿فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾ [الشورى: من الآية 7] على أي أساس؟ على أساس إيمانهم بيوم الجمع، من آمن بهذا اليوم سيعمل له ألف حساب، ومن لم يؤمن به لن يعمل له حساب، قال: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾ [الشورى: 8] لو أراد الله سبحانه أن يجعل الناس أمة واحدة وفريقًا واحد وعلى كلمة واحدة دون أن يترك لهم حرية الاختيار المسئولة لفعل (سُبْحَانَهُ جَلَّ شَأْنُهُ)، ولكن شاءت حكمته أن يُدْخِلَ من يشاء في رحمته والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير، لماذا جاء هنا بذكر الظالمين؟ لِأَنَّ هؤلاء من الظالمين هم الذين بظلمهم وعدوانهم اختاروا طريق السعير، الله (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى) يرسل الرسل وينزل الكتب والرسالات، ولكن أعطى للإنسان حيزًا من الحرية والاختيار، وبناءً على ذاك الاختيار: ﴿فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾ [الشورى: من الآية 7]، قال: ﴿أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ﴾ وهذه حقيقة، ﴿أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الشورى: 9].
والآية جاءت في سياق الاستنكار والتوبيخ، كيف بعدما تبينت لهم قدرة الله (جَلَّ شَأْنُهُ) في خلق السماوات والأرض؟ كيف لهؤلاء القوم أن يتخذوا أولياء من دونه؟ وتدبروا في الربط بينها وبين الآية التي قبلها ﴿وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾ [الشورى: من الآية 8] ولكن، اتخذوا مع ذلك من دونه أولياء، الإنسان حين يتخبط ويتخذ من دون الله وليًّا ليس له ولي في واقع الأمر، لِأَنَّ من ذاك الذي يتولى شئونه إلا الله، من ذاك الذي يرفع عنه الضر إلا الله، من ذاك الذي يبدل ما أصابه من شر وسوء إلا الله، أما وأن الله على كل شيء قدير، أنى لذاك الإنسان أن يتمادى في ظلمه، ظلمه لنفسه أولًا، ويتخذ من دونه أولياء، قال: ﴿فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الشورى: من الآية 9] من المستحق للولاية إلا الله؟ يحيي الموتى، على كل شيء قدير، ليس لك من دونه ولي ولا نصير، أَنَّى لك أن تتولى غيره، وتولي شئون ذاتك وحياتك وأسرتك لغير الله (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى)، حتى يصور لنا القرآن منذ بدايات سورة الشورى العظيمة بشاعة وقباحة جرم الإنسان، في حين يولي وجهه شطر أولياء يتخذهم من دون الله، قال: ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ذَلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ [الشورى: 10] ما تختلفون فيه من شيء، وكلمة شيء كلمة جامعة لكل شيء، كل ما تختلفون فيه حكمه إلى الله، ولكن هذه متى يكون حكمه إلى الله؟ إن أنت اتخذت الله وليًّا، مصرفًا لشئون حياتك، أما حين يتخبط الإنسان ويتخذ أولياء من دون الله، فحين يختلف حكمه يكون إلى من؟ إلى الشرق؟ أم إلى الغرب؟ إلى هنا؟ أم إلى هناك؟ هنا يصور القرآن العظيم بشاعة جرم الإنسان بحق نفسه حين يتخبط بعيدًا عن ولاية الله، حيرة، ومرارة، وتخبط، والتباس في الأمور، وشك في كل شيء، لا يمكن أبدًا أن تبدد تلك الحيرة وذاك الجهل وتلك الظلمات التي يتخبط فيها الإنسان وهو يبحث عمن يختلف إليه ويحكمه في شئون حياته من هنا ومن هناك، فارق شاسع بين ذاك الذي لم يحكم إلا الله في شئون حياته، وبين ذاك الذي يحكم عشرات من الأولياء في تصريف شئونه وحياته، ومن هنا جاء الحديث عن التوكل قال: ﴿ذَلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ [الشورى: من الآية 10].
ليست حياة الإنسان الذي وَجَّهَ وَجْهَهُ وقلبه إلى الله سبحانه واحدًا أحدًا متوكلًا إليه، راجعًا منيبًا إليه، مرجعًا كل شئون حياته وتصاريفها إليه، ليس كذاك الذي يتخبط هنا وهناك، لا يستويان عند الله، فارق شاسع بينهما، قال: ﴿فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [الشورى: من الآية 11] الذي خلق السماوات والأرض ألا تحكمه في شئون حياتك؟ من تبتغي أقوى منه؟ ومن تبتغي أرحم منه؟ ومن تبتغي أحكم منه (جَلَّ شَأْنُهُ)؟ قال: ﴿جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: من الآية 11] لِمَ الحديثُ عن الزوجية هنا في هذا السياق؟ التناسب واضح بين الحديث عن الاختلاف وبين الزوجية، قال: ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ﴾ [الشورى: من الآية 10] وقال بعدها: ﴿جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا﴾ [الشورى: من الآية 11]، أنت لو نظرت في الكون لما وجدت التطابق فيه من حيث الخلقة، بمعنى آخر: خلق الذكر والأنثى، وخلق الأنعام مختلفة في الألوان وفي الأشكال وفي الأجناس وفي الأنواع وفي الوظائف!
لماذا هذا الاختلاف؟ اختلاف تنوع، واختلاف تعدد، واختلاف يضاف إلى الحياة، واختلاف يجعل من هذه الحياة التي نعيش فيها حياة ترتقي بالحياة الإنسانية وترتفع بها، وليس اختلافًا يذهب إلى تشقق وتمزق الحياة الإنسانية، تدبروا في الربط بين الاختلاف والحديث عن الزوجية؛ لِأَنَّ الزوجية مبنية على الاختلاف من نفس الجنس، جنس الإنسان، ولكن ذكر وأنثى، من نفس جنس الأنعام ولكن عشرات الأنواع المختلفة: الغنم والبقر والجمال وغير ذلك مما عرفه الإنسان، من الذي خلق؟
الله (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى) قال: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: من الآية 11] لماذا هنا التنزيه ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾؟ حتى لا تذهب نفسك ويذهب عقلك ويطيش فكرك بعيدًا في التفكر في ذات الله، لا تتجاوز المرحلة ولا تتجاوز الدائرة التي أنت فيها، أنت في دائرة الخلق عليك أن تتفكر في خلق الله ولا تذهب بعيدًا إلى التفكر في ذات الله سبحانه الذي لا تنطبق عليه هذه الأمور: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: من الآية 11].
قال تعالى: ﴿لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [الشورى: من الآية 12] المقاليد ليست فقط ملك السماوات والأرض! وتدبروا معي في الربط بين الحديث عن المقاليد والحديث عن الحكم، قال تعالى: ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ﴾ [الشورى: من الآية 10]، وهنا قال: ﴿لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [الشورى: من الآية 12]، ونحن نقول في حديثنا تقلد مقاليد الحكم أو تسلم مقاليد الحكم، فمقاليد الحكم هي: المسئوليات، والمفاتيح، ورأس الحكم ورأس الإدارات وكل شيء فيها، ولله المثل الأعلى ﴿لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ بمعنى آخر: كل ما يتعلق بأمور وتصاريف السماء والأرض بيده، له وحده لا شريك له، فإذا كان بيده مقاليد السماوات والأرض، ألا يكن بيده كذلك مقاليد حياتك وأنت من خلقه في الأرض!
تدبروا في الربط ﴿لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ فكيف أنت ترى السماء والأرض، تراها جمالًا، وتوارنًا، تراها اتساقًا يَعْجِزُ الإنسان أن يحيط بجزء منه، هذا الخلق، هذه السماء والأرض التي مقاليدها بيده (جَلَّ شَأْنُهُ)، فتخيل حين تكون مقاليد حياتك وشأنك بيده (سُبْحَانَهُ جَلَّ شَأْنُهُ)، ﴿لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾!
قال تعالى: ﴿يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [الشورى: من الآية 12] لماذا الحديث هنا عن الرزق؟ حتى تفهم أن ما بيدك من أرزاق مختلفة هو ليس بيد أحد ممن تتولاه، ولا بيد الشركاء؛ لِأَنَّ كفار قريش وغير كفار قريش اليوم وغدًا وبعد غد أولئك الذين يتخذون من دون الله أولياء، لماذا يتخذون أولياء من دون الله؟ ليزيدوهم توهمًا في الرزق، فيمال أو في تجارة أو في ولد أو ما شابه، هكذا يزعمون، وهكذا يتوهمون، وهكذا يصور لهم هؤلاء من الأولياء الذين يُزَوِّرُونَ عليهم الحقائق بأنهم يملكون لهم الضر والنفع والزياة والنقص، وأنك كل ما تقربت للولي الفلاني فتح الله لك أبواب الرزق، وفتح لك بالرزق، وكلما ذهبت عن هذا ذهب عنك الأنس والراحة والسعادة، كذبًا وافتراءًا على الله: ﴿لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [الشورى: 12].
لماذا؟ لِأَنَّهُ يبسطه سبحانه وهو عالم بما يصلح حياة عباده، أنت في بعض الأحوال بسط الرزق عليك في زمن ما قد يلهيك، قد يطغيك، قد ينسيك، قد يأخذك بعيدًا عن الله (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى)، وتقدير الرزق عليك ومنع الرزق عنك والتقدير بالمصطلح القرآني (يقدر)، قد يكون في صالحك، وأنت ترى في كثير من الناس لو بسط الله لهم الرزق في شبابهم لبغوا في الأرض، ولو بسط لهم الله الرزق لزادوا اعتداءً وظلمًا!
إذن كل شيء عنده بمقدار، وكل شيء عنده بعلم، وكل شيء عنده بابتلاء وبامتحان ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ﴾ [الروم: 60] ولا يشغلك الرزق عن الرزاق، ولا تشغلك تفاصيل الرزق عن الغاية من الأرزاق، أنت ما جئت فقط لتكون مرزوقًا، الرزق سواء كان كثيرًا أو قليلًا فالله شرع لك ما تفعل فيه، وتدبروا في الربط: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا﴾ [الشورى: من الآية 13] هذا من الرزق، أن يرسل الله لك الرسل وينزل عليك الشرائع والمنهاج، وفي ذات الوقت أنك في رزقك الذي تتصرف فيه، سواء كان رزقًا قد بسطه عليك أو قدره عليك فلا ينبغي لك أن تتصرف فيه إلا وفق ما شرع الله لك: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى﴾ [الشورى: من الآية 13] بأي وصية؟ ﴿أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ [الشورى: من الآية 13] رسالة الأنبياء الواحدة، ولكن أي دين الذي يحدثنا القرآن عنه؟ دين هؤلاء الأنبياء، دين التوحيد، الدين الذي يجمع ولا يفرق، الدين الذي يجمع الناس على المحبة والتعاون ولا يفرقهم في دروب الدنيا وشعوبها المتناحرة، هذا هو الدين الحق، هذا هو الذي وصى به نوحًا: ﴿وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾ [الشورى: من الآية 13] وإبراهيم وموسى وعيسى.
وتدبر في حال العالم اليوم وهو يموج تفرقًا وتمزقًا وتناحرًا، لأجل دين نزل به موسى أو عيسى أو محمد صلى الله عليهم جميعًا وسلم أبدًا، إذن أي دين هذا الذي فرق الناس وجعلهم شعوبًا متناحرة متطاحنة فيما بينهم، يسحق الواحد منهم الآخر، أي دين؟ هذا ليس الدين الذي وصى به نوحًا أبدًا. الدين الذي وصى به نوحًا لا يفرق ولكنه يجمع، قال تعالى: ﴿كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْه﴾ [الشورى: من الآية 13]، لماذا كبر على المشركين كلمة التوحيد ودين الأنبياء جميعًا الذي هو كلمة التوحيد؟ لِأَنَّهُ لا يستجيب لأهوائِهم ولا يخضع لأمزجتهم المتقلبة التي تريد الحياة صراعًا واستنزافًا وسفك دماء بين البشر، فارق شاسع ﴿كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ﴾ [الشورى: من الآية 13] المشركون فقط هم الذين يريدون أن يجعلوا من هذه الدنيا وهذه الأرض مسرحًا للصراع والتنازع والتناطح بين بني البشر، أما هؤلاء الأنبياء العظام أرادوها أن تكون كلمة واحدة، تجمع ولا تفرق، ولنا أن نتساءل لماذا الأنبياء الذين هم أحق بالزعامة من كل أحد؟ لماذا تراهم يجمعون ولا يفرقون؟ ولماذا تنظر إلى الزعامات الموهومة من بني البشر تراهم يفرقون ولا يجمعون؟ أولئك الصفوة من الخلق، خيرة الخلق من الأنبياء خضعوا لله سبحانه فالكلمة كلمة الله والدين دين الله: ﴿أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ [الشورى: من الآية 13]. وأولئك من الزعامة الموهومة، تصارعوا على الدنيا وما خضعوا في مناهجهم للواحد الأحد الفرد الصمد، خضعوا لأهوائهم كما ستأتي عليه الآيات الكريمة، قال تعالى: ﴿كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْه﴾ [الشورى: من الآية 13] لماذا كبر عليهم؟ لِأَنَّهُ يهدم مصالحهم الدنيوية الزائفة وزعاماتهم الكاذبة الباطلة؛ وَلِأَنَّهُ يقضي على استعلائهم على بني البشر؛ وَلِأَنَّهُ يأتي على غرورهم الأعمى الأحمق، وَلِأَنَّهُ لا يُبْقِي لهم من هذه الترهات التي يتوهمون أنها مصالح شخصية، قال تعالى: ﴿اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ﴾ [الشورى: من الآية 13] وتدبروا في الربط: ﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ﴾، ﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ [الشورى: من الآية 10] ﴿وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ﴾، ليس كل أحد يُهْدَى إلى هذا الدين، هذا رزق من عند الله سبحانه، أرزاق الدنيا توهب لأي أحد وستنتهي بانتهاء الدنيا، وأما أرزاق الآخرة المتعلقة بالإيمان والإنابة إلى الله (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى) فهذه عظيمة الشأن، والله سبحانه يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.