بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله حمد الشاكرين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بين أيدينا اليوم سورة من سور القرآن الكريم، نزلت على الحبيب (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قبيل الهجرة إلى المدينة، على أكثر الأقوال قبيل عام وبضعة أشهر من هجرته المباركة، تلك الفترة الشديدة التي واجه فيها النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) كغيرها من فترات، أساليب مختلفة في ذاك الصراع بين الحق والباطل، في ذاك الصراع بين الشر والخير، في ذاك الصراع الذي واجه فيه عناد وإصرار وتكذيب وكفر كفار قريش، ذاك الإصرار الذي واجهه المؤمنون بثبات ويقين بهذا القرآن العظيم.
هذه السورة جاءت في ترتيب المصحف كما في ترتيب نزولها، وافتتحت سورة الشورى كأخواتها بـ ﴿حمٓ﴾، هذه السورة جاءت مع أخواتها لتبين كيفية وآليات التعامل مع أكبر الإشكاليات في الصراع بين الحق والباطل، وهي إشكالية الاستكبار في الأرض، وإشكالية الاستعلاء، ذاك الاستعلاء الذي يقود إلى عشرات الممارسات من الظلم والعدوان وانتهاك الحقوق، هذه الإشكاليَّةُ الْخَطِرَةُ التي أراد القرآن العظيم أن يقدم للإنسان المسلم فردًا أو مجتمعًا أو أمةً آليات التعامل معها، وبين كما في سورة غافر، أن كل إنسان مؤمن يقع على عاتقه مسئولية المواجهة على حسب الإمكانيات التي مكنه الله فيها، ولكن ليس واحدة منها أبدًا السكوت والإصابة بالخرس والصمم إزاء الاستعباد والاستعلاء في الأرض. من هنا كان ذلك الرجل المؤمن الذي وقف في وجه الاستعلاء في الأرض، ولو كان فردًا.
وتستمر السور العظيمة (ومنها سورة فُصِّلَتْ) في تقديم أساليب مختلفة لمواجهة الاستعلاء في الأرض، ومنها هذه السورة المباركة التي بين أيدينا (سورة الشورى)، وكما يحمل اسمها، هذا الاسم الذي يبين أسلوبًا من الأساليب التي من الممكن أن يتعامل به الناس فيما بينهم، لحل مشكلاتهم الأسرية، والتربوية، والتعليمية، والاقتصادية، والسياسية، ولكن القرآن لا يقف بنا في سورة الشورى عند الشورى فحسب، ولكن يقدم لنا مجموعة من القيم والدعائم العملية التي تقيم المجتمع المسلم على عين الشريعة التي جاء بها الله (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى) من خلال الأنبياء والرسالات والكتب المنزلة، وآخرها هذا الكتاب العظيم (القرآن).
من هنا جاءت السورة المباركة ومنذ بداياتها بتقرير الحقيقة التي لا ينبغي للبشر أن يَغْفُلُوا عنها، أن هذا القرآن وحيٌ من الله العزيز الحكيم القادر المقتدر، الحكيم فيما أمر، والحكيم فيما شرع، والحكيم فيما نهى، والحكيم فيما خلق وأرسل وأنزل، وتدبروا معي (قبل أن نبدأ بتدبر آيات السورة) في ذاك التناسب العجيب بين آخر سورة فُصِّلَتْ وأوائل سورة الشورى، آخر سورة فُصِّلَتْ يقول فيها (سُبْحَانَهُ جَلَّ شَأْنُهُ): ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾ [فُصِّلَتْ: 52] تدبروا في قضية الشقاق البعيد الذي جاءت به أواخر سورة فُصِّلَتْ، وقضية الشقاق والنزاع والخلاف والتفرق التي سيكون لها النصيب الأوفر في سورة الشورى من المعالجة، قال سبحانه في ختام سورة فُصِّلَتْ: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ﴾ [فُصِّلَتْ: 53، 54] وتدبروا في بدايات سورة الشورى: ﴿حمٓ * عٓسٓقٓ * كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [الشورى: 1 – 3] وتدبروا: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾ [فُصِّلَتْ: 52] هو من عند الله، وفي سورة الشورى تأكيد من بدايتها على أنه وحي من الله العزيز الحكيم.
قال تعالى: ﴿مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾ [فُصِّلَتْ: من الآية 52] ثم تأتي السورة التي بعدها (سورة الشورى) وفي بداياتها قال تعالى: ﴿تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ﴾ [الشورى: من الآية 5] من أي شيء يتفطرن؟ من أولئك الذين يشاقون الله ورسوله، وفي الوقت ذاته أولئك الذين هم في مرية من لقاء ربهم، تدبروا في الترابط والتناسب، قال تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ [فُصِّلَتْ: من الآية 53]، وقال: ﴿كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [الشورى: 3] الذي لا يوحي إلا بالحق ﴿تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ﴾ [الشورى: من الآية 5] هذا التناسب الذي يجعل الآيات والسور (في هذه السور المباركة وغيرها من سور القرآن) تناسبًا عجيبًا، وتناسبًا فريدًا، يجعل الإنسان المؤمن يدرك تمامًا أن هذا القرآن في سوره جاء ليؤسس لقيم، وكل قيمة وكل لبنة منها تسلم الإنسان المؤمن إلى اللبنة التي بعدها.
هذا القرآن يؤسس شخصية، ويؤسس معالم مجتمع، ولنا أن نستحضر دومًا أن هذه السور المباركة نزلت قبيل الهجرة إلى المدينة حيث ستنتقل تلك المجموعة من المؤمنين من الحياة في مكة كمجموعة بسيطة متفرقة (متفرقة من حيث العيش في مساكن مختلفة لا تستطيع في الكثير من الأحيان أن تجتمع بسبب ما كانت تعانيه من قريش) إلى أمة واحدة، ومجتمع واحد، ومجموعة متكاتفة تواجه تحديات خارجية في المدينة.
فكان لا بد لتلك المجموعة أن تتعلم، وأن يربيها القرآن بتعاليمه وقيمه، كيف تتعامل فيما بينها؟ وكيف تواجه التحديات؟ وكيف تتعامل مع إشكالية الاختلاف؟ لأنها ستنطلق إلى مجتمعات أرحب، وإلى مخاطبة أكبر وأوسع، وإلى دائرة من الاختلاف لا تنحصر فقط في كفار قريش، ولكنها دائرة أوسع بكثير، كما أن القرآن الكريم دومًا وأبدًا نحن نقول: «إنه رسالة عالمية جاءت تخاطب كل البشر على اختلاف مشاربهم واتجاهاتهم وألوانهم».
وإذا نظرنا في التناسب ما بين أوائل سورة الشورى وبين ما جاء في نهاية سورة الشورى، نهاية السورة يقول فيها الله (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى): ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا﴾ [الشورى: من الآية 52] وبداية السورة: ﴿كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [الشورى: 3] وإذا عدنا مرة أخرى إلى آخرها نجد: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الشورى: 52]، وتدبروا في الربط: ﴿كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [الشورى: 3] وقال: ﴿وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الشورى: من الآية 52] فمن تجليات هذا الاسم العظيم العزيز الحكيم أنه نهدي به من نشاء من عبادنا: ﴿…وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ﴾ [الشورى: جزء من الآية 52، والآية 53 كاملة].
قال الله في بدايات سورة الشورى: ﴿تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ﴾ [الشورى: من الآية 5] وقبلها: ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ [الشورى: 4] وفي آخرها: ﴿صِرَاطِ اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ وفي ختامها: ﴿أَلَا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ﴾ [الشورى: من الآية 53] وبدايتها: ﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ [الشورى: من الآية 4] العلي العظيم الذي إليه تصير الأمور ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾[الشورى: من الآية 4].
خواتيم السورة جاءت تقرر ما قُرِّرَ في بدايتها وفي مفتتحها وفي أولها، هذا التناسب الذي يجعل الإنسان المؤمن يقفُ يَقِظًا متأملًا في مقاصد هذه السورة المباركة، تلك المقاصد التي جاءت تواجه، إشكاليةَ الاستعلاء في الأرض، هَذِهِ الإشكاليَّةَ الْخَطِرَةَ التي لا تختص بأمة دون أخرى ولا بزمن دون آخر، إشكالية متجددة، إشكالية باقية بقاء الإنسان بنزواته وأهوائه على هذه الأرض، ليست الإشكالية بأن يكون هناك استعلاء وأن يكون هناك طغيان فحسب، ولكن الإشكالية الْخُطْرَى ألا يُوَاجَهَ ذلكَ الاستعلاءُ والاستكبار الذي يقود الناس إلى الطغيان والظلم، ظلم بعضهم لبعضٍ.
الإشكاليَّةُ ألا يُوَاجِهَ هذا الاستعلاءَ أهلُ الأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الحق وتحقيق العدل وحفظ الحقوق وعدم هدرها، فالتدافع والصراع بين الحق والباطل باقٍ وماضٍ؛ لِأَنَّهُ سُنَّـةٌ من السنن، ولكن المهم: كيف يكون الإنسانُ المؤمنُ إنسانًا واعيًا لتلك السنن والقوانين التي تحكم ذلك التدافع وذاك الصراع؟
من هنا جاءت هذه السورة المباركة منذ بداياتها تؤسس لقيم، ومن أعلى تلك القيم الإيمان بعزة الله وعلوه وعظمته وحكمته (جَلَّ شَأْنُهُ)، وملكه وإحاطته بما ملك وبما يصرف في أمور خلقه (سُبْحَانَهُ جَلَّ شَأْنُهُ). بعد ذلك جاءت الآيات المباركة لتبين أن رحلة الإنسان على هذه الأرض ليست رحلة خالدة إلى ما لا نهاية، ولكنها رحلة محدودة جِدًّا، محدودة كعمر الإنسان المحدود، وستنتهي وستكون النهاية في يومِ الْجَمْعِ لا ريبَ فيه.
القرآن العظيم في (سورة غافر) وفي (سورة فُصِّلَتْ) وفي (سورة الشورى) وغيرها من سورة القرآن، يؤكد لنا مرة بعد مرة أهمية الإيمان بيوم البعث، وأطلق عليه عدة أسماء في هذه السور الكريمة: (يوم الجمع)، و(يوم البعث)، و(يوم الحساب)، وكثيرًا ما يأتي بهذه الأسماء، لأجل أي شيء؟ لأجل أن يؤكد أن هؤلاء الناس الذين استكبروا في الأرض ويبغون في الأرض بغير حق لن يتركوا دون حساب، وأن تعزيز الإيمان بيوم البعث هو واحد من أعظم العوامل التي توقف إشكالية الاستكبار في الأرض والظلم والطغيان، الإنسان حين لا يؤمن بيوم البعث سيسعى في الأرض فسادًا، يقتل هذا ويسفك دم ذاك، ويظلم هذا وينتهك حرمة هذا، لا أحد يوقفه، وتلك إشكالية خَطِرَة حين يستشري الاستكبار والاستعلاء في الأرض، حين لا تجد هذه الإشكاليَّةُ أحدًا يوقفها، من يعالجها معالجة ذاتية ومعالجة سلوكية توقف أولئك المستكبرين عند حدهم؛ لِأَنَّ هذه الإشكالية إذا استشرى شرها واستفحل خطرها وساد داؤها، أطبقت على المجتمع بأسره، وقادت المجتمع بأسره إلى الهاوية، وذاك ما يحذر منه القرآن العظيم.
من هنا جاءت السورة المباركة بعد الحديث عن الإيمان بالبعث، قدرة الله (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى) مباشرة إلى الحديث عن جانب من حكمته (جَلَّ شَأْنُهُ) في سنة الاختلاف قال: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ [الشورى: من الآية 8]، الله (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى) من حكمته (جَلَّ شَأْنُهُ) جعل الاختلاف في الألوان والأشكال والأجناس والأعراق والمشارب والنظرات المختلفة للأمور، هذا موجود، وليست الإشكالية في الاختلاف، الإشكالية في كيفية التعامل حين يقع الخلاف، ثم إن القرآن العظيم يضع الأسس للتعامل مع ذاك الاختلاف قال: ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ذَلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ [الشورى: 10] ثم بعد ذلك تنتقل الآيات المباركة لبيان دور الأنبياء (صفوة الخلق) ورسالاتهم في تعزيز احترام الحقوق، وعدم وقوع الظلم وانتهاك الحقوق حين يحصل الاختلاف، لتؤكد وتبين حقيقة ما زال الناس يتصارعون حولها إلى اليوم ويتوهمون أن الدين هو سبب وقوع الخلاف والنزاع والشقاق بين الناس، ليؤكد القرآن العظيم أن الدين الحقيقي الذي جاء به الرسل: ﴿أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ [الشورى: من الآية 13] لا يمكن أن يكون مصدر تفرقة ولا مصدر ظلم ولا مصدر شقاق ولا مصدر نزاع، ثم يضع أيدينا بعد ذاك السياق على الداء الأصيل الدفين الذي قد يفر منه الناس من هنا ومن هناك ويتلاعبون في الكلمات، ولكنه يبقى وحده هو المسئول أولًا وأخيرًا عن إثارة الصراعات والنزاعات بين البشر، وهو (الهوى)، قال تعالى: ﴿وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ﴾ [الشورى: من الآية 15].
وتنتقل الآيات مرة أخرى بعد ذلك إلى إسقاط عشرات الشركاء الذين يدعيهم الإنسان حين يتنقص عن أداء الفطرة والاستجابة للتوحيد ولرسالات الأنبياء: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [الشورى: 21] لماذا الحديث عن الشركاء؟ لِأَنَّ هذه الآفة الْخَطِرَة، إيجاد وتوهم وصناعة الشركاء من الطغاة، ومن المستكبرين، ومن رجالات في المجتمع أو في الدين أو في غيرها من ميادين الحياة، حين يقومون مقام المشرع الذي لا ينبغي أن يكون التشريع إلا له (سُبْحَانَهُ جَلَّ شَأْنُهُ)، هنا تكون الطامة الكبرى قال: ﴿شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ﴾ [الشورى: من الآية 21] ذاك الدين الذي فرق بين البشر وليس الدين الذي جاء به الرسل والأنبياء، تدبروا في القرآن كيف يعالج!
الدين الذي يقولون عنه اليوم إنه يفرق بين البشر ليس الدين الذي جاء به الأنبياء، الدين الذي يفرق بين البشر ويجعل من البشر جماعات متناحرة متصارعة فيما بينها يقتل بعضها بعضًا هذا دين الشركاء الذين شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله، وهنا يكون الداء، من هنا تنتقل الآيات بعد ذلك إلى الحديث عن الآخرة والحديث عن الموانع الذاتية التي تصد الإنسان الفرد عن قبول دعوة الحق وهي حق، من هنا قال القرآن العظيم: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [الشورى: 24].
وكعادة القرآن العظيم، يأتي بالتوبة في خضم الحديث عن التفرق والظلم والاستعباد والاستعلاء والاستكبار في الأرض بغير الحق، وَيُبْقِي بابَ التوبةِ مفتوحًا على مصراعيه، عَلَّ الإنسانَ يرجع لخالقه من جديد ويدرك أن لا نجاة له إلا باتباع هذا الشرع العظيم. وتنتقل بعد ذلك الآيات إلى الوصل الواضح في كل السور المكية، ما بين الآيات المبثوثة في الكون الدالة على قدرة الله سبحانه، وما بين الآيات في الأنفس والمجتمعات التي ينبغي للإنسان أن يصرفها ويمشي فيها كما يمشي ذلك الكون وفق سنن الله وقوانينه، فلو أن المجتمعات سارت على تلك القوانين كما يسير الكون على هذه القوانين التي وضعها سبحانه لكان في انتظامه وانتساقه وتوازنه لا يخرج عن ذلك الجمال الرائع الذي يحيط بكل آيات الكون من سماء إلى أرض إلى غيث إلى ما شابه.
وتنتقل من هنا الآيات للوصل ما بين الفساد وإشكالية وقوع الفساد، وما بين الذنوب والأخطاء التي يقع فيها البشر، تلك الأخطاء التي لا تراجع ولا تصحح، تلك الأخطاء التي لا تستدرك، تلك الأخطاء التي يقول فيها الله سبحانه: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ [الشورى: 30] ليجعل الإنسان واقفًا أمام مرآة نفسه وقلبه وعقله، مدركًا أن ما يراه في واقعه من اعوجاج وسلبيات وإحباطات وإخفاقات على كل المستويات ما هو إلا ما كسبت أيديكم، لأجل أي شيء؟ ليس لأجل أن يوقع الإنسان في دوامة جلد ذاته، ولكن لأجل أن يعود الإنسان إلى خالقه ويتوب ويستدرك ويصحح ما فات قبل قوات الأوان.
وتنتقل الآيات مرة أخرى إلى الكون، حيث ذلك الوصل بين آيات الكون وبين واقعك الذي تعيش فيه، مع الوقوف عند أعظم الصفات التي يتميز بها الإنسان المؤمن، تلك الصفات العظيمة التي تجعل الإيمان قولًا وعملًا، سلوكًا وخلقًا، من هنا جاء الأمر بالشورى، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ [الشورى: 38] حيث لا انفصام بين دولة ودين، ولا بين دنيا وآخرة، ولا بين حياة تعيشها أنت في عبادتك مع الله سبحانه وحياة تعيشها في تعاملك مع الناس، لا انفصام ولا فصل ولا ثنائيات تتصارع على قلب الإنسان لِتَهْوِيَ بِهِ في شباك الأهواء واتباع شرعة الهوى.
من هنا تكلم القرآن العظيم في سورة الشورى عن إشكالية البغي وإشكالية الظلم، قال: ﴿إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ [الشورى: من الآية 42] إذن هو البغي الذي ما جاء من فراغ، وإنما جاء نتيجة لسلوكيات متراكمة من الاستعلاء في الأرض بغير الحق وعدم وجود من يقف في وجه ذلك الاعتداء والاستعلاء على الناس.
وتنتقل الآيات مرة أخرى للوصل بين الدنيا والآخرة وتنبيه الإنسان على أن ما يقوم به في حياته الدنيا يُسْأَلُ عنه يوم القيامة، من هنا قال: ﴿اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ﴾ [الشورى: 47] يضع الإنسان أمام مسئوليته وأمام نفسه وأمام ذاته، مؤكدًا أن كل ما يمر به الإنسان من شدة، ومن رخاء، ومن ضر، ومن رحمة، ومن صعود، ومن نزول، إنما هي أحوال، وهذه الأحوال لا بُدَّ للإنسان من أن يتنبه إليها تحت قاعدة عظيمة جِدًّا: ﴿وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ﴾ [الشورى: من الآية 48] وتدبروا في اللفظ: ﴿وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ﴾، وقبلها يقول (سُبْحَانَهُ جَلَّ شَأْنُهُ) كما سنأتي عليه: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ [الشورى: 30]، إذن هي المسئولية الذاتية، وأن ما تراه في واقعك وفي حياتك على مُخْتَلِفِ المستويات فردية، واجتماعية، وأممية، من كوارث، ومن أمراض، ومن إشكاليات خَطِرَة، ومن مصائب، ومن تلوث، ومن أمراض، ومن أوبئة، عليك أن تفكر وأن تنقب (ما دور الإنسان في حدوث هذه الإشكالية) في حدوث هذه السيئة!
السيئات لا تأتي هكذا! صحيح كل شيء فيه ابتلاء وفيه امتحان وفيه اختبار، ولكن ثمة مساحة واسعة كذلك للبحث عن دور الإنسان في ظهور هذه الإشكاليات الْخَطِرَة، وعالمنا اليوم يعج بعشرات، قل مئات، قل أكثر، من الإشكاليات الْخَطِرَة التي تهدد وجوده وَكِيَانَهُ على هذه الأرض، ألم يأن له أن يبحث في ذلك الحيز وتلك المساحة عن مسئوليته في حدوث هذه الأوبئة؟ في حدوث هذه الإخفاقات؟ في حدوث وحصول هذه المصائب والإشكاليات؟ صحيح كل شيء بأمر الله سبحانه، ولكن: أين دور الإنسان في حدوثه؟ ولنا أن نتساءل: ما علاقة الشورى والحديث عن الشورى والاستعلاء في الأرض ومسئولية الإنسان؟
تدبروا في الربط بينها! ما يقوم به بعض الناس في مجتمعك من فساد، ويستبدون فيه بآراءهم وينفردون بها، ولا يجدون من يقف أمامهم ويقول لهم: “قف!”، “أخطأت!”، “حاول أن تصحح!” لا أمر بمعروف ولا نهي عن المنكر، ولا إحقاق لحق ولا إنكار لفساد، ولا إيقاف لفساد، ولا إحقاق لحق وصلاح، ماذا ستكون النتيجة؟
ستكون النتيجة أنها ستعم، من هنا قال سبحانه: ﴿وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ﴾ [الشورى: من الآية 48] فالمصيبة، والسيئة، والكارثة التي تحدث، ثمة كوارث للإنسان دخل في وقوعها وحدوثها، فلا تتنصل من المسئولية، ولا تهرب ولا تفر من هذه المسئولية، واجه أخطاءَك، واجه مسئولياتِك، واجه الإشكاليَّاتِ العصيبةَ التي تعصف بمجتمعاتنا، وَاجِهَّا وصححْ، وبادر بالتوبة، وتدبروا في الربط بين الحديث عن التوبة والحديث عن هذه القضايا؛ لِأَنَّ القرآن يريد منا أن نتوب، ولكن ليست التوبة الظاهرية التي لا تُغَيِّرُ واقعًا ولا تُصْلِحُ فسادًا ولا تُحِقُّ حَقًّا ولا تُبْطِلُ ولا تُزْهِقُ باطلًا، ولكنها التوبة التي تحق الحق وتزهق الباطل وتعلي من كلمة الحق وتصلح الفساد وتجعل الإنسان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، من دون خوف من أحد؛ لِأَنَّ اللهَ (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى) هو الذي ينبغي أن يُخَافَ منه وَيُخْشَى من مخالفة أمره وليس الخلق، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
جزاكم الله خيرا
رزقنا الله أن نكون من أهل القرآن الكريم العاملين به وأن يكون لنا دورنا فى محاربة الفساد بالحجة