الحلقة الخامسة (الآيات 18 – 26)
تفريغ د. سمر الأرناؤوط
وقفنا في تدبرنا في سورة سبأ العظيمة عند تلك الآيات الكريمة التي جاءت تبين طرفا من سنة من سنن الله الماضية في الأمم والمجتمعات . وبينا فيما بيناه كيف أن الله عز وجل قد أنعم على مملكة سبأ التي كما تخبرنا كثير من الروايات والآثار التاريخية ، أنها عاشت في جنوب الجزيرة العربية على مدى قرون طويلة في رخاء و أمن و استقرار ، و تقدم وتفوق معماري وحضاري بكل المقاييس . ولكن ذلك التفوق ما تمت صيانته من قبل الأجيال التي لحقت ، فأعرضت عن المنهج الإلهي الذي يكفل للناس الحفاظ على أمنهم واستقرارهم . ذلك الأمن الذي إن صحّ ووجد في أي مجتمع وأي أمة ، جعل الإنسان فردا ومجتمعا يستطيع أن يقوم بحمل الأمانة وتأديتها على الوجه الذي ينبغي أن يكون . هذه الأمانة التي أراد القرآن من الإنسان أن يحملها في أجواء الأمن والاستقرار، ولكن إذا رأى الفرد أو المجتمع أن هذا الأمن والرخاء والاستقرار قد أصبح شيئا معتادا مألوفا لديه ، وكأنه تحصيل حاصل ما عاد له ذات الأهمية في نفسه ، وما عاد ذلك يدفعه إلى القيام بالأمانة وأدائها على أتم وجه . وقد يصل الأمر بالبعض إلى الوقوع في إشكالية البطر وإشكالية البطر تسوق الإنسان إلى الكفر والجحود ، فإذا ما ساقته إلى الجحود وكفران النعمة تنكص وتنكر لمنهج الله في الأرض ، واعتبر أن ما وصل إليه من تقدم وحضارة ، إنما هو من قبيل ذكائه وعبقريته الخارقة وقدرته على التخطيط والبعد الإاستراتيجي والحفاظ على المقدرات وتوظيفها بالشكل الصحيح . وهنا يعرض القرآن العظيم جانبا من حياة هذه المملكة قبل التنكص للمنهج الإلهي وبعدها ، قال:
(وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آَمِنِينَ ﴿١٨﴾)
قبل وقوع هه الكارثة ووقوع سيل العرم كانوا يعيشون في حالة أمن واستقرار ، وواحد من جوانب الأمن والاستقرار فتح وتسيير الحدود بينها . سبأ كانت في اليمن ، والقرى الظاهرة التي يكلمنا عنها القرآن هي الوصول من اليمن إلى الشام . صحيح أنها كانت مسافات متباعدة خاصة بوسائل النقل المعروفة آنذاك ، لكن الله عز وجل قدر لهم أن يكون لديهم من وفرة الأرزاق والجنان والنعيم وتعبيد الطرق وتسهيل الممرات ما استطاعوا من خلاله أن يفتحوا الحدود بينها وبين الشام . قرى ظاهرة و قرى بارك الله فيها : (وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة) ، بينهم وبين الشام معابر وممرات وحدود ظاهرة فيها وبارزة برخائها ونعيمها وما أغدق الله عليهم من النعم . وكان الناس فيها يسيرون بأمان بالليل والنهار (ليالي وأياما آمنين) ، ونعمة حرية التنقل التي يمتن الله على عباده بها في الآية الكريمة هذه ليست بالقليلة ، فهي من أعظم النعم. القرآن هنا يحدثنا عن حرية التنقل بين البلدان ، وحرية السفر واحدة من أعظم و أكبر النعم في حرية التنقل. تنقل الإنسان من بلد لآخر ، وهو آمن على نفسه وحياته وحياة من معه ، فلا قطّاع طرق ولا وعورة طريق ولا أن يُقطع به الطريق نتيجة الممرات الضيقة ولا التضاريس الصعبة الشديدة ، لهو نعمة من نعم الله على الإنسان . نعمة عظيمة أن يكون هناك حرية في التنقل مع وجود الأمن الذي لا يتحقق الاستقرار بدونه. وبطبيعة الحال حين تكون حرية في التنقل التجاري بين البلدان بين سبأ في اليمن ، وبين بلاد الشام وغيرها من البلدان المجاورة ، هذا يعني زيادة في الاستقرار و التبادل التجاري و الرخاء الاقتصادي ، مما يجعل حرية التنقل مكفولة للجميع ؛ الغني والفقير ، الأغنياء وذوي الدخل المحدود ، وبالتالي يستطيع الإنسان ذو الدخل المحدود أو الفقير أو صاحب الإمكانيات المادية المتواضعة ، أن يتنقل بحرية من مكان إلى آخر طلبا للتجارة وطلبا لتحصيل الرزق . ولأن حرية التنقل قد يسّرت ، وتكاليف التنقل أصبحت بسيطة وفي متناول يد الجميع ، يستطيع الإنسان الفقير أن يحسّن من معيشته و مستواه المادي ، وبالتالي يصل أفراد المجتمع بكليتهم إلى مستوى عال من الرخاء الاجتماعي والاقتصادي ، وذلك بفضل هذه النعم العظيمة التي امتن الله سبحانه وتعالى بها على عباده ، ولكن ماذا كانت النتيجة ؟ الإنسان حين يتنكر لمنهج الله في الأرض يرى أحيانا الخير شرّا ، ويرى أن حرية التنقل بين هذه الأماكن وهذه البلدان ، من الممكن أن تفسد عليه نظام وجود طبقة من الأغنياء ، ووجود طبقات أخرى في المجتمع من أصحاب الدخل المتوسط أو الضعيف ، فماذا قال هؤلاء؟
(فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ﴿١٩﴾) .
يا رب اجعل المسافات بعيدة بين المدن والقرى ؛ حتى لا تكون في متناول الجميع . لقد نظروا نظرة اقتصادية ضيقة ، وأنت ترى على سبيل المثال اليوم عددا من شركات الطيران الكبرى بشكل عام تبالغ برفع تكاليف السفر مبالغة كبيرة ، فهل يصبح مع ذلك بإمكان الفقير أو أصحاب الدخل المحدود أن يتنقلوا من مكان إلى آخر؟ لا يستطيعون . حين ترفع الأسعار من غير مبررات هل يتمكن الناس من السفر؟ بالطبع لا. تبدأ الأمور تضيق عليه و على من حوله . الإنسان قد لا يجد في مكانه وبلده الذي يعيش فيه باب رزق ولكنه إذا سافر ومشى في الأرض كما أمر الله سيجد الرزق : (فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور) . و حين ينتقل إلى مكان آخر قد يجد باب رزق جديدا . وهذا واضح جدا في مجتمعاتنا المعاصرة ، فأنت تجد أبناء البلدان ذات الكثافة السكانية العالية مثل الهند وغيرها قد لا يجدون مصادر رزق كافية توفر لهم عيشا كريما بمستوى معين في بلدهم ، فينتقلون إلى أماكن أخرى يفيدونها و يقدمون لها خدمات . وفي نفس القوت يحصل هناك تبادل تجاري ، و وترتفع مستويات المعيشة في مكان آخر، بمعنى آخر تقسيم الثروة المادية وتوزيعها التوزيع العادل المبني على الجهد و العمل . التوزيع يكون مبنيا في بعض الأحيان على تبسيط التفاوت في التوزيع بين طبقات المجتمع ، ولكن ليس من خلال قوانين وأنظمة جائرة لا تجعل للإنسان الفقير حقّا في أن يحسّن من معيشته . والقرآن في أكثر من آية نصّ على ذلك ، في قوله : (كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم) ؛ أي حتى لا يبقى المال فقط محصورا في أيدي فئة من الناس تملك ملايين ومليارات لا تعرف ماذا تفعل بها ، تضيعها بالعبث . وقد تنفق ملايين على أشياء لا قيمة لها ، في حين أن الإنسان في مكان آخر يريد فقط أن يكسب لقمة عيشه فلا يجد . والقرآن أراد أن يقيم كل هذا على منهج العدل ؛ في أنك حين تتعب وتبذل جهدا تجد نتيجة . هؤلاء من قوم سبأ ، ومن كان مترفا فيها أراد أن يغير هذه القوانين ، وأن يجعلها وفق هواه ومزاجه ؛ ذلك المزاج المعوج الذي لم يقم على نهج الله في العدالة والتوزيع ، فماذا كانت النتيجة ؟ قال : (وظلموا أنفسهم) ؛ بالتخبط و البعد عن ذلك المنهج ، وبمحاولة أن يجعلوا عملية السفر والتنقل بين البلدان عملية شاقة لا يستطيعها الجميع ، عملية صعبة يمكن أن يقوم بها بعض الناس ، والبعض الآخر لا يستطيعها ؛ لتباعد الأسفار و المسافات و ارتفاع تكاليف السفر بوضع حدود على التنقل ، و قواعد صارمة على التنقل بين البلدان المختلفة . وكأن الربّ الذي خلق الأرض وقدّر فيها أقواتها ما جعل فيها ما يكفي لكل البشر و الناس . هذه النظرية الساذجة التي إن دلت على شيء ، فإنما تدل على أنانية الإنسان المترف ورغبته في احتكار الأرزاق ، على الرغم من أنه لا خلق الأرض ولا قدّر فيها أقواتها ، ولا خلق الرزق كما ستأتي الآيات فيما بعد . والرازق هو الله ، والخالق هو الله والمدبر هو، والذي خلق الخلق هو الله . ولكن الإنسان حين يتخبط بعيدا عن منهج الله في الأرض يصبح إنسانا مترفا أنانيا لا يريد الخير لغيره . والقرآن يريد أن يحرره من شح نفسه ، ويجعله إنسانا معطاءا مساعدا معاونا للآخرين ، مادا يد العون لغيره من البشر سواء كان يعرفهم أو لا يعرفهم . وتدبروا في القرآن كيف يشخص الداء ، وكيف يقدم النتيجة و ما أصاب هؤلاء من النقمة . والأحداث تُعرض بتسلسلها قال : (وجعلناهم أحاديث) ، بادت حضارتهم ، انتهت مملكتهم ، وذهب عزّهم ورخاؤهم وأمنهم واستقرارهم ، ليس هذا فقط ، فقد قال : (ومزقناهم كل ممزق) ، أي كل تفرق و تشتت و تباعد . لماذا حكم الله عليهم بذلك؟ لقد أصبحوا أثرا بعد عين ، أصبحوا أحاديث تُروى حتى صار ذلك المثل معروفا بين العرب ، و حتى بين كفار قريش في ذلك الوقت : “وجعلناهم أيادي سبأ” “وتفرقوا أيادي سبأ” . فلقد أصبحت سبأ مضربا للأمثال ، و للشيء الذي يفرّق بعد اجتماع أيما تفرقة ؛ لأن سبأ كانت مملكة عظيمة مترامية الأطراف مجتمعة موحّدة . الأطراف فيما بينها أبت رفضت الوحدة ، ورفضت الائتلاف الذي فيه قوة ، و رفضت الاجتماع والتعاون على كل خير، فماذا كانت النتيجة ؟ (ومزقناهم كل ممزق) ، كيف تفرقت وحدتهم؟ كيف تباعدت أسفارهم؟ كيف تشتت وتمزقت تلك المملكة ؟ بالأمراض المختلفة، والعداء ، و النعرات بينهم ، هذه كلها احتمالات لهذا التمزق . التفرق والتشتت بين المجتمعات والتمزق في الوحدة بين أمم الأرض ، إنما هي عقوبة يضرب بها الله سبحانه وتعالى أولئك الذين لا يرون في وحدة الكلمة واجتماع القلوب وتآلفها نعمة ينعم الله بها على عباده . فماذا كانت النتيجة ؟ قال : (إن في ذلك لآيات) ، وليس آية واحدة لـ (لكل صبار شكور) ، لماذا جاء هنا بالصبار الشكور؟ لأن الله يريد منك صبرا وشكرا ، صبرا على القيام بأعباء المنهج والأمانة ، وعلى أدائها ، صبرا على المشاق والسعي في توحيد الصفوف وجمع الكلمة وتأليف القلوب . وشكرا على منهج الله في تحقيق الوحدة . حين يكون التشتت والتمزق والفرقة ، تكون العقوبة دامية تُضرب بها الأمم والمجتمعات وإذا ما ضرب بها مجتمع من المجتمعات أصبح عبرة لمن يعتبر، و أحاديث (مزقناهم كل ممزق) ، تدبروا في المفردة القرآنية ؛ التمزيق ، فهو أشد من التقطيع . التمزيق أن تأتي إلى شيء واحد ، وإذا به في لحظة ثانية يتقطع كل ممزق . فما عادت هناك إمكانية من جديد لتجميع هذا الشتات بعد أن تفرق وتقطع وتمزق. الشيء حين يمزّق ليس هناك أمل في أن تعيد إليه الحياة من جديد . مملكة سبأ مزقت تمزيقا ، ما عاد هناك أمل في جمعها وبعثها من جديد . إذاً الآية الأولى التي قدمها المولى كعقوبة كانت كارثة طبيعية و اجتماعية صُنعت بالتمزق و التشتت والتفرق . ذهبت المملكة وذهب عزها وقواها ؛ لأجل إنكار وجحود النعم التي أنعمها الله عليها . وانتبهوا إلى القرآن كيف يشخص الداء الذي وقع في تلك الأمة القوية المنيعة التي تفوقت على غيرها من أمم الأرض اقتصادا ورخاءا وأمنا واستقرارا ومنعة عسكرية ، واستطاعت أن تنشئ سدودا منيعة ، ولكنها انهارت بهذه الأمراض الخطيرة . قال :
(وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴿٢٠﴾) .
ما هو ظن إبليس؟ أشار القرآن وقدم لنا ظن إبليس في مواضع أخرى : (قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين) ، فإبليس ظنه بعباد الله وببني آدم ، أنه سيتمكن من إيقاعهم في الغواية وحبالها . فهنا على هؤلاء القوم صدّق إبليس عليهم ظنّه ، كيف؟ أغواهم ، (إلا فريقا من المؤمنين) وتدبروا في الآيات :
(وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآَخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ﴿٢١﴾) .
وإبليس قالها في أكثر من مرة بوضوح : (ما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي) ، أنا دعوت ، أنا قلت ، قدمت لكم دعاية لماذا سرتم وراءها ؟ الله سبحانه وتعالى أعطاكم منهجا وأرسل رسلا وأنزل كتبا لماذا لم تتبعوا الكتب؟! وإبليس قدّم الغواية ، فلماذا وقعتم في حبالها؟ لماذا اتبعتموه؟! وهنا القرآن العظيم يحمّل الإنسان فردا ومجتمعا وأمة مسؤولية القرار الذي يتخذونه . الله أعطاك عقلا و فكرا ، وبيّن لك في هذا القرآن العظيم أن إبليس سيقوم بإغوائك . إبليس عدو لك (فاتخذوه عدوا) ، وأنه ليس له سلطان عليك سيدعوك فلا تستجب له . كل شيء واضح في كتاب الله ، ليس هناك شيء غامض . وليس ثمة ألغاز في المسألة . كل ما هنالك أن بعض هؤلاء من ضعاف النفوس استمعوا إليه ، ساروا وراءه ، واتبعوا إغراء ووسوة إبليس (صدّق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه) .
قال : (إلا فريقا من المؤمنين) ، وهنا لا بد أن نتوقف توقفا طويلا عندما حدث في مجتمع وأمة سبأ ، وما حدث من تنكر للمنهج الإلهي . كان هناك فريق من المؤمنين (إلا فريقا من المؤمنين) ، إذاً يبقى السؤال مطروحا إذا كان هناك فريق من المؤمنين في سبأ ، فلماذا أصابهم سيل العرم؟ لماذا كانت العقوبة جماعية؟ لماذا ضرب الله المجتمع بأكمله؟ (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) ، فالعذاب حين يقع ، و الفتنة حين تنزل لا تنزل بفريق دون فريق ، لا، يصبح العذاب هنا جماعيا . ولذلك في الحديث الصحيح : “أنهلك وفينا الصالحون؟ قال نعم إذا كثر الخبث” ، ونزيد على ذلك وإذا عمّ الفساد، و وقف المؤمنون المواقف السلبية التي يطلقون عليها الحياد، و ما أنكروا المنكر، وما نهوا عن الفساد، وإذا رضوا أن يبقى المعروف ضعيفا في مجتمعاتهم ، وما نصروا العدل ، و ما وقفوا في وجه الفساد والباطل ، وإذا تنكروا للخير وللحق وللعدل ، و إذا ما كان فيهم صوت قوي يدافع عن الحق والعدل ، و إذا تراجعوا عن القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . والقرآن أوضح لنا ذلك في سورة كثيرة وفي قصص الأنبياء (فأنجيناه والذين آمنوا معه) ، فالله ينجي من عباده المؤمنين ، ولكن حين يقوم هؤلاء المؤمنون بما ينبغي أن يقوموا به . و واحدة من السنن كذلك أن تعمّ الفتنة ، والعذاب يعمّ ، والرحمة تخصّ . بمعنى آخر أنه يمكن أن يكون هناك عذاب جماعي ، ويشترك الصالحون ، لماذا ؟ لأنهم ما نهوا عن الفساد في الأرض . ينبغي أن تكون مصلحا وليس صالحا فقط . من أطواق نجاتك من العذاب أن تكون صالحا و مصلحا ، آمرا بالمعروف ، ناهيا عن المنكر بما مكنك الله سبحانه وتعالى . ولكن إياك أن تشارك في المنكر بسكوتك وسلبيتك ووقوفك على الحياد . إشكالية خطيرة في المجتمع أن تكون سلبيا أن تدّعي أنك محايد ، هذا ليس حيادا حين ترى المنكر وتسكت ، وحين ترى المعروف يُداس ولا تفعل شيئا لنصرته . هذا ليست حياة ، إنها حياة سلبية فلا تكن شيطانا أخرس!
واحدة من أعظم الإشكاليات والتحديات أن تكون في صفوف الشياطين الخُرس البُكم مسلوبي الإرادة ، يرون الحق يداس فلا يدافعون عنه . ويرون الظالم يتجبر ويتمادى في طغيانه فلا يوقفونه عند حدّه . ويوما بعد يوم ، و ساعة بعد ساعة يزدادون ضعفا وسلبية ، فماذا تكون النتيجة ؟! الهلاك .
قال : (وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآَخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) ، إنه الاختبار، الابتلاء ، واحدة من الاختبارات أن تتعرض لوساوس الشيطان . الشيطان يوسوس والله سبحانه وتعالى أعطاك منهجا ، وأرسل لك كتابا وأرسل لك رسلا تبين وتوضح ، وهذا من الابتلاء . كل شيء واضح في المنهج (إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة) ، الله يعلم من يؤمن بالآخرة ، ولكن حكمته وعدالته اقتضيتا أن يقيم الحجة على عباده بأعمالهم ، وما يختارونه من منهج في الحياة يسيرون عليه (وربك على كل شيء حفيظ) ، حفيظ على أعمالكم ، و على ما أنزل ، حفيظ على النفوس ومواقف النفوس من شياطين الجن والإنس .
ثم تنتقل الآيات بسلاسة بوصل ما يعنيه المنهج مع ما يواجهه النبي صلى الله عليه وسلم في واقعه مع كفار مكة ، يقول :
(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ ﴿٢٢﴾) .
(قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله) ، يتحدى الله هؤلاء الذين يدعون من دون الله أصناما آلهة كانوا أم عبادا ، أم أنظمة و قوانين و طواغيت مختلفة ، مخاطبا إياهم : ادعوا الذين زعمتم من دون الله ، ولكن وأنتم تدعون هؤلاء الذين زعمتم من دون الله ، عليكم أن تفهموا وتستوعبوا أنهم لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض . تدبروا كيف القرآن يصحح إيمان الإنسان ويوقظه من غفلته و رقدته . تدبر يا رجلا يا من اتخذت من دون الله وليا وشريكا ونصيرا وخضعت له في حياتك ، وأخضعت له قوانينك ومناهجك الأسرية والتربوية والتعليمية ، وفتحت له الأبواب مشرعة واسعة ليقضي ويحكم ويفصل في حياتك وفي مجتمعك وفي أسرتك . على سبيل المثال جريمة الشذوذ والانحراف ، لماذا نذكرها ؟ لأنها قضية بارزة ، حرمها الله سبحانه وتعالى . وكل الشرائع السماوية حرّمتها ، وسمتها انحرافا وفاحشة ومنكرا : (أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون) . ولكن تدبر ما الذي قد حدث في العالم ، وفيما فعله هؤلاء الحثالة من الشواذ المنحرفين عن مناهج الفطرة السليمة ومناهج ورسائل الأنبياء والديانات ؛ كل الديانات ديانة النبي موسى وديانة النبي عيسى ، وجميع الأنبياء ، ودين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم . إلى عهد قريب ، أي منذ عام 1970 ، وكما ذكرنا في أكثر من مرة ، أن الجمعية الأميركية للأمراض النفسية تعتبر الشذوذ وما يطلقون عليه ” المثلية ” : انحرافا سلوكيا ومرضا مصنّفا ضمن الأمراض ، ما الذي حدث بعدها ؟ تولى بعض المفسدين زمام الأمور، وغيروا الأحداث ، وألبسوها زيا جديدا ، وفرضوها على العالم بأسره ، وهم شرذمة من الناس مدعين أنها حرية شخصية ، وليست مرضا ولا انحرافا يعالج الإنسان منه . ولكن الحرية تقتضي أن تعطيه كل المساحات الواسعة ، وتفتح أمامه أبواب وفرص العمل في كل مجالات الحياة ، بل يجب أن تجعل منه مدرسا لأبنائك ومديرا لمؤسساتك . ولو سألت أحدا من الناس ولو كان مسلما و في مج تمع مسلم : يا فلان اتق الله تعلم بأنه منحرف ، فلماذا تجعله يدرس المقرر الفلاني في مدارسك لأبنائك؟ يقول لك : هذا شأنه ، إنها حرية شخصية . فحياته الشخصية أنا لا دخل لي بها ، ولكنه من الناحية المهنية ممتاز، وانظر إلى شهاداته وانظر إلى ما حاز من أوسمة مختلفة ومراتب عالية في التعليم الأكاديمي ، أهكذا تكون الأمور؟! أهذا ما علمك الله؟! أهذا ما تجده في مناهجك؟! كيف أخضع هؤلاء المفسدون المنحرفون العالم بأسره لطغيانهم وشهواتهم؟! (ما كان له عليهم من سلطان) ، إذاً ما الذي حدث ؟! لقد ضعف أهل الحق ، صوتهم خفت . ما عاد هناك من يعلو ويرتفع صوته بالحق ، هناك خوف ، فلم الخوف ؟! تدبر فيما يقول القرآن ويحرر فيه الإنسان من الخوف : (لا يملكون مثقال ذرة في السموات والأرض) ، فإذا كانوا هؤلاء المفسدون لا يملكون مثقال ذرة في السموات والأرض ، والذرة تنشطر ، فكيف أنت بجهلك تملّكهم حياتك ومناهجك وتعليمك ومتابعة شئون أسرتك ومجتمعك ؟! كيف تخضع لهم ؟ كيف أخضعت حياتك لهؤلاء ؟! . لم تفعل ذلك إلا في غياب وغيبوبة منك عن منهج الحق الذي أنزله الخالق جل شأنه .
قال : (وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ) ، الله جل شأنه لا يكون معاونا لهم ، تعالى عما يقولون علوا كبيرا . وليس لهم حتى قطمير في إدارة هذه الأرض ، وبالتالي فالمالك الحقيقي المتصرف في هذه الأرض وفي السموات هو الله الذي له الحكم وإليه ترجعون ، أما هؤلاء الذين لا يملكون شيئا كيف تملّكونهم إدارة شؤونكم وتسيير مناهج حياتكم ؟! كيف ؟!
تدبروا في الآية التي جاءت بعدها :
(وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ﴿٢٣﴾) .
في الدنيا لا يملكون شيئا ، وفي الآخرة لا يشفعون وليس لهم الحق في شفاعة ؛ فلا يشفع عند الله إلا من أذن له . تدبروا ، قال : (حتى إذا فزّع عن قلوبهم) ، ولكن متى سيفزّع عن قلوبهم وتطمس الغشاوات ، وتنقشع الغمامات ، وتكشف الحقائق وتتساقط الأقنعة ، وتذهب الأكنّة عن القلوب ، ويذهب الوقر عن الأسماع ؟ يوم القيامة ؛ لأن ذاك الموقف العدل الحق! تدبر كيف يجعل القرآن مواقف القيامة حاضرة في الدنيا ؛ حتى نستوعب ونستدرك ما فات . فزع عن قلوب هؤلاء من الغافلين الذين ما أدركوا بوجود القرآن الذي يتلى على أسماعهم وقلوبهم الحقائق . عاشوا الحياة كل الحياة في زيف وخداع وغشاوة على أسماعهم وعلى قلوبهم أكنة لا يبصرون ، لا يسمعون ، و لا يرون الحق حقا . لكن لما يفزّع عن قلوبهم وتنقشع الغشاوات والأقنعة والأكنّة ، سيُسألون يوم القيامة : (ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير) ، ما قالوها في الدنيا ، ولكنهم سيعترفون بها في الآخرة يوم لا ينفع اعتراف ، ولا تقبل معذرتهم ولا هم يرجعون ، وذلك بعد فوات الأوان . ولنا أن نتساءل أنا وأنت ماذا قال ربنا في القرآن ؟ قال الحق ، وماذا قال ربنا في كل ما نذكر من أمثلة وتطبيقات في واقعنا ؟ ربي لا يقول إلا الحق ، إذاً لماذا لا نرى هذا الحق حقا في الدنيا؟! إنها الغشاوات و الأكنّة التي في الصدور . ولذلك تدبروا في القرآن وفي أسلوب التلطف والحكمة الذي يستدر من قلوب العباد العودة والأوبة إلى الله سبحانه وتعالى ؛ لأن الذي أنزل هذا المنهج وهذا القرآن رب رحيم و رب غفور. تدبروا في الترابط بين الآيات! الله سبحانه وتعالى يذكر عباده ويقرع أسماعهم وقلوبهم مرة بعد مرة بأسلوب يتلطف فيه بعباده وهو الغني عنهم :
(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴿٢٤﴾) .
من يرزقكم؟ الإنسان في لحظة صدق ومواجهة مع النفس دون شك سيقول الله ، (قل الله وإنا وإياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين) . واحدة من اثنين إما هدى ، وإما ضلال مبين ، وأنت أجب بنفسك . يضع القرآن الإنسان أمام الحق : من يرزقك ؟ من يرزقك الهواء الذي تتنفس ؟ من يرزقك الماء الذي تشرب ؟ من يعطيك أنفاس الحياة التي تدخل في رئتيك وتخرج ؟ من يعطيك نبضات القلب الذي ينبض في صدرك؟! (أإله مع الله)؟! .
(قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴿٢٥﴾) .
وهنا القرآن العظيم يدعو عباده المؤمنين به إلى التلطف مع المخالفين بالحوار والجدال ؛ فلعل ذاك التلطف والحكمة في الخطاب يسوقهم إلى الحق من جديد . تدبروا في الرحمة ، جدالك وحوارك مع الآخرين ، بمن فيهم هذا النبي صلى الله عليه وسلم في جداله لقريش والكفار والمعاندين ، جدال قائم على الرحمة ، وليس على إرادة العذاب وإيقاعه بهم . هذا الحوار قائم على الرحمة ، فهناك فرق بين أن يكون جدالك مع المخالف الذي يختلف معك قائما على الرحمة أو غيرها . أنت تشفق عليه و ترحمه في هذا الخلاف ، أنت تبصّره وتقدم له الحقائق إلى الدرجة التي تقول فيها : (قل لا تُسألون عما أجرمنا ولا نُسأل عما تعملون) ، فكل إنسان يُسأل عن عمله ، وحتى نحن نُسأل إن كنا قد أجرمنا كما تزعمون . ذلك لأنهم قالوا عن أصحاب الكتب وأتباع الأنبياء أنهم أجرموا ؛ لأنهم فرّقوا المجتمع ، وأوقعوا الناس ما بين مؤمن و كافر. والقرآن يقول لهم : (لا تُسألون عما أجرمنا ولا نُسأل عما تعملون) . أيّ أرضية للحوار مشتركة يريد القرآن أن يقيمها بين الناس ؟! والنتيجة :
(قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ ﴿٢٦﴾) .
نحن في الدنيا لا نفصّل ولا نحكم ، ولا نقول هذا كذا وهذا كذا ، وهذا سيدخل النار، وهذا سيذهب للجنة ، هذا ليس دأب الإنسان المؤمن ، ولا حتى دأب الأنبياء : (قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا) ، لكن يفتح بأيّ شيء ؟ (بالحق) … (وهو الفتاح العليم) إذاً ما المطلوب مني ؟ المطلوب أن أوصل الرسالة وأؤدي الأمانة وأبلغ الرسالة وليس شيئا آخر. تدبروا القرآن كيف يبصّر عباده ، في كيف يحاورون ، ويجادلون ، و يؤدون الأمانة إلى شعوب الأرض بالحكمة و التلطف اللذين يجعلان الإنسان المخالف المعارض مستمعا إليك . لأن الإنسان إذا تشنج ودخل في مرحلة الغضب نتيجة لطريقة حوارك معه التي يمكن أن تكون طريقة استفزازية ، لا يمكن أن يهتدي ويصل إلى طريق الحق . والقرآن يعلمنا أننا حين نحاور الآخرين ممن نختلف معهم ، ونقوم بإيصال الرسالة لهم ، لا ينبغي أن تكون أساليب الحوار معهم استفزازية تجعلهم ينفرون منك ويغضبون ويتشنجون ؛ لأنهم إذا استشاطوا غضبا وتشنجوا ، فلن يتمكنوا من رؤية الحق حقا ولا الباطل باطلا . دعه يهدأ و يفهم ، افتح أمامه نوافذ التفكر والتبصر، لا تدعله متشنجا ؛ فالإنسان عندما يتشنج لا يستطيع أن يدرك ويستوعب . هذا أدب من أعظم أساليب الحوار في القرآن . وهذا ينطبق حتى في حواراتنا الأسرية والزوجية ، فنصيحة لكل الآباء و المربّين و الأزواج و الزوجات ، إياكم أن تحاوروا ، وأنتم في حال التشنج والعصبية ، إياكم أن تحاوروا الشخص الذي أمامكم في تلك الحال ؛ لأن هذا كفيل بإفساد وسدّ كل أبواب ومنابع التفكر والتدبر.