الحلقة الخامسة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمد الشاكرين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وصلنا في نهايات سورة ق المباركة إلى ما حمَّله الله سبحانه وتعالى من مسؤولية للإنسان عن كل جوارحه، عن سمعه، وقلبه، وبصره، عن ذلك القلب الذي جعله بدايةً ونهاية ًكل الحياة بالنسبة إليه، الحياة العضوية (الفسيولوجية)، وفي ذات الوقت تلك الآية العظيمة جاءت تبين أن الحياة الحقيقية للقلب إنما هي في اتصاله بهذا الكتاب العظيم. قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ (37)} أصحاب القلوب الحية هي التي تتذكر وتنفعل بآيات القرآن المجيد، هي التي تفتح الطريق ما بين القلب والسمع لتتحقق معاني الشهادة في الواقع على آيات هذا الكتاب، فيشهد الواقع الإنساني بما شهد به السمع، وما شهد به القلب من صدق هذه الآيات العظيمة.
وإذا بالآيات من جديد تعود بنا إلى خلق السموات والأرض، ذاك أن خلق السموات والأرض أكبر من خلق أيِّ شيء، قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38)} هذه الآية اختلف فيها المفسرون فقال البعض منهم إنها نزلت في المدينة حين ذكر بعض اليهود، وافتأتوا على الله سبحانه وتعالى أنه خلق السموات والأرض واستراح في اليوم التالي، وما شابه من مزاعم وأكاذيب وأباطيل ولكن {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43(} سورة الإسراء.
قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ (38)} لماذا ستة أيام؟ إنها حكمة الله سبحانه وتعالى، وليس ثمة ما يوضح في كتاب الله جل شأنه لماذا كانت ستة ولم تكن أربعة أو خمسة أو حتى أقل أو أكثر. وذكرُ هذا الشكل والصنف من هذه الآيات فيما يتعلق بالعدد هو شكل من أشكال الابتلاء والاختبار لعقل الإنسان وإيمانه ويقينه بالله سبحانه، هل يسترسل مع أفكاره أن لماذا، وكيف؟ أم يتوقف عند ما أراد الله سبحانه وتعالى له أن يتوقف؟
قال تعالى: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38)} وذلك ردًّا كما قلنا على من قال، سواء كان من اليهود أو ممن حكى بحكايتهم من كفار قريش من قبل ذلك، الله سبحانه وتعالى لا يعجزه شيء في السماء والأرض، ولو أراد أن يخلق السماوات والأرض في طرفة عين لفعل جل شأنه، ولكن إرادته غالبة على كل شيء سبحانه وتعالى.
ما النتيجة؟ قال تعالى: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ (39)} وواقع الأمر أن هذه الآية وموضع الآية التي قبلها يبين ويوضح ما رجحناه من أن هذه الآية الأولى مكية التي يقول الله فيها جل شأنه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38)} بدليل أن الآية التي جاءت بعدها يقول فيها الله جل شأنه: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ}. هؤلاء القوم وما يثيرونه من ادعاءات وشبهات وافتراءات لا تحتاج إلى ردود قدر ما تحتاج إلى الصبر {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ}، وفي عدد كبير من آيات الكتاب العظيم يوصي الله عز وجل نبيه الكريم بالصبر على ما يقولون، وليس ذلك فحسب ولكن أيضًا يقدم لنا القرآن العظيم علاجًا في مواجهة الشبهات والافتراءات والادعاءات، فأنت تقول ما ينبغي أن تقول، وتوضح، وتستعمل الأدلة المنطقية، والعقلية، والحجج كما علمك القرآن العظيم، ولكن عليك أن تفهم أن ثمة نقطة ينبغي أن تتوقف عندها حين يتبين لك أن الغرض من الجدال أو الحوار الذي تقيمه مع الآخر ليس الهدف منه الكشف عن الحقيقة، وليس هدف الآخر أن يصل إلى الحقيقة قدر ما يروم الجدال، والمراء، والتشكيك في كل شيء، وإشاعة الاتهامات والافتراءات والأباطيل، وهذا بالضبط ما كان يرومه هؤلاء من الكفار والمعاندين المصرِّين على الكفر والكذب والافتراء.
قال تعالى: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ (39)} والتسبيح كثيرًا ما يُذكر في كتاب الله كشفاء، كخطوة ينبغي أن يتسلح بها المؤمن حين يواجه الادعاءات، والافتراءات، والكذب، والأباطيل. دعا إلى تنزيه الله سبحانه وتعالى عما يقولون، وحدَّدَ له وقتًا خاصةً قبل طلوع الشمس، وقبل الغروب. بمعنى آخر: أن تستفتح نهارك وتختمه بتسبيح الله وتنزيهه، تسبيحًا لا يقف عند كلمة (سبحان الله) قدر ما يخلص القلب، ويجعله صافيًا نقيًا مسبحًا منزهًا لله جل شأنه عن كل نقص، قال: {سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ} من الآية 130 / سورة طه، التسبيح يجدد ويزكي نور الإيمان في قلب المؤمن، ويعيد للتوحيد رونقه، وللقلب صفاءه، وللروح هدوءها وسكينتها بين يدي الخالق جل شأنه.
لماذا قبل طلوع الشمس وقبل الغروب؟ الأول هو وقت بداية النهار، والثاني هو نهاية النهار خاصةً إذا ما تزامنت تلك العبادة العظيمة، عبادة التسبيح مع التأمل في الكون حين يراقب المؤمن الشمس في طلوعها، وفي غروبها لتتناغم مع ما خلق الله من مخلوقات، وما أبدع من شمس وقمر ونجوم وسماوات، ذلك التناغم الذي يجعل الإنسان المؤمن يترفع عن الخوض في غمار الردود، والانفعالات النفسية والمعنوية والفكرية مع أولئك الذين يفترون على الله الكذب . قال: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40)} الليل، ساعة الراحة، ساعات السكن، ساعات رجوع الإنسان إلى بيته ومنزله وراحته، بل وربما حتى طلبه للخلود إلى النوم، والقرآن العظيم يحث الإنسان على النظر والتسبيح في تلك الأوقات العظيمة، حتى يتجدد الإيمان في قلبه ونفسه، حتى يتناغم مع الزمن الذي يتغير ويتقلب ما بين النهار والليل، وعقب كل سجود، أي: أدبار السجود، وأيضًا الصلوات أن يخصِّص الإنسان فترة يجلس فيها مع نفسه يذكر الله ويسبحه جل شأنه، التسبيح يجدد في الروح مجالات الحياة الإيمانية، يعيد للعقل الاتزان.
الخوض مع الناس، والجدال والكلام معهم، الردود على أقاويلهم وأباطيلهم يتعب النفس الإنسانية التي تحتاج إلى الراحة، وراحة نفس المؤمن في تسبيح الله سبحانه وتعالى، ذلك التسبيح يجعله يدرك أنه مهما قال هؤلاء، ومهما افتروا من افتراءات فإنه في نهاية الأمر لن يكون الشافي إلا التسبيح لله وحده دون سواه، شعار كل ما خلق الله وأوجد في هذا الكون العظيم، إذ قال تعالى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ۗ} من الآية 44 / سورة الإسراء. فيتناغم الإنسان مع ما خلق الله من مخلوقات ليسبح الخالق جل شأنه، وينزه الخالق سبحانه وتعالى عن كل ما يفتريه هؤلاء من المكذبين والمعاندين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته