بسم الله الرحمن الرحيم
تدبُّر في سورة الرعد (الحلقة الثانية)
نحن اليوم في الحلقة الثانية من حلقات تدبُّرنا لسورة الرعد الكريمة. وفي الحلقة الأولى تكلمنا عن مقصد السورة، الإطار العام للسورة، وسنة التغيير في الفرد والمجتمع وقواعد التغيير. السورة تبني قواعد التغيير. والإنسان الذي لا يقف مع القرآن الكريم على قواعد التغيير نحو الأفضل في النفس والمجتمع كيف له أن يُحدث ويحقق تغييرًا. وقلنا أيضا إن محور السورة يجعلنا نرجح أنها قد نزلت بمكة قبيل الهجرة الشريفة، فترة التغيير الكبرى، أو فترة الاستعداد للهجرة إلى المدينة.
سورة الرعد نزلت في طور إعداد المسلمين والنبي صلَّى الله عليه وسلَّم على رأسهم في تلك المرحلة القادمة مرحلة التغيير، لتضعهم جميعًا وتضعنا اليوم وكلّ إنسان يطمح أن يغيِّر حياته نحو الأفضل على قواعد التغيير، سنَّة التغيير، سنَّة التغيير ماضية، لا بدَّ أن يحصل تغيير، ولكن السؤال الذي يبقى مطروحًا هل أتغيَّر نحو الأفضل أو أتراجع إلى الوراء؟
وقوفي على معاني هذه السورة الكريمة العظيمة يجعلني أدرك كلّ هذه المعاني. وقد ذكرنا في المرة السابقة أن من أعظم قواعد التغيير تنقية التوحيد، وتجديد العلاقة مع الله عزَّ وجلَّ. فتعالوا بنا لنعرف كيف بدأت سورة الرعد بتجديد تلك العلاقة. كيف لتلك العلاقة بيني وبين خالقي عزَّ وجلَّ أن تتجدَّد، وما الذي يحدث إذا تجدَّدت؟
إذا تجدَّدت وقويت العلاقة بين العبد وربِّه اطمأنَّت النفس، ولذلك تخبر سورة الرعد عن النفس وكيف تطمئن: ﴿أَلَا بِذِكۡرِ ٱللَّهِ تَطۡمَئِنُّ ٱلۡقُلُوبُ﴾ من الآية ٢٨. فإذا ما تجدَّدت العلاقة بينك وبين الله سبحانه وتعالى هان عليك كلّ شيء، هان عليك ما يمكن أن تواجهه من تحديات شديدة وصعبة على المستوى الفردي، أو على المستوى المجتمعي وأنت تتغير نحو الأفضل. التغيير نحو الأفضل ليس بذلك الطريق الممهَّد أو السهل، إنما هو طريق فيه شيء من الوعورة، فيه الكثير من التحديات، فسنَّة التدافع بين الحق والباطل سنَّة ماضية. وسورة الرعد تحدِّثني عن الحق والباطل، تحدِّثني كذلك ومنذ بداياتها أن الحق كذلك لا يقاس بكثرة من يتَّبعه أو ينادي به أو يحميه أو يدافع عنه أو يدَّعيه. الحقُّ يعرف بنفسه.
تدبَّروا معي في هذه الآية الكريمة في بداية هذه السورة العظيمة، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿الٓمٓرۚ تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱلۡكِتَٰبِۗ وَٱلَّذِيٓ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن ربِّك ٱلۡحَقُّ﴾ من الآية 1 ومنذ البداية القرآن العظيم يضعني في الصورة، هذا الكتاب الذي أُنزل إليك هو الحق الذي لا جدال فيه، إذن أين الإشكالية؟ يقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يُؤۡمِنُونَ﴾ من الآية 1.لا يؤمنون بهذا الكتاب، لا يؤمنون بذلك الحق. ويبقى السؤال: هل كثرة من يجادل في هذا الحق أو يكذب به سيغير شيئًا من حقيقته؟ سيغير شيئًا من طبيعته؟ أبدًا. هذا الكتاب هو الحق، وسيبقى حقًّا، لماذا سيبقى حقًّا؟ لأن سنَّة الله ماضية، الحق لا يتغيَّر بكثرة أو قلة أتباعه.
تدبَّروا معي، نحن ذكرنا أن ترجيحنا أن هذه السورة مكية يعود إلى قلة عدد الذين آمنوا بالرسالة في ختام العهد المكيِّ، ولكن هل يوجد سبب آخر؟ نعم. ترسيخ التوحيد في النفوس. هل هناك شكٌّ أن ما أنزل إليك من ربّك هو الحق؟ إطلاقًا. هل تريد أن تتأكد تمامًا، وتطمئن نفسك أن ما أنزل إليك من ربّك هو الحق؟ انظر أمامك، انظر في الكون. هذه السورة العظيمة، سورة الرعد، من أكثر السور التي جاءت لتربط بين ذلك الكتاب المرئيِّ المنظور أمامي، وهذا الكتاب المقروء، كتاب الله عزَّ وجلَّ. ربط عظيم، الكون خلقه الله سبحانه وتعالى، والقرآن العظيم أنزله الله سبحانه وتعالى. ولا بدَّ لتجديد العلاقة مع الله عزَّ وجلَّ التي هي أسُّ وأساس التغيير في حياتنا، لا بدَّ من قطع حبل الفصام الذي حدث بين التدبُّر في الكون وبين التدبُّر في القرآن العظيم.
إن الآيات الكونية والظواهر الطبيعية التي نراها صباح مساء. هي ليست أشياء معتادة ولا أشياء تحدث تلقائيًّا بلا مهيمن، لا. كوني قد اعتدتُ عليها فألفتُها، فما عادت تحرِّك فيَّ شيئًا ولا تجدد ولا توقظ فيَّ إيمانًا، هذه مشكلتي بالدرجة الأولى، وليس لتلك الظواهر وليس لتلك الآيات علاقة بها. يا ترى ما الذي يجعل تلك الآيات حية من جديد في نفسي وفي قلبي؟ ما الذي يجعلني حين أنظر وأتأمل في الكون أخضع وأسجد لله سبحانه وتعالى.
هذه السورة العظيمة أول سورة في ترتيب المصحف الشريف تأتي فيها سجدة. إذن لماذا السجود؟ السجود جاء بمعنى الخضوع والانصياع والطاعة المطلقة لكلام الله عزَّ وجلَّ. فكيف تتحقق هذه الطاعة وهذا الانصياع؟ يتحقق بالتدبر، التدبُّر في الكون وآياته. القرآن العظيم كتاب يعلمني كيف أسير إلى الله عزَّ وجلَّ، يقول الحق جلَّ وعلا: ﴿ٱللَّهُ ٱلَّذِي رَفَعَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ بِغَيۡرِ عَمَدٍ تَرَوۡنَهَاۖ﴾ من الآية 2. آية كونية ثابتة، فمنذ أن فتحنا أعيننا ونحن نرى السماء مرفوعة بغير عمد، وكوننا اعتدنا على هذه الظاهرة فهذا لا يقلِّل من عظمتها، هي آية من آيات الله. من الذي رفعها بغير عمد؟
أولئك الذين يلحدون في الله سبحانه وتعالى، ولا يؤمنون به، ويدعون له أولياء من دونه -كما سنأتي عليه في الآيات القادمة- هل من أوليائهم من استطاع أن يدَّعي مجرد ادِّعاء أنه قد رفع السماء، أو رفع جزءًا من السماء؟ إنه الله سبحانه وتعالى الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها، ثم استوى على العرش وسخَّر الشمس والقمر، وهذه آيات نراها كلّ يوم، آيات متجدِّدة، وآيات مستقرة في حياتنا: ﴿ كلٌّ يَجۡرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى﴾من الآية 13 / سورة فاطر كلّ شيء وفق نظام محسوب، آية عظيمة تهز الوجدان، وإذا ما اهتز الوجدان واستشعر عظمة هذه الآيات سجد وخضع لخالقه عزَّ وجلَّ الذي خلق، والذي رفع، والذي دبَّر، والذي سخَّر.
تدبَّروا كم من الأفعال؟ رفع السماوات بغير عمد، استوى على العرش، سخر الشمس والقمر، يدبِّر الأمر، يفصِّل الآيات، كلّ شيء يدبره سبحانه. كلّ شيء يسير كما ترون، سماء بغير عمد نراها، عبر تاريخ البشرية لم يحدث فيها تصدُّع، ولم يحدث فيها أيُّ شيء، لماذا؟ لأن من يدبرها الخالق سبحانه وتعالى. تدبَّروا في الكون، تدبَّروا في الأرض، تدبَّروا في السماء، ما الذي يريده الله جلَّ وعلا مني؟ ما الذي يريده من تدبُّري لآياته سبحانه وتعالى، يقول جلَّ جلاله: ﴿لَعَلَّكُم بِلِقَآءِ رَبِّكُمۡ تُوقِنُونَ﴾ من الآية 2
تدبَّروا معي، هذه الآيات إذا تدبَّرت فيها وتفكرت يفترض أن تقودك إلى الإيمان بالبعث وبلقاء الله سبحانه وتعالى، ولماذا الإيمان بالبعث؟ ذكرنا أن أعظم أساس للتغيير في حياتنا هو الإيمان الخالص بالله عزَّ وجلَّ، ولا يكتمل الإيمان بالله عزَّ وجلَّ دون الإيمان بالبعث ولقاء الله جلَّ جلاله، لقاء الله سبحانه وتعالى آتٍ، ولكن عليَّ أن أؤمن به، والمطلوب أن أستحضر ذلك الإيمان في كلّ موقف من مواقف حياتي.
هنالك فارق شاسع بين من يؤمن بالبعث وبين من يعيش ذلك الإيمان. إن الذي يعيش ذلك الإيمان يعمل لكل فعل حسابه، يحسب كلّ خطوة من خطوات حياته. تعامله مع الآخرين محسوب، تعامله مع الكون محسوب على أساس أن هنالك لقاءً وحسابًا وجزاءً: ﴿لَعَلَّكُم بِلِقَآءِ رَبِّكُمۡ تُوقِنُونَ﴾ من الآية 2، ثم انتقل بي من السماء، من الأعلى إلى الأرض، الآية الأولى رفع السماء بغير عمد، والشمس والقمر في السماء، والآن انتقل بي إلى الأرض وقال سبحانه وتعالى: ﴿وَهُوَ ٱلَّذِي مَدَّ ٱلۡأَرۡضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَٰسِيَ وَأَنۡهَٰرًا﴾ من الآية 3. تدبَّروا معي، مدَّ الأرض، الأرض التي تسيرون عليها. من الذي مدَّها؟ من بسطها؟ من أحدث كلّ القوانين التي تكفل لنا أن نعيش حياة إنسانية نستطيع التحرك والعمل فيها. لمَ أوجد قانون الجاذبية وغيرها من القوانين؟ لأجل أن تضمن لي أن أسير على هذه الأرض، أزرع، أبني، أكتب، أعلم، أتعلم وكلّ أشكال الأعمال الصالحة، إذن من مدَّ الأرض؟ الله سبحانه وتعالى.
وقال جلَّ جلاله: ﴿وَجَعَلَ فِيهَا رَوَٰسِيَ وَأَنۡهَٰرًاۖ﴾ من الآية 3. نلاحظ أن هذه السورة الكريمة فيها أساليب بيانية رائعة لأجل تحريك المشاعر والوجدان وهز الفطرة وإقامتها. جعل فيها رواسي وأنهارًا، الرواسي هي الجبال الراسيات الثابتات، والأنهار من طبيعتها الجريان والحركة. إذن الأرض فيها آيات ثابتة لا تتغير، وفيها كذلك آيات ومعجزات نراها وهي تتحرك.
قال سبحانه وتعالى: ﴿وَمِن كلّ ٱلثَّمَرَٰتِ جَعَلَ فِيهَا زَوۡجَيۡنِ ٱثۡنَيۡنِۖ ﴾من الآية 3. امتنَّ علينا بالثمرات طعام للإنسان، وهذه الثمرات لها قوانين منها قانون الزوجية، زوجين اثنين. ويقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿ يُغۡشِي ٱلَّيۡلَ ٱلنَّهَارَۚ﴾ من الآية 3. تعاقب الليل والنهار آية نراها كلّ يوم ، وإذا كان الصيف أو الشتاء تصبح آية فصلية، وعلى أماكن في الأرض لا تكون تلك الفصول، ففيكلّ مكان على الأرض آيتان متعاقبتان فينا، لماذا آيتان متعاقبتان تحدثانكلّ يوم؟ لماذا؟ لإيقاظ من نام بالليل، أو نام بالنهار.
يغشي الليل النهار، ثم أعقبها بقوله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٍ لِّقَوۡمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ من الآية 3. فيمَ يتفكرون؟ هذه آيات تبصَر. تدبَّروا معي، التدبُّر يعلِّم الإنسان الربط، يعلمه السؤال، وملاحظة التناسب بين الأشياء، والتفكر: ﴿إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٍ لِّقَوۡمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾. لا يكفي أبدًا أن تنظر في تلك الآيات، لا يكفي، إذن ما المطلوب؟ المطلوب أن تنظر وتتفكر، لماذا؟ لأن ذلك التفكر هو الذي سيقودك ويسير بك إلى الله عزَّ وجلَّ، نحو الإيمان به سبحانه وتعالى، نحو تجديد علاقتك بالله جلَّ وعلا، نحو تخليص توحيدك، وبالتالي نحو السير على خُطا تغيير مسار حياتك نحو الأفضل.
وما زلنا في الأرض، ويقول سبحانه وتعالى: ﴿ وَفِي ٱلۡأَرۡضِ قِطَعٌ مُّتَجَٰوِرَٰتٌ وَجَنَّٰتٌ مِّنۡ أَعۡنَٰبٍ وَزَرۡعٌ وَنَخِيلٌ صِنۡوَانٌ وَغَيۡرُ صِنۡوَانٍ يُسۡقَىٰ بِمَآءٍ وَٰحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعۡضَهَا عَلَىٰ بَعۡضٍ فِي ٱلۡأُكُلِۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٍ لِّقَوۡمٍ يَعۡقِلُونَ﴾ آية ٤ تدبَّروا معي في هذا الحشد من الصور التي نراها بأعيننا، نراها في الشوارع وفي الحدائق الخاصة والعامة وفي كلّ مكان. قطع متجاورات، أنت ترى القطعة وأحيانا تكون صغيرة، فيها أشكال وألوان مختلفة من الزهور، أشكال وألوان من الزرع وأشكال من الثمار والأشجار من حولي، بل حتى في النخيل أشكال وألوان مختلفة وثمارها مختلفة، كلها تسقى بماء واحد. الماء الذي يسقى به الزرع واحد، والأرض التي تزرع فيها هذه الثمار وهذه الأشجار واحدة فتخرج هذه الثمار مختلفة الألوان والطعوم، بقدرة من؟ بقدرة الله جلت قدرته، وتعالت أسماؤه وجلَّ جلاله، لذا يقول سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٍ لِّقَوۡمٍ يَعۡقِلُونَ﴾ من الآية ٤
ربما تفضِّل بعض الأشياء على بعضها الآخر، ولكن مع ذلك التفضيل عليك أن تدرك من الذي فضَّل؟ من الذي ميَّز؟ من الذي أعطى تلك الثمار مزايا معينة. وعلى سبيل المثال التمور نجدها عشرات الأصناف، أصنافًا من الدرجة الأولى، وأحجامًا مختلفة وألوانًا مختلفة. حتى أسعارها مختلفة، ولكن السؤال الذي يبقى مطروحًا: من الذي أوجد هذا التميز والتفضيل بين الثمار؟ ومن الذي أبدعه؟ ولأجل أي غرض؟ ولأجل أي حكمة؟ سيأتينا الربط بعد ذلك في آيات هذه السورة الكريمة نفسها.
قلنا سابقًا إن علم التناسب والكشف عن أوجه التناسب والترابط علم عظيم يفيد في تدبُّر الآيات ويفيد في الفهم والتطبيق. هذا التفضيل الذي بين الثمار وأنتم ترونه ملموسًا محسوسًا تعيشونه في حياتكم وفي واقعكم موجود كذلك في النفوس، موجود في الأفراد. هنالك تمايز وهنالك تميُّز وهنالك تنوُّع، ولكن ما سبب هذا التنوُّع والتفاضل والتميز؟ لأجل العيش بطريقة أحسن وطريقة أفضل.كلّ الأشياء حتى الثمار والنباتات ربِّي عزَّ وجلَّ خلقها متنوعة، لم يخلقها على شكل واحد، ولا على صنف واحد، خلقها متنوعة، خلقها متلوِّنة، خلقها متعدِّدة. لماذا؟ لأجل أن تكتمل حياة الإنسان، وتحلو بذلك التنوُّع. وكذلك الحياة الفردية، حياة البشر، حياة الأفراد وحياة المجتمعات تحلو كذلك بذلك التنوُّع إذا ما أدركنا كيف نعيش ذلك التنوُّع، وكيف نجعل من ذلك التنوُّع دافعًا إلى تغييرنا نحو الأفضل، وليس نقصانًا وليس صراعًا، هو ليس بصراع، الحياة الإنسانية ما أريد بها أن تكون حلبة صراع، التنوُّع فيها من أجل حياة أفضل واستخراج الأفضل في أنفسنا. هذه آية من آيات الله عزَّ وجلَّ. ولكن لمن؟ آيات لقوم يعقلون، تدبَّروا في هذه المعاني.
ثم انتقلت الآيات من تلك الآيات الحسِّية الطبيعية والظواهر إلى إبراز قيمة الإيمان بالبعث فقال الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَإِن تَعۡجَبۡ فَعَجَبٌ قَوۡلُهُمۡ أَءِذَا كُنَّا تُرَٰبًا أَءِنَّا لَفِي خَلۡقٍ جَدِيدٍۗ﴾ من الآية 5 . أبعد كلّ هذه الآيات، أبعد كلّ تلك السنن والقوانين في الحياة، أنت ترى الحياة والموت في كلّ شيء، تراه في تلك الزهرة التي نمت من بذرة، تنمو وتنمو وتزهر، تراه في تلك الثمرة التي بدأت من بذرة في الأرض ميتة، وإذا بالله عزَّ وجلَّ يحييها بقدرته، فتكبر وتنمو وتصبح شجرة وتعطي ثمارًا، أليس هذا مثالًا حيًّا واقعيًّا للحياة والموت؟
أنت لا تستطيع أن تجادل في الواقع الذي تعيشه، والذي يشهد عشرات الصور من الحياة والموت، ثم تعود وتجادل في قدرة الله سبحانه وتعالى على الإحياء بعد الموت؟ بلى: ﴿فَعَجَبٌ قَوۡلُهُمۡ﴾ العجب قول يدعوك إلى الاستغراب، لماذا؟ لأنك تطلب شيئًا غير وارد، أنت تجادل في شيء عجيب، ما هو ذلك الشيء العجيب؟ تجادل في قدرة الله عزَّ وجلَّ بأنه سوف يحييك ويحيي عظامك وهي رميم؟ هو سبحانه وتعالى يحيي كلّ يوم، ويجعل من التراب شجرة وزهرة وثمرة، وكلّ ما تراه من حولك، تراب، ويجعل منه كلّ ذلك، ولكنك لا ترى بعين البصيرة!
هؤلاء الكفار، هؤلاء الذين يجادلون في الله بغير حق لا يبصرون ولا يتفكرون ولا يعقلون، ولو عقلوا لما عجبوا من قدرة الله سبحانه وتعالى على أن يجعل من ذلك التراب إنسانًا من جديد. ولذا يقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمۡۖ﴾من الآية 5 كفروا، غطوا كلّ تلك الحقائق التي يرونها أمامهم: ﴿وَأُوْلَٰٓئِكَ ٱلۡأَغۡلَٰلُ فِيٓ أَعۡنَاقِهِمۡۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ﴾ من الآية 5 لم كلّ هذا الكلام عن العقاب الشديد؟ لأن العقاب يتناسب تمامًا مع حجم ذلك الجرم، جرم كبير أن يكفر الإنسان، ويجادل في قدرة الله عزَّ وجلَّ على البعث بعد أن رأى كلّ هذه الآيات من حوله.
تدبَّروا معي كيف تحرِّك هذه السورة الكريمة، سورة الرعد، الإيمان في القلوب، كيف تسوق النفس سوقًا إلى خالقها من جديد، كيف تجعل القلب يسجد قبل الجباه، قبل أن تسجد الجبهة لله خضوعًا وخشوعًا واستسلامًا وتسليمًا لأمره وقدرته سبحانه وتعالى الذي خلق كلّ شيء بهذا الخلق العجيب الرائع الجميل، فسبحان من خلق، والحمد لله الذي أنزل هذا الكتاب العظيم وهذه السورة العظيمة لتجدِّد وتحيي بواعث الإيمان في قلوبنا وفي نفوسنا من جديد.