تدبر سورة الأعراف: الحلقة الأولى
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ونبدأ بحول الله وقوته بتدبرنا لسورة الأعراف، هذه السورة التي جاءت في ترتيب المصحف بعد سورة الأنعام ولكننا إذا رجعنا إلى تاريخ نزولها وهي سورة مكية إلا بعض الآيات التي نزلت في المدينة وسنأتي عليها في وضعها بإذن الله تعالى. هذه السورة في تاريخ نزولها نزلت بعد سورة الأنعام نزلت بعد سورة ص، الفارق الزمني بين نزولها وبين نزول سورة الأنعام فارق واضح ورغم هذا نجد في المصحف أنها تأتي بعد سورة الأنعام. وسورة الأنعام حين تدبرنا فيها قلنا أنها عالجت قضية الاعتقاد بالله سبحانه وتعالى قضية الإيمان الذي لا بد له أن يُجدد في نفس المؤمن مرة بعد مرة، يومًأ بعد يوم، الإيمان الذي يشكل الدافع الحقيقي وراء عمل الإنسان، ورا حركة الإنسان في واقع الحياة، ورا تصرفاته، أخلاقه سلوكياته، ما يقول، ما يفعل، ما يترك، ما يأتي، هذا النوع من أنواع الإيمان الذي ركزت الأسس التي قامت عليها سورة الأنعام جاءت سورة الأعراف لتقدم نماذج لذلك الإنسان الذي يتحرك وفق دوافع الإيمان يتحرك في الأرض عطاء ومنعًا خيرًا وإعمارًا وإصلاحًا، نهيًا عن الفساد والمنكر، تحقيقًا للخير والمعروف ودعوة إليه. هذا الإيمان الذي جاء أيضًا في سورة الأعراف جاءت قضية معالجة هذا الموضوع الأساس والذي يشكل قضية أساسية في القرآن المكي بل وحتى في المدني قضية الإيمان قضية حاضرة، من أعظم مقاصد القرآن العظيم الإيمان، الدافع وراء العمل الصالح. سورة الأنعام انتهت بقوله عز وجلّ (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿١٦٥﴾ الأنعام) وذكرنا حين تدبرنا في سورة الأنعام أن الآية الأخيرة من سورة الأنعام جاءت بتعيين، بتحديد مهمة الإنسان على هذه الأرض (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ) هذا التفاوت في الرزق، في المواهب، في الصحة، في الأعمال، في العمر، هذا التفاوت له غاية، له حكمة، حكمة الابتلاء والاختبار والامتحان كيف يستطيع كل واحد منا وفق ما آتاه الله عز وجلّ وحقق له من إمكانيات ومواهب أن يوظفها في مهمته وإنجاز عمله على هذه الأرض مهمة الخلافة التي أوضحتها منذ بدايات السور في كتاب الله عز وجلّ سورة البقرة (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة: 30]. فالله سبحانه وتعالى حدّد في هذه الآية في سورة الأنعام أن مهمة الإنسان إذا اتضحت له معالم الإيمان وتجددت في نفسه تلك المعالم أن يقوم بالخلافة، أن يعمّر، أن يسير في الأرض وهو مدرك تمامًا ومستوعب لطبيعة المهمة التي عيّنه الله عز وجلّ في إنجازها وإتمامها. والذي يلفت النظر أن سورة الأعراف بدأت بالحديث عن المنهج – كما سنأتي عليه – رغم أنها نزلت قبل سورة الأنعام ونحن ذكرنا في أكثر من موضع أن من أعظم قواعد التدبر أن يدرك المتدبر ويبحث عن ذاك التناسق العجيب والتناسب المعجز بين آيات وسور القرآن العظيم رغم اختلاف الفارق الزمني في قضية النزول وفي ترتيب المصحف كما أوقفه النبي صلى الله عليه وسلم. تدبروا في أوائل سورة الأعراف وسورة الأعراف من طوال السور المكية، بل هي من طوال السور زادت آياتها على المئتي آية. ربي عز وجلّ يقول في بداية السورة (المص ﴿١﴾) الحروف المقطعة التي ذكرنا أن الله عز وجلّ جاء بها في سور عديدة وخاصة تلك السور التي بدأت بالحديث عن القرآن، صحيح أن المفسرين اختلفوا في تفسير معاني هذه الحروف المقطعة، البعض منهم قال أنها مما استأثر الله بعلمه والبعض منهم قال أنها نوع من أنواع الإعجاز لأولئك المخاطبين بهذا القرآن العظيم وخاصة أمة العرب التي نزل عليها القرآن أول ما نزل. أن هذه الحروف التي يتألف منها هذا الكتاب العظيم هي الحروف التي تعرفون (المص ﴿١﴾) ولكن على الرغم من أنكم تعرفون الحروف ولكن الإعجاز في كلماته وبيانه وجمله وآياته وفي كل تراكيبه وفي كل أخباره وفي كل القصص التي جاء بها، إعجاز!! ثم تدبروا الآية الأولى بعد هذه الحروف المقطعة (كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴿٢﴾ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) الآية الأولى (كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ) المخاطَب به النبي صلى الله عليه وسلم والآية التي بعدها (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) الأمة التي نزل عليها القرآن. إذن هو أنزل إلى البشرية، إلى العالمين، وجه التناسب بين آخر آية في سورة الأنعام وأوائل سورة الأعراف أن في سورة الأنعام قال (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ) عيّنك في هذا المنصب ولأجل ونحن قد درجنا على قضية ضرب الأمثال لنقترب من المعنى وهذا شيء جيد يحتاج إليه الإنسان كي يستطيع أن يفهم كيف يمكن أن يقرأ هذا القرآن العظيم في حياته وواقعه. ربي سبحانه وتعالى عيّن الإنسان بهذه الوظيفة لا يمكن أن يتركه بدون منهج. نحن اعتدنا في حياتنا اليومية أي إنسان يوظف في وظيفة حتى ولو كانت بسيطة أو متواضعة يعطى جملة من التعليمات: افعل، لا تفعل، هذه الحقوق لك، هذه ليست لك، طريقة أخذ الإجازات، كل هذه التفاصيل، – ولله المثل الأعلى – نحن عيّنا بهذه المهمة كان لا بد من المنهج فجاء التناسب بين سورتي الأنعام والأعراف، الأول والآخر رغم الفارق الذي تكلمنا عنه. (كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ) هذا أول وجه من أوجه التناسب التي تبين لنا ونحن في بداية رحلتنا مع سورة الأعراف أن هذا القرآن العظيم هو فعلًا كتاب منهج كتاب يعلمني كيف أعيش، كتاب يعلمني كيف أتكلم، كيف أتصرف كيف أنجز المهمة التي لأجلها خُلقت ليس كفرد فقط وإنما كفرد ضمن مجموعة سنأتي على الايات بعد ذلك مباشرة في سورة الأعراف وهي تتكلم عن الإنسان الذي يعيش ضمن مجتمعات مختلفة فيحدث فيها التغيير الذي أراد الله سبحانه وتعالى لهذا الإنسان الصالح المصلح أن يحدثه في الأرض. وتعودنا كذلك ونحن نتكلم عن تدبر السور البحث عن مقاصد السور وقلنا أن كل سورة من سور القرآن لها مقصد عام ومقاصد بعد ذلك تأتي على التفصيل تخدم هذا المقصد العام. اختلف المفسرون والعلماء في تحديد مقصد سورة الأعراف اهتموا به كثيرًا، عدد كبير من المفسرين ذهبوا إلى أنها تتحدث عن الصراع بين الحق والباطل وأرى والله أعلم أن سورة الأعراف تتحدث عن رحلة الإنسان الخليفة منذ البداية، بداية خلق آدم عليه السلام وإلى النهايات، رحلة ابتدأت بالحياة على هذه الأرض وحتى قبل أن تكون على الأرض ثم بعد ذلك حتى في تحديد مصير هذا الإنسان الخليفة بناء على ما قام به من أعمال بناء على ما أنجز من مهام على هذه الأرض تحدثت عن مصائر أمم وشعوب. سورة الأعراف من أطول السور التي تكلمت بالتفصيل عن قصص الأنبياء تكلمت بالتفصيل عن أشياء دقيقة ووقائع في يوم القيامة في يوم المحشر تكلمت عن العرض، عن الأعمال، عن الموازين، عن الجزاء، عن المحاورات بين أهل الجنة وأهل النار، تكلمت عن الأعراف وعن اصحاب الأعراف الذين بهم سميت هذه السورة سورة الأعراف، هذا مقصد عظيم: رحلة الإنسان الخليفة على هذه الأرض. وفي جملة وفي ثنايا تلك الرحلة قد يأتي الكلام عن قضية الصراع أو المواجهة أو ما شباه ولكن في الحقيقة أن رحلة هذا الإنسان هي رحلة لا يمكن أبدًا أن يُدرك تفاصيل هذه الرحلة بدون أن يعلم طبيعة المهمة التي لأجلها أوجد الله سبحانه وتعالى الخلق وهذا الكون من حولنا.تدبر سورة الأعراف – 1 – د. رقية العلواني