الحلقة الثالثة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمد الشاكرين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وصلنا في تدبرنا في سورة ق العظيمة عند تلك الآيات التي جاءت تبصِّر الناس بآيات مبثوثة في السماء والأرض والجبال والماء والغيث والشجر، مناظر ربما يكون الإنسان قد اعتاد عليها وألفها لطول مشاهدته لها، ولكن ذلك الاعتياد لا يغيِّر من دلالتها على قدرة الله سبحانه وتعالى وسعة علمه، ومطلق قدرته جلَّ شأنه، هذه القضايا التي لا ينبغي أن تغيب عن ذهنه حتى لا يطالب بعدها بآيات ودلائل أخرى يمكن أن تأخذه إلى الإيمان بالله سبحانه وتعالى كما كان يفعل أولئك الكفار.
هذه الآيات مبثوثة، هل تريدون المزيد من الآيات لتتكشف لكم الحقائق؟ هكذا ساقها القرآن في مجالات التوبيخ والاستنكار على هؤلاء. فقال تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ (6)} فإذا لم تكن آيات السماوات تحرك فيهم ساكنًا، ولا الآيات المبثوثة في الأرض التي يمشون عليها تحركهم إلى الله، ولا الجبال الراسيات، ولا النخل الباسقات، ولا الغيث ينزل من السماء فيحيي الأرض بعد موتها، فما الذي سيحرك تلك القلوب الصماء وتلك العقول الجامدة؟
وإذا بالآيات العظيمة تنتقل بنا كعادة القرآن العظيم إلى صنف آخر من أصناف الآيات، وهي آيات الأمم السابقة، وما آل إليه حالهم حين كفروا وعاندوا كما كان يعاند هؤلاء من كفار قريش، قال تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ} ما القاسم المشترك بينهم؟ قال تعالى: {كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14)} أقوام عاشت وكانت لها حضارات، وقوة وكلمة، والقوم ليسوا ببعيدين عن هؤلاء الأقوام الذين ذكرهم القرآن العظيم، قوم عاد وثمود وشعيب وأصحاب الأيكة، عاشوا حياة كانت مليئة بأسباب القوة، والمنعة، والمال، والسلطة، والجاه، والقاسم المشترك -كما سبق وذكر القرآن-{كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ} فما النتيجة؟ {فَحَقَّ وَعِيدِ}. بمعنى آخر: إن تكذيبكم للرسل، وهذا الرسول الذي أرسل إليكم لا يمكن أبدًا أن يكون هكذا بدون عقاب وبدون نتيجة {فَحَقَّ وَعِيدِ}.
وإذا بالآيات العظيمة بعد ذكر هؤلاء الأقوام الذين ذكرهم القرآن في مواضع أخرى، بل وخص البعض منهم بسورة كاملة من سور القرآن، إذا بها تنتقل من جديد إلى القضية الرئيسة من سورة ق التي جادل هؤلاء فيها بالباطل ألا وهي قدرة الله على الإحياء بعد الموت. قال تعالى في سياق الاستنكار: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)} لو كان لديكم عقل يمكن أن يُسهم في عملية التفكير سيقودكم إليه، لو كان تفكيركم صحيحًا ومنطقيًّا لأدركتم أن الخلق الأول أصعب من الإعادة والخلق الثاني. ولله المثل الأعلى فالإنسان حين يصنع الشيء لأول مرة أصعب عليه من أن يصنعه في المرة الثانية أو الثالثة. قال تعالى: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} لم يعجز الله جل شأنه سبحانه وتعالى أن يخلقكم خلقًا أولًا من التراب، ومن نطفة من ماء مهين، فهل يعجزه الخلق الجديد الذي التبس عليكم؟
وتدبروا معي كيف أن القرآن يستعمل الألفاظ والمفردات مثل: فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ، فِي لَبْسٍ، لماذا كل هذا التخبُّط الذي غشي هؤلاء الكفار؟ البعد عن الحق ووساوس الشيطان، ما جال في خواطرهم وأنفسهم وكشف عنه القرآن أحيانًا بطريق مباشر، وأحيانًا بطريق غير مباشر، هؤلاء القوم كانوا يخافون على جاههم وسلطانهم وقيادتهم وزعامتهم الموهومة في قريش، هؤلاء من الأقوام الذين ذكرهم القرآن العظيم عبر العصور من أمثال فرعون على سبيل المثال الذي كذب موسى. فلماذا كذَّبه؟ هو قالها صريحة: {يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ} من الآية 35 / سورة الشعراء. خوفًا على المكانة وعلى الزعامة أن يأخذها هذا النبي، وذات الخاطر كان يجول في عقول هؤلاء الزعامات من قريش، كانوا يرون في نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام تهديدًا لزعامتهم ومكانتهم ولما هم عليه.
ولذلك تدبروا في الربط في الآية التي جاءت بعدها قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16)}. بمعنى آخر: الله سبحانه وتعالى مطلع على وساوس أنفسكم، هذا اللبس الذي أنتم فيه، وهذا الأمر المريج الذي احترتم فيه، هذه الدعوة التي تعجبتم من صدقها ومن وقوعها، هذا يوم البعث الذي كنتم به تكذبون، هذا الرسول الذي تعجبتم أن يكون منكم، وبشرًا من أمثالكم، كل هذه وساوس النفس. قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} سبحانه جل شأنه مطلع على عباده، يعلم وساوس النفس وهي في الصدر لم تخرج إلى العلن بعد.
قال تعالى: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17)} علمُه سبحانه وتعالى بخلقه، وإحاطته بما يدور في صدورهم وقلوبهم جعل عليه كذلك (الْمُتَلَقِّيَانِ) أي: الملائكة التي تتلقاه، يعلمان ما يفعله وما يقوله. فالله سبحانه وتعالى لحكمته وتمام عدله جعل من الملائكة من يسجل على الإنسان الكلمات والأفعال والأقوال، ولم يقل سبحانه وتعالى بأنه يكفي في ذلك علمه جلَّ شأنه. وعلمُ الله سبحانه وتعالى وحده كافٍ تمامًا، ولكن لعدله جل شأنه جعل التسجيل حتى تقام الحجة على بني البشر يوم القيامة، قال تعالى: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17)} ملَك عن اليمين، وملَك عن الشمال. فماذا يفعلان؟ يقعدان له بالمرصاد لإحصاء كلماته التي يتلفظ بها.
قال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)} و(اللفظ) بمعنى الإخراج ولكن بقوة. لماذا جاء القرآن بكلمة: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ} ولم يقل (ما يقول من قول)؟ للصلة الواضحة بين ما توسوس به نفسه، وبين ما يلفظ من قول. بمعنى آخر: أن القرآن يعلمنا هنا أن ألفاظك إنما هي انعكاس لما يدور في صدرك وفي داخلك، والألسنة فعلًا (مغارف)، فالإنسان حين يتلفظ بالكلمة يغرف مما في داخله وباطنه وجوفه، والإناء ينضح بما فيه. فألفاظنا التي نتلفظ ونتفوه بها إنما هي معبرة عما بداخلنا.
تدبروا في عمق الترابط والتناسب بين الكلمات، والاسم الموصول (ما) ككلمة شاملة عامة جامعة، شملت كل ما يتلفظ به من قول سواء كان متعمدًا لذلك القول، أو ناسيًا، أو جاهلًا، أو مازحًا، أو جادًا فــــ {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)} رقيب: يراقب ما يقول ويتلفظ ويفعل، وعتيد: جاهز ومستعد ومهيأ لكتابة وتدوين كل شيء.
ثم ماذا بعد ذلك؟ قال: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ (19)} هل انتهت رحلة الحياة القصيرة التي عشتم لها، وظننتم أنكم ستخلدون إلى الأرض، وظننتم أن هذه هي نهاية المطاف؟ لا {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ} والقرآن يستعمل مفردة (جاءت) دلالة على القوة والشدة. ولكن لماذا سمى الموت (سكرة) لأنه فعلًا للموت سكرات، والقرآن استعمل مفردات مثل: السكر، السكارى، وفي سورة الحج على سبيل المثال قال تعالى: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} من الآية 2. والسكر حالة من الذهول ليست غيابًا تامًّا للوعي، ولكن من شدة الذهول يصبح الإنسان غافلًا، يسمع وكأنه لا يسمع، وكأنه غير واعٍ تمامًا لكل ما يقال ويدور حوله. قال تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ} بأي شيء جاءت؟ جاءت بالحق الذي أخبركم الله به في كتابه العظيم، وحدثكم عنه هذا القرآن المجيد.
قال تعالى:{ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19)} تعبير في غاية الدقة والرقة، وتصوير لحال الإنسان الذي يراوغ ويريد أن يفرَّ من الموت الذي لا فرار منه. كلنا بطريقة أو بأخرى حين يأتي ذكر الموت نريد أن نحيد عن الموضوع، ويحيد: أي يميل. الإنسان لا يريد أن يتذكر أن الموت سيأتي وهو سيأتي لا محالة، والقرآن يبصرك بالحقائق، ليس لأنه يريد أن يرعبك لا، أبدًا ولكن لأجل أن يبصرك؛ لكي تستعد لما هو آتٍ، ففارق شاسع بين أن تعيش وأنت مدرك تمامًا ما سيحدث لك، وبين أن تعيش هكذا وتفاجأ بما سيحدث لك، والمؤمن ليس كالكافر، والصادق الذي يصدِّق برسالات الأنبياء ليس كالمكذِّب المعاند لها، وعلى النقيض المصدق يعرف ما سيحدث له.
قال تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19)} حينها فقط يتوقف هؤلاء الملائكة الذين أوكلوا بالإنسان لأجل أن يكتبوا ويحصوا عليه الكلمات والألفاظ والأعمال، فقد انتهى وقت الكتابة {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20)} الذي كنتم به تكذبون وتجادلون وتستبعدونه.
ثم ماذا سيحصل؟ القرآن ينقل لك الصورة كأنك فيها، في أعماقها وداخلها ترى وتسمع بالصوت والصورة لشدة إيقاع الكلمات والمفردات. قال تعالى: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21)} من الملائكة، سائق يسوقها إلى المحشر، وشهيد يشهد على كل كلمة، وكل فعل، وكل نية، بل وكل حركة وسكنة وخاطرة، فأين يذهب الإنسان ما بين سائق وشهيد؟ هل هناك مجال للفرار؟ أبدًا. وتدبروا في معنى ودقة ومقصد الكلمة، قال: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ} ولم يقل (وجاءت كل جماعة)، لماذا جاء بلفظة (كُلُّ نَفْسٍ)؟ لإشعار الإنسان بمسؤوليته الفردية عن أعماله وأقواله وقراراته، كم من الأمم والشعوب والمجتمعات بما فيها مجتمع كفار قريش تلك الزعامات الباطلة والملأ يسوقونهم إلى الكفر، والعناد، والإصرار، والتكذيب بمنهج الرسول؟ القرآن يضع الإنسان في الصورة، فكل الزعامات تنتهي وتتساقط، وكل ما كان يفهم ويقال حول القضية الجمعية، وقضية الجماعات، والحشد الجمعي كله يذهب هكذا. وتأتي كل نفس معها سائق وشهيد.
هذا والقرآن يستعمل أيضًا الفعل {وَجَاءَتْ} لأن الموقف شديد فيه قوة، قال: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ (21)} ولم يقل (وجاءت كل جماعة)، إذن أين الجماعات؟ وأين الأحزاب؟ وأين التيارات؟ وأين الطوائف التي تكاتفت بعضها مع بعض؟ والتي وقفت في وجه دعوات الأنبياء كما كان يقف هؤلاء؟ أين أولئك الذين تحزبوا وتجمعوا؟ كلها تساقطت وبقي شيء واحد وهو مسؤولية الفرد عن نفسه.
تدبروا في القرآن كيف يوقظ الإنسان من غفلته، من رقدته، إياك أن تتوهم أن جماعتك التي تنتمي إليها، وطائفتك التي تدافع عنها، بل وربما في هذا الدفاع وفي كثير من الأحيان تحيد عن الحق، بل وتنكره وتدافع عن الباطل لأجل حماية مصالحها، فأين هم؟
قال تعالى: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21)} هذا حتى نستوعب ونستفيق، حتى ندرك أننا نُسأل يوم القيامة أفرادًا لا جماعات عن أعمالنا، وأقوالنا، ونوايانا وما اختلج في صدورنا وليس الشعارات التي نحملها. فقضية الشعارات والأوسمة وما شابه مناسبة ونافعة في الدنيا، ولذلك فالناس يستعملونها للترويج لأفكارهم، ولكن في الآخرة الناس لا يحاسبون وفق شعارات، ولا وفق ألقاب، ولا أوصاف، ولا زعامات، ولا تيارات، ولا أحزاب، ولا طوائف بل يحاسبون وفق أعمالهم وأقوالهم، فليستيقظ الذين أغرقتهم الغفلة وأخذتهم بعيدًا عن منهج الحق.
من هنا قال تعالى: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا (22)} كثير من الناس يعيشون في حياة الغفلة، وكثير من الجماعات كذلك، ولذلك القرآن في سور أخرى يبين كيف أن الأتباع والضعفاء يتبرؤون من أولئك الذين كانوا يسيرون وراءهم وخلف شعاراتهم الزائفة. لماذا يتبرؤون منهم؟ {فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ ۚ} من الآية 21 / سورة إبراهيم. تساقطت كل هذه الأشياء. ولكن لماذا لم تتساقط في الدنيا؟ {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} غفلوا عن هذه الحقيقة، وما من كتاب يبصرك بالحقائق قبل فوات الأوان كالقرآن المجيد.
قال تعالى: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ (22)} والكلام موجَّه للإنسان، وواقع الأمر أن الإنسان يُكشف عنه الغطاء بشكلين، من خلال آيات القرآن ومناهج الأنبياء الذين جاءوا بشرائع وكتب، وأنت حين تقرأ هذا القرآن فيكشف عنك ما قد استتر.
ما هو الغطاء؟ الغطاء هو الشيء الذي يستر، فحين يكشف الغطاء ترى الحقائق والأمور كما هي وفق حقيقتها المطابقة للواقع وليس التي تتوهمها أنت، أو يزيفها لك غيرك، فالقرآن على سبيل المثال يكشف عن الإنسان الغطاء، يكشف الحقائق، ولكن بعض الناس قد لا تكشف له الحقائق، فلا يكشف الغطاء إلا يوم القيامة حين يرى كل ما كان يجادل فيه بالباطل رأي العين.
قال تعالى: {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)} تدبروا في قوة وإيقاع المفردات {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} فما الذي جعله حديدًا إذ رأيت كل شيء؟ وهل المؤمن يحتاج أن يبقى إلى يوم القيامة حتى يدرك بأن الأمور ستقع على ما هي عليه؟ لا، فهذا القرآن يبصِّره ولذلك سماه ووصفه تعالى بأنه {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى (8)} ولكن لمن؟ {لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8)} فالإنسان الذي ينظر في هذا القرآن ويرى أنه تبصرة، بصره اليوم أيضًا حديد، ويوم القيامة سيرى ما كان يؤمن به، سيرى ما قد استقرت عليه الحقيقة في نفسه وقلبه من خلال آيات الكتاب.
قال تعالى: {وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23)} الآن القرين، وهو الملَك الذي كان قد وُكل به وأحصى عليه، وقد سلم الملفات والحسابات (العهدة) أي عهدة؟ عهدة الأقوال والأعمال والنوايا التي كان يكتبها على الإنسان، فما النتيجة؟ {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24)} فهذه هي النتيجة، ولكن لماذا كفَّار؟ وكلها بصيغة المبالغة (كَفَّارٍ) أصر على الكفر، قال: {كَفَّارٍ عَنِيدٍ} معاند في إصرار. ونحن قلنا إن الأجواء التي نزلت فيها هذه السورة المباركة كانت تشهد عناد وإصرار كفار قريش على ذلك الكفر، بل ويتعجبون من الحق الذي نزل، ولا يتعجبون من كفرهم وعنادهم وإصرارهم على الباطل.
قال تعالى: {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25)} لماذا وصفه بمنع الخير؟ لأن كفر هذا الإنسان يحول بينه وبين العطاء، تراه يعيش للدنيا ويموت عليها، قلبه لا يعرف العطاء، لماذا يمنع الخير عن الناس؟ إنه الشح، وفي المقابل الإيمان الذي يحرر الإنسان من الأنانية والشح، لأنه موقن أن ما ينفقه اليوم سيجده غدًا، قال تعالى: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ} من الآية 20 / سورة المزمل. أما هذا ال(مَنَّاع) للخير بصيغة المبالغة، فقد وصف أيضًا بأنه {مُعْتَدٍ مُرِيبٍ} ملأ الدنيا اعتداءً على الآخرين، اعتداء على الناس بالقول وبالفعل، وأنت ترى كيف يكون الإنسان، وكيف يتحول إلى وحش كاسر، وتتحول عنده الحياة وكأنها غابة، القوي فيها يأكل الضعيف حين تغيب الرقابة الذاتية التي يضعها القرآن.
وتدبروا في الترابط مع قول الله جل شأنه: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)} القرآن يؤسس لواحدة من أعظم أشكال الرقابات وهي الرقابة الذاتية التي لا يعرفها البشر مهما تقدموا وتحضَّروا. كيف يصنعها القرآن؟ برقابة الضمير. الإنسان حين يستشعر أن ما يتلفظ به من قول، بل إن كل كلمة هو محاسب عليها، يبدأ يستشعر بمسؤولية الكلمة فلا يقول إلا حقًا، ولا ينطق إلا صدقًا، ولا يشهد إلا عدلًا، فلا شهادة زور، ولا كذب، ولا تلفيق، ولا تزوير، ولا خداع، ولا تضليل، ولا تحريف للكلمات، ولا انسياق وراء شعارات، ولا بيع للناس بالزيف والخداع والكذب، أو بالضحك على عقول الآخرين. ما الذي يجعل الإنسان في كل هذه الأجواء من النقاء والصفاء والطهر؟ إنه استشعاره الرقابة الذاتية.
الإنسان حين تغيب عنه هذه الحقيقة، وحين يستشعر أنه غير محاسب على ما يتلفظ به من كلمات يطيح في الناس ظلمًا واعتداءً، كذبًا وافتراءً، زيفًا وغشًا وخداعًا. تدبروا في القرآن كيف ينقي المجتمع المسلم، ولا ننسى الترابط الواضح بين سورتي الحجرات وق على الرغم من الفارق الزمني بينهما في النزول. سورة الحجرات تكلمت عن الكلمة، وعن السخرية والغيبة، عن بشاعة الاستهزاء بالآخرين، والتنمُّر، والتنابذ بالألقاب، وسورة ق جاءت لتؤكد هذه المعاني، وتقرر هذه الحقائق، من خلال إحكام الرقابة الذاتية على عقل الإنسان وضميره التي بدونها لا يمكن أن تصلح المجتمعات، ولا تصلح السرائر إذا خربت الرقابة، فلا يمكن للظواهر أن تعمر، ولكن إذا عمرت السرائر طهرت الظواهر، وعم الطهر والعفاف المجتمع.
قال تعالى: {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخر (26)} السر هو الشرك بالله سبحانه وتعالى الذي هو مفتاح كل شرٍّ، وكل خلق سيِّئ، وكل كلمة بذيئة، بل هو دلالة على كل هذا. وهذا فيه نوع من أنواع التنبيه للمؤمنين والتحذير أيضًا أن إيمانك يمنعك من قول الزور، وشهادة الزور، والكذب والافتراء والخداع والغش، المسألة لا تحتاج إلى قوانين تحكمك بالقوة حتى لا تشهد بكلمة زور، ولا تحتاج أيضًا إلى عقوبات مغلَّظة. القرآن يجعل من الإيمان هو الذي يحرس الضمير، وهذا أرقى أشكال الحراسة.
قال تعالى: {الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخر} ما نهايته؟ قال تعالى: {فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26)} الإنسان محاسب على كلماته، قد يخرج من الدنيا بلا حساب ولا محاكمة ولا أي شيء، بل قد يخرج منها بطلًا وهو في واقع الأمر من أعتى المجرمين والطغاة، ولكن في الآخرة إلى أين سيذهب؟ {فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ}.
قال تعالى: {قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27)} لماذا تخلى عنه؟ إنها المسؤولية الذاتية التي يكرسها القرآن. وفي هذه الآية يتضح التنصل من تحمل أيِّ شكل من أشكال المسؤولية. بمعنى آخر: أن ضلال وطغيان هذا الإنسان من تلقاء نفسه {كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ} وعليه يقال له: (ليس لي علاقة بك)، وفي سور أخرى حتى الشيطان يقول له: {إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ} من الآية 16/ سورة الحشر. حتى الشيطان يتبرأ، ولذلك يقول الشيطان: {لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ} من الآية 22 / سورة إبراهيم.
والآن القرين المصاحب للإنسان يقولها واضحة {رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ} الإنسان العاقل حين يسمع كل هذه الاعترافات وكأنه يراها عيانًا ويسمعها واقعًا، وكأن الغطاء قد كشف عنه، والآيات تكشف عن بصره الغطاء، وعن عقله الوهم حتى يفهم ويستوعب فهل بعد ذلك له حجة؟ أن يقول لا ما قلت، ما فعلت، بل هو الذي أغراني ووسوس لي، لا {قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ (28)} فهذا ليس وقت التخاصم، وهذا التخاصم بين أهل النار حق إذ يتخاصمون فيما بينهم، يقول الضعيف منهم للكبير: أنت أغويتني، ويقول الكبير للضعيف: أنت اتبعتني، وكل واحد يلقي بالتهمة على الآخر، ويتلاومون ويتخاصمون فيما بينهم بعد أن كانوا أصدقاء في الحياة الدنيا، أصدقاء الأمس، تلك الصداقات الزائفة القائمة على المصالح العاجلة، والظلم والزيف والغش والخداع والكفر تساقطت يوم القيامة لأنه يوم الحقيقة، وهذه الصداقات لم تكن صداقات حقيقية، فلو كانت كذلك لما سقطت، وواقع الأمر أنها صداقات كاذبة فارغة قامت على المصالح الدنيوية العاجلة، وأودت بأصحابها إلى النار.
{قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28)} قدمتُ في القرآن، وفي الكتب، وعن طريق الأنبياء، والرسل، و{قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ} فليس ثمة شيء لا تعرفونه، فالوعيد تعرفونه في الكتب التي أنزلها سبحانه، والرسل الذين أرسلهم. قال تعالى: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا َأَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29)} القول كله، القول الحق لا يبدل ولا يغير، وليس سبحانه بظلام للعبيد جل شأنه، إنما هي أعمالكم وأقوالكم. قال تعالى: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30)} لماذا القول لجهنم؟ كـأن الجواب أن يا أهل الأرض لو أنكم جميعًا كفرتم بالله سبحانه وتعالى لكان لكم مكان في جهنم، ففيها متسع للجميع، فاحذروا، إنما هي أعمالكم. ولذلك قال سبحانه: {وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} فيها متسع فلا يظن الإنسان أنه ليس في جهنم مجال أكثر مما كان، ومرة أخرى السؤال: لماذا جهنم؟ هي أولى بهم، ربي سبحانه وتعالى بسط القول وفصَّله في هذا القرآن المجيد، لم يترك شيئًا إلا وأخبرنا به، أما كون الإنسان لا يسمع، ولا يفهم، ويكذب، ويغفل، وتلتبس عليه الأمور، وتختلط عليه الأوراق فهذا شأنه.
قال: ربنا {مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27)} ضلال باعد بينه وبين الرشاد، وجعله أبعد ما يكون عن الحق. وهذه إشكالية الضلال، وإشكالية الضالين أنهم أوغلوا في الضلال والفساد والباطل، ازدادوا ضلالًا وبعدًا عن الحق الذي جاء به هذا الكتاب العظيم، وما جاء إلا بالحق.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته