تفريغ سمر الأرناؤوط لموقع إسلاميات حصريًا
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله حمد الشاكرين والصلاة والسلام على سيد المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
لا زلنا في تدبرنا لسورة المائدة، سورة العقود، سورة المواثيق، سورة نادى الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين أول ما نادى فقال (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) ومنذ بداية السورة ومنذ أول آية فيها القرآن العظيم يحدثنا عن طبيعة علاقة يدخل فيها الإنسان مع ربه في عقد، عقد الإيمان، ذلك العقد الذي سيفرض عليه قطعًا أشكالًا وأنواعًا من الالتزامات وقوفًا عند الأوامر تركًا للنواهي والمحارم، اتساقًا مع الكون ومع الطبيعة مع الزمان ومع المكان، يترك أشياء ما كان ليتركها لولا أن الله سبحانه وتعالى نهاه عنها، نهاه عن القيام بها بموجب ذلك العقد، عقد الإيمان الذي يحرّر الإنسان من الخضوع لأيّ منهج سوى منهج الله سبحانه، عقد الإيمان الذي بناء عليه أمر الله عباده المؤمنين بالوفاء بكل العقود بكل الالتزامات مهما كانت طبيعة وأشكال تلك الالتزامات أو تنوع العلاقات بينهم وبين أطراف تلك الالتزامات والعلاقات، الوفاء، الصدق مع الله سبحانه وتعالى الذي يقيم الإنسان على علاقة الإلتزام بالعقود والمواثيق. والله سبحانه وتعالى عرض لنا في سورة المائدة وجاء بنماذج عديدة لأمم، أفراد، شعوب، البعض منها قام بتلك المواثيق حق القيام والبعض منها لم يقم بها، القيام بالمواثيق أو عدم القيام بالمواثيق جاء في سياق عقد الإيمان، جاء في سياق الحديث عن أولئك المؤمنين حين يدخلون في واثيق وعقود مع الله سبحانه وتعالى توجب عليهم التزامات توجب عليهم خضوع لمنهج حياة منهج عبادة منهج في التعامل مع الأفراد والأشياء. والقرآن في عرضه في سورة المائدة لنماذج تلك الأقوام جاء بأول ما جاء في الكلام عن بنود ميثاق لم تخرج عنه أمة من الأمم ميثاق شامل شمل بني إسرائيل شمل الحديث عن النصارى شمل الحديث عن هذه الأمة التي نزل فيها القرآن وأمرت بتبليغه وإيصالخ للبشرية جمعتء. بنود الميثاق واضحة تمامًا، بنو الميثاق ليست بتلك البنود القاسية وليست تلك البنود التي تحدد حركة الإنسان وفق أشياء يعجز عن القيام بها، أبدًا، في حدود طاقته وفي حدود ما وهبه الله سبحانه وتعالى من إمكانيات، وبموجب تلك الإمكانيات والقيام بها يتحقق للعبد وللمجتمع معية الله عز وجلّ. يقول الله عز وجلّ (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآَتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآَمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ﴿١٢﴾) تدبروا منذ البداية تعهّد الله سبحانه وتعالى بقوله (وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ) مع كل الأمم وليس فقط مع بني إسرائيل إن قامت بمقتضيات ذلك العقد وقد يقول قائل ولكن الله مع حلقه مراقبة وجزاء وعدلًا وعطاء وأخذا ومنعًا، تلك المعية العامة الله سبحانه وتعالى مع عباده على نوعين:
المعية الأولى معية لكل الخلق المؤمن والكافر الذي يقوم بمقتصى لميثاق والعهد الذي لا يقوم به، معية بالعطاء فهو يعطي الجميع، يعطي الكافر ويعطي المؤمن، ينفع سبحانه وتعالى، يسبب لهم الأسباب ويرسل لهم الرسل وينزل عليهم الكتب، هذه معية عامة.
ولكن المعية الخاصة التي تعهد الله سبحانه وتعالى بها لعباده المؤمنين معية من نوع آخر معية التأييد معية التوفيق معية النصرة معية الفتح، معية الهداية معية الرزق معية الشعور بالأمن والإيمان، هذه المعية التي حدثنا القرآن عنها في آيات أخرى، تلك المعية التي استشعرها النبي صلى الله عليه وسلم حين قال لصاحبه في الغار (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) [التوبة: 40] معية التأييد، معية الشعور بأن الله سبحانه وتعالى مع الإنسان المؤمن الذي وفّى له بالعقد حتى ولو وقفت في وجهه كل جنود الأرض، تلك المعية التي لم يستشعر بها بنو إسرائيل كما سنرى بعد قليل، حين حرموا من القيام بذلك الميثاق والعقد، شعروا بالخوف وعدم الأمن والأمان لأنهم سُلبوا من معية الله الخاصة التي لا تكون إلا لعباده المؤمنين، إلا لعباده الواقفين عند بنود ذلك الميثاق، معية خاصة يستشعر بها المؤمن الذي يقوم بمقتضيات ذلك العقد، إقامة الصلاة، إيتاء الزكاة، إيمان بمناهج الرسل، تأييد لرسالاتهم، تأييد لقيمهم، لشرايعهم ولمبادئهم. وكيف يكون التأييد للرسل وتعزيرهم والنصرة والإيمان بمبادئهم إلا من خلال تطبيق تلك القيم التي جاؤوا بها إلا من خلال تنفيذ الشرائع، السير على المنهج الذي جاؤوا به في حياة الإنسان في حياة الأمم في حياة المجتمعات. ولكن على الرغم من محدودية تلك البنود ويُسرها إلى حد كبير فهي ليست بخارجة عن حدود البشر إلا أن بعض تلك الأقوام نقضوا المواثيق فحكى الله سبحانه وتعالى عن بني إسرائيل (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ) نقضوا الميثاق، تجاوزوا تلك البنود، لم يوفوا بتلك العهود ولا المواثيق ربما يكونوا فعلًا قد قاموا بالصلاة لكنهم لم يقيموها حقًا، لم يحققوا القيم التي جاءت في الصلاة لم يحققوا مقاصد الصلاة ولا غاياتها، ربما قاموا بأشكال العبادات لكنه في مواقع الأمر حولوا تلك العبادات إلى مجرد مظاهر لا تحقق القيم ولا المقاصد التي لأجلها شُرِعت ووضِعت، ربما قالوا ظاهرا أنهم ناصروا موسى عليه السلام أو أنهم معه ولكن القلوب لم تكن مع رسالة موسى عليه السلام، الجوارح لم تخضع لرسالته ولم تقم والميثاق الذي جاء به وجاءت به رسالته.
إذن قضية القيام بالميثاق ليست قضية شكلية ليست قضية صورية، القرآن يريد مجتمعات ويريد أفرادا تحقق بنود الميثاق في حياتها وفي واقعها وأما ما خالف ذلك يعتبر مناقضة للميثاق. واللافت للنظر أن القرآن في الآيتين تكلم عن بني إسرائيل وتكلم عن النصارى وجاء بعقوبات دنيوية، عقوبات يلمسها البشر في واقعهم في مجتمعاتهم حين ينقضوا الميثاق حين ينقضوا العهد فيما بينهم وبين الله سبحانه وتعالى قال (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ) عقوبات دنيوية ضرب الله سبحانه وتعالى بها تلك المجتمعات، طرد من رحمة الله عز وجلّ، وحين يُطرد المجتمع أو الفرد من رحمة الله عز وجلّ ماذا بقي له بعد ذلك؟ ماذا بقي للإنسان إن طرد من رحمة الله عز وجلّ؟ كيف يعيش؟ كيف يشعر بالسكينة؟ كيف يشعر براحة القلب؟ كيف يشعر بالاستقرار وقد طرد من رحمة خالقه؟! أين يعيش؟ أيّ سماء تظله وأيّ أرض تقلّه إن عاش بعيدًا عن رحمته سبحانه وتعالى وهو شاء أم أبى إنما يتقلب في رحمته سبحانه؟! ولكن هذا الجزاء، هذه العقوبة خاصة وهي تتلاءم تمامًا مع نقضه لعقود الميثاق، مع نقضه لبنود ذلك الميثاق الذي فرضه عليه الإيمان بخالقه سبحانه.
ثم تدبروا: ضربهم أيضًا بقسوة القلب فقال (وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً) وما ضرب العبد بعقوبة ولا ابتلي ببلاء أشد من قسوة القلب! القلب القاسي الذي يحدثنا القرآن عنه كثيرًا في العديد من سور القرآن كما في سورة البقرة وذكره القرآن بعد الحديث عن شكل من أشكال نقض بني إسرائيل للميثاق. بنو إسرائيل أمرهم الله عز وجلّ في سورة البقرة بالقيام بأمر ما في قضية ذبح البقرة وهو أمر من الله عز وجلّ تلكأوا فيها ما أرادوا أن يخضعوا للأمر الإلهي فضربهم الله بعقوبة قال عنها (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴿٧٤﴾ البقرة) القلب القاسي يصبح حين يتلكأ في الأمر الإلهي ويتجاوز الأمر الإلهي أشد قسوة من الحجارة لأن الحجارة لو وجدت فيها وسائل الإدراك لخضعت لخالقها الذي خلق والذي هو أولى بالاتباع وأولى بالخضوع لمنهجه في واقع الحياة ولكن الإنسان الذي لا يخضع في منهجه وفي حياته لأمر الله سبحانه ولا يقف عند مناهيه ولا يسير وفق المنهج ولا وفق العقد ولا وفق الميثاق الذي واثق به خالقه سبحانه يصبح أشد قسورة من تلك الحجارة. وقضية القلب القاسي لماذا يعطيها القرآن العظيم هذا الحيّز الكبير؟ القلب هو محل الانفعال بآيات الكتاب، كل الكتب، الكتب السماوية التي أنزل الله على عباده، أنزل على بني إسرائيل التوراة وعلى النصارى الإنجيل وعلى هذه الأمة وكل الأمم هذا القرآن العظيم، إذا قسى القلب ما عاد محلًا صالحًا لاستقبال آيات الكتاب، لآيات الكتاب تنزل عليه لكنه لا ينتفع بها، لا يتأثر بها، لا تتحرك مشاعره ولا عواطفه لتلك المواعظ الواردة في كتاب الله، كل الكتب. فإذا جمدت تلك المشاعر وتوقفت تلك الأحاسيس عن الانفعال بآيات الكتاب ما عادت الآيات تؤثر بها، عاد يحرّف ويتعامل مع تلك الآيات بمنهج منحرف يأخذ منها ما يتماشى مع مصالحه ويترك منها ويهجر ما لا يتوافق مع أهواء نفسه ولذلك تكلمت سورة المائدة عن الأهواء كثيرًا وتكلمت عن نسيان الحظ من آيات الكتاب كثيرا سواء مع بني إسرائيل أو مع النصارى أو مع الأمة في سياق التحذير من المنهج المنحرف في التعامل مع كتاب الله سبحانه وتعالى، قسوة القلب عقوبة خطيرة جدًا ولذلك إذا وجد الإنسان في نفسه قسوة وما وجد في نفسه انفعالًا مع آيات الكتاب ولا تأثرا بها عليه أن يراجع القلب عليه أن يعود إلى قلبه لأن الأصل في آيات الكتاب أن ينزل على القلب فيتأثر وينفعل به القلب تتغير به المشاعر تتألم تتأثر تنفعل فإذا بذلك الانفعال يتحول إلى خضوع، إلى خنوع إلى استكانة لمنهج الله سبحانه وتعالى في الواقع خضوعًا لأوامر الله سبحانه وتعالى لا يستطيع العبد معه إلا أن يقول سمعنا أطعنا ولكن بني إسرائيل ما قالوا سمعنا وأطعنا وإنما قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم، قالوا سمعنا وعصينا لأن تلك الآيات لما نزلت على القلوب القاسية لم تحرك فيها دواعي الإيمان لم تحرك فيها دواعي الطاعة والاستجابة والانفعال والخضوع لله سبحانه وتعالى والأصل في آيات الكتب أن تنزل على قلوب المؤمنين بها فتحرك فيهم بواعث الإستجابة للأوامر، بواعث الانتهاء عما حرّم الله سبحانه وتعالى قست القلوب! إشكالية خطيرة جدًا ولذلك نحن في تعاملنا مع الكتاب العظيم مع القرآن علينا دومًا أن نتفقد القلوب، نتفقد قلوبنا القلوب بحاجة إلى تفقد بحاجة إلى مراجعة بحاجة إلى عرض على آيات الكتاب، عالج قلبك بالعرض على آيات القرآن العظيم، استمع للقرآن فإذا وجدت ذلك الانفعال، انفعال عاطفي ولكن لا بد لذلك الانفعال العاطفي أن يولد فيك استجابة فإذا ما تولدت فيك الاستجابة ولا صحّ التأثر بآيات الكتاب ولا التحرك أثناء الاستماع والقرآءة لهذه الآيات العظيمة اعلم أنه هناك إشكالية خطيرة في ذلك القلب. والقرآن العظيم في سورة المائدة يطلعنا على بعض أمراض القلوب تلك الأمراض التي تحول بيننا وبين وصول آيات الكتاب إلينا إلى القلوب لتحرك فيها دواعي الاستجابة. النتيجة كانت في بني إسرائيل، حدثت في واقعهم تحريفا لكلام الله عن مواضعه سواء كان تحريفًا حسيًا (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ﴿٧٩﴾ البقرة) (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ) هذه صورة من صور التحريف الحسي أو تحريف معنوي الكتاب يقول له شيء وهو يفعل في واقعه شيئًا آخر كما ستأتي عليه الآيات في سورة المائدة. الآيات تعرض نماذج لتلك المخالفات البشعة التي وقعت في بني إسرائيل، تحريف للكلم عن مواضعه ما كان يحدث لولا أن قلوب القوم قد قست، تجمّدت، تصلّبت، ما عادت آيات الكتاب تؤثر فيها! قضية في غاية الخطورة وعظيمة جدًا لأنها عقوبة عظيمة تتناسب مع ذلك الجُرم الذي وقع في بني إسرائيل جرم نقض الميثاق وتجاوز العقد الإيماني الذي يحدد علاقة الإنسان بربه. نتج عنه شيء طبيعي خيانة مع الناس، خانوا الله سبحانه وتعالى وخانوا رسوله ويخونون كل البشر لأن العبد الذي لا يعرف قيمة الوفاء مع خالقه في العقد الذي بينه وبين خالقه أنّى له أن يعرف الوفاء مع الخلق، مع الرسل، مع الأنبياء؟! خيانة بني إسرائيل كانت خيانة واضحة مع الأنبياء والرسل، قتلوا من قتلوا من الأنبياء، سفكوا الدماء لأن القلب الذي يستسيغ خيانة خالقه ما عاد يعرف حقًا لأحد من خلقه!
ثم تمر الآيات بعرض نموذج آخر لا يقل بشاعة عن ذلك النموذج الأول، النصارى (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴿١٤﴾) بمجرد الدخول في قضية الإيمان هنا يؤخذ الميثاق أخذ منهم الميثاق حين قال عيسى عليه السلام (قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آَمَنَّا بِاللَّهِ) [آل عمران: 52] لكن النصرة والإيمان ونصرة الأنبياء ليست مجرد ادعاء وإنما تنفيذ في الواقع، حفاظ على آيات الكتاب، نصرة لقيمه ومبادئه، وقوف عند أوامره، عدم تجاوز لنواهيه، ولكن هؤلاء القوم نسوا حظًا مما ذكروا به فكانت النتيجة والعقوبة (فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) ضرب، عقوبة شديدة وبعض المفسرين له وقفة جميلة: أغرينا من الغِراء أي ألصقنا بهم العداوة والبغضاء، البغضاء شعور بالكراهية الشديدة أما العداوة فهو ذلك الشعور بالكره الذي يتعدى حدود الكره، لا يقف عند القلب، يتجاوزه ليظهر على الجوارح اعتداءً وظلمًا ونهبًا وسلبًا وأخذًا لحقوق الناس وأموالهم وأعراضهم ونفوسهم.
الحادث بين كل فرق النصارى عبر تاريخها الطويل حروب طاحنة، دماء شحناء، بغضاء، كراهية، عقوبة تتناسب مع جريمة نقض الميثاق مع جريمة عدم النصرة لذلك النبي عيسى عليه السلام على الرغم من التناقض الشديد بدعوى محبته والغلو في محبته وطاعته.
والقرآن في سورة المائدة بعد هذه الآية سيعرض التناقض الواقع في حياة النصارى الذين كانوا يدّعون أنهم يحبون عيسى عليه السلام ولكن حب عيسى عليه السلام لا يعني إلا الالتزام برسالته وتنفيذ منهجه والأخذ بما جاء في ذلك العقد بينهم وبين الله سبحانه وتعالى. كيف الخلاص؟ كيف السبيل لتلك المجتمعات التي نقضت العهد مع خالقها؟ كيف يمكن أن تتخلص من كل تلك العقوبات؟ طرد من رحمة الله، قسوة في القلوب، تحريف للمناهج، عداوة وبغضاء وكلها أمور نحن نشهدها في عالمنا المعاصر البشرية أصبحت تئن تعاني من هذه الأمراض، تعاني من هذه العقوبات، تعاني من منسوب الكراهية والعداوة والبغضاء الشديد، ذلك المنسوب الذي فاق كل التوقعات التي عرفتها البشرية نتيجة طبيعية جدًا لنقض العقود، هذه عقوبات دنيوية ليست عقوبات أخروية، القرآن يحذرنا منها وتدبروا ولا زلنا في بدايات سورة المائدة والسورة تحذّرنا من نقض المواثيق من نقض العقود ولا سبيل للخلاص من تلك العقوبات إلا باتباع هذا المنهج العظيم الذي جاء في كتاب الله. تدبروا (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ) القرآن في آياته يخاطب أهل الكتاب، القرآن رسالة عالمية خاطب الله سبحانه وتعالى بها البشرية كل البشرية لم يفرق بين قوم موسى وقوم عيسى، لم يفرّق بين السابق واللاحق لأنها هي الرسالة التي ختم الله بها كل الرسالات السماوية وتدبروا وتذكروا سورة المائدة من أواخر ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم أواخر الوصايا التي وصى الله البشرية بها (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) الرسول جاء منا، الرسول لا ينتمي إلى عرق ولا قوم، القضية ليست قضية قومية وليست قضية عرقية كما نظر إليها بنو إسرائيل، الرسالات والرسل والكتب والأنبياء ما جاؤوا لأجل أن يؤججوا أسس الصراعات بين البشر، أبدًا، جاؤوا بعوامل الجمع لا التفرقة، جاؤوا بعوامل المحبة وإرساء المحبة لا العداوة والبغضاء، والدعوة العرقية والدعوة العنصرية لا يمكن أن تؤدي إلا إلى البغضاء وإثارة العداوات بين البشر. كيف الخلاص منها؟ قال تعالى (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ) القرآن هو المخلّص لكل ما تعاني منه البشرية اليوم يخلّصكم من العدواة، من البغضاء التي ضُربت بها البشرية وضُرب بها الأقوام حين نقضوا المواثيق.
وتأملوا كيف وصف الله سبحانه وتعالى كتابه الكريم (نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ) لا يحتاج إلى بيان (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ) هذه ثمرات لاتباع المنهج للسير وفق منهج القرآن والوفاء بعقوده والتزاماته في واقع الحياة، سبل السلام، السلام ذلك الحلم الذي بات يراود البشرية يوما بعد يوم وأصبح أقرب ما يكون إلى الخيال منه إلى الواقع، البشرية باتت اليوم تحلم بشيء اسمه السلام! والقرآن يحدثنا عن السلام فيقول (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ) لا يهدي به البشر، يهدي به الله، الهداية من الله هداية حقيقية تتحقق حين يتعهد الله سبحانه وتعالى ويقول (وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ) متى؟ حين يتّبع البشر هذا الكتاب العظيم يهدي به الله. وتدبروا (مَنِ اتَّبَعَ) إذن هو الاتباع هو الخضوع للمنهج هو السير وفق ما جاء في هذا الكتاب العظيم، سبل السلام، ثمرات دنيوية، تريد السلام؟ لا يمكن أن يتحقق السلام لا داخليًا ولا خارجيًا ولا عالميًا إلا حين يعود البشر إلى منهج خالقهم، إلا حين يثوبوا إلى رشدهم باتباع هذا المنهج العظيم. (وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ) قال يُخرجهم، الإنسان لا يخرج بنفسه ولكن الرب سبحانه وتعالى هو الذي يُخرجه وكيف يُخرجه؟ يخرجه حين يلتزم ببنود ذلك العقد والميثاق يخرجه هو من الظمات إلى النور وجاء بالظلمات جمعًا كعادة القرآن في حديثه عن الظلمات: ظلمات الجهل، ظلمات العداوة، ظلمات البغضاء، ظلمات التفرق، ظلمات القسوة، ظلمات الانحراف عن المنهج البشرية عرفت في تاريخها وتعرف في واقعها صنوفًا متنوعة من الظلمات لا صنفًا واحدا، البشرية أصبحت تتخبط في دياجير الظلمات على الرغم من كل أشكال الإضاءة التي أهدتها التكنولوجيا الحديثة للبشرية، كل أشكال الإضاءة لم تخلّص البشرية من دياجير الظلمات التي أصبحت اليوم تتخبط فيها، ظلمات الفقر، ظلمات المعاناة، ظلمات التهجير، ظلمات البؤس، ظلمات الشقاء، هذه الظلمات عقوبات طبيعية جدًا تتناسب مع تلك الجريمة، خالق خلقنا وأعطانا ورزقنا ووهبنا ثم بعد ذلك أعطانا ما تصلح به الحياة وتستقيم به المعيشة ولكننا تنكصنا وما أردنا أن نسير وفق ذلك المنهج الذي أعطى، تخبطنا في دياجير الظلمات، اتبعنا منهجا من هنا ومنهجا من هناكّ من الذي يُخرجنا؟ (وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ) النور واحد نور القرآن نور الإيمان نور العقد الذي تدخل به مع الله سبحانه وتعالى حياة جديدة حياة تشعرك بذلك النور حياة النور الحقيقي النور الذي يبعدك عن التخبط يبعدك عن الشقاء يبعدك عن كل أشكال العقوبات المختلفة التي جاءت نتيجة لنقض ذلك الميثاق.
ثم بدأت الآيات بإعطاء النموذج الحقيقي لنقض الميثاق (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) كفروا، نقضوا الميثاق، رسالة المسيح عليه السلام جاءت بالتوحيد وما جاءت إلا بالتوحيد والمخالفة لهذا المنهج ونقض الميثاق يكون بالكفر برسالته، الكفر بالتوحيد. ثم تدبروا كيف يخاطب القرآن العظيم هؤلاء الأقوام (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) لافت للنظر جدًا أن سورة المائدة من أكثر سور القرآن التي ذكرت فيها هذه الآية (ولله ملك السموات والأرض) الملك المالك الحقيقي فقط هو الذي يملك حق التشريع، هو الذي يملك حق فرض شروط الميثاق لأنه مالك متصرف في ملكه فالله سبحانه وتعالى له ملك السموت والأرض وما بينهما فلمن ولأجل من يمكن أن يكون الخضوع في المنهج والخضوع لأوامر ذلك المنهج في واقع الحياة؟ لمن؟!؟ للمسيح عليه السلام؟ والمسيح إن هو إلا عبد من عباد الله اصطفاه لرسالته فكيف يكون الخضوع والتنكص عن ذلك المنهج وادعاء الألوهية للمسيح عليه السلام من دون الله سبحانه وتعالى؟!
وانتقلت الآيات لعرض نموذج آخر من التخبط نموذج من الانحراف عن ذلك الميثق العظيم، العقد بين الإنسان وربّه (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) قولًا باللسان والإيمان لا يمكن أن يكون قولا باللسان، محبة الله سبحانه وتعالى والدخول مه في علاقة المحبة لا تكون بالقول وإنما تكون بالاتّباع، تكون بتنفيذ العقد، تكون بالمحافظة على كل البنود التي جاءت في كل تلك العقود، تدبروا الربط بين أول آية في السورة (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) والقرآن في سورة المائدة سبحدثنا عن المودّة وسيحدثنا عن محبة الله عز وجلّ المحبة الحقيقية المحبة التي تتولد على قدر ما تكون الاستجابة لذلك العقد والوفاء به وببنوده. (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) ادّعاء! والمحبة ليست ادّعاء وتدبروا (قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ) القرآن يحدثنا عن عذاب دنيوي هنا، لم عذّبكم وضربكم يا بني إسرائيل بقسوة القلب؟ لم عذّبكم بالانحراف عن منهجه وتحريف الكلم عن مواضعه؟ لم عذبكم بالعداوة والبغضاء فيما بينكم؟! لم عذبكم بالتخبط؟ لم جعلكم تعانون كل هذه المعاناة الواضحة في واقع مجتمعاتكم؟ لم؟ المحبة لا يمكن أن يترتب عليها عذاب، إذا أحب الله سبحانه وتعالى عبدًا فتح له من أبواب الرحمة ما لا يعلمه إلا الله أعطاه السلام أعطاه الأمان، أعطاه الرحمة أعطاه الاستقرار ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال لصاحبه في الغار وقد جمعت له قريش الجموع قال له (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) تلك المعية التي لا يمكن أبدًا أن يأتي معها الحزن الذي يذهب بلُبّ المسلم وعقله وقلبه، معية حقيقية ليست ادعاء، محبة حقيقية تولد عند المؤمن الشعور بالراحة والاستقرار الشعور الأمن الذي لا يتولد إلا من خلال القيام بالمنهج والعقد. وتدبروا في نهاية الآية وكما ذكرنا سورة المائدة من أكثر سور القرآن التي ذكر فيها قول الله عز وجلّ (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) لمن يكون الخضوع للمنهج؟ للواحد الملك أم للعبيد؟! لمن؟!
تدبروا (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿١٩﴾) القرآن يخاطب بآياته أهل الكتب ويخاطبنا نحن كذلك الذين ينبغي لأن ندرك أن شيئا من الوفاء بالعقد بيننا وبين الله سبحانه وتعالى ينحصر في إيصال رسالة القرآن لأهل الكتاب ولغير أهل الكتاب. ثم جاءنا بنموذج يوضح لنا أكثر عمليًا نقض الميثاق الذي وقع في بني إسرائيل في سياق التحذير من أشكال نقض الميثاق لأن نقض الميثاق والعقود لا يتخذ شكلًا واحدًا وإنما يتخذ أشكالًا متعددة، يمكن الإنسان يحافظ على الصلاة ولكنه لا يؤتي الزكاة، ويمكن أن يؤتي الزكاة ويصوم رمضان ولكنه لا يحافظ على الصلاة، نقض الميثاق له أشكال متنوعة متعددة فالقرآن عرض هنا نموذج من نماذج نقض الميثاق، أمر إلهي أمر الله سبحانه وتعالى بني إسرائيل على لسان موسى (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ) ذكّرهم بالنعمة، النبوة نعمة، وجود المنهج في حياة الإنسان نعمة وهي أعظم نعمة تبعده عن التخبط تبعده عن الحيرة تجعل منه إنسانًا يمشي في الحياة على بصيرة على نور لأن الظلمات عقوبة خطيرة جدًا والله سبحانه وتعالى أنعم على عباده المؤمنين بهذا المنهج، أمرهم بأمر ذكّرهم بالنعمة وبناء على تلك النعمة أمرهم بالالتزام بأمر إلهي فقال (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ﴿٢١﴾) أمر: ادخلوا الأرض المقدسة. العقد الإيماني التزام. أمرهم بدخول الأرض المقدسة فماذا كانت النتيجة؟ فكيف وقفوا من هذا الأمر الإلهي؟ (قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا) تدبروا طريقة بين إسرائيل المنحرفة في التعامل مع آيات الكتاب، مع العقد، لم ينظروا إلى الأمر الإلهي ولم يقيموا الأمر الإلهي في نفوسهم، نظروا إلى (إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ) علمًا بأن الله سبحانه وتعالى منذ بداية الآيات تعهّد لهم بأن يكون معهم (إني معكم) فما قيمة أن يكون في تلك الأرض المقدسة قومًا جبارين؟! ما قيمة كل البشر ووجود كل أمم الأرض في الأرض المقدسة إذا كان الله سبحانه وتعالى معكم؟! ولكن اللافت للنظر أن بني إسرائيل لم يستشعروا تلك المعيّة لم يدركوا حُرموا من ذلك الإحساس العظيم الذي أعطيه النبي صلى الله عليه وسلم حين قال لصاحبه (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) ما شعر به بنو إسرائيل لأنهم نقضوا الميثاق، الشعور بمعية الله سبحانه وتعالى وبتأييده ونصرته وتوفيقه لا يكون إلا لذلك القلب المؤمن الذي صان عقد الإيمان في قلبه أولًا. شعور عظيم شعور يجعل من المؤمن ويخلق في نفس المؤمن قدرة عجيبة لا يمكن أن تقف أمامها ولا كل قوى الأرض، حُرم منها بنو إسرائيل. صحيح أن الكلام عن بني إسرائيل عن قصة حقيقية حدثت في الواقع ولكن الكلام لكل أمم الأرض لكل البشر لكل من ينقص عقد الإيمان مع الله سبحانه وتعالى ماذا يضرك إذا كان الله سبحانه وتعالى معك؟ ما الذي يضره وما الذي ينقصه إذا كان الله سبحانه وتعالى معه؟ وتدبروا فالفارق بين الإنسان والأمة التي تستشعر معية الله سبحانه وتعالى المعية الخاصة معية التأييد والتوفيق لأنها مدركة وواعية أنها قامت بما أمر الله سبحانه وتعالى به في حياتها فاطمأنت لمعيته شعرت أن الله معها وهذا شعور يولد الثبات في نفس الفرد أو في نفس المجتمع والأمة. وتأملوا في تلك الواقعة التي جاء ذكرها في سورة البقرة في قضية مشابهة (فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي) [البقرة: 249] إلى أن جاءت الآيات التي تحكي عن أولئك الذين استشعروا معية الله سبحانه وتعالى تولدت لديهم من خلال التزامهم بأوامره (قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) أدركوا معية الله سبحانه وتعالى، المعية التي لا تكون إلا لعباده الذين امتثلوا لأمره، الوفاء بالميثاق القيام بالعقد يولد ذلك الشعور بالمعية. بنو إسرائيل لأنهم يدركون في قرارة أنفسهم في الواقع وفي الحقيقة أنهم نقضوا الميثاق ما وفّوا لله تعالى بالعقد هم يدركون ذلك حقًا، يدركون أن الإيمان ليس ادعاء يدركون أنهم نقضوا الميثاق، ما استشعروا تلك المعية، خافوا من القوم الجبارين في الأرض المقدسة، العبد إذا آمن بالله سبحانه وتعالى أمّنه الله عز وجلّ من كل شيء وإذا ما آمن به سبحانه وتعالى شعر بالخوف من كل شيء ألقى الله في قلبه الخوف من كل شيء، معادلة بسيطة جدا يدركها الإنسان حين يؤمن بالله سبحانه وتعالى بنو إسرائيل حرموا من ذلك الإحساس حرموا من الشعور بمعية الله (قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا) خافوا من البشر مثلهم على الرغم من أن الله تعهد بأن يكون معهم ولكنهم ما شعروا بتلك المعية لأنهم لم يوفوا بالعهد والميثاق (فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ). وتدبروا في وصول الإنسان إلى مرحلة التكبر والجحود (وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا): الاشتراط على الله سبحانه وتعالى! أنت حين توفي بالعقد مع الله سبحانه وتعالى إنما توفي به لنفسك، المستفيد الحقيقي هو البشر الفرد المجتمع الأمة أما الله سبحانه وتعالى لا يغني عنه إيمان البشر ولا وفائهم بالعقد ولا نقضهم ولا عدم نقضهم.
في المقابل يعرض القرآن أنموذجًا آخر أنموذج أدرك الحقيقة التي غابت عن عقول بني إسرائيل (قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا) أنعم عليهم بالإيمان أنعم عليهم بالوفاء بالعقد استشعروا تلك المعية معية التأييد والنصرة، الإنسان المؤمن هو الذي يغدق الله عز وجلّ عليه هذه النعمة العظيمة. (ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ) بمجرد الدخول حصلت قضية الغلبة والنصرة وتحقق النصر لأن المسألة لا تتعلق بالعدو الذي أنت تواجهه وإنما المسألة تتعلق بالإنسان في ذاته، في خضوعه لأمر الله سبحانه وتعالى (فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ) إذا امتثلتم لأمر الله سبحانه وتعالى تحقق لكم النصر. النصر يتحقق للإمسان في داخله، النصر يتحقق حين يقول الإنسان سمعنا وأطعنا، لا يتحقق في الخارج، المسألة ليست انتصارا في الخارج، العدو الحقيقي إنما هو في الداخل فإذا انتصر الإنسان على هواه وعلى خوفه من البشر، إذا انتصر فعلًا في الداخل وقام ببنود العقد والعقد مع الله سبحانه وتعالى تحقق النصر. وتدبروا (وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) الإيمان والوفاء بالإيمان يولد عند الإنسان الشعور بالطمأنينة والتوكل على الله ولكن إذا لم يقم بحق الإيمان والعقد به ما تحقق التوكل وما تحققت المعية وشيء طبيعي أن لا تتحقق ذلك الشعور بالثبات والإيمان والاستقرار.
ومع ذلك أصرّ بنو إسرائيل على موقفهم ولم يلتفتوا إلى ذلك المنزع الحقيقي في الإيمان ولا إلى الشعور بالتوكل (قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا) تدبروا في كيفية الإصرار والعناد على الكفر ونقض المواثيق (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) أيّ إيمان هذا؟! أيّ إيمان؟ أيّ نقض لذلك العقد وقع في بني إسرائيل؟! الإيمان الذي لا يحرك في قلوب أصحابه حركة وامتثالًا واستجابة لأمر الله هذا ليس بإيمان، الإيمان الذي يولد في نفس صاحبه القعود والخوف والجبن والكسل والرجوع عن تنفيذ أمر الله سبحانه وتعالى هذا ليس بإيمان، هذا ادعاء! ما قيمة أن يقول الإنسان وقد قالها بنو إسرائيل (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) المحبة التي لا تولد في نفس الإنسان استجابة لأمر الله في الواقع أيّ نوع من المحبة هذه؟! هذه ليست محبة (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ)! تدبروا كيفية نقض الميثاق! الإيمان الحقيقي، الوفاء بالعقد الحقيقي للإيمان هو ذلك الوفاء الذي يدفع بالمؤمن إلى الاستجابة والطاعة.
موسى عليه السلام قال (قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ﴿٢٥﴾) أصبحوا فاسقين، فسقوا حتى لو قالوا عشرات المرات نؤمن بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم لا قيمة لذلك الإيمان، فسقوا خرجوا عن أمر الله وطاعته نقضوا الميثاق فكانت العقوبة (قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ﴿٢٦﴾) تدبروا نموذج لنقض الميثاق، نموذج حقيقي واقعي، القرآن يريد منا من خلال ذلك المنهج ومن تلك الواقعة والقصة في بني إسرائيل أن يقدم لنا معنى الطاعة والخضوع للميثاق في الواقع والحياة، الاستجابة، الإيمان الذي يحرك صاحبه ويعطيه الدافعية للقيام بأوامر الله سبحانه وتعالى وتنفيذها في الواقع وعدم الخوف من أيّ شي ومن أيّ أحد إلا من الله سبحانه وتعالى هو الإيمان المطلوب، هو الوفاء الذي جاءت به سورة المائدة العظيمة.