الحلقة السادسة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمد الشاكرين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وقفنا في تدبرنا في سورة ق المباركة عند ذلك الأمر الإلهي للحبيب عليه الصلاة والسلام، ولكل المؤمنين وهم يصارعون الباطل بالحق الذي أنزله الله على قلوبهم في هذا الكتاب المبارك بتلك الوصية الخالدة. قال تعالى: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40)}هذه الآيات التي تجدِّد في المؤمن عزيمته، وتقوِّي إرادته أمام أولئك الذين يكذِّبون ويعاندون، أمام أولئك الذين لا يمكن أن تخلو الحياة منهم، ذهب كفار قريش وجاء من بعدهم اليهود، وجاء من بعد اليهود أقوام وأقوام إلى يومنا الذي نعيش فيه، وما نزال نسمع من تلك الافتراءات والشبهات والأباطيل، سواء ما كان حول شخصه عليه الصلاة والسلام، أو حول هذا القرآن المجيد، أو حول الإيمان بالله سبحانه وتعالى، فهناك من يجادل في الله بغير علم، فما الحل؟ وماذا يفعل المؤمن؟
قال تعالى: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} أنت تقدم الآيات البينات كما قدَّمتها السورة المباركة، ولكن حين تصل إلى مرحلة تتأكد فيها أن الذي أمامك لا يريد حقًا يبحث عنه ولا حقيقةً، ولا يريد في واقع الأمر أن يبدد ما في نفسه من شبهات أو شكوك، ولكن يريد مراء وجدالًا بالباطل فقط، فماذا تفعل؟ قال تعالى: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} فسلاح المؤمن الصبر، الصبر على الحق حتى يُظهره الله، والصبر على الباطل حتى يندسَّ في التراب.
قال تعالى: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ (39)} سبِّح تسبيحًا تنزهه به عن كل نقيصة جلَّ شأنه، تسبيحًا يجدد فيك الإيمان، ويجعلك دائم الصلة بخالقك سبحانه، والإنسان كلما زاد تسبيحًا لله سبحانه هدأت نفسه، وطابت روحه، وصغرت في قلبه وفي عينه مظاهر ومضار الدنيا، وما يكابده في طريق الحياة، وفي طريق الدعوة إلى الله من صعاب وشدائد ومحن.
وإذا بالآيات العظيمة تنقل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وكل المؤمنين نقلة عظيمة كعادة القرآن في الوصل بين الحياة الدنيا ومواقف يوم القيامة، بمعنى آخر: يخرجهم من الواقع الذي يعيشون فيه إلى ذلك اليوم الذي تتوق إليه النفس، وتشتاق إليه أرواح المؤمنين، وتهفو إليه قلوبهم.
قال تعالى: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41)} المنادي سينادي على الخلائق فيخرجون للحساب وكأن الدنيا ما كانت، أو كأنهم ما لبثوا غير ساعة من نهار يتعارفون بينهم، فالأمر ليس ببعيد كما يتوهم هؤلاء، الحساب ليس بعيدًا، ويوم القيامة ليس كما يظن هؤلاء وكأنه لن يأتي أبدًا، انتظره وسترى. وبمعنى آخر: عش حياتك الدنيا وأنت مترقب لذلك اليوم الذي فيه ترتاح من عناء الحياة وصعوباتها، الذي فيه ستجد ما قدمته من عمل، الذي فيه ستُزلف الجنة للمتقين، الذي فيه سيُنادى عليهم، ويقال لهم: {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46(} سورة الحجر، في ذلك اليوم الذي فيه يُستقبل هؤلاء المؤمنون المتقون ويُحتفى بهم، هذا اليوم الذي يعيشه المؤمن قبل أن يلقاه، يعيشه مع كل آية من آيات الكتاب التي تحدِّثه عن يوم الحساب، يعيشه بعقله، بسمعه، بقلبه حتى يؤمن به، ويتيقن بوقوعه وحدوثه، ويراه قريبًا وهم يرونه بعيدًا.
قال تعالى: {يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42)} في واقع الأمر لا شيء في هذا القرآن غير الحق، ولا شيء دُعوا إليه إلا الحق، ولا شيء عاشوا عليه إلا الحق، ولذلك سيسمعون الصيحة بالحق، النداء الذي طالما كذبوا أسماعهم وظنوا أنهم لن يسمعوه أبدًا، صيحة النداء يوم القيامة.
قال تعالى مؤكدًا الحقيقة التي لا يريد أن يعترف بها هؤلاء: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43)}، فما كذبوا به من رجوعهم إلى الله سبحانه وتعالى آتٍ لا محالة.
قال تعالى: {يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا (44)}، وتدبروا معي في دقة وعظمة المفردات القرآنية {تَشَقَّقُ الْأَرْضُ}، وكأن الأرض غصَّت بهم، وكأنها عافت هؤلاء الكفار، وكأن الأرض أرادت أن تلقي ما فيها وتتخلى عنهم، وقال ربي سبحانه وتعالى في سور وآيات أخر: {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4)} سورة الانشقاق. بعد أن ضمتهم سنين طويلة، قال تعالى: {يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا} كلمة تحمل بإطلالتها وحروفها ذلك الموقف الشديد الصعب، الأرض تتشقق عن أجسادهم سراعًا. أي يسارعون دون أن يعرفوا إلى أين يتجهون.
قال تعالى: {ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44)} هم لا يعرفون ولكن الله يعرف. وبيَّن ذلك لعباده المؤمنين، فهذا الذي يرونه صعبًا وعسيرًا هو حشر علينا يسير، يقوم العباد لرب العالمين بقدرته، وفي الوقت الذي يحدِّده جلَّ شأنه.
قال تعالى:{نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ (45)} وهذا تطييب لخاطره صلى الله عليه وسلم، وإليه يوجَّه الحديث بأن لا تبتئس فــــ{نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ}، وتدبروا في الترابط بين قول الله جل شأنه: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)} وبين قوله سبحانه: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} فكل كلمة تقولها يعلمها الله وتسجَّل عليك، وفي هذا الصدد هناك قضية تلقي الآية الضوء عليها وهي قضية الإجبار والإكراه، ونفي التجبر والتسلط عن شخص النبي صلى الله عليه وسلم، فالآية تقول له: إنك لست بإنسان متسلط على رقابهم لأجل أن تكرههم على الدخول في الدين الذي ليس فيه إكراه، فلا إكراه على الحق، أو على قرار الإيمان، إذ قال تعالى في سورة الغاشية: {لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ (22)}، ولكن ما دورك؟ إنه التذكرة فقط، إيصال الرسالة فقط. قال تعالى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)}. وأيضًا من دورك أن تحمل هذا القرآن. وكون هؤلاء لا يتلقَّون هذا القرآن بالتذكرة، ولا يرون فيه مواعظ ينفعلون بها، وتتحقق فيهم التذكرة والتبصرة فهذا شأنهم وليس شأنك، وهم الذين سيحاسبون عليه.
وتدبروا في عظمة هذه المعاني، عظمة القرآن الكريم الذي يحدِّد للأنبياء دورهم، ويحدِّد للدعاة ما يقومون به مع الناس، مع الخلق، مع الدنيا وذلك واضح في الآيات إذ قال تعالى: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ (45)} لماذا؟ لإسقاط الالتباس عن الدعوة إلى الله، أو يُلبِسُه الآخرون بها من شبهات الإكراه في الدين، والمطلوب منك أن تذكِّر وتبلِّغ، أن تقدِّم الرسالة، أما الهداية والتذكرة والتبصرة فهذا ليس من شأنك.
وتدبروا في التناسب العجيب بين ختام السورة: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)} وبين بداياتها في قوله جل شأنه: {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2)} هم تعجبوا من هذا، فهل تعجُّب القوم سيمنعك من الاستمرار في تذكرتهم؟ أبدًا، ستستمر بهذه الرسالة، وستذكِّر بهذا القرآن، وسيجد هذا القرآن طريقه إلى قلوب أولئك الذين يخافون الوعيد. أما أولئك الذين لا يخافون فأسماعهم صمَّت، وأبصارهم عميت، وقلوبهم غُلِّقت. فليس للقرآن إلى قلوبهم من منفذ أو سبيل، وقد ماتت قلوبهم.
هذه الآيات في هذه السورة المباركة بإيقاعها الصوتي، والمعنوي، بإيقاع كلماتها وحروفها، بما تُحدثه في النفس من تذكرة حقيقية بكل آية من آياتها، بل بكل كلمة، تهزُّ القلوب. ولأن هذه السورة المباركة خُصَّت بالتذكرة، تجد ما سبق ذكره يتضح في كلماتها ومفرداتها فهي فياضة بالمعاني التي هي في واقع الأمر كفيلة بأن تجدِّد في القلب معاني التذكرة والرجوع والأوبة إلى الله سبحانه وتعالى {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)}.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. وجزاكي الله خيرا على ما تقدمي من خير
جزاكم الله خيرا ونفع بكم وصل الله وسلم وبارك على سيدنا محمد واله