بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله حمد الشاكرين والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. يشهد عصرنا الحالي تطوراً مهولاً في عالم الإتصالات تجاوز الحدود التي ربما كان يتخيلها البشر في العصور السابقة أو ربما يحلمون بها، تجاوزها بكثير! وأصبح العالم كما يقال ليس مجرد قرية صغيرة ولكن ربما غرفة في قرية صغيرة. تقاربت المسافات المكانية وكذا الزمانية، ولكن السؤال الذي يبقى فعلاً يتبادر إلى أذهاننا: هل ساهَمَتْ كل تلك الوسائل، وسائل الإتصال في ردم الفجوة التي أصبحت بيننا كبشر؟ هل قاربت بين قلوبنا؟ هل ساهمت في صلة أرحامنا؟ هل عُدنا نحب بعضنا البعض كما كنا في السابق على سبيل المثال؟ وهل العِلّة فعلاً هي في وسائل الإتصال الحديثة أم أن هناك أسباب أخرى ما عدنا نلتفت إليها؟! ودعونا نأخذ مثالاً بسيطاً: “صلة الرحم”، تلك الصلة التي أوصى الله عز وجل بها في كتابه مرات ومرات، وتأملوا معي قول الله عز وجل (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25) وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) الإسراء) ونقف اليوم عند قوله عز جل (وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ) حقوق ذوي القربى التي قال عنها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: “الرحم معلّقة بالعرش تقول من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله”. فأين نحن في عصر الإتصالات من صلة الرحم؟! وكيف قاربت تلك الوسائل الحديثة أو ربما باعدت في وسائل التواصل بيننا وبين أرحامنا؟ كيف هي الزيارات؟ كيف هي الإستضافات؟ كيف حال تفقّد الأرحام والسؤال عنهم والسلام عليهم؟ وزيارة المريض منهم ومساعدة المحتاج منهم والقيام والرعاية بشؤونهم؟ كيف هي مشاركة الأرحام لبعضهم البعض في زماننا، في أفراحهم وأحزانهم؟ كيف هو البذل؟ كيف هو العطاء؟ كيف هو التغافل والتغاضي عن الهفوات والزلات؟ كيف هي قوة التحمل والإحتمال لما قد يبدر من أحدهم أو يصدر من هفوة أو زلة لسان؟ كيف ذلك كله؟! وأين نحن في هذا الزمن الذي فعلاً وصل فيه الإنسان إلى مبالغ ومكان رفيع جداً في عالم الإتصالات، كيف كل ذلك؟! وهل ساعدت فعلاً هذه الوسائل الحديثة المطوّرة لأن تقارب بين القلوب وتردم ما يمكن أن يكون بها من فجوة ومن تباعد؟ أين الواقع الذي نعيش فيه من صلة الأرحام؟ المتأمل في كثير من الأحيان في واقعنا يجد أننا قد قللنا من جانب الزيارات على سبيل المثال واستبدلنا ذلك بشيء آخر ربما رسائل نصية، ربما حتى حتى إشارات أو رموز بين الحين والآخر، ربما وصل بنا الحال إلى أن نقطع الصلة على مدار العام بأسره لنعود فنجدّدها فقط في العياد والمناسبات. البعض منا أصبح يشعر بأن قضية صة الرحم قضية ثانوية، شُغِلَ بالدنيا، شُغِلَ بالأعمال، شُغِلَ بالأسرة الصغيرة ومتطلباتها عن رحمه عن صلة رحمه عن تفقد أحوالهم، فقد يمر الشهر والشهران ولا يدري أين هم أرحامه ماذا حل بهم؟ لا يعرف عن مريضهم ولا يعرف عن المحتاج فيهم، وربما يكون قد تفضّل الله عليه بفضل مال أو ما شابه، ولكن الأهل والأقارب ليس لهم نصيب في ذلك. البعيد له نصيب أما القريب فلا نصيب له!. بعض الأشخاص وخاصة هذه الظاهرة ربما تظهر كثيراً بين فئة الشباب يتواصل مع أشخاص لا يعرفهم على الإطلاق عن طريق مواقع التواصل الإجتماعي، ولكن الأخوة والأهل والأخوال والخالات والأعمام لا يعرف عنهم شيئا! ربما هناك العديد من الأشياء المشتركة التي باتت فعلاً يتشارك فيها مع الآخرين في بلدان مختلفة ومن خلفيات متعددة ومتنوعة ولا يجد ما يشترك فيه مع أقاربه حتى في الحديث! فالساعات والدقائق تمر بطيئة مملّة حين يجلس مع أسرته ومع عائلته وأقاربه. كيف جاءت وتسللت تلك المفاهيم الغريبة على واقعنا؟! وكيف وجدت طريقها إلى نفوسنا؟! وكيف دخلت في بيوتنا؟ كيف أصبحنا لا نهتم بهذه الأشياء التي هي لبّ الدين ولبّ العلاقة بيننا وبين الله عز وجل كيف؟! كيف أصبحنا لا نفكر في أهلنا وأقاربنا؟! كيف ضاعت تلك المبادئ العظيمة؟ كيف ما عدنا نشعر أننا ننتمي إلى أسر كبيرة وأن هؤلاء حتى وإن قدر الله أن يعيشوا في مكان بعيد عنا فلهم حقوق علينا يجب علينا أن نراعيها ونقدّمها؟ كيف اعتقد البعض منا أن التقرّب من الأقارب وصلة الأرحام فيه الكثير من الإزعاج والمشاكل التي لا تنتهي؟! وأن الأفضل أن يبقى كل واحد في بيته، وفي حاله، يتزاورون ما بين الأعياد فحسب، كيف؟! كيف جاءت إلى أذهاننا هذه الأفكار؟! والنبي صلى الله عليه وسلم حين جاءه رجل فقال: يا رسول الله إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني وأحسن إليهم ويسيئون إليّ وأحلم عنهم ويجهلون عليّ. فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لئن كنت كما قلت فكأنما تسفهم الملّ ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك. الملّ هو الرماد الذي يحرق. حتى حين يقطع صلة الرحم، حتى حين يقابل الإحسان بالإساءة ليس ثمة مبرر لقطيعة الرحم. ليست ثمة ما يبرر أن يقطع الإنسان الرحم! الغلظة والجفاء والقطيعة والصدود تحرم الإنسان من البركة، من الفضل، وتعرض الإنسان لسخط الله وغضبه. فالرحم ليست كأي صلة، الرحم تختلف عن صلة الأصدقاء على سبيل المثال والأصحاب والجيران، هذه العلاقات الإنسانية صحيح لكل منها منزلة في كتاب الله وفي الدين ولكن المنزلة الأعظم بعد برّ الوالدين صلة الأرحام وتفقّد أحوالهم ومساعدة المحتاج منهم، توقير الكبير منهم، رحمة الصغير والضعيف، سلامة الصدر نحوهم فلا يُحمَل الحقد الدفين على أحد منهم أبداً، عدم السماح لأحد من الناس أن يدخل بين الأرحام بالنميمة ونقل الكلام السيء، إصلاح ذات البين في ما بينهم. إذا علم الإنسان منا أن هناك مشكلة بين أحد الأقارب أو الأرحام عليه أن يكون مرسال خير، عليه أن يكون بالفعل إنسان يصلح بين الآخرين وخاصة بين هؤلاء الأرحام. هذه الأمور التي ما عادت تأخذ في حساباتنا الكثير، ما عدنا نجد لها في جدول أعمالنا الوقت الكافي! هذه الأمور أمور أساسية في حياتنا، أمور لا بد أن نجد لها الوقت، لا بد أن نخصص لها الجهد، لا بد أن نفرغ لها أنفسنا. هذه ليست من الأمور الكماليات حتى نقول لا بأس أن نعيش بدونها. بالعكس هذه الأمور هي التي تشكّل بالفعل طبيعة العلاقة بيننا وبين الله عز وجل، فالصدقة على المسكين صدقة ولكن على ذي الرحم صدقة وصلة رحم. اُنظر إلى هذا الدين العظيم الذي يربط بين الإيمان وعلاقة الإنسان بربه وصلته لرحمه، هذه الصلة آن الأوان أن نصلحها، آن الأوان أن نحاول استكمال ما يمكن أن نستكمله فيها. صلة الأرحام من الأشياء الأساس التي تجلب الأمن والسعادة والطمأنينة والرخاء في بيوتنا وفي مجتمعاتنا. أما الإفساد والخلل الواقع في بعض البيوت والأسر فهذا آن له الأوان أن يُصحَّح، آن الأوان أن نُصلح في ما بيننا وأن نتغافل ونتجاوز ونتعالى على كل تلك الوساوس وألا نجعل للشيطان على قلوبنا من سبيل فنقطع ونقطِّع أرحامنا.
(تفريغ صفحة إسلاميات حصريًا)