تدبُّر سورة إبراهيم
الحلقة الرابعة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسَّلام على رسولِ الله، وعلى آله وصحبهِ، ومن والاه
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وقفنا في لقائِنا السَّابق ونحن نتدبَّر في سورة إبراهيم عند ذلك الوعيد الَّذي توعَّدَ بهِ أُولئِك المعاندونَ الجاحدونَ الأنبياءَ والرُّسُلَ بقولِهم: “وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13)” الكلمة الأولى “وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا” تُمثِّل قمَّة الاستكبار والظُّلم، وهي كلمة قالها كُل الظَّالمين الَّذين وقفوا ضد دعوة الأنبياء والرُّسُل عبر التَّاريخ. هذه الكلمة لها دلالات فهي ليست مُجرَّد وعيد، وإنَّما لها بُعدها والَّذي سيأتي في الآيات موضع التَّدبُّر اليوم.
واحدة من تلك الدلالات أنَّ الظُّلمَ يلازم صاحبهِ عند الاعتداء فقط على حقوقِ الآخرينَ؛ ظُلمة تقودهُ إلى الظُّلمةِ الَّتي بعدها. وهؤلاء في تلك الكلمة: “لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا” فالقُرآن العظيم ذكَّرنا بهذا أكثرَ من مرةٍ، بأنَّ كُلَّ كلمة لها مدلول؛ إذ تأويل ما قالوا في هذه الكلمة وكأنَّ الأرض مُلكٌ لهم، وهذا قمَّة الاستكبار في الأرضِ، لأنَّ الأرض لله وليست لأحد. فحين وصل الظلم والاعتداء بهؤلاء إلى هذا الحدّ وصلوا إلى قمَّةِ الاستكبارِ لمجرَّد أنَّهُم خالفوهم في الإيمانِ بالله (سبحانه وتعالى). إذن الآيات في سورة إبراهيم في هذا الموطن تُقدِّم نموذجًا من أفرادٍ، ومن قياداتٍ فاسدةٍ مُنحرفةٍ مُعتدية ظالمة تجبَّرت في الأرضِ وتوهَّمَت أنَّ الظُّلم والضَّلال والظُّلمة بينها ترابُط. فحين يظلم الإنسان ويمهله الله (عزَّ وجلَّ) ويُعطيه ويمدُّ له في أسبابِ القُوَّةِ الماديَّةِ من قُوَّة في جسدٍ، أو في مالٍ، أو في سُلطةٍ، فهذا الظَّالم يتوهَّم أنَّهُ قادر على أن يفعلَ كُلَّ شيء، ويرى حتى الأرض الَّتي هو مجرَّد ضيف مُرتحِل عليها ملكًا له، وينسى أننا على الأرضِ ضيوف. فاليوم على ظهرِهَا وغدًا أو بعد غدٍ في باطنِهَا. ولكن الإنسان حين يظلم نفسه لا يرى هذه الحقيقة، يرى شيئًا آخر إذ يرى أنَّ الأرضَ له. ولذلك قالوا: “لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا “من الآية 13. الأرض لنا، أو “أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا” وهذا من أقسى أشكال الإهانة للإنسانِ الَّتي جاء القُرآن وجاءت دعوة الرُّسُل لِتُحرِّرَ النَّاسَ منها.
وقلنا في بداياتِ سورة إبراهيم أنَّ دعوة التَّوحيد العظيمة الَّتي جاء بها أبو الأنبياء وكُل الرُّسُل من قبل ومن بعد تُحرِّر البشر، تُحرِّر العباد من أن يكونوا عبيدًا لأحد. مُطلق الحُريَّة، ومن تمامِ تلك الحُريَّة ومُقتضياتِهَا أنَّ الإنسانَ لا يُخرَج من أرضهِ بسببِ اختلافهِ مع من حولهِ في دينٍ، أو في لونٍ، أو في عرقٍ، أو في رأي إطلاقًا؛ فهذا شيء لا يحق لأحدٍ أن يفعله. لماذا؟ لأنه من اختصاص خالق الكون رب البشر يمنحهم من الحقوق ما يشاء. وأين هذا من المنظمات الحقوقية التي عرفناها مؤخَّرًا والتي تطبِّق قانونًا وتترك آخر. فالأرض لله. والنَّاس تختلف فيما بينها، نعم، ولكن تتعلَّم كيف تعيش مع هذا الاختلاف. والقُرآن يُعطي السُّبُل والطُّرُق والوسائل لأجلِ عيشٍ مُحترم تُكفل فيه حُريَّة المعتقدات والأديان عن قُوَّةٍ لا عن ضعفٍ، ولا تنكيس للرؤوسِ عن طاعة لمنهج الله (سبحانه وتعالى) في القُرآنِ، وليس عن طاعةٍ لأي منهج من مناهجِ البشر، ولا تحت أي ضغط من الضُّغوط؛ ولذلك جاء الوعد في الآية: “فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ” من الآية 13 وهذه قاعدة عامة في كُلِّ زمانٍ وكُلِّ مكانٍ إذ لا يمكن أبدًا إلَّا أن تكون نهاية الظَّالم واحدة وليس لها حل آخر.
إذن لماذا يقع النَّاس في شكٍّ أو في حيرةٍ؟ ونحن قلنا إن سورة إبراهيم جاءت لِتُخرجَ النَّاس من الظُّلماتِ إلى النُّورِ، فواحدة مِمَّا قد يشُّكُّ فيه الإنسان حتى المؤمن هي نهايةُ الظَّالمينَ فهو حين يرى تَجبُّرَهُم وطُغيانَهُم، وفسادَهُم وقُوَّتَهُم الموهُومة، يعتقد أنَّهُم سيعيشونَ، ولكن في واقعِ الأمرِ نهاية هؤلاء حتمية بنصِ القُرآن إذ قال تعالى: “لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ” من الآية 13. ثُمَّ قال: “وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ” من الآية 14. لماذا؟ لأنَّ الأرضَ ليست للظالمين، يُعطيهم جزءًا من الوقتِ وجزءًا من الاختبارِ. ولكن في النِّهاية الأرض لله يُورِثُهَا من يشاء من عبادهِ. ولنتدبر في الآية لمن الوعد بسكنى الأرض؟ قال تعالى:”ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ”. ولماذا جاء بالخوفِ هنا؟ لأنَّ السِّياقَ سِياق خوف؛ فهُم هدَّدُوهُم إذ قالوا: “لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا” من الآية 13. والقُرآن يريد أن يبني خوفًا من نوعٍ آخر”خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ” من الآية 14.لا يستقيم الخوفانِ أحدهما مع الآخر أبدًا، أن يخاف الإنسان من بشرٍ مهما بلغت سطوتُه لا يستقيم مع الخوفِ من مقامِ الله (عزَّ وجلَّ) والخوف من وعيده؛ فإذا دخل خوف مقام الله (عزَّ وجلَّ) نزع الخوف من جبابرة الأرض.
وتدبَّروا في الكلمة إذ قال تعالى: “خَافَ مَقَامِي” فإذن القضيَّة مقام الله (عزَّ وجلَّ) فلماذا جاء في الآيةِ في هذا الموضع؟ لأنَّ الموقفَ الَّذي تعرَّض له الأنبياء كان شديدًا وصعبًا. ففيه تهديد وهم قادرون على فعلهِ، بل ويريدون فعله بالفعلِ. إنَّهُم سيخرجونهم من أرضِهم كما توهَّموا وزعَمُوا؛ إذن كيف يثبُت الإنسان؟ ستأتي الآيات في سورة إبراهيم إذ يقول تعالى: “يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ” من الآية 27 . هذا موقف تنخلِع من شِدَّتِهِ القُلُوب، فالإنسان من الممكن أن يتَزعْزَعَ أو يتراجع عن الحقِّ نتيجة لذلك الخوف فجاء سبيل الثبات: “ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ” لماذا؟ لأنَّ الخوفَ من الله يطرد معه كُل خوف؛ إذا خِفت الله (عزَّ وجلَّ) فكُلُّ مخاوفك الأُخرى ستختفي من حياتِك، فلا يبقى خوف على مُستقبل، ولا حياة أو أجل، ولا على رزق، ولا على أبناء وكذلك لا يبقى خوف من المجهول، وبطبيعةِ الحال لا يبقى خوف من بشرٍ؛ فيتحوَّل البشر مهما كانت سطوتُهم (حتى ولو كانوا كــفِرعون) إلى مُجرَّد صُور. كيف استطاع المؤمِن أن يرى كُل هذه الحقائق؟ إنَّهُ نُور الإيمان الَّذي يُخرِجُهُ من الظُّلماتِ إلى النُّورِ. إذن لماذا اليوم يكبُر الخوف في نفوسِنا من كُلِّ شيء وأيِّ شيء حتى من المستقبل والغد؟ ومع هذا ليس لدينا مُبرِّرات للخوف فنحن غارقون في النعم؛ ضعُف الخوف من الله (عزَّ وجلَّ) في القُلوبِ وفي النُّفوسِ؛ فما العلاج؟ تعرَّف على الله؛ حتى تعرف حين تخاف مِمن تخاف؟ أتخاف مِن فِرعون؟ أتخاف مِن ظالم وهو بشر لا يملك لنفسهِ شيئًا حتى النَّفَس الَّذي يخرج ويدخُل ليس بيدهِ. وذكرنا في مراتٍ سابقة ونذكُر أنَّ كُلَّ ما نخافه حقيقةً ليس بيدِ البشر فلماذا تخاف؟ الأشياء الكبيرة مثل الرِّزق ليست بيد أحد من البشر. “إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ” من الآية 58/ سورة الذاريات . الأجل بيدِ الله (سبحانه وتعالى) وحده لا شريك له. أولادك، نفسك، أُمنياتك، كُل شيء ليس بيدِ البشر بل بيدِ ربِّ البشرِ، إذن لماذا تخاف؟ إذن ما عاد هناك مُبرِّر للخوفِ؛ ولذلك جاءت الآية بعدها مُباشرةً بوصف انتقلت فيه من الحياةِ الدُّنيا بدون أي ذِكر ماذا حصل، وقد يسأل الإنسان ويقول ماذا حصل لهؤلاءِ الظَّالمين؟ وإذا بالآية لا تُجيبنا هنا لماذا؟ يكفي ما وعد الله (سبحانه وتعالى) إذ قال: “وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ” من الآية 14. إذن انتهوا. ولذلك انتقلت الآيات بنا إلى الآخرةِ إذ قال تعالى: “وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15)” وللكلمات وقع شديد فالإنسان حين يستفتِح يريد أن يُفتح له شيء، والآيات عظيمة في تصويرِها الحسيّ لصُورة لم تحدُث بعد فهذا كُلُّهُ يوم القيامة. الكافر حين يأتي إلى مراحل العذاب (والعياذُ بالله) تكون الأبواب مُغلقة في البداية أمامه فهو لا يعرف ما وراءها فالإنسان حين لا يعرف ما وراء الباب ممكن أن يأمل في شيء، فهؤلاءِ استفتحوا وطلبوا في تشوُّف أن تُفتحَ الأبواب لعلهم يجدون شيئًا، ربِّي (عزَّ وجلَّ) قال: “وَاسْتَفْتَحُوا” ولكن ماذا حدث حين طلبوا الفتح؟ “وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ” وتدبَّروا في سِيَّاقِ الكلماتِ قال: “وَخَابَ” ولم يأتِ الكلام بعد عن القضايا الحسِّيَّة للعذابِ؛ لأنَّ الشُّعور بالخيبة (خيبة الأمل) شُعور قاسٍ أقسى من العذابِ الَّذي سيأتي إذ قال: “وَخَابَ” بأيِّ صفة؟ ” كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ “من يحقّ له أن يتجبَّر؟ الجبار اسم من أسماء الله الحسنى. ولكن الإنسان قد يتجبر بظُلمهِ، بطُغيانهِ، بقوَّتهِ المَوهُومة فيتصرف بشىءٍ لا ينبغي أن يكون له؛ إذ إنَّ الجبروت والكبرياء رِداء الله (سبحانه وتعالى)؛ الإنسان مهما كانت قُوَّتهُ الماديَّة لا ينبغي أن يفعلَ هذا؛ وقد ذكر الله تعالى مواصفات من يفعل ذلك حين قال: “كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ” لماذا؟ هذا الفعل هو الَّذي فعلوه في الأرضِ.
وسنأتي الآن على وصف دقيق لأشكال وألوان العذاب الَّذي يصيب هؤلاء، وقد يتعجب المسلم وهو يقرأ القرآن العظيم وما حفل به من رحمة وبهذه الآيات الَّتي تفتح أمام الإنسان كُل التَّطلُعات إلى التوبة،كيف يأتي بكُلِّ هذه الأوصاف، أوصاف العذاب الشَّنيع بهذه التَفاصيل الدَّقيقة؟ الماء الَّذي يشربون وكُل التَّفاصيل، صُورة حِسّيَّة كاملة وتامة. لماذا القُرآنُ يأتي في هذا الموضوع بهذا؟ هؤلاء كل الذي عُوقِبوا به في الآخرة وهو أشدُّ ما يُوصف فعلوه بغيرِهم في الدُّنيا، فكان لا بدَّ للقُرآن وهو يدعو تلك النُّفوس الَّتي قد يكون فيها بقيَّة من إحساس أن تستشعر العذاب؛ إذ إن الكأس الذي تسقيه لغيرِك اليوم ستشرب منه غدًا. نظرة بسيطة وعابرة سطحيَّة إلى ما يدور في العالم من حولِنا سنرى ماذا يفعل الظَّالمون؟ تقتيل.. تشريد.. سفك للدِماء، جعل النَّاس يتحسرون على قطرةِ الماء النَّظيفة، ومحاكم الدُّنيا نحن أعلم بها. القُرآن هنا في هذا الموضِع عندما يُعطينا كل هذه التَّفاصيل للعذاب يُعطينا رسالة واضحة أنَّ محاكم الدُّنيا قد يفلت منها هؤلاء، فعلًا! حتى ولو ثبت بعد فترة من الزَّمنِ أنَّهم أصحاب جرائم حروب لا يحاسبهم أحد، وما البوسنة والهرسك وغيرها منا ببعيد، حتى لو قالوا عنهم مُجرمي حرب وحكموا عليهم قد يفلتون من العذابِ، إذ لو أنَّ منهم شخصًا قتل وحصد آلاف الأرواح في عمليَّة قتل جماعيّ فكم مرة سيُقتل؟ إذن الحساب والعقاب ليس هنا، أين؟ عند محكمةِ العادل العدل (سبحانه وتعالى).
وما يُلاحظ في الآياتِ الَّتي تُبيِّن هنا طريقة من طرائق الموت وهي ليست موتًا، نحن أحيانًا نستخدم الوصف إذ نقـــول (موت بطيء). ولكن ما يُوصف في الآياتِ غيره؛ إذ يتوهَّم أنَّهُ يرى الموت وسيموت بل ويريد أن يموت، ولكن قُدرة الله (عزَّ وجلَّ) تجعله لا يموت إذ إنَّهُ لا يوجد نهاية في الآخرةِ بل يوجد عذاب. وكل عبارة وكل وصف دقيق، تأملوا قوله تعالى: “مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ” من الآية 16 هي ليست وراءه بل أمامه، ولكن هذا وصف، لفظ تستعمله العرب للزيادةِ في الوعيدِ ولذلك نحن أحيانًا نقول: ورائي أعمال، وهي ليست فعلًا ورائي بل أمامي؛ ولكن لشدَّةِ هذه الأعمال الثقيلة وأنا مُنشغِل بها فأقول هذه العبارة، ودلالتها أنني لا أستطيع أن أتخلَّص منها في وقتِها. وعودة إلى الآيات إذ قال تعالى: “مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) “. هو اكتفى بجهنم وجاء فقط باللفظِ، وقال: “وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ” والصَّديد هو الوصف الحسِّي لأشياء أعطانا ربِّي (سبحانه وتعالى) نماذج وأمثلة لها في الدُّنيا، ولكن مع أنَّ التَّسميةَ واحدة تختلف طبيعة الصَّديد في الدُّنيا عن الآخرة؛ فالصَّديدِ (القيح) سوائل تخرج من الجروحِ وقال: “وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ” يعني كُلَّمَا أراد أو لم يرِد فهناك من يسقيه، والسُّؤال: ياربِّى أنت رحيم فلمَ كُل هذا العذاب؟ ذكرت لكم أنَّ من يستغرب أو يتعجَّب من هذه الآيات ينظُر فقط إلى الأحداث الجارية في التلفاز ليرى ما يفعل الظَّالمونَ في الأرضِ بالأبرياءِ وبالأطفالِ وبالنساءِ. وماذا عن السقيا في الآية؟ كيف وأيَّ شيء يسقُونَهُم؟ يسقُونَهُم حتى ما بقي شيء لم يُسقاه هؤلاء؛ فالقُرآن حين أتاني بهذه الآيات لأجلِ أن يستنفِرَ ولو جزءًا يسيرًا قد تبقَّى في ضمائرِ هؤلاء إن كان لديهم ضمائر. وتدبَّروا في الآيةِ الَّتي بعدها قال: “يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ” من الآية 17. الإنسان حين يتجرع الشيء يريد أن يتقيَّأه، فما يستطيع ولكن هذا سيتجرَّعه “وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ” من الآية 17. هو غير مُستساغ أكيد، هل فقط هو هذا؟ لا. بل قال: “وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ” من الآية 17. شديد في الوصفِ، في المدَّةِ؛ ولذلك اُستُخدِمت كلمة غليظ، فالعذاب في القُرآنِ أحيانًا يُوصف بعذاب أليم، عذاب عظيم، وهنا عذاب غليظ ولأنَّهُ يحمل معه نواحي نفسيَّة وليست شِدَّة الألم فحسب.
لماذا النَّواحي النفسيَّة حاضرة في سِيَّاقِ الآيات هنا؟ الطَّريقة الَّتي كانوا يتعاملون بها مع الآخرين (الظُّلم، التَّعذيب، الاضطهاد، إهانة البشر، الجَلْد، الحبس، القتل) أساليب بشعة في التَّعامُل مع البشرِ لماذا؟
ألأجلِ أنَّهُم مختلفون معك؟ فهل هذه إنسانيَّة؟ وفي الدُّنيا ليس هناك حساب لهؤلاءِ بل بالعكس يمكن أن يُصفَّق لهم. إذن الحساب كما ورد في الآياتِ وتدبَّروا في الكلمةِ إذ قال تعالى: “وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ” من الآية 17. السورة مليئة بالأحاسيس وبالصُور التي تكاد تكون حيَّة حاضرة ينظُر الإنسان إليها، في خِضَمِّ الموقف. الموت يأتيه من كُلِّ مكان “وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ” فالموت راحة. يتساءل الإنسان ويحق له أن يتساءل أنه إذا كان الموت يأتيه من كُلِّ مكان لماذا هذا التَّعذيب الشديد القاسي؟ والإجابة ببساطة أنَّهم كانوا يُذيقون غيرهم نفس الشَّيء ولو سمعنا أو قرأنا ماذا يفعلون بالضعفاء -لا أرانا الله ولا أرى أحدًا هذه الأساليب من التَّعذيبِ الَّتي يبتكِرُهَا ويتفنن فيها بعض البشر في تعذيبِ الآخرين- لا يمكن أبدًا أن يقتلهم الله عز وجل إذ يعرف أنَّ القتل راحة، خاصَّةً أنَّ هؤلاء منهم من عاند الرُّسُل والأنبياء، ونحن نعلم ماذا فعل كُفَّار قُريش بالمـُسلمينَ الأوائل المـُستضعفين في مكَّةَ وكمثال: أُميَّة بن خلف لماذا لم يقتُل بلالًا؟ لماذا كان يُميتُهُ موتًا بطيئًا؟ يتلذذ بتعذيبهِ، نفوس مريضة تريد أن ترى بطشها وجبروتها وقُدرتها على الآخرينَ. فكان الجزاء من جنسِ العمل “وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ” سيُسقى من ذاتِ الكأس الَّتي سقى بها الآخرينَ، حاول أن يُميتَهُم ولذا سيصل إلى حدِّ الموت ويرجع مرة ثانيَّة، وطبعًا الموت بيدِ الله ولكننا هنا نتحدث عن حالةِ الإشراف على الموتِ، والتَّفنُّن في أساليبِ التَّعذيبِ والبطش والجبروت، وهذا ما حدث مع المسلمين الأوائل في مكَّةَ المستضعفينَ الَّذين لا ظهرَ لهم ولا سند. والآن جاءت السورة لِتُبيِّن بعد الجزاء كيف هو العمل، إذ قال تعالى: “مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ” من الآية 18. والأعمال هنا ليس كما يظُنُّ النَّاس أعمال خير وذهبت هباء، لا بل كُل ما يقوم به الإنسان من هؤلاءِ الَّذين كفروا من الشَّرِّ والظُلمِ، تلك النُقطة أو المرحلة أو الفترة الَّتي سيعيشون فيها العذاب، في شِدَّة وقمَّةِ العذابِ يتمنى الإنسان في ذلك الموقف أن يرجع إلى الدُّنيا ليُعدِّل أو يُغيِّر موقفًا أو يُصحِّح شيئًا فعلَه؛ فجاء القُرآن فأعطاهُ الإجابة إذ قال: “مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ” من الآية 18. والنتيجة “لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ” من الآية 18. لماذا؟ أعمالُهم ليست في أيديهم. والآيات في سورة إبراهيم ملأى بالتَّشبيهاتِ لِتُقرِّب الصُورة وتُعطي المثل؛ فالأعمال كالرَّمادِ ونحن نعرف أنَّه لايوجد شيء في الدُّنيا أسرع تطايُرًا من الرَّمادِ، وجاءت معه الرِّيح العاصِف والشديدة. فهل سيبقى منه شيء؟ أعمالُهم، إنجازاتهم، مفاخِرُهُم، مآثِرُهُم، كُل ما فعلوه من شرٍّ أو من خيرٍ إن فعلوا فيه خيرًا انتهى. قال تعالى: فــ”ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ” من الآية 18. تدبَّروا الرَّبط (ظُلم، ظُلمة، ضلال) النتيجة: عذاب. لماذا القُرآن بعد الجزاء الشَّديد القاسي يأتي بالكلامِ عن الأعمالِ؟ لفتة رائعة حتى يُحفِّز الإنسانَ حتى ولو كان ظالمـًا لعله يعود؛ لأنَّهُ هو اليوم يقدر على كُلِّ شيء مما كسب، إذ إنَّهُ قادر على أن يُغيِّر ما هو فيه طالما النَّفَس لا يزال يتردَّد. (والحديث موجَّه له) فاستبِقْ الأحداث. فاليوم أنت تقدر أن تُغيِّر ولكن غدًا لن تتمكن من تغيير شيء. صَّحائِف العمل اليوم يمكن تغييرها إذا عملت ذنبًا تستطيع أن تمحوه بالاستغفارِ، بالتَّوبةِ، بالتَّراجُع، أأكلت حقَّ النَّاس؟ أأكلت مال أحد؟ هل سرقت من أحد شيئًا؟ هل أخذت حقًا ليس لك؟
أرجعْه اليوم قبل أن يتحقق فيك قوله تعالى: “لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ” كلمة عظيمة؛ ولذلك القُرآن حين تحدث عن فِرعون الَّذي آمن قال: “آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ” من الآية رقم 91 / سورة يونس . فعليهم التَّنبُّه قبل فواتِ الأوان؛ إذن الآن يقدرون مما كسبوا على شيء؛ تصوير القُرآن عظيم (كَسَبُوا) ؛ أعمالُنا هي مُكتسباتُنا الحقيقيَّة. وليس ما نمتلكه هو هذا، لا. ضربنا مثالًا بسيطا أكثر من مرة: أنت تملك ألف دينار، لا الأصح والأدقَّ أنَّ ربِّي ملَّكك ألف دينار. فهذه هي الصِّياغة الأصح الَّتي إذا أنت لم تستوعب حقيقتها ومدلولها فلن تُدرك ما وراءها، والقصدُ أنَّه ليس المكسب هو الألف دينار أبدًا، أنت واهم إن اعتقدت ذلك، بل المكسب في تضاعف هذا المكسب بما تفعله بها، ونيَّتِكَ في إنفاقِهَا واحتساب ما أنفقته عند الله، فسواء أنفقتها على نفسِكَ أو أهلك أو أقاربك أو ما شابه من أعمالِ الخير بهذه الطَّريقة تتضاعف؛ إذن ليس المكسب هو الرَّقم الَّذي تُعطاه الآن. فهذا مُجرَّد رقم تُحاسب عليه طالما دخل عندك في الحسابِ. وما تكسبه هو ما تفعلَهُ بهِ.
وسؤال: ما هو مكسبُك؟ واجب اليوم: اُكتُب ما تملك في ورقة (أي مبلغ) وبجانبه خانة بعنوان: مكسبي الحقيقي ومتى يكون كذلك؟
عندما يكون هو المكسب الَّذي سآخُذَهُ معي وسيُضاعف حين أكتسبه وأقوم به وأحتسبه لله؛ ولذلك لا يختلس المختلس، أو يسرق السَّارِق وينهب، أو يرتشي المرتشي ويحتسبها عند الله. فلم يحدث هذا من قبل والسبب (إنَّ اللهَ طيب لا يقبلُ إلَّا طيبًا) إذن ما المكسب الحقيقي القائم على هذه العمليَّة الحسابيَّة البسيطة؟ ليس أصحاب المكاسب الحقيقيَّة هم أصحاب الملايين أبدًا؛ لَرُبَّ صاحب ملايين لا يكسب منها شيئًا؛ إذ لم يأخُذ منها شيئًا معه إلى الآخرة، ومع ذلك يُحاسب عليها إذ كُتِبت وحُسبت عليه قليلة أو كثيرة. ومكسبه الحقيقي هو ما فعلهُ بها إن ظلم أو تجبَّر أو أفسدَ بها أو لم يفعل بها شيئًا.
والسُّؤال: أنت عندك شيء. لمَ لا تفعل به شيئًا قبل فوات الأوان؟ اليوم تستطيع. بعض المسلمين يكتُب في وصيَّتِه أحيانًا مُحدِدًا نسبة من الإرث كصدقة جارية بعد وفاته ولكن لماذا بعد وفاتك؟ تصدَّق الآن. أحيانًا النَّاس لا تقصد طبعًا، ولكن فقط لتقريبِ المعنى هو يُفكِّر إذ يقول: بعد وفاتي لا أحتاج المال إذ سيذهب إلى الورثة فأتصدَّق به. أين يقينُكَ بالله؟ ألا تُؤمِن أنَّ الَّذي رزقك يرزُقك في الحياةِ قبل الممات؟ فتستبقي المال خوف الفقر
وتُوصي بالتَّصدُّق به بعد المماتِ؟ ربِّي (عزَّ وجلَّ) يقبل ورحمته واسعة، ولكن أنفق المال وأخرجه الآن، حرِّر نفسك من الشَّرِ والبُخلِ والأسرِ والخوفِ من المجهولِ ومن ضياعِ الأموالِ، أنفقها الآن بكُلِّ الأشكال الَّتي أمر الله (سبحانه وتعالى) بها، وجاهد في الله (سبحانه وتعالى) بالمالِ وبالنَّفسِ وبالكلمةِ وبِكُلِّ ما وهبك وأعطاك، هذه كلها نِعَمٌ “وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا” من الآية 34. وتدبَّروا معي في الرَّبطِ إذ قال تعالى: “أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ” من الآية 19. هنا جاء الكلام عن خلقِ السَّمواتِ والأرضِ وبالحقِّ، ولماذا جاء بالحقِّ؟ لأنَّ عكس الحقِّ هو الباطل. الحقُّ قرينه العدل، وأنت إذا عرفت الله حقًا عدَلت وأنصفت وما ظلمت، ولكن إذا لم تعرفه وقع الإنسان -لا سمح الله- في الباطلِ، وإذا وقع في الباطلِ ظلم، وإذا ظلم عاش في ظُلُماتِ الظُّلمِ إلى يومِ القيامة. “أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ” من الآية 19. وهنا يأتي الاستفهام التقريري إذ قال تعالى: “أَلَمْ تَرَ” فكيف ستراه؟ ستراه بإيمانِكَ ويقينك، وليس بعينِكَ. بحسب لماذا؟ ربِّي (عزَّ وجلَّ) أعطى المُؤمِن والكافر حاسة الإبصار أليس كذلك؟ ألا يرى الكافر السَّمواتِ والأرض؟ بالطَّبعِ يراها. ولكن لا يراها بالحقِّ، يراها ويتوهَّم أنَّها مُجرَّد خلق فقط فلا تذهب بهِ الصُّورة أبعد من ذلك، أمَّا المؤمِن حين يراها يراها بالحقِّ ويرى أنَّ ذلك الخلق بالحقِّ، رؤية تغير حياته فلا يمشي بين النَّاسِ إلَّا بالحقِّ والعدلِ، يرى الحقَّ في كُلِّ شيء، لا يقول إلَّا كَلمة الحقّ، أمَّا حين ينتكِس الإنسان عن فِطرَتهِ وإيمانهِ يمشي بالباطلِ، إذ إنَّهُ لو لم ينتكِس لمشى بالحقِّ، “أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ” إذن ما المطلوب منك؟ القُرآن يُعبِّر عن المنهجِ بأساليب مختلفة، ومطلوب منك يا إنسان أن تُقيمَ الحقَّ في كُلِّ شيء، في الفعلِ الَّذي تفعل، في الكلمةِ الَّتي تقول سواء أحببت أو كرهت. إنَّ بعض النَّاس إن أحبَّ قال الحقَّ، وإن كرهَ قال الباطلَ، والقُرآن ماذا يريد؟ لا يريد هذا ولا يقبل به “وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ”من الآية رقم 8 / سورة المائدة. إذن هو العدلُ والحقُّ كلاهما. أحدهما مع الآخر، وما النتيجة؟ قال تعالى: “إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20)”. هذه الآية جواب لأي شيء؟ لمن في نفسهِ شكٌّ من زوالِ الظُلمِ والظَّالمينَ، بعض النَّاس يقول: الله (سبحانه وتعالى) ينظر لهؤلاءِ وهُم يظلمون، وهُم يُقتِّلونَ، وهُم يفعلونَ الأفاعيلَ والأعاجيبَ، ألا يُهلِكُهُم؟! فتأتي الإجابة. ربِّي (عزَّ وجلَّ) “إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20)” لماذا لا يُذهب الظالمينَ إذن؟ يُذهبهم في الوقتِ الَّذي يشاء، وليس في الوقتِ الَّذي تشاؤه أنت فأنت عبد، والظَّالمون يُمتحنون في أنفُسِهم، وللآخرينَ هُم امتحان، وهو امتحان مفتوح، وأنت عليك أن تختار الإجابة، والإجابة واضحة “إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ” جميعًا “وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20)”. أنت إذا عرفت قُدرة الله (عزَّ وجلَّ) ستُدرِك تمامًا أنَّ محو فِرعون وغيره أهون على الله (سبحانه وتعالى) من أي شيء فهو الَّذي خلق وهو الَّذي يُحيي ويُميت، إذن التَّساؤل غير مشروع. وتدبَّروا معي: كثير من النَّاسِ اليوم يسأل هذا السُّؤال: لماذا ربِّي لا يُهلِك الظَّالمينَ؟ هل كل شيء بمزاجك؟ أنت مطلوب منك أن تقوم بدورك، ولكن متى يكون هلاك الظالمين، وكيف؟ هذا ليس بيدِك، المطلوب منك أن تُجيب عن السُّؤال ولا يتسلل شكٌّ إلى قلبِكَ أو خاطرِكَ لحظة أنَّ اللهَ لن يُزيلَ هؤلاء الظَّالمينَ، سيزول الظُّلم والظَّالمون بدليل أنَّهُ جاءت الآية بعدها (سورة إبراهيم لم تتحدث عن الدُّنيا والَّتي هي جزء يسير جدًا من الفيلم. تحدثت عن خاتمة القصة) قال: “وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا”من الآية 21. المتَجَبِّر، والمتَكبِّر، والظَّالِم، والغنيّ، والفقير، والقويّ، والضَّعيف.كلُّهم برزوا. من أين؟ البروز هو ظهور بعد اختفاء، ولكن أين كانوا؟ في القُبورِ، قال تعالى: “وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا”. فهل هناك أي أحد لن يبرز أو يختفي هنا أو هناك؟ الآن وُضِعَت ونُصِبَت الموازينُ الحقّ فلا أحد يخشى ظُلمًا. وبرزوا أي وقفوا؛ فمن هُم؟ أصحاب الظُّلم أي وقف الظالمون ووقف أصحاب المظالم المظلومون وبدأت الحوارات. كان في الدُّنيا حوارات أكيد؛ ولذلك جاء الحوار هنا في سورة إبراهيم، وتدبَّروا في الوصفِ الَّذي جاء إذ قال تعالى: “فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا” من الآية 21. اختيار الكلمة (ضُعفاء) والَّتي قد ينسحب معناها ويقترن بأن يكونوا ضُعفاء في مالٍ، أو في إيمانٍ، أو في نفسٍ، أو في جاهٍ، أو في بدنٍ، في أي شيء ولكن أين الإشكاليَّة؟ “فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا” صفة واضحة للظُلمِ والظَّالمينَ استكبار واستعلاء، ولكن من أين جاء هذا الشُّعور بالاستعلاءِ والقُوَّةِ الموهومةِ؟ إنَّهُ عدم الإيمان بالله (عزَّ وجلَّ) إذ يعتقد أو يتوهَّم الإنسانُ-وهذا ما حصل مع فِرعون- أنَّهُ يمتلك شيئًا من دونِ أن يُمَلِّكَهُ الله (عزَّ وجلَّ). كــارثة! لذلك فِرعون وقعَ في شرِّ أعمالهِ: “أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ” من الآية رقم 51 / سورة الزخرف. ولكن هو ليس له مُلك مصرَ أبدًا. بل هو توهَّم ورأى أنَّهُ كلما قال كلمة تُطاع، فعندما قال لهامان: ابنِ لي صرحًا فبنى له الصَّرح، فيكون لسان الحال: حاضر، أنت تأمُر. وكل كلمة تُطاع، ويُطاع وتُنفَّذ الأوامر، ولا أحد يجرؤ أن يقول له (لا)؛ ولذلك جاء بالوصفِ فقال: “فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا” إذ بدأ الحوار هناك عند اللهِ (عزَّ وجلَّ). وتدبَّروا في اللفظةِ “فَقَالَ الضُّعَفَاءُ” ممكن يكونون ضُعفاء، نعم والقُرآن جاء في آياتٍ أُخر، في سُورٍ أُخرى فقال: ” الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ” من الآية رقم 5 / سورة القصص. إذن ممكن أن يكون هناك ضُعفاء، أكيد فالضَّعفُ والقُوَّةُ أحوال تُصيب الإنسان، ولكن أين المشكلة؟ يعني أنت ممكن أن تكون ضعيفًا كما قلنا من قبل في مالٍ أو صحةٍ أو بدنٍ أو جاهٍ وغيرها من مواطنِ الضَّعفِ، ولكن المشكلة ليست في ضعفك. المشكلة حين تكون تبعًا لذلك المتَكَبِر المتَجَبِر إذ إنَّ ضعفُكَ لا يُبرِّر تَبَعِيَّتَكَ؛ فالمفروض أنَّكَ سواء أكنت ضعيفًا أم قويًّا لا تتبع إلَّا الله (سبحانه وتعالى) لكنه يقول: أنا ضعيف! وجرت على ألسنةِ بعض النَّاس كلمة (وهي غير صحيحة): أنا ما علاقتي بالموضوع؟ أنا عبد المأمور (أعوذُ بالله) أترضى أن تكون عبد ًا لغيرِ الله؟! يأمُركَ غيره وتُنفِّذ! هذه هي صُورة التَّبَعيَّة، لكن القُرآن ذكر الاتِّباع، هذه الكلمة بمُشتقاتِهَا. والتَّبَعِيَّة ذُكِرَت في القُرآنِ في أكثرِ من مائة وسبعين موضعًا، ولكن التَّبَعِيَّة وإلغاء العقل وعدم السَّير على الهُدى ولا على المنهجِ الصَّحيح لا يرضاهُ القُرآن، فيكون لسان حال التَّابِع حينئذٍ: “إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا”من الآية 21. طالما خدمتك بعُمري وضحيت بحياتي لأجلِكَ، وهذه الصُّورة الدَّقيقة في الوصفِ هي صُورة حقيقيَّة تحصُل في الواقعِ الَّذي نعيشُه، وجاء مُقابلها النتيجةَ في الآخرة كيــف تكون. لماذا القُرآن يُقابِل بين الدُّنيا والآخرة مُباشرةً بدونِ الفصل؟ حتى نرى الصُّورة، حتى تخرج من الظُّلمة الَّتي أنت فيها إذا عِشت عبدًا لبشرٍ، تحرَّر قبل فواتِ الأوان. سورة إبراهيم تُخرج النَّاس من الظُّلُماتِ إلى النُّورِ، ولن تخرج من الظُّلمة إلَّا إذا رأيتَهَا حقًا، فتطلُب النُّور الَّذي ليس له وجود إلَّا في هذا المنهج في القُرآنِ، القُرآنُ هو الَّذي يُنير لك الطَّريق، ويُريكَ أن تبَعيَّتَكَ للآخرينَ وإلغاءك لعقلِكَ إنَّمَا سيأتي بهذه النِّهاية، وأنَّ ضعفكَ لا يُبرِّر لك أن تكون تبعًا لهؤلاءِ، والتَّبَعيَّة لها أشكال وكلها مناهج باطلة، تبعيَّة لأصحابِ المصالح، ولذلك من أسوأ النَّاسِ وأكثرهم سُوءًا في العقلِ والفكرِ وفي كُلِّ شيء أُولئِكَ الَّذين يبيعون آخِرَتهم ليشتروا دُنيا غيرهم وليس دُنياهُم، يبيع آخرته ورضا الله (عزَّ وجلَّ) لأجلِ دُنيا غيره. القُرآن ذكر في سُورٍ أُخرى مثل سورة البقرة واحدة من أشكالِ التَّبَعيَّةِ؛ تبَعيَّة التَّعصُّبِ للآباءِ والأجدادِ والموروث. ولذلك قالوا: “بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ” من الآية رقم 170/ سورة البقرة. فالمطلوب ألَّا تلغي عقلك. لماذا يشُنُّ القُرآن العظيم حربًا على التَّبَعيَّةِ؟ لأنَّها إلغاء لأعظمِ منحةٍ أعطاها اللهُ للإنسانِ وهي العقل، ربِّي (عزَّ وجلَّ) كرَّم الإنسان بالعقلِ. والتَّبَعيَّة تُحوِّل الإنسانَ من إنسانٍ مُكرَّمٍ عند اللهِ يستعمل عقله ويُفكِّر. وحين يتَّبِع يتَّبِع على منهجٍ وبصيرةٍ ونُورٍ من الله، وفي المقابل إنسان بالضبطِ بعقليَّةِ القطيع. لماذا القطيع والخِراف؟ الرَّاعي هو راعٍ واحدٍ وقطيع الغنم ممكن أن يكون عددًا مهولًا، فالرَّاعي لا يرعى غنمة أو غنمتينِ، بل يرعى قطيعًا بأكمله إذ يُعطيه صوتًا كالصفير، وفي بعضِ الأحيانِ يستخدم الجرسِ كما هو الحال في أوروبا وكل القطيع وراءه، والبشر الَّذين كرَّمَهُم الله تُحرِكَهُم كلمة واحدة من بشرٍ مثلهم، وتجعلهمُ يسيرون وراءه؟! لا يمكن أن يكون هذا؛ إذن ربِّي (عزَّ وجلَّ) لم يُحاسِبهم على ضعفهم لأنَّ الإنسانَ قد يكون ضعيفًا. فأنت غير مُحَاسب على ضعفك، أنت مُحاسب على تبعيَّتك الَّتي أوهمتك بأنَّكَ لابدَّ أن تتَبِع فُلانًا لأنَّك ضعيف، والكلمة الَّتي ذكرناها قبل قليل (عبد المأمور) غير لائقة ولا صحيحة. من قال لك أنَّك عبد لغيرِ الله؟! إنَّهَا الظُّلمة الَّتي أنت فيها؛ إذ صوَّرَت لك وأوهمتك أن تكون تبعًا لغيرِك، ولكن في الآخرة هُم أمام ربّ العالمين وتخيَّلوا عُمق الظُّلمة الَّتي يعيش فيها هؤلاء الضُعفاء إذ إنَّ القضيَّة ليست ضعف بدن بل إنَّهُم ضُعفاء العقل أيضًا، جهل مُركَّب بِكُلِّ الصُّورِ، هم أمام ربّ العِزَّةِ سبحانه، وهُم يقفون جميعًا مع هؤلاءِ الَّذين استكبروا في صفٍ واحد، ومع ذلك يعودون إليهم ويسألونَهم: “فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ” من الآية 21. لحدِّ الآن أنت تعتقد أنَّ فِرعون وغيره يملك لك شيئًا في هذا الموقف الصَّعب الشَّديد أمام الله (عزَّ وجلَّ). أهكذا يتخبَّط الإنسان؟ ما الَّذي يُخرجه من هذا التَّخبُط؟ فقط القُرآن كلام الله، وبهذه الآيات العظيمة ألغى القُرآن كل أشكال التَّبَعيَّة، بعض النَّاس ينقادون لكلمة واحدة من شخص، ولا يُفكِرون في الكلمةِ، ولا يستعملون عقولهم لأنَّ الواحد منهم إذا استعمل عقله راح، هو هكذا يطيع طاعة عمياء، ويقول له فعلًا: افعل، واقتُل، واسفك، واسرق، ولا عليك أنا أسُدُّ عنك؛ ولذلك يقولون لهم فعلًا: “فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ” يعتقدون بأنَّهُم يمتلكون كل شيء؛ فُلان يمتلك وهذا حدث في الكنيسة حين أعطى رجالات الكنيسة الناس في العُصورِ المظلِمةِ صكوك الغُفران، وقالوا لهم: لا تقلقوا أبدًا ، هذا الصَّك يضمن لكم بيوتًا في الجنة وصدَّقوهم، نعم صدَّقوهم و كذلك بعض المسلمين يُصدِّق ما يقوله الآخرون، بأي رداء؟ رداء التَّبَعيَّة وإلغاء العقل.
كيف يُخرجهم القُرآن من الظُّلمةِ إلى النُّور؟ وما النَّتيجة؟
“قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ” من الآية 21. وتدبَّروا في الكلمة إذ بدأوا يُبرِّرونَ لأنفُسِهُم لو أنَّ اللهَ كتب علينا الهدايةَ لسقناكم إلى الهدايةِ، قمَّة التَّكبُّر والتَّجبُّر حتى في تلك المواقف، ولكن لماذا حصلت كل هذه الحوارات؟ ولماذا القُرآن يُكلمُني عن هذه التَّبَعيَّة هنا؟ لأنَّها إشكاليَّة خطيرة في تاريخِ المجتمعات وحاضر المجتمعات وواقعها. بعض الأشخاص حتى على المستوى الفردي يسمع، ونحن اليوم عندما يسمع أحد كلمة من أحد سواء كانت رأيًا في شخص، أو في قضية بدون محاولة للتأكُّد أو للتفكيرِ يقول: رأيت بأنَّ النَّاس يقولون هكذا فأقول معهم؛ ولذلك النَّبيّ (صلى الله عليه وعلى آلهِ وسلَّم) قال: لا يكُن أحدكم إمَّعة؛ إذ لا يمكن أن تستقيمَ شخصيَّة الإمَّعة؛ إمَّعَة يُقلِّد النَّاس بدون وعي، بدون منهج. تقليد أعمى مبني على الجهلِ وعدم العلم، دوافعه تعصُّب وتبَعيَّة من موروثات ومُخلَّفات في نفسهِ وفي فكرهِ فلا يستعمل عقله. وما الحل؟ قال: لا يكُن أحدكم إمَّعة. ماذا يفعل الإمَّعة؟ إن أحسن النَّاس أحسن، وإن أساءوا أساء. بمعنى آخر: يسبح مع التَّيَّارِ ويركب الموجة، فهناك ناس تُتقِن ركوب الأمواج، وكذلك تُتقِن السباحة مع التَّيَّارِ، ولا يمكن في يومٍ من الأيامِ أن تسبحَ ضد التَّيَّار. ويبقى السُّؤال: هل التَّيَّار في الاتجاه الَّذي يُحبُّه الله ورسوله حتى أسبح معه أم هو عكس ما يُحبُّهُ الله ورسُوله؟ سُؤال لا يمكن أن يطرحه الإنسان على نفسه وهو في ظُلمةِ الغفلة، في ظُلمةِ الشَّكِّ، في ظُلمةِ التَّبَعيَّةِ الَّتي عندما تسود يُصبح النَّاس كالعميان مثل القطيع؛ إذ تُحرِكَهُم كلمة، وتُغيِّرُهُم كلمة، تُقدِمُهُم كلمة، وتُؤخِرُهُم كلمة، والقُرآن لا يُريد نفوسًا من هذا النُّوع، ماذا يريد القُرآن؟ “قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ” من الآية رقم 31 / سورة آل عمران. على عمًى أم على هُدًى؟ بل على هُدًى”قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ” من الآية رقم 108/ سورة يوسف. إذن اتِّباع على بصيرة وعلى نور إذ يعيش في النُّورِ، لا يعيش في أعماقِ الظُلمة الَّتي لا يمكن أن تصل به إلى نتيجة، وتدبَّروا معي في الكلمة إذ قالوا: “قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ” من الآية 21. الآن ساعة النَّدم، والآن عرفوا الله ولكنهم لم يعرفوه في الحياة أبدًا، ولا عرفوا للهدايةِ سبيلًا. قالوا: “سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ” من الآية 21.موقف مُؤلِم ونتيجة حقيقيَّة ولا تراجُع، تجزع أم تصبر في الدُّنيا لا، في الدُّنيا هل الجزع والصَّبر سواء؟ أبدًا فالَّذي يجزع عند المصيبة ليس جزاؤه كمن يصبر ويحتسب عند الله (سبحانه وتعالى). لا.. ولكن في الآخرة “سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ”من الآية 21. فالعقاب مُحيط من كُلِّ جانب. إذن أول قناع سقط هو قناع هؤلاء الَّذين استكبروا ثم ماذا بقي؟ بقي الزعيم الكبير والعقل المدبِّر: الشَّيطان الَّذي له كلمة (وكلٌ سيلقي كلمة في دورِه). فالَّذين استكبروا قالوا كلمتهم وجاء دور الشَّيطان: “وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ” من الآية 22. إذ انتهى كل شيء و”إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ” من الآية 22. لماذا لم تقُل لنا؟! هذا سُؤال وجيه جدًا ولماذا بعد أن قُضي الأمر يا شيطان قلت لنا: “إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ” وفي الدُّنيا قلت لنا قولًا آخر؟ والحقيقة أنَّ الشَّيطان لم يقُل شيئًا آخر في الدُّنيا أبدًا. بل أنتم سمعتموه خطأ.
كيف؟ لأنَّ الإنسانَ حين يعيش في الظُّلمةِ لا يسمع ولا يرى وتكون الرُّؤية مُنعدِمة، ولا يسمع إلَّا نفسه؛ فعلى سبيلِ المثال يُقال له: يا ابن الحلال لا تظلم فالظُلم ظُلُمات يوم القيامة، لا تأكل المال الحرام فهو يأكُل صاحبه، لا تحسد، لا تفعل وهكذا ولكن هذا كله لا يسمعه، إذ لا يسمع إلَّا ما يُمليه عليه هوى نفسه، والنَّفس ماذا تُملي عليه؟ تقول له: قد يأخذه غيرك، ولا يعرف كيف يُنفقه فخُذه أنت وتصدَّق به في أوجه الخير؛ ولذلك تدبَّروا معي عظَّمة القُرآن حين نربط بين الآياتِ في سُورِهِ.. فِرعون على ضلال ولكنه لم يكُن يرى أو يسمع أنَّهُ كذلك فقال لقومهِ: “مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ” من الآية رقم 29 / سورة غافر. وما هو الَّذي تراه؟ آثار ظُلمك وطُغيانك وجبروتك، وسفك للدِماءِ ويستحيون نساءهم، ويُقتِّلُونَ الأبناء. فهل هذا هو سبيلِ الرَّشاد؟ في عُرفِ من؟ في عُرفِ فِرعون لماذا؟ لأنَّهُ يعيش في ظُلمة. “وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ” وأنت يا شيطان “وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ” من الآية 22 . فكثير من النَّاسِ اليوم يقول: الشيطان وسوس لي، نحن نقولها على سبيلِ التَّجاوز. الشَّيطان يقول لك كلمة فعليك أن تتعوَّذ بالله. على سبيلِ المثال عند صلاة الفجر يقول لك: نم وابقَ مرتاحًا وأنت الَّذي تسمع كلامه، هذه هي الحقيقة إذ قال: “فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ” من الآية 22. ولذلك قال: “وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ” وهذه أيضًا حقيقة فالشَّيطان ليس له سُلطان إلَّا على الَّذين يتَّبعونَهُ ويستمعون له، إذ قال: “فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ” من الآية 22 .إنَّهُ لموقف عصيب حين يتخلى كل الأتباع والأصحاب والأخِلَّاء بعضهم عن بعض والشُّرَكاء، إذ تُفض كل الشَّرَكات (شَرَكات الدُّنيا)، وأعوذُ بالله فبعض النَّاس شُركاء في الإثمِ، في الباطلِ، في الفسادِ، في الكَذِب شهادات الزُّور، أعمال السُوء، يعيشون حياتهم كلها شُركاء ولكن في هذا الموقف العصيب تُفض كل الشَّرَكات، وماذا أيضًا؟ “إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ” من الآية 22. و”إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ” من الآية 22. أين كانت هذه الموعظة العظيمة في الدُّنيا؟ هي موجودة بالفعل لكن لم يسمعها غير الَّذي يقرأ هذا القُرآن العظيم، وإلَّا فقُل لي إذا كان الإنسان لا يقرأ القُرآن كيف سيسمع ما يقوله الشَّيطان؟ فعلًا هو لا يسمعه لماذا؟ لأنَّهُ بعيد عن نُورِ القُرآن؛ ولذلك القُرآن نُور ولكن ماذا إذا سَمِعَه؟ يتغيَّر، يُغيِّر الَّذي هو فيه. إذن كل الأشياء الَّتي نحن جميعًا أحيانًا نقع تحت سُلطانها ونُبرِّر لأنفُسِنَا بها كلها سقطت. أولًا لا تكُن تبعًا لأحد، فلا تتبِع إلَّا منهج الله (عزَّ وجلَّ) في حياتِكَ وتأكَّد يقينًا أنَّهُ إذا كُنت مع الله فــربي (عزَّ وجلَّ) سيقيكَ من كُلِّ أحد فلا تخشَ أحدًا إلا الله فأنت ستلوذ في حماه، في كنفِه؛ لذلك المُؤمِن من دعائهِ: اكنُفنى بركنك الَّذي لا يُرام فما أجمله من دُعاء! ركن الله (عزَّ وجلَّ) سبحانه، أنت مُحتمٍ بهِ فكيف تستبدل كل هذا؟ “أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ۚ ” من الآية رقم 61 / سورة البقرة. فهل تبحث لك عن حماية من بشر؟ ولأنَّ السِّياق في الآيات الَّتي هي مكيَّة أنَّ العرب كانت تُعطي الحماية في قبائِلِهَا وعشائرِهَا والَّذي لا حماية له لا تكون له منعة، والقُرآن يُقدِّم الحمايةَ من ربِّ العبادِ سبحانه؛ إذن لا تُبرِّر أي شيء خطأ لضعفك وتقول: أنا ضعيف؛ فضعفك لا يُبرِّر لك التَّبَعيَّة لِأحد؛ ربِّي (عزَّ وجلَّ) سيقوِّيك به، فإذا كان ضعفًا في البدنِ ربِّي (عزَّ وجلَّ) سيقوِّيك في طاعتهِ، ولو كان ضعفًا في مالٍ فــسيُغنيك ألم يقُل لنبيِّه: “أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6)”وأيضًا قال: “وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8)” الآيات من سورة الضُّحى. إذن كل هذه الأشياء ليست بيدِ بشر، وهذا أكيد ولكن الظُلمة هي الَّتي حجبت ذلك النُّور فلم يعُد الإنسان يرى الأشياء على حقيقتِهَا، وأصبح يتوهَّم أن هناك من يملك له شيئًا من دونِ الله (عزَّ وجلَّ) فكانت النَّتيجة معروفة، وهذا هو القُرآن. هذه الآيات العظيمة حين نقف عندها طويلًا فكل آية فيها تُخرج الإنسان من الظُلُماتِ الَّتي يعيش فيها مهما كانت، أحيانًا نحن ندخُل في ظُلُمات في حياتِنا فما الَّذي يُخرجنا منها؟ إنَّهُ القُرآن العظيم فابقَ قريبًا من هذا الكتاب العظيم لأجلِ النُّور الَّذي فيه والَّذي سيُنير لك الطَّريق، ويُخرجك من تلك الدَّهاليز والأنفاق المظلمة، وتخيَّل الإنسان عندما يكون في نفق مُظلم وليس معه نُور فكيف ستكون حالته؟
القُرآن العظيم نُور وبصائر ربِّي (عزَّ وجلَّ) يُنير بها الطَّريق ولكن بشرط أن يكون الإنسان من أُولئِك الَّذين يُؤمِنون به، يتَّبِعُونَ المنهج فتزول كل المخاوف وليس هناك ما يُبرِّر ضعفك ولا عجزك حتى تأتي الآيات بعد ذلك في سياقاتِ الحديث عن المؤمنين. كل الأقنعة سقطت وكذا كل المبرِّرات، ولم يبقَ أمامك إلَّا طريق الإيمان والرُّجوع لله (سبحانه وتعالى) والعودة إليه. هذه سورة إبراهيم ولذلك في كل آية وكل مقطع من مقاطعِها فيها جوانب من إخراجِ النَّاس من الظُلُماتِ إلى النُّورِ، فإذا كنت في أي شكلٍ من أشكالِ الظُلمة (والَّتي قد تكون أحيانًا مُؤقَّتة) وهذه حال المُؤمِن، وأحيانًا قد تكون الظُلمة كثيفة وقد تزداد كثافة.
ما الحل؟ فتِّش في أعماقِ نفسك عن أسبابِ الظُّلمة وخيوطها الَّتي قد تكون غفلة، جهلًا، تعصُّبًا، تبَعيَّة، خوفًا، اغترارًا بشيء، كل هذه الجوانب الَّتي تعرضت لها سورة إبراهيم وستتعرَّض لبعض جوانبِهَا أيضًا أو وساوس الشَّيطان، والحل؟ جميع الحلول في هذا الكتاب العظيم، ولا يمكن أن يكون حلًا بعيدًا عن هذا القُرآن العظيم مصدر النُّور في حياةِ الإنسان وسبيلِ الخروج من الظُّلُماتِ إلى النُّورِ.
نسأل الله العظيم ربّ العرش العظيم أن يُنير قُلوبنا وبصائرنا وعقولنا بكتابهِ العظيم.