الحلقة السابعة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسَّلام على رسولِ الله، وعلى آله وصحبهِ، ومن والاه
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته
كان إبراهيم أبو الأنبياء (عليه السَّلام) أُنموذجًا لذلك الإنسان، قبل أن يكون الَّنبيّ الَّذي سار بنفسهِ أولًا في هذه الرحلة. رحلة الخروج من الظُلُماتِ إلى النُّورِ بسلام، وجدنا أنَّ الله عزَّ وجلَّ وصف النبيَّ الكريم بأوصافٍ لم تجىء في وصفِ نبيٍّ من الأنبياءِ، وأكثر الصِّفات الَّتي وُصِفَ بها إبراهيم (عليه السَّلام) في كتابِ الله صِفة القلب السَّليم.
إبراهيم (عليه السَّلام) من أعظمِ مزاياهُ بعد التَّوحيد والحنيفيَّة السَّمحة ذلك القلب السَّليم. والقُرآن وفي سورة إبراهيم تحديدًا جاء ببعض من أبرزِ معالم القلب السَّليم الَّذي حملهُ إبراهيم (عليه السَّلام)، والصِّلة بين سلامة القلب وقُوَّة التَّوحيد صِلة وطيدة جدًا. ولكن دعونا قبل أن ندخُلَ في تلك الصِّلة نتعرَّف على معنى القلب السَّليم. القلب السَّليم في القُرآن” يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)” سورة الشُّعراء. إذن رحلة الحياة كلُّها تتلخَّص في أن يقدُمَ الإنسان على ربِّهِ بقلبٍ سليم، وبالتَّالي لا ينفع كُل متاع الدُّنيا كالمال والبنين، ولا ينفع شيء إذا لم يتمكَّن الإنسان خلالَ رحلتهِ على الأرضِ أن يُسلِّمَ قلبَه ويُصفِّيه، أن يجعل ذلك القلب قلبًا سليمًا يقدُمُ به على ربِّهِ فهو رأسُ مالهِ. رأس النَّجاة من كُلِّ خوفٍ ومن كُلِّ عذابٍ القلب السَّليم في الدُّنيا قبل الآخرة. فما هو القلب السَّليم؟ القلب السَّليم بعد تتبُّع الآيات في كتابِ الله تجدهُ قلبًا أولًا سَلِمَ وبَرِئ من الشِّركِّ بِكُلِّ أشكالهِ وصوره وهذا ينطبِق على إبراهيم (عليه السَّلام)، الذي جاء بالحنيفيَّةِ السَّمحَةِ ليلُهَا كنهارِهَا لا يمكن أن يحدُث فيها زيغ أو انحراف طالما أنَّ الإنسان كان يسير بهذا القلب السَّليم.
إذن أول صفة من مُواصفات القلب السَّليم أن يسلم من كُلِّ نوازع ودوافع وشوائب الشِّركّ بكُلِّ أشكالِهَا كالشِّرك الخفي والرِّياء وغيرها، ولذلك بعض السَّلف وصفوهُ فقالوا: ألَّا يكون في القلبِ أيُّ مخلوُق. طبعًا الكلام ليس حرفيًا فهو يعني ألَّا يبقى في قلبِ الإنسان أيُّ وجهة يُوجِّههَا لِرضَا مخلوق، فكُلُّ القلب (وليس جُزءًا منه) أصبح بيعًا وشراءً لله الواحد الأحد، إذ سَلِمَ من الشِّرك لأنَّ مُعظم النَّوازِع الَّتي تأتي للإنسان من قبيلِ النَّظَر لأحدٍ غير الله (عزَّ وجلَّ) أو الانشغالِ به.
وسورة إبراهيم ذكرت لنا أشكالًا منها أشكال التَّبَعيَّة، فالإنسان ممكن أن يتَّبِع ويسير وراء إنسان أو منهج أو أي شيء دون أن يكون له في قلبهِ منزلة بقطعِ النَّظر كيف تولَّدت تلك المنزلة سواء أكانت خوفًا أم محبَّةً أم أي شيء. ولكن النتيجة أنَّ هناك أحدًا غير الله (عزَّ وجلَّ) في ذلك القلب، ولذلك من أبرز مواصفات القلب السَّليم أن يُسلِّمَ إيمانًا وتوحيدًا لله، ولذلك نجد أن أول دعوة لأبي الأنبياء هي” رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ” من الآية 35.
ذكرنا في المرة السَّابقة أنَّ الأصنام لا تنحصر في الحجرِ ولا في الشجر، ممكن أن تكون في بشر، أصنام مختلفة ولكن الفكرة الأساس أن يكون هناك تحكيم في حياة الإنسان لأحدٍ غير الله (عزَّ وجلَّ). ولذلك القلب السَّليم سَلِمَ من الشِّركِ، سَلِمَ من التَّوجُّه لغيرِ الله (عزَّ وجلَّ)، سَلِمَ من طلبِ الرِّضا من أيِّ أحدٍ سوى الله (سبحانه وتعالى)، وسلم من طلب الأجر من أحد، لا يتوقع شُكرًا ولا ثناءً من أحد، فالوُجهة كُلُّهَا لله. لذلك أبو الأنبياء جاء في دُعائهِ المعروف” قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162)” سورة الأنعام. تخليص التوحيد، وهذا أول شرط من شروطِ القلب السَّليم، وذكرنا أكثرَ من مرة أنَّ كثيرًا من البشرِ في زماننا يعتقد بأنَّ قضيَّة التَّوحيد مُسلَّمة طالما هو يقول (لا إله إلَّا الله محمد رسول الله) في واقع الأمر أن الإنسان حين يقولها يكون قد أسقط الشِّرك الأكبر، وفعـــلًا هذه الكلمة عظيمة وثقيلة الوزن والمقدار عند الله (سبحانه وتعالى)، ولكن نحن نتكلَّم عن الخفايا، أشكال من الشِّرك الخفيّ قد تتسلل إلى القلبِ لا بدَّ من تصفيتها وتنقيتها، ولا نذكرها حتى لا يُصنِّف النَّاسَ بعضهم بعضًا. وإلى هذه الدَّوامة الَّتي تُذهِب الإنسان بعيدًا عن نقاء التَّوحيدِ بالله سبحانه والإيمان بهِ، بعض النَّاس متخصصون في التصنيف، فيقولون: هذا كافر، هذا مُشرِك، هذا مُبتدع، هذا فاسِق وهذا شُغلهُم الشَّاغِل، شُغِلَ بالنَّاسِ عن ذاتِ نفسهِ، والنتيجة ضياع بكُلِّ أشكالهِ وصوره. والقُرآن لا يربِّي هذه العقليَّات ولا هذه النفسيَّات، يربِّي الإنسان على أن يتعرَّف على شوائبِ التَّوحيدِ وما يمكن أن يعلقَ بهِ، يشتغِل بقلبهِ فيُّصفيهِ ويُخلِّصُهُ كما فعل أبو الأنبياء.
كثرة الدُّعاء من أعظمِ الوسائِل، وسيلة أُخرى تفقُّد القلب وعدم الشُّعور بالأمن، الإنسان طالما هو على قيد الحياة لا ينبغي أن يأمن من كُلِّ أنواع الشَّوائِبِ أو الرِّياء لأنَّكَ لا تدري فقد تتسلل إلى القلب، ولا يُعصم منها إلَّا من عصمه الله (سبحانه وتعالى)، ما المنجى؟ كثرة الدُّعاء والإقبال على الله (عزَّ وجلَّ) وكثرة تفقُّد القلب نتيجتهُ أن يُطهَّر، أن يُنقَّى، أن يُصفَّى، أن يُنظَّف ولا شيء يُنقيه ككتابِ الله (عزَّ وجلَّ).
وهذه المناجاة الَّتي جاءت في أواخرِ سورة إبراهيم تعكس صفاء ذلك القلب السَّليم الَّذي كان يحمله أبو الأنبياء والَّذي لم تجىء أول دعوة من دعواتهِ بأشياء مُتعلِّقة ببشريَّتِهِ، ونجد في كتابِ الله في مواضع أُخرى أنَّهُ كان يدعو ويطلب لوالده، ولكن حتى حين يدعو أو يطلب لم تكُن دعوته لأشياء دُنيويَّة مُتعلِّقَة بنفسهِ، بقدر ما كانت تتعلَّق بذلك الحُب العظيم الَّذي ملك عليه كُلَّ شيء، حبُه لله ولذلك سُمِّي (خليل الله). هذه المناجاة لا تعكس دُعاءً وطلبًا وعبادة فحسب، بل تعكس حلاوة ساعة المناجاة بين العبدِ وربهِ، وهي السَّاعة أو السَّاعات الَّتي لا يحتاج فيها العبد إلى شروط لكي يدخل على القائمة، قائمة المناجين فأنت تستطيع أن تُناجي ربَّكَ (سبحانه وتعالى) في كُلِّ وقت، وعلى أي حال، وفي كُلِّ مكان بأي شكل، فمِن إبراهيم (عليه السَّلام) وهو يُناجي خالقه (عزَّ وجلَّ) يتعلَّم العبد المؤمِن كيف تكون المناجاة أحلى ما في الكون وما معنى تلك الحلاوة في الدُّنيا؟ العبد المؤمِن إذا فقد أشياء كثيرة في حياته قد لا يشعر بمرارةِ فقدِهَا ولو بعد فترة من الزَّمان مهما طالت إلَّا حلاوة مُناجاة الله سبحانه إذا فقدها العبد فقدَ كُلَّ شيء، فقدَ الإحساس بمرارةِ فقد تلك المناجاة الَّتي بدأ بها إبراهيم (عليه السَّلام) بقلبهِ السَّليم، هذا القلب الَّذي سَلِمَ من كُلِّ أشكالِ الشِّركِ وشَّوائبِ التَّوحيد -وهذا الشَّيء تابع للأول- فالقلب حين يصفو التَّوحيد فيه ويرتقي ويرتفع يُصبح كالماء الزُلال العذب لا يحمل شوائب. فالشَّائِبة حين تدخل الماء ولو كانت بسيطة، كجزء من عود تظهر في الماء لأنَّهُ نقي. وكذلك القلب السَّليم يسلم من كُلِّ حقدٍ وغش لأيِّ أحد.كيف؟ رصيد التوحيد عالٍ فلا يحمل ألمـًا من النَّاسِ مهما أذاقوه. ولكنَّهُ بشر، فأين البشريَّة إذن هنا؟ هو كُلَّمَا جاءت الهموم والأحزان والآلام وبدأت تُحمِّلُه شيئًا فزِعَ إلى الله، وغسل ذلك القلب والهمَّ بمُناجاة الله (سبحانه وتعالى) وإلَّا فإنَّ إبراهيم (عليه السَّلام) لاقى من صُنوفِ الابتلاءِ ما لاقى من أهلهِ وأسرتهِ، من أبيهِ أقرب النَّاس إليه، وهاجر إذ هجر الأهل، وهجر البلد والوطن والأرض؛ إذن لاقى مشكلات عديدة، ولكن تلك الآلام والصِّعاب والابتلاءات والأحزان لم تسلُب منه نقاء قلبهِ وصدرهِ الَّذي هو أعظم شيء. وهذه نقطة في غايةِ الأهميَّة لمن يريد أن يكون من أصحابِ القلوب السَّليمة (نسأل الله تعالى أن يجعلنا منهم) أنَّ محن الحياة.
إن الإنسان قد يتعرَّض لابتلاءات من قِبلِ النَّاس، وقد يرى منهم ما يُؤسِفُهُ ويُؤلِمُه ويجرحه، والجرح يكون أعمق إذا كان من الأقربين وهذا شيء صحيح، ولكن الدعاء مهم جدًا بعد أن أبدأ بمحاولة تضميد الجرح، ولا يمكن أن أضمد الجرح إلَّا بنقاء التَّوحيد وبحلاوة المناجاة مع الله (سبحانه وتعالى). بمعنى آخر: جُرحت من أحد؟ أصابك جرح عميق؟ ضمِدهُ بالدُّعاء لله سبحانه، لكن حين تتوب فلا تكُن الشَّكوى كما هو الحال في مثلِ هذه المواقف. وتدبَّروا معي في الأنبياء الَّذين هُم أعظم الأمثلة لأصحابِ القُلوبِ السَّليمة ومنهم يعقوب على سبيلِ المثال، يعقوب (عليه السَّلام) جُرِحَ كثيرًا، وعلى أيدي أولاده أقرب النَّاس إليه، ألاَ يُسَمُون الأولاد (فلذات الأكباد)؟ أكبر جرح في حياة الَّنبيّ يعقوب (عليه السَّلام) جاء من أبنائه؛ فقد يأتيك الجُرح من أبنائكَ وينزِف، وقد كان جرح يعقوب ينزف لفتراتٍ طويلة. ولكن حين كان يُناجيهِ كان يقول:” إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ” من الآية رقم 86 / سورة يوسف. ولكنه لم يشكُهُم، هل لأنَّهُ كان أبًا فقط؟ ومثال آخر: يوسف (عليه السَّلام) وهو أخ، وجاءه الألم والجرح من الأُخوة، جرح عميق ولكنَّهُ ما توجَّه بالشَّكوى من أشخـاصهم، وكذلك نبيُّنا (صلى الله عليه وعلى آلهِ وسلَّم) لما شكا قال: أنت ربُّ المستضعفينَ، وأنت ربِّي إلى من تكِلُني؟ ولكن ما شكا القوم، ولا أعطى قائمة بأسماء أشخاص. لماذا؟ قلبٌ سَلِم فعلًا وارتفع بنقائهِ ومُناجاتهِ لله (سبحانه وتعالى) عن أن يذكُر أو يشكو أحدًا بعينهِ لله. وهذه نقطة في غايةِ الأهميَّة، سلامة الصَّدر تقتضي ألا نقول عند الغضب أو الجرح: حسبي الله على فُلان. قد تكون تلك اللحظة الَّتي نقول فيها هذه الكلمة لحظة ضعف، لحظة نزول القلب عن درجةِ السَّلامة.
إذن ما هو القول الأمثل؟ حسبُنا الله ونعم الوكيل بدون قوائم بالأسماء وماذا عن القلب؟ يتوجَّه لله (عزَّ وجلَّ) هو أعلم بما فيه وبمن فيه. ولذلك كُل دعوات الأنبياء تقريبًا ومنها دعوات إبراهيم (عليه السَّلام) على سبيلِ المثال لم يرد فيها دعاء على أحد إلَّا نُوحًا (عليه السَّلام): “فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ (10)” سورة القمر. وفيما عدا هذه الآية هناك آيات أُخرى جاءت أيضًا على لسانِ نُوحٍ (عليه السَّلام) ليس فيها ذكر لأولئِك المعاندين المستكبرين للدُعاءِ عليهم. موسى (عليه السَّلام) لم يدعُ على قومهِ لأنَّهُ تألَّم منهم، ولكن دعا على شيء في سبيلِ وطريقِ الدَّعوةِ والشاهد القلب السَّليم، وتدبَّروا معي في هذه الكلمة: مُناجاة. إذن القلب السَّليم أعظم صفتينِ فيه: نقاء توحيد (رصيد عالٍ)، والسلامة من الحقدِ أو الغِلِّ على النَّاسِ بِكُلِّ الأشكالِ والصُّورِ. وهذه المسألة تحتاج إلى جهاد نفس بالتأكيد، وكُلَّمَا ازددتَ قُوَّةً وإيمانًا وتوحيدًا صفا قلبك.
كيف يصفو القلب؟ كما ذكرنا أكثر من مرة بأن تُسقِطَ الخلقَ (صفاء التَّوحيد)، وإذا أسقطت الخلق حتى مَنْ آذاك بشيء فاعلم أنَّ الله (سبحانه و تعالى) قدَّر -وهو لا يُقدِّر إلَّا الخير- أن يكون هذا الشَّخص كائنًا من يكون (زوجًا أو أبًا أو أخًا أو جارًا أو صديقًا) يكون في طريقك، ثُمَّ يحدُث أن يصدُر منه بعد ذلك ما يُؤذيك. وأنَّ ما يقوم بهِ هو شيء قدَّرَهُ وكتبَهُ الله لك فلا تتألم، لا تحزن، لا يكُن انشغالُكَ بذلك الأحد، واُنظر إلى الصُّورة مُكتملة أنَّ الابتلاء فيه حكمة، وأنَّ الله حين يُقدِّر أن يبتليكَ بشيءٍ إنَّمَا هناك حِكَمٌ فتعلَّم الدَّرس، ولا يمكن أن يتعلَّمَ الدرسَ بعيدًا عن مـدرســةِ التَّوحــيدِ ومُناجاة الله (عزَّ وجلَّ). قال إبراهيم في مُناجاتهِ” رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا” من الآية 35. والأمن في مكةَ والبلد الحرام وجاءت في آيات أُخرى، ودعوته أول ما يدعو والموقف شديد وصعب، الموقف أنَّ إبراهيم (عليه السَّلام) أوحى إليه ربه أن يترك هاجر وابنه إسماعيل في مكةَ وادٍ غير ذي زرع تكليف ليس من قِبلِ نفسهِ، والشيء الَّذي يتبادر إلى الذِّهنِ أنَّ أول دعوة سيدعو بها إبراهيم لمن ستكون؟ هل هي لهاجر وإسماعيل؟ إبراهيم (عليه السَّلام) صاحب القلب السَّليم، القلب الكبير الَّذي تعالى على كُلِّ الأشياء الصَّغيرة فماذا كان أول طلب له؟ هذه الدَّعوة لم تختص بوقتهِ أو زمانهِ بل كُل الأجيال.
والقُرآن هنا يُذكِّر لماذا قد جاء بهذه الدَّعوة لأنَّ الأمن لمكةَ على شكلينِ: أمن قدريّ أي من قدر مكة أن يكون لها أمان. فهذا أمن خاص بمكَّةَ، وهناك جانب آخر من الأمنِ في مكَّةَ وهو أمن يتعلَّق بما يقوم بهِ الخلق، ونستطيع أن نُسميه أمنًا شرعيًا، والَّذي يتعلَّق بمدى تطبيق أهل مكَّة بالذَّات ومن حولها لشرعِ الله في حياتِهم حتى يحصلوا على ذلك الأمن المكمِّل للأول. ونحن نعلم أنَّ أهلَ مكَّةَ الَّذين نزلت عليهم هذه السورة، سورة إبراهيم ما كان لهم من ذلك الأمن الشَّرعي شيء وإلا فلماذا تناوبت عليهم الحروب بعد ذلك؟ لأنهم لم يتحققوا بذلك الأمن الشَّرعىّ المرتبط بالتَّوحيدِ. وإلَّا فإن الأمن القدري في مكة يقتضي أن يحميها ربها بينما كُلّ البلاد يحميها أهلُهَا. أمَّا الأمن الشَّرعي فهو مُتعلِّق بالبشر وأعمال النَّاس فيها من تصرُّفاتٍ وسُلوكيَّات. فحين يكون فيها أُناس كأهلِ مكَّةَ وقت الَّنبيّ (صلى الله عليه وعلى آلهِ وسلَّم) حاصروا وقتلوا وضربوا وعذبوا وجوعوا فما بقي مكان آمن في مكَّةَ، ولولا أن مكَّةَ خلت من الأمانِ ما خرج منها نبيُّنا (صلى الله عليه وعلى آلهِ وسلَّم) إذن هو خرج منها لقلةِ الأمانِ. نعم إذ ما عاد هو ولا أصحابهِ يأمنونَ فيها على أنفُسِهم، ولا على أموالِهم، ولا على أعراضِهم. إذن أين تحقُّق دعوة إبراهيم؟ دعوة إبراهيم أُجيبت، ولكن كما ذكرنا تتعلَّق بأمرينِ: النَّاس ومسئوليَّة النَّاس وما يقومونَ بهِ من أفعالٍ، أمَّا ما قُدِّرَ لها فهو موجود، قال:” رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا” من الآية 35. وجاء بمِفتاح الأمان الَّذي ينبغي أن يتصرَّف فيه البشر، قال تعالى: “وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ” من الآية 35. كُل الأصنام، أصنام مكَّة أيام الجاهليَّة كانت العُزى ومناة وهُبَل وغيرها. أكثر من ثلاثمائة وستين صنمًا في جوفِ الكعبة، ثُمَّ حُطِمَت هذه الأصنام فما عاد هناك أصنام، وماعاد أحد يُعبد إلَّا الله الواحد الأحد. تدبَّروا معي في الرَّبطِ في الدُّعاء” اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ” إذن مِفتاح الخوف أن يكون هناك ربّ يُعبَد غير الله (عزَّ وجلَّ) وعودة الأصنام من جديد، والأصنام كما ذكرنا أكثرَ من مرة يمكن أن تتغيَّر أشكالها، وتتلوَّن وتتعدَّد. ولكن مِفتاح الأمان ألَّا يكون فيها صنم، وأن يبقى التَّوحيد هو الَّذي يُطبَّق في كُلِّ وقتٍ وفي كُلِّ زمانٍ. ثُمَّ جاءت الآية الَّتي بعدها تُبيِّن” رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ” من الآية 36. آية عظيمة قد لا يلتفت إليها الكثيرون، والكلام ليس عن أصنامِ الحجارة فحسب، بل كُل الأصنام عبر التَّاريخ البشري، وأسباب الضَّلال ودخُول الإنسان فيه وفي الظُّلمة والظَّلام والظُّلم نتيجة اتباع الأصنام.
سورة إبراهيم قدَّمت نماذج للأصنام، فِرعون كان صنمًا عبده قومه من دونِ الله، هُم ما كانوا ساجدينَ له ولكن كانوا يقومون بحركات خضوع تشبه الركوع، وهو تطاول حين قال: أنا ربُّكم الأعلى، ولكن أكبر جوانب الصَّنَميَّة في حياتِهم كانت ذلك الخُضوع والطَّاعة العمياء المطلقة غير المشروطة، وتحكُّمه في حياتِهم ومصائرِهم. لذا نجد أنَّهُ كان يُشير عليهم بما يعبدون وما لا يعبدون، إذن التَّبَعيَّة الَّتي جاء ذِكرُهَا في سورة إبراهيم هي اتخاذ البشر أصنامًا تُعبد وتُتبع من دون الله فيكون الضلال المحقَّق ” أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ” وما الحل؟ “فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي” من الآية 36. تدبَّروا إذ جاء الكلام عن الاتِّباع، وتدبَّروا معي الآيات الَّتي جاءت عن الكلام عن الضُّعفاء الَّذين اُستُضعِفوا لما قالوا للَّذين استكبروا” إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا” من الآية 21. إذن ما المطلوب؟ المطلوب اتِّباع هذا المنهج الخالد، التَّوحيد والحنيفيَّة السَّمحة. وذكرنا أكثرَ من مرة أنَّ التَّبَعيَّةَ ليست بالضَّرورة أن تكون تبَعيَّة قيادة، قيادة قُوَّة اقتصاديَّة أو سياسيَّة وغيرها، وممكن أن تكون تبعيَّة لقيادة فكريَّة وهذا واقع، قيادة دينيَّة. إذن ما الَّذي يُريدُه القُرآن مني؟ قال المنهج هنا: ” فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي” ولكن اتبَّاع على العمى بدون نظر؟ لا، ونحن نعلم أنَّ إبراهيم (عليه السَّلام) من أكثرِ الأنبياء الَّذين كانوا يتحدثون عن الحُججِ العقليَّةِ” رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ ” من الآية رقم 260 / سورة البقرة. كما أنه نظر في السَّماءِ ونظر في النُّجومِ إذن هو ليس اتباع أعمى، بل اتباع على بصيرةٍ وعلى نُورٍ، فهناك فرق بين التَّبَعيَّة المذمومة وبين الاتِّبَاعِ، اتِباع على حقٍّ وعلى صواب، وليس على باطل، تبَعيَّة لا تلمح فيها الشَّخصيَّة، بل بالعكس تقوى لأنَّ الَّذي تسيرُ على طريقهِ وسبيلهِ هو نبيٌّ من الأنبياءِ الَّذين هُم صفوة الخلق، وهُم لا يطلبونَ منك أن تُغلِقَ عقلك ولا منافذ البصر عندك، بل على العكسِ تمامًا، هُم يطلبونَ منك أن تفتح عينك وقلبك وكُل وسائل الإدراك والحسّ حتى تعي رسالة التَّوحيد. قال:” وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ” من الآية 36. تدبَّروا في القلبِ السَّليم إذ لم يقُل: (ومن عصاني فخُذه أو فاطمس على..) بل قال:” وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ” سلامة قلب إبراهيم (عليه السَّلام) الَّذي لا يدعو على من عصاه إذ كان من الممكن أن يقول: فإنَّكَ جبَّار، فإنَّكَ قدير، تدبَّروا في اختيارِ الكلمة”وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ” من الآية 36. قلب مُفعَم بالرَّحمة، ورحمتهِ بالخلقِ كانت من أعظمِ وسائل قُربهِ من الله (عزَّ وجلَّ)، وثناء الله (سبحانه وتعالى) عليه في أكثرِ من موضع في كتابهِ” إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ (75)” سورة هود.
كُل الصفات الرَّائِعة تجسدت في هذا الَّنبيّ صاحب القلب السَّليم، ثُمَّ جاء الحديث عن ذريته بعد ذلك” رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ” من الآية 37 لماذا ذكرها في الدُّعاءِ؟ هو تكليف من الله أن يُسكِن هاجر وإسماعيل بوادٍ غير ذي زرعٍ. ليس تُربة بل صخرًا غير قابل لأن يزرع، وهذه طبيعة جُغرافيَّة لمكَّةَ، وحتى غير قابلة لاستصلاحِ تُربتها. فهي صخر قال:” بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ” إعجاز القُرآن في الكلمةِ، وتحديد المكان، والله يعلم فهو الَّذي أمرهُ فلماذا يقول؟! إبراهيم (عليه السَّلام) خليلُ الرَّحمن. وهنا تأتي مظاهر بشريَّة إبراهيم (عليه السَّلام) فهو كبشر يريد أن يُفرغ ما في قلبهِ وما عنده من أحاسيس؛ ولذلك نحن اليوم حين نتضايق أو نتألَّم ممكن أن نتصل بأحد كما يُقال (للفضفضة)، أحيانًا كثيرة أنت تعرف أنَّ الَّذي أمامك لا يملك لنفسهِ ولا لك ضُرًا ولا نفعًا فلماذا تقول له؟ لماذا تُحدِّثهُ؟ بحُكمِ بشريَّتِكَ. ولكن تدبَّروا معي هذا شتان بين من يُخالِل أحدًا من البشرِ وبين إبراهيم خليل الرَّحمن الَّذي حين نجاه الله تعالى، دعا بهذا الدعاء ” رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ”. وكُل شيء فيه حكمة وذلك أكيد والسبب:” رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ” من الآية 37.
تدبَّروا في الكلمةِ. حين يُهاجِر الإنسان المؤمِن الَّذي لم يبقَ في قلبهِ أحد ولا وجهة إلَّا ما يريده الله (سبحانه وتعالى) فما عادت المطالب الدُّنيويَّة هي الَّتي تُحرِكه ولا تُفزعه ولا تُحوِّلَهُ من مكانٍ إلى آخر إنما تكون تحركاته وهجرته لله تعالى ” إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَىٰ ربِّيۖ ” من الآية رقم 26 / سورة العنكبوت. ولست مُهاجرًا كي أتخلَّص من ظُلم، لا بل أنا مُهاجِر إلى ربِّي. وذكرنا فيما ذكرنا في مراتٍ سابقة الفوارق الشَّاسعة بين هجرة لأجلِ لُقمة عيش وبين هجرة إلى الله، وإن كانت الأولى مشروعة لأنك حين تُهاجر لأجلِ لُقمةِ عيشٍ كريمة -وهذا أمر ومطلب مشروع- فأنت حدَّدت ذاتك ونفسك في ذلك المطلب البسيط الشَّيئيّ ،ولكن حين تُصحِّح المسار، وتجعل هجرتك لله فهذه قضيَّة مختلفة والموازين تختلف. الهجرة لله يفتح الله لك بها كلَّ شيء. ومن كان مُهاجرًا لدُنيا يُصيبها أو امرأة ينكِحُهَا فهجرته إلى ما هاجرَ إليه، وينسحب الأمر على من هاجر لمالٍ أو تجارة، وممكن أن ينال ما ينال ولكن هذا هو السَّقف، ولكن سقفك حين تكون مُهاجرًا لله مختلف. ولذلك إبراهيم (عليه السَّلام) توجَّه بِكُلِّ قلبهِ وأحاسيسهِ يدعو الله بشيءٍ هو يعلم أنَّ الله يعلمه؛ وهذا هو بثَّهُ إلى الله. قال:” لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ” من الآية 37. وتدبَّروا في الكلمة هنا، هذا البيت الحرام أعظم ما فيه هي هذه العبادة العظيمة الَّتي جاء ذكرُهَا هنا” لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ” من الآية 37. هناك تتجلى الصلة القلبية برب البيت فيرتقي فريق درجات الإيمان والتقوى بينما فريق آخر يُشغَل بأشياء مختلفة كأن يُصوِّر نفسه كما يُقال (سلفيSelfie ) ونحن هنا لا نتكلم عن حلال أو حرام بل نتكلم عن مظاهر، والبعض الآخر وخاصَّةً بعض النِّساء بِمُجرَّد أن ينتهي الإمام من التَّسليم تراها تفزع إلى الأسواق أو المطاعم، نحن هنا نتكلم عن ما هو أحسن وأجدر وأرقى لأترقَّى بالقلبِ السَّليم ، كُل البضائع يمكن أن تجدها في كُلِّ الدُّنيا، ولكن قلبك إذا لم تجده في مكَّةَ فأين ستجده؟ أنت جئت وربِّي شرَّفك بأن تكون في هذا البلد فأنت ضيف. وهكذا يسميك البشر (ضيوف الرَّحمن). أنت ضيف نزلت ببيتهِ وإبراهيم (عليه السَّلام) قال:” عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ” من الآية 37. البيت بيت الله. فأين حُرمة هذا البيت العظيم في القلوبِ وفي النُّفوسِ؟ ما الَّذي أجنيه حين أقف وأُصوِّر نفسي وأُنشُر صوري؟ والنَّاس تدعو لي أن تقبَّل الله، ابحث عن قلبك، وأرسل رسالة له وأنت في البيتِ المحرَّم. صحيح نحن نريد دُعاء النَّاس ولكن لا تُشغَل بشيء وأنت في بيتهِ، ونحن إذ نتكلم لا نتكلم عن تحريم بل نتكلم عن ورع و تقوى وإيمان، ترقَّ في درجة نقاء التَّوحيد (؟) و لذلك هذه المظاهر المختلفة الَّتي نراها في حياتنا اليوم مع تقدُّم وتطُّور العلم والهواتف ذهبت بأجملِ ما في قُلوبِنا، ليست الإشكاليَّة كبيرة فهناك ملايين المسلمين اليوم حُرِمُوا من أن تطأ أقدامُهم البيت الحرام، وأنت شرَّفَكَ الله ووطأتْ أقدامُكَ هذا البيت فصُن القلب عن أن يلتفِت إلى غيرِ ربِّ البيت واترك عنك، لا تُخدع بهذه الأشياء ونقِّ القلبَ، إذ ما قيمة أخذ صُور في البيتِ الحرام ووراءك الكعبة؟ وما جعلت البيت الحرام أعظم شيء في قلبك، وقد يقول قائِل: لا الأمر ليس كذلك.. الأهل والأحباب والأصدقاء، مفهوم ولكن عليك أنت أيضًا أن تفهم أنَّ التَّوحيد ليس درجةً واحدة، وأنَّ العلاقةَ والحُبَّ لله (سبحانه وتعالى) ليس درجة واحدة، وأنَّ العطايا ليست على درجةٍ واحدة، هناك أُناس يذهبونَ إلى بيتِ الله الحرام يُعطيهم لأنَّ الَّذي يُعطي هو سبحانه؛ إذ لا يمكن أن يذهب أحد إلى بيتهِ إلَّا ويُعطيه، ولكن تخيَّل حين تكون عطيَّتُكَ منه رِضًا لا يتبَعَهُ سخط أبدًا، صحيح أنَّ النَّاسَ تدعو بِكُلِّ شيء مثل : الولد والزواج وكُل شيء، ولكن أنت حين تعود بهذه العطيَّة من الله (عزَّ وجلَّ) جنَّة عرضُهَا السَّمواتِ والأرض، وأنت ستعرفها في قلبِكَ وفي نفسِكَ وأنت في البيتِ الحرام، تعرفها حين لا تعود تشعُر بمن حولك. لماذا؟ لأنَّ القلب سجدَ لمن خلقه، تلك اللحظة الَّتي حرمنا أنفُسِنا منها بأيدينا، بل أحيانًا الإنسان حتى من خلالِ الرِّفقةِ (وهي شيء جميل عندما تكون صالحة) ولكن حتى مع تلك الرِّفقة الصَّالحة في الحرم تحتاج إلى وقت تُناجي فيهِ خالِقَك لوحدك، هذه المناجاة الَّتي كان فيها إبراهيم (عليه السَّلام)” فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ” من الآية 37. والتَّعبير القُرآني العظيم”تَهْوِي” هو سُقوط من الأعلى إلى الأسفل، ولكن معنى من معاني ” تَهْوِي إِلَيْهِمْ” أي تنزع وتتجه إليهم، وليس تهوي في مكان آخر. والقُرآن ذكر في مواطن أُخرى: “تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ” من الآية رقم 31 / سورة الحج. ولكن هنا” فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ” من الآية 37 إلى ذُريَّتي. كيف ستهوي النَّاس إلى ذُريَّةِ إبراهيم (عليه السَّلام)؟
وتدبَّروا في هذه الآية العظيمة الَّتي يمكن أن يقفَ الإنسان عندها دون أن تصله أي رسالة، هذا الإيمان الرَّصيد العظيم واليقين بالله سبحانه؛ ولذلك يُروى أن هاجرَ سألت إبراهيم (عليه السَّلام) حين تركها في مكانٍ ليس فيه بشر، ولا ماء ولا زاد ولا أي شيء فقالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: فاذهب لن يُضيّعَنا. إيمان ويقين وتوحيد؛ والأسباب؟ هو مُسبِب الأسباب. قمة اليقين بالله (عزَّ وجلَّ) انقطعت الأسباب ويبقى مُسبِّب الأسباب؛ ولذلك قال:” فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ”. وإلى اليوم دعوة إبراهيم مُتمثلَّة في الشَّوقِ إلى مكَّةَ، شوق بالأفئدة وليس بالأقدام، ولذلك ترى النَّاس أفئدتُهُم تهوي إلى مكَّةَ. تدبَّروا في الكلمة:” فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ” فالفُؤاد قد يهوي إلى مكَّةَ من شدَّةِ الحُبِّ والتَّعلُّق والميل، ولكن القدم قد تكون محبوسة في مكان في أقصى الأرض. بعض المسلمين في الصِّين أو في أماكِن مختلفة في العالم يعيش كُلَّ العُمر لأجلِ أن يُوفِر دينارًا أو جزءًا من دينارِ لأجلِ رحلة العُمر إلى مكَّةَ، وقلبُهُ يهوي إلى مكَّةَ. وماذا في مكة؟ بيت الله الحرام ولذلك لما قال:” فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ” ليس في زمانهِ وفي عصرهِ فحسب، لأنَّه ستهوي إليهم أفئدة النَّاس، وستأتي العشائر بعد ذلك من العرب تهوي لأجلِ أن تُجاورَ هاجر وإسماعيل عندما يظهر ماء زمزم. وهي تُصبح سيدة المكان وتأذن لمن تأذن منهم. هوت الأفئدة إلى مكَّةَ ولكن الآية لا تنحصر في ذلك؛ لأنها ليست قضيَّة حسِّيَّة بمكان غير مُرتبطة بآية، هي مُرتبطة بميل وشوق القلب إلى مكَّةَ. وكُلُنا يشتاق إلى مكَّةَ، ألَّفَ فيها الشُّعراء، وكتبَ فيها المادحون، ونظم فيها النَّاظمون. كُلُّ ذلك بهذه الدَّعوة “فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ” من الآية 37. دعوة جامعة وهي صنو التَّوحيد والإيمان بالله (سبحانه وتعالى).
وتدبَّروا معي في تلك المناجاة المتأنية الطويلة لأنها مناجاة المحبوب الذي يعزُّ البعد عنه. إبراهيم (عليه السَّلام) يُناجي ربَّه بمُناجاة طويلة، قصَّة كاملة” رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ” من الآية 38. ولماذا الكلام عن الخفاءِ والعلن في هذه الآية؟ نقاء التَّوحيد وقد ذكرنا أكثر من مرة ما قد يُخفيه الإنسان عن كُلِّ أحد رياء يخدُش التَّوحيدِ “تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ”. السِّرّ عنده علانيَّة ولذا قال: ” وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ” من الآية 38. إبراهيم (عليه السَّلام) يُناجي ربَّهُ فيقول له: أنت تعلم أني تركت أعزَّ ما عندي وكُل شيء في هذا المكان لأجلِ محبَّةِ التَّكليفِ. فربِّي (عزَّ وجلَّ) كلَّفَهُ أن يترُكَهُم عند البيت المحرَّم. ولكن إبراهيم لم يُقدِّم التَّكليف لِمُجرَّد التَّكليف وتنفيذ الأمر، بل قدَّمَهُ محبةً. وهذا فارق عظيم من الفوارِقِ فأنت حين تُقدِّم تكليفًا مثل صلاة أو قُرآن أو صدقة أو زكاة أو صيام تُقدِّمَهُ من بابِ أنَّكَ أُمِرتَ به فتُنَفِذَّهُ صحيح أنك تُؤجر على أداء الفريضة ولكن ما يفعله إبراهيم (عليه السَّلام) أنَّهُ قدَّم التَّكليف بقلبهِ قبل أن يُقدِّمَهُ بجوارحِهِ، فترك أهله وذريَّتَهُ طاعةً ومحبةً لله. وهذه درجة عالية وعظيمة من درجاتِ العمل بها تكبُر الأعمال. فلا تقم بالتكليف وأنت مُتثاقِل. ومثال ذلك الصوم خاصَّةً في أيامِ الصيف؛ إذ تبدأ الشَّكوى (النهار طويل، الجو حار، تعبت، عندى صداع..وغيرها) كُلُّنَا بشر في النِّهاية، حلاوة التَّكليف تمسح عنك كُلّ عناء التَّكليف. وهذا هو الَّذي حصل مع إبراهيم (عليه السَّلام)؛ لأنَّ العمل أو الطَّاعة بل كُل أنواع الطَّاعات فيها شيء من المشقَّة، وإلَّا لمَ سُميت تكليفًا؟ ففيها كُلفة على الإنسان. هذا التَّكليف ما الَّذي يُخفِّف عناءهُ؟ إنَّهُ الحُب! وكما حدث مع إبراهيم (عليه السَّلام) فكيف هان عليه ذلك؟ وهو تكليف شديد، ولاحقًا توجَّه إلى إسماعيل بالكلام وقال له:” إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ” من الآية رقم 102/ سورة الصافات. تخيَّل درجة الحُب الَّتي عمرَ بها قلب إبراهيم (عليه السَّلام). ونحن في حياتنا إذا كان لدينا مُناسبة سعيدة فكم حجم المجهود الَّذي نبذله ونقوم به؟ سؤال نسأله لأنفُسِنا. وكم ساعة نقضيها في التَّجهيزات البسيطة أو غيرها؟ بعض النَّاس يكون في شُغل وتعب حقيقي جسدي ونفسي وعقلي من كُلِّ الجوانبِ وعلى جميع المستويات، فكيف تكون نواتج ما يقومون به؟ طار الفرح. أليس كذلك؟ لدرجة أنَّهُم في الأمثالِ الدَّارجة يقولون:(تعب الفرح، ولا تعب الحُزن)، فتعب الفرح يجعل الإنسان قويًا، وتعب الحُزن -لا قدر الله يهدُّ الكيان- تعب التَّكليف ولله المثل الأعلى حين تقوم بالتَّكليف وأنت مُحب لله مُقبل عليه يهون الحكم، ولذلك إبراهيم (عليه السَّلام) كُل التَّكاليف الَّتي قام بها عظيمة فمن الَّذي هوَّنها عليه؟ حبُّ الله (سبحانه وتعالى) ونحن الآن في بعضِ الأحيان كُلَّمَا تكلَّم أحد مع أحد يقول له: إلَّا أولادي لا أستطيع أن أرفُض لهم طلبًا. ليست المحبة ألا أرفُض لهم طلبًا، ولكن المحبَّة الحقيقيَّة أن أتَّقي الله فيهم. تدبَّروا معي في الموقف، وفي كُلِّ آية من هذه الآيات في قصَّة إبراهيم (عليه السَّلام) مواقف عظيمة، ومنها أنَّهُ لم يترُك لهاجر ولا لابنها ثروة ولا حسابات في البنك بلغة عصرنا، ولا أمَّن مُستقبله كالنَّظرة الَّتي نحيا بها الآن. وليس القول بعدم الأخذ بالأسباب، فلا يقول بهذا إنسان عاقل أبدًا، ولكن القصد أنَّ أعظم شيء تتركه لأبنائك أن تُعلِّمَهُم أنَّكَ إذا تركت لهم الله (سبحانه وتعالى) فقد تركت لهم كُلَّ شيء، أن تُعلمَهُم وتُربيهم على هذا فهذه هي التَّربيَّة الحقيقيَّة وليست تربية الدَّلال والأموال والواسطات حتى أؤمِّن لأولادي مستقبلهم. وليس هذا الَّذي يُؤمَّن به المستقبل، ولكن تُؤمِّنُهُم حين تُعلِّمهُم الإيمان بالله (عزَّ وجلَّ) وحُسن التَّوكُّل عليه. ولذلك إسماعيل قال:” قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ” من الآية رقم 102/ سورة الصافات. لماذا؟ لأنَّ إسماعيل أدركَ مُنذُ كان صغيرًا أنَّ الله لا يترُكه إن لم يترك أوامر الله (عزَّ وجلَّ). هذه التَّربيَّة الَّتي افتقدها النَّاس اليوم مع أبنائهم، تربية لا تستقيم مفاهيمها مع ما نحن فيه؛ فليست الإشكاليَّة أن تترُك لأبنائك الكثير من المال أو ما شابه، الخطورة أن تترك لهم المال ولا تترك معهم ما يُعلِمهُم كيف تُحفَظ الأموال. وعشرات بل مئات القصص والأحوال في حياتِنا وواقعنا تُبيِّن هذه الحقيقة.
ثُمَّ النقطة المهمة أيضًا في قصَّة إبراهيم (عليه السَّلام) أنَّ محبة الابن لا ينبغي أن تصُدَّك عن التَّكليفِ إذ إنَّهُ يُحب إسماعيل، وكان من الممكن في المناجاة الَّتي يُناجي فيها الله أن يدعو: ياربّ إلَّا إسماعيل فهذا صعب! ممكن ففي النهاية هو بشر، ولكن حتى في مُناجاتهِ لخالقهِ لم يُراجعه في التَّكليفِ، ولكن كُل ما قاله:” رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ” من الآية 37. إذن الإيمان بالله (عزَّ وجلَّ) عظمة المكلوف به سبحانه ألا يُخالجكَ شكَّ، ولا طرفة عين أنَّكَ طالما تسعى في شيء أمرك الله به إذن لا عليك، لا تخف.” رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ” من الآية 38. يا تُرى ماذا كان يُخفي إبراهيم في قلبه؟ يُخفي محبة الأب والقلق الأبويَّ الطبيعيَّ الغريزيَّ الفطريَّ الَّذي لا يُلام عليه، قال:” وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ” من الآية 38. تدبَّروا في الكلمة (مِنْ شَيْءٍ) فنحن لا نتعامل مع أحد لا يعرف ماذا نتمنى وماذا نريد، إنه يعرف ما تُحدِثُكَ به نفسُك وما لا تُحدِّثُك به.” وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ” هذا العلم المحيط، علم الله (سبحانه وتعالى) بكُلِّ شيء ألا يُكفيك؟ ثُمَّ تدبَّروا في بداياتِ ختام المناجاة “الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ ربِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39)” قمة الإيمان بالله (عزَّ وجلَّ)، ربِّي لك الحمد وهبكَ والهبة عطاء بدون مقابل وبدون سبب. أنت حين تبيع وتشتري تُعطي مقابلًا؛ الولد هبة يعطيك الله (عزَّ وجلَّ) بدون مقابل، وعطايا الله (سبحانه وتعالى) كُلُّهَا بلا استثناء هبات. نحن نقول عطاء ولكنها هبات لم ندفع مقابلها شيء. قال:” وَهَبَ لِي” ولماذا قال:” عَلَى الْكِبَرِ”؟ تدبَّروا معي في كُلِّ كلمة في كتابِ الله، لأنَّ الكِبرَ والحالة الَّتي كان فيها إبراهيم (عليه السَّلام) حالة غير عاديَّة. وقد قال مُبيِّنًا أنَّ الله سبحانه بقدرته قررها ولا توجد أسباب فمن الَّذي أعطى ووهب؟ الله سبحانه، قال:”” الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ ربِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39)” هذا التَّذكُّر لِآلاءِ الله ونعمهِ من أعظمِ ما يُجدِّد الإيمان في القلبِ أن تجلس مجلسًا وتبدأ بتعدادِ نعم الله عليك (الله أعطاني، الله فتحَ عليَّ، الله وهبني ..) تعلَّم أن تُعدِّدَ (لا أن تَعُد) نِعمَ الله عليك، وفي كثيرٍ من مجالسنا اليوم الشَّكوى بتعداد ما ينقُصُنى، تعلَّم في علاقتك مع الله كيف تُبنى العلاقة مع الله (عزَّ وجلَّ) بأن تُعدِّد النِّعَم. تذكُر لى إحدى الصَّديقات تقول لى: في فترةٍ من فتراتِ حياتي الزوجية كان المال لديَّ قليلًا ثُمَّ فتح الله عليَّ بالمال، وأغدق عليَّ بعد هذه الفترة. تقول: فواللهِ من أعظم أسباب تجدُّد الإيمان في قلبي وتقرُّبي إلى الله (عزَّ وجلَّ) أني كُلَّمَا أمسكت بعشرة أو عشرين دينارًا أتبسم وأقول: ياربّ لك الحمد إذ كان هذا الدينار الواحد بالنسبة إلي يعني الكثير فكيف بالعشرة والعشرين بل والمائة والمائتين؟فكل هذا بفضلك وجودك. الموقف موقف مُناجاة، موقف دُعاء وطلب وهو يتكلَّم عن مُناجاة الأبناء، يتكلَّم عن ابنه ويدعو الله (سبحانه وتعالى) ويقول:” الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ” فالَّذي وهب ألا يحفظ؟ الَّذي وهب لك بدون سبب ألا يحفظهم لك بدون سبب؟ ألا يُسعدهُم؟ ألا يُعطيهم؟ أحيانًا قد نتعامل بشيء من الجحود مع أبنائنا، أنا أريد أن أُؤمِّن له المال وربِّي وهبَهُ لي بدون مال وبدون أي شيء. فكم دفعت حتى يأتيك ابنُك؟ وأنت الآن تأخُذ من الأموالِ لأجلِ أن تُحافظ بها على مستقبلهِ وتضمنهُ له، لا بأس ولكن ليس هذا هو الشَّيء الأساس، اجعل في ذهنك هذه الحقيقة الأساس هو هذا الإيمان بالله (سبحانه وتعالى)؛ ولذلك عودًا على بدء” رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي” من الآية 40. الذُّريَّة بِكُلِّ الأجيال الأبناء والأحفاد والأولاد، هذا التَّركيز و التَّأكيد على موضوع الصَّلاة هو عنوان من عناوين التَّوحيد” رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ” وختم الآية ثُمَّ قال:” رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)”. ومن علامات القلب السَّليم دعوته لنفسهِ ولِكُلِّ من يُؤمِن بالله في عصرهِ وفي زمانهِ وبعد عصرهِ فشمل الكلَّ وما ترك أحدًا، ومن أعظم مفاتيح القلب السَّليم أن تدعو لغيرِكَ من المُؤمِنينَ أن: ياربّ ارحمهم، يا ربّ اغفر لهم، داوِ جريحهم، أغنِ فقيرهم، فرِّج الكرب عن المكروبين، اشفِ مريضهم، اهدِ ضالَّهم.. من قلبِكَ، وهذا أعظم ما يُمكنُكَ من القلبِ السَّليمِ لأننا لن نصل إلى مرحلة القلب السَّليم الَّذي هو رأس مالنا إلا بالتوجُّه إلى الله تعالى، هذا أعظم رأس مال في الدُّنيا وفي الآخرة، فكيف نصل إليه؟ بأعمالنا أم بدعاء الله (سبحانه وتعالى)؟ واحدة من أعظم أسبابِ وصولك إلى القلبِ السَّليم هذا الدُّعاء لِكُلِّ الناسِ، إذا سمعت أنَّ فُلانًا مريض فادعُ له (ياربّ اشفِهِ وعافِهِ) عرفْتَهُ أو لم تعرِفْه، ولذلك من أعظم أبواب الخير الدُّعاء للأموات. صلاة الجنازة كم تأخذ من الوقت وهي من أعظمِ الأعمالِ ثوابًا عند الله. لماذا تدعو لمن لا تعرفه؟ لأنَّ هذا من سماتِ القلب السَّليم أن تدعو من أعماقِ قلبِكَ أن يُفرِّج الله عنهم، ويرحمهم ويغفرَ لهم، وأن يُعطيهم فهذه صدقة تُحسب لك عن كُلِّ واحدٍ منهم، ولا يمكن أن يطيب الإنسان نفسًا بها إلَّا إذا تعلَّم أن يُحبَّ الخير لغيرِهِ كما يُحبُّهُ لنفسه؛ أن يتخلَّص من الشُّح والأنانيَّة فهما من أخطرِ الأمراض على القلبِ السَّليمِ وفيهما أن يُحب الخيرَ لنفسهِ لا للغيرِ، ولذلك القُرآن وصف جماعات من المنافقينَ قال:” أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ ۚ ” من الآية رقم 19/ سورة الأحزاب. ولذلك بعض النَّاس تسمعه حين يدعو، يدعو فقط لنفسهِ. أيَّما كانت الدَّعوة لا يدعو فيها للمُؤمِنينَ أُسوةً بدعوة أبي الأنبياء إبراهيم (عليه السَّلام) وعليه فاجعل من دُعائك نصيبًا للمُؤمِنينَ، وأشركهم فيه في كُلِّ وقت ومكانٍ. فلا يذهب دون هذا الأمر حتى ترتقي إلى درجةِ القلب السَّليم. وكُلَّمَا ازددت دُعاءً للمُؤمِنينَ زادك الله إجابةً لِدُعائكَ في كُلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ وهكذا يصفو التَّوحيد. وهكذا يترفَّع الإنسان عن جوانبِ الشُّحِ في قلبهِ ونفسهِ وذاتهِ لأنَّ من أخطرِ الأمراض أن يكون الإنسان بخيلًا حتى بالدُّعاءِ. فبعضِ النَّاس لا يدعو إلَّا لنفسهِ وأهلهِ ومن يخُصُّه فقط ويُلِح في الدُّعاء. ما هو المطلوب منك؟ أن تدعو لِكُلِّ المؤمِنينَ. بل أنَّ أبا الأنبياء قال:” وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ” من الآية 36 حتى من يعصيه يدعو له لأن يغفرَ له. ولذلك لم يمتنع عن الدُّعاء لأبيهِ إلَّا بعدما نهاهُ الله عنه فكان يستغفر. وأنت ادعُ لِكُلِّ البشرِ لأن يرُدَّهُم الله إليه ردًا جميلًا، فهذا خير وبركة. فإذا دخلت البشريَّة كُلُّهَا في دينِ الله أليس هذا أيضًا من المطلوبِ؟ أليس هذا مِمَّا يُدعى به؟ إذن لماذا الدُّعاء دائمًا بصيغة الهلاك والإبادة و..و..و؟ صحيح هناك مواضع للظالمينَ ولكن أيضًا القلب لا بدَّ أن يتَّسِعَ ولو في لحظات بالدُّعاء للنَّاسِ بالهدايةِ والرُّجوعِ إلى الله (سبحانه وتعالى) والعودةِ إليه. نسأل الله أن يُوفقنا لما يُحب ويرضى وأن يرزقنا سلامة القلوب.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته