تدبر سورة البقرة – 2- د. رقية العلواني
تفريغ سمر الأرناؤوط لموقع إسلاميات حصريًا
من أعظم عطاءات التوحيد أنه يحرر الإنسان من أسر الشهوات المادية يحرره من الوقوع في سلطان النزوات والشهوات من مال من جاه من ركض وراء طعام أو شراب، التوحيد يحرر الإنسان من هذا كله. ولكن الإشكالية التي وقع فيها بنو إسرائيل من مواقفهم التي ذكرتها سورة البقرة أنهم ما استطاعوا أن يتخلصوا من الأسر، من العبودية، نفسية العبيد كانت ملازمة لهم على الرغم أنهم تحرروا من فرعون هم كانوا عبيدًا لدى فرعون ولكن الحرية لا تكون فقط بكسر القيود المادية. أعظم أنواع الحرية التي صنعها التوحيد في نفوس أتباعه أنه حرّرهم تحريرًا معنوياً أصبحوا أحرارًا ما باتوا عبيدًا لشهوة من مال أو طعام أو شراب أو منصب أو ما شابه. الآيات تتحدث عن موقف من المواقف التي مر بها بنو إسرائيل، طلبوا من موسى عليه السلام أن يستسقي لهم الله عز وجل وقد فعل موسى عليه السلام وربي سبحانه وتعالى قدّم لهم معجزة مادية عاينوها بأعينهم رأوا الماء وهو يتفجر بين أيديهم وربي سبحانه هنا وجّه لهم الأمر الإلهي (كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)) ولكن ماذا كانت النتيجة لم يتوقف بنو إسرائيل عند ذاك الأمر الإلهي، المنهج الرباني، وإنما ولكن وقفوا عند شيء آخر شيء مادي وقعوا في الأسر من جديد، وقعوا في الأسر لأن التوحيد الذي كان في قلوبهم لم يلامس شغاف القلوب، التوحيد الذي كان في قلوبهم كان توحيداً ضعيفاً كان توحيدًا ما استطاع أن يحرّرهم التحرير الحقيقي من سلطة الشهوات المادية فكانت الإجابة مقابل ذاك الأمر الإلهي الرباني على لسان موسى عليه السلام أن يا موسى (لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا (61)) الأشياء والأطعمة وأنواع الأطعمة التي كانوا يأكلونها عند فرعون وهم عبيد، لم ينظروا إلى عطاء الحرية وتنسّم الحرية بكل معانيها وإنما نظروا إلى الفُتات تشوّقت أنفسهم وتطلّعت إلى الأطعمة التي كانوا يأكلونها وهم عبيد، ولم يتشوّقوا ويتطلّعوا إلى الحرية التي يتنعمون بها والتي أنقذهم لله سبحانه وتعالى من خلالها من أسر فرعون. الحرية لها ثمن، الآيات تعلمنا هنا أن الحرية لها ثمن وأن الحرية حين تُعطى وتوهب لأمة من الأمم ينبغي لتلك الأمة أن تكون على مستوى عطاء الحرية على مستوى التضحية على مستوى البذل الآيات تربي المجتمع الأول والمجتمعات المسلمة. الآيات آيات سورة البقرة نزلت كما تكلمنا وذكرنا على مدى سنوات التي عاشها المسلمون في المجتمع المدني الأول بناء الدولة، الآيات تريد أن تربي فيّ معاني التضحية والحرية بأوسع فضاءاتها ونطاقاتها الحرية ليست كلمة الحرية ليست مجرد شعار نطالب به الحرية ليست ادّعاء الحرية أن تتحرر في داخل نفسك من أسر شهواتها أن تنفض عنك قيودها أن تصبح عبداً لله وحده دون سواه، التوحيد، الحرية تساوي التوحيد بأبهى صوره وحلله. بنو إسرائيل لم يتحرروا، بنو إسرائيل صحيح خلّصهم ربي سبحانه وتعالى من أسر فرعون ولكنهم ما استطاعوا ولكنهم لم يتخلصوا من أسر الشهوات المادية اشتاقوا لطعم العبودية اشتاقوا للشهوات المادية التي كانت متكرّسة متأصّلة في نفوسهم فماذا كانت النتيجة؟ النتيجة كانت من جزاء العمل (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ (61)) نتيجة طبيعية تمامًا نتيجة لكفرهم نتيجة لطريقة تعاملهم مع المنهج الرباني المتمثل في التوراة، ربي سبحانه وتعالى أنزل لهم منهجًا وحين يقابل الإنسان المنهج الرباني بالكفر والجحود والعناد والمعصية تلو المعصية والمخالفة مع التي تليها ومحاولة التحايل على النصوص والتلكؤ في اتباع أوامر الله سبحانه لا يمكن أن تكون النتيجة مغايرة (وضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ (61)) الذلّة أن يصبح الإنسان أسيراً سواء كان إنسان كفرد أو كشعوب، أن تقع الشعوب في الأسر من جديد في الذل، في الخضوع، في المسكنة. الشعوب بأسرها ونحن نرقب اليوم ما يحدث في العالم ويدور حولنا الشعوب قد تكون حرة في الشكل في الظاهر ولكنها ربما تكون أسيرة وواقعة في الأسر هذا نوع من أنواع الذلة التي تتحدث عنها سورة البقرة. الحرية لا تعني أن لا تكون هناك قيود في يدي فحسب، الحرية المادية، الحرية تعني أن أكون حرة كفرد أو كمجتمعات وشعوب في اتخاذ القرار، في الرؤية، في النظر، في التصور، في التطلع، في الأهداف، في تنفيذ الأهداف، هذه هي الحرية. بنو إسرائيل ضربت عليهم الذلة والمسكنة لأنهم كانوا يرون أن الحرية بعيدًا عن التقيد بالمنهج الرباني بعيدًا عن التقيد والإتباع للمنهج الرباني والرسالة التي تقدمها لي آيات سورة البقرة في هذه القصة تحديداً أن لا حرية بعيداً عن المنهج الرباني إذا أردت الحرية اتّبع المنهج الرباني الذي يحررك من سطوة وسلطة كل المناهج البشرية والوضعية المتختلفة هذه هي الحرية. الحرية أن تتخلص من سطوة البشر سواء كانوا فرعون أو غير فرعون الحرية أن تكون فعلًا عبداً لله سبحانه ولا تكون عبداً لأحد سواه. هذه المعادلة لم يدركها بنو إسرائيل ووقعوا في مخالفات مخالفات أخرى ولذلك جاءت الآية العظيمة التي بعدها لتقرر (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)) إذا أردت الحرية الحقيقية فهي في الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح الذي يجعل منك إنساناً حراً طليقاً ويضمن لك الأجر والثواب في الآخرة. ولذلك تأملوا معي نهاية الآية (وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)) الخوف والحزن، الخوف والحزن هي ضريبة يدفعها الإنسان الأسير، يدفعها العبد إزاء قابليته للاستعباد لغيره، الخوف والحزن. ولنا أن نتوقف في كل ما يحدث في عالمنا المعاصر اليوم، ما هي السمة الغالبة على مجتمعاتنا المنكوبة؟ خوف وحزن! خوف بأشكاله المتعددة المتنوعة، خوف على الأرزاق، خوف لغياب الأمن، خوف على المستقبل، خوف على الحياة، خوف، خوف، خوف، الخوف بأشكاله وحزن لا يمكن أن ينفك عن منظومة الخوف، عذاب! لِمَ جاء الخوف والحزن؟ البعد عن المنهج وبالتالي الآية تقول (مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)) في الدنيا والآخرة. وحتى ما يصيب الإنسان المؤمن في الدنيا من خوف أو من حزن في بعض الأحيان هو خوف وحزن نسبي بسيط لا ينفكّ عن المشاعر الإنسانية، أما أن يصبح الخوف والحزن كما هو واقع في مجتمعاتنا المعاصرة حالة ملازمة للأمم وللشعوب هذه قضية ينبغي أن نتوقف عندها. وبمفهوم المخالفة في الآية أن من لم يؤمن بالله واليوم الآخر سيكون الحزن والخوف عنده حالة ملازمة لا ينفكّ عنها ولا يستطيع التخلص من أسرها وهذا ما حدث ويحدث حين يخالف الإنسان فرداً كان أو شعباً المنهج الإلهي الرباني. وتعود الآية من جديد في سياق الحديث عن بني إسرائيل لتؤكد أن الإشكالية الكبرى في بني إسرائيل ومواقفهم المتعددة التي تتناولها سورة البقرة إنما كانت تكمن في مخالفة المنهج الرباني (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63)) خُذ التوراة التي أُنزلت عليك خُذ المنهج الرباني بقوة والقوة هنا ليست فقط القوة المادية، القوة المعنوية قوة الاعتقاد قوة الإدراك قوة التنفيذ والتطبيق في واقع الحياة للمنهج الرباني (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أنا حين آتي إلى المنهج بنية الإنتفاع به والمتابعة له لأنه منهج رباني هناك فقط أكون محلًا للوصول إلى التقوى التي أمر الله سبحانه وتعالى بها، الهداية. وكما ذكرنا ونذكر دائماً نعم الآيات تتحدث عن بني إسرائيل وعن تعامل بني إسرائيل مع التوراة ولكن هي في سياق التحذير لي أنا كأمة مسلمة، عليّ أن أُحسن التلقي والتعامل مع المنهج الرباني الذي جاء في هذا الكتاب العظيم (خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ (63)) الوصية ليست لبني إسرائيل فحسب، الوصية لي (خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63)) ثم حين لا يحدث هذا الأخذ بقوة تكون النتيجة الطبيعية (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64)) التولي والإعراض عن المنهج الرباني، الوقوع في إشكالية التعامل معه التي وقعت في بني إسرائيل. ثم تتوالى القصص والمواقف، واحدة من تلك المواقف أن بني إسرائيل أمرهم ربي عز وجل أن لا يعملوا في السبت كما ورد في سور أخرى وآيات أخر في كتاب الله عز وجل هذا أمر رباني أمر إلهي ولكن ماذا فعلوا؟ فئة من بني إسرائيل اعتدوا على الأمر الرباني والمنهج الرباني فماذا كانت النتيجة؟ أن الله سبحانه وتعالى مسخ تلك الفئة التي تعدّت المنهج الرباني وسواء كان المسخ حقيقياً (فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65)) أو مسخًا معنوياً بمعنى أن يتحول الإنسان عن هذا المنهج إلى صورة مغايرة تماماً صورة ممسوخة صورة لا يليق بها أن تتلقى المنهج الرباني. في كِلا الأحوال كانت الخسارة هي الملازمة والملاحقة لهم (فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)) آيات، علامات، دلائل ربي سبحانه وتعالى في هذا الكون والمجتمع يُري الإنسان والأمم والشعوب آيات يُري العواقب والنتائج التي تترتب على الإنسان حين يخالف المنهج الرباني، الإنسان فرد أو شعب حين يخالف المنهج الرباني هناك عقوبة مترتبة والعقوبة قد تكون فردية وقد تكون جماعية وقد حدثت في أولئك الذين تجاوزوا الأمر الرباني مع بني إسرائيل. تنتقل الآية إلى موقف آخر من مواقف بني إسرائيل لتعرض وتقدم لنا نموذجًأ آخر نموذجًا من الإعراض نموذجًا من التحايل في التعامل مع المنهج الرباني موسى عليه السلام أمرهم بأن يذبحوا بقرة (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً (67)) قصة، حادثة وقعت، قصة قتل حدثت في بني إسرائيل وحين أراد موسى عليه السلام أن يكشف عن هوية القاتل فكِلا الفريقين أراد أن يرمي باللائمة على الفريق الآخر وربي سبحانه وتعالى أراد أن يكشف لهم الحقيقة فأمر موسى عليه السلام أن يأمرهم بذبح بقرة، واضح الأمر، ولكن ما تعودوا عليه في التعامل مع الأوامر الربانية والوحي الإلهي التلكؤ في اتباع الأمر، التحايل، كثرة المماطلة، كثرة السؤال، كثرة القيل والقال، لمَ؟ وماذا؟ وكيف؟ لا لأجل أن يفهموا ولا لأجل أن يتفقهوا في الدين ولكن لأجل أن يتفيقهوا، بمعنى لأجل أن يبرروا لأنفسهم التحايل، لأجل أن يتباطؤا في اتباع المنهج الرباني مدلف خطير جداً سياق الآيات تحدثني وتحذرني من الانجرار فيه والإنسياق نحوه، أن أتعامل مع المنهج الرباني واِفعل ولا تفعل بنيّة التحايل والمماطلة وليس بنيّة المتابعة وعدم المخالفة. السؤال عن الحكمة والقصد وراء التشريع الإلهي لا شك أنه قد يكون في بعض الأحيان أمر مشروع ولكن بشرط ألا يكون بنيّة التهرّب من ذلك الأمر وإنما بنيّة الفهم بنيّة الوعي بنيّة الخضوع والإنسياق للأمر الرباني. العبادة، أصل العبادة أن أكون عبداً خاضعاً لله سبحانه منقاداً لأمره، في بعض الأحيان قد أفهم الحكمة وفي بعض الأحيان قد لا أفهم وفي كلتا الحالتين فهمت الحكمة من وراء الأمر الرباني أم لم أفهم عليّ الاتباع والانقياد والخضوع. هذا لم يحدث في قصة البقرة مع بني إسرائيل أول كلمة ردّوها على موسى عليه السلام (قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا (67)) الكلام مع نبي! وتأملوا معي في سوء الأدب في التعامل مع المبلِّغ عن المنهج، النبي، الأنبياء (قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا)! ثم المماطلة (ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ (68)) (ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا (69)) (ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ (70)) كل هذه الطلبات ما كانت لأجل الإنقياد والخضوع وتنفيذ الأمر الإلهي وإنما عملية مماطلة فماذا كانت النتيجة وكيف كانت العاقبة وراء تلك المماطلات؟ أن الله سبحانه وتعالى كشف التزوير والكذب والاحتيال الذي وقعوا فيه. (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى (73)) الغرض من سياق البقرة وقضية ذبح البقرة أن يُضرَب بها هذا القتيل ليعيده الله سبحانه وتعالى بقدرته إلى الحياة من جديد فيشهد على من قتله، على القاتل، هذا كان الغرض وذلك لعدة أمور: أولا: إعطاء صورة حية حسية لبني إسرائيل الذين كانوا مولعين بالحس وعدم الإيمان بالغيب، بقدرة الله سبحانه وتعالى على الإحياء وعلى الإماتة وعلى البعث، اختبار لإيمانهم وابتلاء لمسارعتهم في اتباع المنهج الرباني وهذا لم يحدث ولم يحدث شيء من ذلك! فكانت النتيجة الطبيعية لهذه القصة ولذاك الموقف مع بني إسرائيل أن أحدث الله في قلوبهم قسوة (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ (74)) القسوة في القلب عقوبة، وهي مرض يجعل القلب متصلبًا متلبدَ الحسّ لا يشعر بالآيات ولا بالمواعظ حين تمر أمام عينيه، العين تتصلّب فيها الدموع، تجف فيها المآقي، لا تعد قادرة على أن تدمع ونحن نعلم جميعاً أن البكاء من خشية الله عز وجل من النعم العظيمة التي ينعم الله عز وجل بها على الإنسان وأن جزاءها أن تُحرّم النار على تلك العين التي بكت من خشيته سبحانه. ولكن الحال في بني إسرائيل كان العكس تماماً كان عقوبة والعقوبة لا تأتي إلا على مخالفة ومعصية. المماطلة في اتباع المنهج الرباني الذي أتى به موسى عليه السلام التراجع، التخاذل، التحايل، كل ذلك في التعامل مع المنهج الرباني كانت العقوبة من جنس العمل، قسوة! (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَة (74)) في صلابتها (أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ (74)) من الحجارة (وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)) الحجارة كما يقول ربي عز وجل في سورة أخرى (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ (21) الحشر) ولكن الإنسان حين يقسو قلبه كما حدث في بني إسرائيل نتيجة لمخالفة المنهج الرباني يصبح ذلك القلب أقسى من الحجارة فتمرّ عليه المواعظ في كتاب الله ويسمع الآيات بأذنيه ويراها في واقعه بعينيه ولكن لا تحرك فيه قلباً، لا تحرك فيه ساكناً، لا تجعل القلب يتحرك باتجاه تلك الآيات العظيمة فيخرّ مؤمناً خاضعاً لها، لا تحرّك فيه بواعث الخشية من الله عز وجل التي هي من أعظم أعمال القلوب. وكل الآيات وهي تتحدث عن بني إسرائيل إنما هي تحذّرنا نحن اليوم من أن نتعامل مع منهج ربنا وكتاب ربنا بهذا الشكل وبهذه الصورة لأن النتيجة لن تكون مغايرة لما حدث مع بني إسرائيل. ثم تنتقل الآيات إلى موقف آخر من مواقف التعاطي مع المنهج والكتاب أيضاً من بني إسرائيل، التحريف، التحريف بكل أشكاله وصوره، تحريف معنوي وتحريف حسّي. أما المعنوي فهو ما أخبر عنه الله عز وجل حين قال (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ (76)) الازدواجية، النفاق، التحريف، جعل الدين بضاعة وتجارة، أُظهِر من الآيات ما يتناسب مع مصالحي الشخصية، أستشهد بالآيات التي تخدم وتحقق أغراضي وأطماعي ولكني أغضّ الطرف وأنسى الآيات التي لا تأتي في مصالحي الشخصية ولا في إطار تحقيق أهوائي وأطماعي وأغراضي، موقف خطير جداً يحقق النفاق يجسد الإزدواجية في التعامل مع كتاب الله عز وجل ومع المنهج! أعرف شيئاً ولكني أعمل شيئاً آخر، أعرف أن الحق ليس في ما أفعله ولكني أفعل الباطل وأمارسه، إزدواجية! ولا بأس أن أدّعي أنني من أنصار الحق كما فعل هؤلاء القوم من بني إسرائيل (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ (76)) إزدواجية، ادِّعاء. ولكن هل يغني ذلك الادّعاء في التعامل مع الله عز وجل؟! تأملوا معي الآية (أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77)) السرّ عنده علانية، إياك أن تتعامل مع الله عز وجل دون أن تحقق هدف النقاوة في باطنك وفي سرّك، إياك من الإزدواجية في التعامل مع الله عز وجل لأني أنا لا أستطيع أن أخفي شيئًا عنه سبحانه إن نجحت في إضمار الباطل وإخفاء الحق على الناس لن أنجح في ذلك مع الله عز وجل لأنه ببساطة شديدة لأن (أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77)). أما النوع الآخر أو الشكل الآخر الذي يحذّرني منه القرآن في التعامل مع المنهج والكتاب تحريف من نوع آخر، التحريف بمعنى أن أعلم الكتاب قراءة أو تلاوة فقط بالألفاظ أما بالعمل فالأمر مختلف وتأملوا معي الآية (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78)) ولذا قال جمعٌ من المفسرين في هذه الآية لا يعلمون من الكتاب إلا التلاوة والقراءة أما التدبر أما التفقّه أما التفهم أما التنفيذ أما التطبيق فهذا شيء بعيد تماماً عن اهتمامهم. هذا النوع الأعوج من التعال مع المنهج الرباني ومع الكتاب هو نوع من التحريف وقد حدث كذلك في بني إسرائيل. أما النوع الحسّي فأن يكتب ويحرّف آيات الكتاب تحريفاً بيديه (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ (79)) وتأملوا نهاية الآية ( لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا (79)) متاجرة بالدين! يحرّف على هواه يتّبع الهوى يُخضِع الدين والمنهج الرباني لأطماعه الشخصية مدلف خطير جداً جدًا. وغالب ما يحدث اليوم في المجتمعات في المتاجرة بالدين النتائج الوخيمة التي تترتب على ذلك لا يعلم مداها إلا الله! حين يتحول الدين إلى قضية تجارية، إلى هوى نفس حين أشتري وأبيع، ولذلك كلمة (لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا (79)) جاء ذكرها في سورة البقرة كثيرًا جداً، لماذا؟ للتحذير من هذا المنهج الخطير. الدين لا ينبغي أن يخضع للبيع ولا للشراء، الدين جاء ليحكم حياتي وحياتك، الدين جاء لكي يُخضع قلبي ومصالحي له ولأحكامه وأوامره وليس لأجل أن أُخضعه أنا لنقاط ضعفي ونزواتي وأطماعي وشهواتي! ماذا كانت النتيجة؟ (فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)) المال الحرام الذي يُكتسب وإن كان كثيراً من جرّاء المتاجرة بالدين والمصالح الشخصية سيكون وبالاً على صاحبه، وهذا بالفعل ما حدث في بني إسرائيل. ومن جديد تنتقل بي الآيات إلى ذلك الميثاق إلى المنهج الرباني المنهج الواحد الذي جاءت به لكل الشرائع السماوية، التوراة جاءت بشرائع عظيمة لأنها من الله عز وجل والإنجيل جاء بتعاليم ربانية عظيمة والقرآن جاء بتعاليم ومبادئ في غاية العظمة (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ (83)) التوحيد الأساس (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) برّ الوادين (وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)) الشرائع السماوية واحدة، كل الرسالات السماوية جاءت بالتوحيد، جاءت بالقيم العظيمة، جاءت بالأمر بالإحسان للوالدين والأقارب وقول الخير وعمل الخير والصلاح والبرّ والمعروف، جاءت بعبادات ترتقي بصاحبها في مرحلة السلوك والتطبيق والتعامل مع الآخرين هذه الشرائع التي لا يختلف عليها اثنان كيف كان الموقف منها؟! (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)). وتنتقل بي الآيات إلى نوع آخر من الأزدواجية في التعامل مع الآيات والمنهج الرباني أن يؤمن الإنسان ببعض الكتاب ويكفر ببعض، من جديد إخضاع المنهج الرباني للمصالح، للأهواء الشخصية، للأطماع (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)) المنهج الرباني عليك أن تأخذه جملة وتفصيلاً، عليك أن تأخذ كل ما فيه لكي يحقق الثمار المرجوة في الواقع وفي المجتمع أما أن تطبّق جزئية منه وتترك الجزء الآخر هذا اعوجاج في الأخذ به، هذا لا يمكن أن يؤدي الغرض أبداً. الكتاب عليك أن تأخذه بكلّه، بكل أوامره ونواهيه وأن تخضع بقلبك وقالبك ومجتمعك لذلك المنهج الرباني، ولذلك من جديد تأملوا معي كم مرة يأتي الكلام عن البيع والشراء (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ (86)) باع واشترى باع آخرته واشترى دنياه بثمن بخس (فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)). والقضية لأنها قضية خطيرة جداً وتحدث ليس فقط مع بني إسرائيل، تحدث في المسلمين، تحدث في النصارى، تحدث في أقوام متعددة لذلك القرآن وقف عندها في سورة البقرة طويلاً: لا تبع وتشتري بالدين، المتاجرة بالدين. وتعود الآيات من جديد لتتحدث عن موسى عليه السلام والكتاب (وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ (87)) الرسالات واحدة ولكن الإشكالية في تعاملكم مع تلك الرسالات (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)) (بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ) وتأملوا معي هذا هو السبب، ليس السبب أنك غير مقتنع بالمنهج الرباني، ليس السبب في مخالفة بني إسرائيل للمنهج الرباني الذي جاء به موسى عليه السلام أنهم لم يكونوا على قناعة أو دراية بذلك المنهج، أبداً. السبب أنه قد جاء بما لا تهوى أنفسكم! هوى النفس، أخطر الأمراض في التعامل مع المنهج الرباني هوى النفس ولذلك القرآن يحدثني في آيات عديدة فيقول (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ (23) الجاثية) الهوى قد يصبح إلهًا يُعبَد من دون الله! والمطلوب من الدين أن تتحرر من هواك، أن تتحرر من أي سلطان إلا الخضوع والانقياد لأمر الله عز وجل، هذا مطلب رئيسي. (وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)) لعن، بدأ الجزاء على ذلك العناد والجحود والإنكار والتعامل السيء مع المنهج الرباني. فيا ترى كيف كان استقبال بنو إسرائيل للمنهج الرباني الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم؟ كيف كان استقبال بني إسرائيل للمنهج الذي لم يكن يختلف في أساسه عن ما جاء به موسى عليه السلام؟ منهج النبي صلى الله عليه وسلم الذي جاء في القرآن (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ (89)) وهم في الأصل كانوا يستفتحون على الناس في المدينة، على العرب ويتباهون ويتفاخرون أنه قد أظلّنا زمان سيظهر فيه لنا نبي جديد من أنبياء بني إسرائيل، كيف كان موقفهم؟ هل اتبعوا ذلك المنهج وهو مصدّق لما معهم من التوراة؟ أم أنهم اتخذوا موقفاً آخر؟ أبداً، الموقف كان بناء على الموقف الرئيس، التعامل مع الدين بالمتاجرة. عرفوا بأنه هذا هو الكتاب الذي أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم حقاً عرفوا بذلك ولكنهم تجاهلوا تلك المعرفة، لماذا؟ لأن تلك المعرفة قد تناقض ما تهواه أنفسهم وتتشوف إليه ولذا القرآن قال (بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنَزَلَ اللّهُ بَغْياً أَن يُنَزِّلُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ (90)) هذه هي الحقيقة، هذه هي النتائج التي ترتبت على ذلك التعامل الأعوج مع المنهج الرباني من قِبَل بني إسرائيل، المتاجرة بالدين لا يمكن أن تكون لها نتيجة أخرى ولذلك عادت الآيات من جديد في الآية 92 تقول (وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ) تذكّرهم (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ﴿٩٢﴾) إن كنتم لا تريدون اتباع النبي صلى الله عليه وسلم لأنه ليس من بني إسرائيل فما تقولون على النبي موسى عليه السلام الذي أرسله الله إليكم؟ وعلى الرغم من ذلك اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون! كيف تفسّرون ذلك؟! وكيف تفسّرون أن الله قد أخذ الميثاق عليكم (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُواْ) ولكن لم تكن النتيجة هي الاتّباع بل كانت النتيجة (قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ (93)). إن كان الإيمان لا يولّد لديك قوة دافعة للاتباع والطاعة والأخذ بقوة بذلك المنهج فما قيمة ذلك الإيمان؟! ما قيمة أن تقول أنا مؤمن باللسان ولكن الفعل في الواقع يخالف ذلك القول؟! ما قيمة ذلك كله؟ (قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ). إن كان ذلك النوع من الإيمان الذي تدّعون يأمركم بقتل الأنبياء ومخالفة المنهج الرباني فبئس به من إيمان، هذا ادّعاء، هذا ليس إيمانًا، الإيمان التزام، الإيمان لا يمكن أن يبرر تلك الازدواجية بين الفعل والقول، الإيمان لا يبرر ذلك، الإيمان لا يجعلك تعيش في تناقض مميت بين ما تؤمن به في قلبك وبين ما تمارسه في حياتك وسلوكك. وتنتقل الآيات في سلسلة مترتبة واضحة تمامًا نتيجة لذلك النوع من التعامل مع المنهج الرباني: حب الدنيا والركون إليها وكراهية الموت طبيعة واضحة تمامًا في أولئك القوم الذين تاجروا بالدين لأن الموت بالنسبة لهم يشكّل العالم الآخر الذي باعوه بثمن بخس هم اشتروا الدنيا ولكنهم باعوا الآخرة فشيء طبيعي أن يكره هذا النوع من البشر الموت تمامًا (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) لا يريد لحياته على الأرض أن تنتهي ولكن يُهيأ لهذا البشر أنه سيزحزح بذلك عن العذاب لأنه لا يزال لا يدرك حقيقة (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ (8) الجمعة) وأن الرب الذي كفرتهم به ستأتون إليه وتعودون إليه وسيوفيكم أعمالكم يوم القيامة ولذلك جاءت ختام الآيات فقال الله عز وجل (وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ) ويأتي هذا النوع من التعامل بمختلف العداوات، الإنسان الذي يعيش هذه الازدواجية يعادي كل أحد يعادي الملائكة ويعادي الأنبياء ويعادي الكتب ويعادي الرسل لأنه ببساطه عادى نفسه، عادى المنهج الرباني الذي جاء به الله سبحانه وتعالى ولذلك جاءت الآية بقوله سبحانه وتعالى (وَلَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ) يا محمد صلى الله عليه وسلم (آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) واضحات (وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ) لا يكفر بهذه الآيات الواضحة وبذلك المنهج العظيم الذي أنزله الله عليك إلا من خرج عن أوامر ربه سبحانه وتعالى. ولذلك لما جاءهم الرسول صلى الله عليه وسلم مصدّق لما معهم (وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (101)) تأملوا المثل الرائع الذي تقدمه الآيات (نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ) وضعوه خلف ظهورهم، أرادوا أن يخفوا المنهج الرباني أرادوا أن يخفوا ما كُتب في التوراة ببشارة النبي صلى الله عليه وسلم، التوراة جاءت تبشّر بالنبي صلوات الله وسلامه عليه، أرادوا أن يخفوا تلك المعلومات التي جاءت فيها فنبذوه وراء ظهورهم. أنت حين تتبع وتخالف المنهج الرباني لا بد أنك تتبع منهجًا آخر، لا يمكن أن تمشي في الدنيا دون اتّباع، مستحيل، إما أن تتبع المنهج الرباني وإما أن تتبع منهجًا آخر (وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ) إذن هم خالفوا المنهج الرباني لأجل أن يتبعوا الشياطين وتأتي الآيات في سياق الحديث عن أنبياء بني إسرائيل، موسى عليه السلام لم يكن هو النبي الوحيد الذي كذّب به بنو إسرائيل، كان من قبله أنبياء كان سليمان وكان داوود، لكن الموقف من كل هؤلاء الأنبياء كان لا يتغير، الموقف هو (وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ (102)) يتاجرون بالدين، تعلّموا الأشياء المخالفة المناقضة للمنهج الرباني بما فيها السحر، تعلموا كيف يفرقون بين المرء وزوجه مخالفة للأمر الرباني، المنهج الرباني لا يأمر بهذا، المنهج الرباني لا يأمر بإلحاق الأذى والضرر بالآخرين ولكن من خالفوا ذلك المنهج الرباني اتبعوا منهجًا شيطانيًا مغايرًا لذلك المنهج، اتّبعوا السحر واتبعوا الشعوذة واتبعوا الأوامر الشيطانية (وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ) بئس بها من تجارة! الساحر والمخالف للمنهج الرباني المنهج الذي أمر الله به عز وجل مهما درّ ذلك عليه من مكاسب دنيوية وقتية فهي خسائر في حقيقة الأمر وليست مكاسب على الإطلاق، خسر نفسه خسر آخرته خسر دنياه خسر كل شيء ولذلك تأملوا المعادلة الرائعة (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ (103)) تأملوا الفارق العظيم، الآية الأولى (وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ) تجارة خاسرة حتى وإن تصورت أنت أن فيها مكسب مادي، التجارة الرابحة الإيمان والتقوى (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ) لو كانوا يعلمون المعنى الحقيقي للتجارة الرابحة عبارة من أعظم التوجيهات في المنهج الرباين العبارة ليست موجهة لبني إسرائيل فحسب العبارة موجهة لنا جميعًا عليك أن تدرك المعنى الحقيقي للربح والخسارة من حيث تعتقد أنك تعتقد أنها ربحًا ولا تضيع على نفسك الفرصة وتخسر وأنت يُهيأ لك أنك تربح، اتباع المنهج الرباني في الحياة والسلوك كسب حقيقي ربح حقيقي في الدنيا وفي الآخرة كما سنأتي عليه في مواضعه في سورة البقرة حين تسير وفق ما أمرك الله عز وجل أنت الرابح الأكبر في الدنيا وفي الآخرة وحين تخالف ذلك المنهج وتتبع منهجًا شيطانيا من قبل نفسك منهج الهوى لا يمكن أن تكون رابحًا أبدًا حتى وإن هُيأ لك ذلك! (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)) عليك أن تتبع المنهج بمخالفة المناهج الشيطانية المختلفة، أنت لديك منهج، لديك أوامر وعليك أن تدرك الحقائق كما يخبرك بها ذلك المنهج، وتلك الحقائق هي (مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)) وتأملوا كيف يقدم لي القرآن الخير والعطاء في اتباع المنهج، هذا خير، هذا عطاء، هذه رحمة من عند الله عز وجل أن يكون لك منهجًا تسير عليه في حياتك هذا خير، هذه رحمة، (وَاللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء). ثم تتاولى الآيات بعد ذلك لتبين موقف بني إسرائيل من الدعوة الجديدة، من القرآن، من المسلمين من دعوة النبي صلى الله عليه وسلم كيف تلقوا هذه الدعوة؟ كان الموقف الأمثل أن يتلقوا الدعوة بالترحاب لأنها جاءت مصدقة لما معهم من الكتاب، جاءت متممة للشرائع التي سبقت، المنهج واحد. إذا كان هذا الإنسان يريد فعلًا أن يتبع المنهج الحقيقي من عند الله عز وجل والذي يهمه اتباع الدين فاتباع النبي صلى الله عليه وسلم متمم لذلك ولكن إذا كان في أعماق نفسه يبيت نية أخرى نية اتباع الهوى والمتاجرة بالدين والمصالح والأهواء الشخصية قطعًا لن يتبع ذلك الرسول ولذلك فضح القرآن العظيم هذه النية المبيتة فقال (وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) تأملوا في دقة النص القرآني وعدالته وإنصافه قال (كثير) قطعًا ليس الكل، هناك فئة من أهل الكتاب فئة اتبعت النبي صلى الله عليه وسلم فئة كانت منصفة ولكنهم ليس بكثر لأن الكثير ودوا (لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً) يا ترى لماذا؟ لماذا أرادوا زعزعة وبلبلة الإيمان في نفوس أتباعه؟ لماذا أرادوا زعزعة المسلمين في إيمانهم واعتقادهم؟ (حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم) حسد، ومرض الحسد لا يكون إلا بناء على هوى النفس، لا يحسد المؤمن إلا وقد امتلأ قلبه بالله والثقة واليقين بعطائه وقسمته للأرزاق بين خلقه، لا يمكن ولذلك القرآن يقول (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ﴿١﴾مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ ﴿٢﴾ وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ ﴿٣﴾ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ ﴿٤﴾ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ﴿٥﴾ الفلق) التعوذ من شر الحاسد لأن الحاسد يقع في إشكالية كبيرة، يقع في إشكالية اعتقادية حين يعتقد أن الرب الذي قسم الأرزاق ليس بمنصف حاشاه سبحانه، أعطى لفلان ولم يعطني أنا وأنا مستحق للعطاء أكثر من فلان، من الذي يقسم الأرزاق بين الخلق؟ الخالق أم المخلوق؟! الحسد إشكالية خطيرة على الإنسان أن يتخلص منها وقد وقع فيها بنو إسرائيل حين توقعوا وتصوروا أن الأمة الإسلامية وأن الكتاب الذي أُنزل عليها وهو القرآن وأن محمدًا صلى الله عليه وسلم لا يستحق أن يكون النبي الخاتم وأن الأمة الإسلامية لا تستحق أن تكون الأمة الخاتمة، من الذي يقسم الأرزاق؟ الله أم هم؟! ولذلك جاءت الآية (حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) هم يعرفون الحق، لا تقلق ولكن ليست الإشكالية في معرفة الحق فحسب الإشكالية الكبرى والمهمة أن تعرف الحق وتتبعه وتسير عليه (فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)). وتتوالى الآيات في تقديم منهجية في التعامل مع الأمم المخالفة المنهج الرباني الذي فيه الهداية، القرآن، سورة البقرة تتحدث عن الهداية وتعطينا وسائل الهداية وكيفية الوصول إلى الهداية من خلال اتباع الآيات والأوامر الربانية (وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ) سِرْ على المنهج الذي أنزله ربك عز وجل (وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ) خالِف الأمم السابقة في طغيانها وفي كفرها ومعاندتها وتلقى ذلك المنهج بصدر رحب وبإيمان وبيقين ولذلك عابت الآيات على اليهود والنصارى حين قالوا (وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى) الجنة ليست حكرًأ على أحد، لست أنت ولا أنا الذي يملك مفاتيح الجنة، الذي يملك مفاتيح الجنة هو الخالق الذي خلق وأعطى ورزق (تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) بلى، القاعدة واضحة (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ) وانقاد لأمره (وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (112)) إشكالية خطيرة بعض الأشخاص يقع في هذه الإشكالية فيقول فلان يدخل الجنة وفلان يدخل النار، إشكالية خطيرة تناقض ما جاء في كتاب الله عز وجل، لا تقل هذا القول أبدًا، لا يجوز، من يملك الجنة والنار هو الذي يحدد من يدخل ومن يخرج، نحن بشر، نحن دعاة لسنا بقضاة على أحد. (وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ) القرآن يعرض لي الآن تزاحم اليهود وتنازعهم مع النصارة واتهام كل فريق للفريق الآخر بأنه ليس لديه شيء وأنه ليس على شيء واستعمال الدين في قضية شخصية بحتة: النزاع على السلطة، النزاع على الإستيلاء والتسلط (وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ) من الذي يحكم؟ (فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)) لا تدخل في معارك خاسرة، هذه المعارك خاسرة، من الذي يحكم؟ الله سبحانه وتعالى، ما هو دورك؟ دورك أن تبين الحقيقة دورك أن تعرض الرسالة دورك أن تقدم المنهج الرباني وتسير عليه في حياتك أما الحكم على الناس وعلى الآخرين فليس من اختصاصك في شيء ولذلك (وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ التدبر سورة البقرة – 2- د. رقية العلواني