الحلقة السادسة من وقفات في تدبر سورة النساء

تفريغ سمر الأرناؤوط لموقع إسلاميات حصريًا

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وقفنا في المرة السابقة في تدبرنا لسورة النساء عند الطاعة، فضل الطاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم معنى الخضوع والاستسلام القلبي المطلق والعملي لمنهج الله سبحانه وتعالى في الأرض ولذلك الإيمان الذي جاءت به سورة النساء إيمان يبني القيم لأنه على قدر ما يحقق في قلب المؤمن من ذاك التسليم والانقياد لله سبحانه وتعالى إحساسًا وشعورًا ويقينًا على قدر ما يولد كذلك في واقعه تسليمًا وطاعة وخضوعًا لمنهج الله وأوامره وتشريعاته. ولذلك كانت الآية (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ﴿٦٩﴾) رفقة الدرب، رفقة المنهج، رفقة الاعتقاد والإيمان واليقين بالله سبحانه وتعالى وتنفيذ أوامره وحماية القيم التي ارتكزت عليها كل التشريعات في هذا الدين العظيم ولذلك ربي سبحانه وتعالى في هذه الآيات ونحن تقريبًا قد وصلنا إلى ما يقرب منتصف آيات سورة النساء في هذا الموضع بالذات بدأ الحديث عن القتال، شيء يلفت النظر، بعد كل الحديث الذي تضمنته الأجزاء الأولى من سورة النساء عن القيم وبناء الحرية والمساواة في البيت المسلم وقبل البيت المسلم في الفرد المسلم وفي الأسرة وتحقيق العدالة بين الزوجين وبين أفراد الأسرة المختلفين وبين اليتامى وبين من يقوم على أمرهم وبين الحكم بين الناس انتقلت الآيات للحديث عن القتال، لماذا الحديث عن القتال في هذا الموضع بالذات؟ ربي سبحانه وتعالى أراد بهذا القرآن العظيم أن يؤسس فردً ومجتمعا وأمة ولكي يكتمل البناء لا بد للقيم التي أسس لها في نفس الفرد والأسرة والمجتمع من قوة تحميها، قوة تدافع عنها، القرآن لا يتعامل مع النفوس من برج عاجي مثالي بعيد عن الواقع، القرآن يتعامل مع ظروف إنسانية مختلفة ولأن الذي أنزله هو الخالق سبحانه وتعالى عالم بمجريات الأمور والأحداث لطيف خبير بعباده يعلم سبحانه أن الخلق ليسوا على درجة سواء في الاستجابة لمنهجه سبحانه، منهم من يسلم تسليما ولا يجد حرجا في اتباع ذلك المنهج العظيم وتطبيقه في نفسه وأسرته ومجتمعه ومنهم من يتردد ومنهم من يجد حرجا في تنفيذه وتطبيقه ومنهم من يعرض عنه ويصد صدودا فلأن هذه الفئات متباينة في تعاملها مع منهج الله سبحانه وتعالى شرع القتال لأجل أن يحمي تلك القيم التي يؤسسها القرآن فالنفوس ليست سواء، النفوس التي التي لا تستجيب للحق وتقف ضد الحق والعدل والحرية والمساواة وتنتهك حرمات الناس وتعتدي على أموالهم وأعراضهم ونفوسهم أتترك هكذا تعيث في الأرض فسادًا والله أنزل القرآن وأنزل الكتب وأرسل الرسل لأجل أن ينهى عن الفساد في الأرض لأجل أنه يأمر بالإصلاح والخير بين الناس فكيف لفئة قليلة أو كثيرة تستبد وتختطف تلك القيم العظيمة التي جاء القرآن لتأسيسها بين الخلق والناس، شُرع القتال شرع استعمال القوة في ظروف معينة للدفاع عن هذه القيم، للوقوف في وجه الفساد والإفساد والمفسدين، لردع أولئك الذين تسول لهم النفوس الضعيفة والأهواء والنزوات أن يختطفوا هذه القيم العظيمة، أن يحاصروا هذه القيم، أن يقاتلوا الآخرين ممن يدعون إلى الخير وينهون عن الفساد، كان لا بد لهم من قوة توقفهم، هذا معنى القتال في الإسلام ولذلك جاءت الآيات العظيمة منذ هذه البداية في سورة النساء بعد الآية 70 أولا لتؤكد الغاية من القتال، الغاية من القتال واستعمال القوة في الإسلام في القرآن كما تصورها سورة النساء ليست لأجل نزوات أو أهواء فردية أو جماعية ليس لتحقيق مصالح فردية، ليس لأجل انتهاك حرمات الشعوب ونهب ثرواتها ومقدراتها ومنافستها في أرضها، لا، تدبروا هذه الآية (فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴿٧٤﴾) القتال في سبيل الله لا في سبيل نفسك ولا في سبيل أهواء ولا في سبيل شهوات ولا في سبيل الحصول على مناصب هذه ليست الغاية التي لأجلها شرع القتال وليؤكد الحقيقة منذ البداية تأكيد هذه الحقيقة أتت على كل شي كان يقاتل عليه الناس في الجاهلية، الناس في الجاهلية كانوا يقتتلون فيما بينهم لكنهم كانوا يقتتلون ويسفكون الدماء لا لأجل إحقاق حق ولا لحماية قيم جاء القرآن لبنائها في النفوس، كانوا يقاتلون في بعض الأحيان من أجل الكلأ والماء، ولأجل منافع مادية ولكن القرآن لا يريد الناس أن تسفك دماؤهم لأجل هذه المنافع أو هذه المصالح القريبة العاجلة لا بد أن تكون الغاية عظيمة فجاء بهذه الآية والنفوس التي تستيطع أن تتخلص من هذه النزوات والمصالح هي تلك النفوس التي باعت الدنيا واشترت الآخرة (الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ) فالإنسان الذي يدرك قيمة الآخرة وما فيها وقيمة الدنيا وما فيها ويقارن بين الاثنين ويقرر أن الحياة التي يريدها حقًا هي حياة الآخرة هو ذلك الإنسان الذي يستطيع أن يتحرر من القتال لأجل مصالح فردية أو ثمرات قريبة عاجلة. وتدبروا في الآية التي تليها (وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) كلمة عظيمة (في سبيل الله) تختصر المسافة على الإنسان، تحرره من القتال في سبيل أي شيء آخر إلا الله، (وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا ﴿٧٥﴾ الَّذِينَ آَمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) تأكيد الغاية العظيمة. الآية (وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ) تبين أن القتال في القرآن شرع لا لأجل تحقيق مصالح الأقوياء الظلمة بل لأجل حماية المستضعفين الذين لا يجدون من ينصرهم في عالم تحركه المصالح والأهواء والشهوات (وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ) القتال لأجل حماية هؤلاء الفئات في المجتمع في العالم، لنصرة حقوقهم والدفاع عنهم والكلمة في الآية (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ) ما قال ضعفاء قال مستضعفين بمعنى أنهم لم يُخلقوا ضعفاء، ربي لم يخلق البشر ضعفاء بطبيعتهم أو بخلقتهم وإنما تسلط الأقوياء على الضعفاء وحرمانهم من حقوقهم ووجود الظلم بين الناس وانتهاك تلك القيم التي جاء القرآن ببنائها وإرسائها هو الذي ينشئ طبقة من المستضعفين في المجتمع، فهذه الطبقة المستضعفة من يحميها؟ من يدافع عنها؟ أتترك هكذا لتزداد تلك الطبقة في المجتمع وفي العالم وتهدد بقاء الإنسانية وبقاء القيم فيها؟! الوجود الإنساني  ليس وجود يتمثل في العدد، يتمثل في موارد بشرية، لا، الوجود الإنسان الذي أراد القرآن العظيم أن يصنعه وجود قيمي وجود مرتبط بإدراك الإنسان لوظيفته ومهمته على الأرض وتحقيق هذه المهمة فإذا تخلف الناس عن هذه المهمة وما عاد الإنسان مدركًا لوظيفته على الأرض وتحول من الإصلاح والإعمار إلى الفساد والتخريب أيترك هكذا بدون منهج؟! لا، ولذلك القرآن باقي إلى يوم القيامة، لأن القرآن منهج يعيد الإنسانية إلى صوابها، يعيدها إلى رشدها. ولكن هذا المنهج لا يمكن أن يكون أبدا قائما لوحده لا بد أن يكون هناك أناس يحملونه في نفوسهم، يقيمونه في بيوتهم وأسرهم ومجتمعاتهم حتى يتمكنوا من إخراجه إلى العالم الإنسان الذي يعجز عن تحرير نفسه بآيات القرآن العظيم والخضوع عليها هو إنسان أعجز أن يحرر غيره. القتال فيه إرساء وبناء لقيم الحرية الحرية التي يصنعها القرآن ليست حرية مزعومة أو موهومة، ليست حرية شكلية، كل القيم التي تكلمت عنها هذ السورة العظيمة سورة النساء وبنتها في الفرد والأسرة والمجتمع ليست قيم صورية، ليس قيم شكلية وإنما قيم حقيقية، فالإنسان الذي يخرج لأجل هذه الغاية العظيمة لا بد أن يكون قد تحرر من الخضوع لشهواته ولذلك جاء الحديث عن القتال في سبيل الله في أكثر من مرة في ثلاث آيات تحديدًا حين يتحدث القرآن عن الغاية من القتال ليؤكد أن المؤمن الذي لم يتمكن بعد من التحرر من أن يخرج في سبيل أهواء نفسه أو في مصالح عاجلة أو آجلة كتلك المصالح الدنيوية هذا الإنسان لا يمكن أن يحقق النصر ولذلك جاء الحديث بعدها عن فئة المنافقين فالنفاق الذي يحول بين الإنسان وبين الغايات العظيمة التي جاء القرآن لتحقيقها.

فبعد أن استقرت القضية في النفوس قال مرة أخرى (الَّذِينَ آَمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ﴿٧٦﴾) إذن هكذا هي المسألة وتدبروا قال في سبيل الطاغوت في سبيل كل أشكال القيم التي تبني الفساد وتقويه طغيان، ظلم، عدوان، انتهاك لأعراض الناس وحرماتهم، سبيل الطاغوت، منهج واضح. فإذا ما استقرت هذه الغاية في النفوس جاءت الآية التي تليها (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ) قبل القتال المؤمن طريقة الاستعداد لديه للقتال وللمواجهة بكل أشكالها مواجهة القيم الفاسدة وأصحاب المناهج الفاسدة المنحرفة الذين يعيثون في الأرض فسادا لا يكون الاستعداد فقط بنفسه، ليس مجرد استعداد مادي وإنما لا بد أن يصحبه إستعداد إيماني، زاد روحي، تعلق بالله سبحانه وتعالى، تحقيق معاني التعلق بالله عز وجلّ وتدبروا (كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) لم يحن الوقت بعد، مطلق الطاعة والتسليم. الإذن بالقتال وبساعة القتال تحديدا وانطلاقه إذن مرتبط بطاعة الله سبحانه وتعالى. (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ) إقامة صلاة وإيتاء زكاة، إقامة الدين في نفسك ومجتمعك إن كنت خرجت لنصرة العدل فلا بد أن يتحقق العدل في واقعك أولًا قبل أن تنطلق به إلى أرجاء الدنيا (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ) تشريعات، لكن حين يكتب القتال وتحين فعلا ساعة المواجهة الحقيقية هنا تبدأ عملية الفرز الناس ليسوا سواء عندما تحق الحقائق ليسوا سواء عندما تصبح الكلمات وقائع ليسوا سواء عندما يرون من خلال المواجهة حقيقة الموت، الموت حقيقة ولكن الإنسان يراه ساعة القتال ينظر إليه يراه أمام عينيه، هنا تبدأ عملية الفرز هنا تتحقق معاني الإيمان هنا يظهر الرصيد الحقيقي للإيمان في القلب. إن كان الإيمان حقيقيا كان الثبات في تلك الواقعة هو النتيجة الطبيعة وإن كان الإيمان مكذوبا أو مزيفا أو ضعيفا قطعا سيتلاشى ويتخاذل ويتراجع فيكون النفاق ويكون الفرار ويكون التخاذل والتراجع والتقاعس عن الاستمرار. وهنا تأتي الآيات بأصناف الناس حين تحق الحقائق (إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً) الخشية، الرهبة، الخوف، المحبة، الطاعة، المعاني الإيمانية العظيمة التي لا بد أن تتحقق قبل أن يقوم المؤمن لأجل أن يحمي تلك القيم العظيمة، الرصيد الحقيقي في القلب ذالك الرصيد القادر على أن يواجه الناس. وقضي الخوف أو الخشية من الناس هنا الآيات تتحدث عن واقع، كثير من الناس اليوم يحبون الحق فعلًا ولكن هذا الحب حب ضعيف لا يصمد أمام الآخرين في ساعة المواجهة، لا يستطيع أن يواجه الآخرين به، لا يستطيع أن يفصح أبدا عن تلك القيم المكنونة في نفسه، خشية الناس تتنوع الأشكال فيها، يمكن أن تكون خشية النقد، خشية من أن يقع الإنسان في شرور من قبل الآخرين أو مكائد وبعض الأشخاص إن واجههم هذا الإنسان يمكن أن ينافسوه في وظيفته وفي عمله، خشية، والقرآن يصنع الحرية صناعة حقيقية، يصنع الحرية في داخل المؤمن، يتحرر من الخضوع للناس ليس في يد أحد من الناس صغيرا أو كبيرا قويا أو ضعيفا غنيا أو فقيرا رجلا أو امرأة قوة عظمى أو لا قوة ليس بيد أحد منهم لا رزق ولا عمر ولا أي شيء من الأشياء التي يخاف الإنسان عليها، كل هذه الأشياء جعلها الله سبحانه وتعالى بيده وحده لا شريك له. أما وأنها بيد الله تعالى فليتحرر الإنسان من الخوف وليكسر عنه تلك القيود ويحطمها، وتحطيم تلك القيود هي أعظم خطوة من خطوات الحرية وبنائها في النفس. لذلك جاءت الآيات تعالج قضية الخوف من الموت. الإنسان شيء طبيعي خلق وهو يحب الحياة ويخشى الموت ويخاف الموت ويحب أن يحتفظ بالحياة ويحب النفس لكن القرآن عرف كيف يعالجها معالجة ذاتية تبدأ مع الإنسان في نفسه تدبروا (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا) متاع الدنيا وإن طال فهو قليل، ضئيل، بسيط سرعان ما ينتهي أما الدنيا فعلينا أن نفهم ما معنى الآخرة وما معنى الدنيا؟ لكي نتعلم من خلال ذلك بأيهما نحتفظ؟ أيهما فعلا يستحق أن يسعى الإنسان ويحرص عليه: الدنيا ذات المتاع القليل أو الآخرة ذات البقاء والخلود خاصة وأن الميزان لا ظلم فيه (وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا).

ثم تدبروا كيف يعالج القرآن العظيم خوف الإنسان على نفسه وعلى روحه، الروح غالية، الروح عزيزة والقتال يعني إنهاء روحه بنفسه، قضية ليست سهلة، كيف يعالجها القرآن؟ قال (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) الموت قدر قدّر على البشر لا مفر منه أبدًا وواقع الأمر أن هذا الموت الذي كتب على الإنسان (كل نفس ذائقة الموت) لا يرتبط بطبيعة عمل الإنسان يزاوله الإنسان ولا بمكان يتواجد فيه فحتى لو أنه وفر لنفسه كل أسباب الحماية بروج مشيدة عالية محكمة محمية تماما إذا كان الموت كتب عليه في ذلك المكان وفي تلك اللحظة فسوف يأتيه لا مفر منه. وساحة القتال التي يخشاها الناس غالبا باعتبار أنها الساحة التي يتعرض فيها الإنسان بسهولة للموت ليس فيها أي وسيلة من وسائل الحماية المادية يمكن أن تكون أبعد ما تكون عن لقاء الموت لأنه لم تحن ساعة الإنسان بعد ببساطة شديدة. الفرار لن يجنب الإنسان وقوع قدر الموت والمواجهة والقتال إن اقتضى الأمر أن يكون هناك قتال في سبيل الله وطاعة وأمر وتنفيذ لأمر الله سبحانه وتعالى لن يقرب الإنسان من الموت إن لم تحن الساعة بعد. حقيقة يحتاج الإنسان لاستحضارها لأجل أن يتخلص من كل عناصر الخوف والجبن والجبن مذموم فلا نامت أعين الجبناء لأنه يحجب الإنسان عن الانقياد والخضوع لأمر الله سبحانه وتعالى عن نصرة حق أو دفاع عن قيمة وعدالة يمنع الإنسان من أن يقوم بواجبه الذي أمره به الله سبحانه وتعالى يحول بينه وبين القيام بالواجب والقرآن لا يريد أن يصنع من الإنسان إنسانا ضعيفا متخاذلا جبانا يدفع به الخوف على الروح أن يسلك كل السبل غير المشروعة بعيدا عن أمر الله سبحانه، تدبروا كيف يخلص القرآن النفس البشرية من تلك الأخلاقيات التي لا تليق بإنسانيتها  الجبن لا يليق بالإنسان يدفع به لأن يكون عالة على غيره في الجانب الإنساني والقيمي والقرآن يريد أناسا يقومون بتلك القيم، قوامين لله، الآيات ثلاث مرات في سورة النساء ذكرت قضايا تتعلق بقضية القوامة القيام بالأمر على أتم وجه وعلى أكمل وجه، فالمؤمن قوّام لله وهذا القوام لله لا يمكن أن تستقيم معه صفة الجبن والتراجع والتخاذل.

ثم تعالج الآية والآية التي تليها قضية إنسانية تقع لنا جميعا يقول الله سبحانه وتعالى (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) استشعار الإنسان بمسؤوليته وشدة الإيمان بالقضاء والقدر الذي يكون الإنسان أحوج ما يكون إليه في ساعة المواجهة. هذه الآية والتي تليها تبني في المؤمن وترسخ عقيدة الإيمان بالقضاء والقدر، (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) الحسنة والسيئة الأقدار التي تعجبك والتي لا تعجبك لا تحدث إلا بأمر الله سبحانه وتعالى المسؤولية الإنسانية مسؤولية الإنسان كفرد أن يأخذ بالأسباب، يباشر الأسباب ويبذل كل ما يتمكن من بذله في سبيل التحقق من أن يكون الأمر الذي يخوض فيه على الوجه الذي أمر الله به سبحانه وتعالى ولكن إذا حدث شيء آخر فهذا لا يخرج عن الإيمان بالقضاء والقدر ولا ينبغي أن يحدث زعزعة ولا بلبلة الزعزعة في نفس المؤمن أو قلبه، الزعزعة التي يحدثنا عنها القرآن في سورة النساء فيما يتعلق بالنفاق والمنافقين (فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا) بلبلة زعزعة والإنسان المؤمن بحاجة إلى ثبات إلى رسوخ وهو يدافع عن القيم ويحميها، بحاجة ماسة إلى أن يثبت في نفسه معنى الإيمان بالقضاء والقدر (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) كل ما يحدث لنا في هذه الحياة من عند الله سبحانه وتعالى بأمره ولكن ذلك لا يعني أبدًا أن يخلي الإنسان مسؤوليته الفردية، يتخلى عن الشعور بالمسؤولية، لا، تدبروا في الآية التي تليها (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) كيف يستقيم الأمر؟ وهل هناك أي نوع من أتواع التعارض بين هذه الآية والآية السابقة؟! القرآن ليس فيه تعارض إطلاقا، هذه الآية تفسرها هذه الآية كل شيء يحدث في الكون حلوه ومره مكروهه ومحبوبه لا يخرج عن أمر الله سبحانه وتعالى ولكن أفعالي وتصرفاتي أنا كإنسان وما يحدث لي في الحياة شيء طبيعي أن أكون مسؤولا عنها أنا أحتاج قبل أن أخطو أي خطوة في حياتي وأتخذ أي قرار في حياتي أن أتخذ كل التدابير أن أتساءل عن النتائج عن المآلآت عن الأحكام عن التصرفات بمعنى آخر يكون لي تخطيط في حياتي القرآن لا يريد الإنسان المؤمن أن يخبط خبط عشواء في الدنيا، يخطو خطوات ويقدم على اتخاذ قرارات غير مسؤولة بدعوى أنه يتوكل على الله وأن كل ما يصيبه قضاء وقدر، صحيح كل ما يصيبنا قضاء وقدر ولكن على سبيل المثال لو تجاوزت إشارة حمراء وتسبب في وقوع حادث مؤلم ذهب نتيجته نفوس بريئة لا أستطيع في ذلك الموقف أن أحتج بالقضاء والقدر وأخلي نفسي من المسؤولية الفردية وأخلي نفسي من مسؤولية تجاوزي للإشارة الحمراء، لا، صحيح كل شيء قضاء وقدر ولكن أنا لا ينبغي أن أستعمل الأشياء في غير مواضعها ولذلك جاء في الآية (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) عليك أن تستشعر فضل الله عليك وأنت تباشر الأسباب وتدرك أن كل ما أنت فيه من خير إنما هو من فضل الله ولكن ما أصابك من سيئة فمن عندك وما أصابك فمن تقصير من عندك نقصير في اتخاذ التدابير، تقصير في حساب النتائج والنظر في مآلآت الأفعال، تحمّل المسؤولية، هذا ما يريد القرآن أن نتعلمه في هذا الدرس العظيم ولذلك الله تبارك وتعالى جاء بهذه القضايا والجزئيات قبل الحديث عن القتال بتفاصيلها. هذه أبجديات المواجهة اقدامك على الحق ونصرة الحق والقيم لا ينقص من عمرك شيئا ولا يقلل من رزقك شيئا ولا يحول بينك وبين تتمناه لنفسك من الخير والاستقرار والعطاء وإحجامك عن نصرة الحق والقيم والعدالة والحرية والمساواة ونصرة المظلوم ونصرة الضعفاء، لا يزيد في عمرك شيء ولن يأتي برزق ولا بزيادة رزق في شيء، إطلاقا ولن يحقق لك مصلحة زائدة، هذه أمور موهومة فتدبر في حياتك وتأمل في نتائج تصرفاتك وأفعالك واجعل يقينك وإيمانك بالله سبحانه وتعالى وبأن الأرزاق والأعمار والآجال والأقدار كلها بيد الله  لكي تتحرر من تلك المخاوف التي تحول بينك وبين إرساء الحق والعدل والإصلاح الذي به تعمر الدنيا والوقوف في وجه الفساد الذي به تخرب الديار وتخرب النفوس.

ولذلك أعطانا الله تعالى هنا آية أخرى نموذجا لأناس لا يدركون هذه الحقائق (فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ) الفئة من المنافقين الذين لم يتمكنوا من أن يتحرروا من تلك المزاعم (بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ) والقرآن يريد منا أن نؤمن بما نفعل وأن نفعل ما نؤمن به ونقول ما نؤمن به وندافع عن ما نؤمن به بدون ازدواجية والنفاق عكس هذا تمامًا ولذلك القرآن يقول (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا) لأنك في كل زمن وفي كل مجتمع ستجد الكثير من هؤلاء المنافقين الذين يقولون ما لا يفعلون ويقولون شيئا ويفعلون شيئا آخر، اترك هؤلاء وركز على ما لديك من إمكانيات وقدرات ولذلك جاءت الآية العظيمة في التدبر في هذا الوضع تحديدا (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴿٨٢﴾) التدبر هو الكفيل بتخليص النفس من أوهامها ومزاعمها وأمراضها وازدواجيتها وتخاذلها وضعفها ونفاقها.

ثم تمضي الآيات (فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) كلما ذكر القتال ذكر في سبيل الله ليؤكد الحقيقة أنك لا ينبغي أبدًا تحت أي ضغط من الضغوط أن تخرج للقتال في سبيل أيّ شيء سوى الله سبحانه وتعالى! القتال في سبيل الله هو الذي يحرر الإنسان من المطامع البشرية، هو الذي يحرره من أهواء النفوس، هو الذي يجعله حرًا لا يخضع لغرب ولا لشرق لا لصديق ولا لعدو لا يخضع إلا للذي خلقه لأن منهج الله سبحانه وتعالى هو الكفيل بأن يحقق العدل و كل المناهج لا يمكن أن تتكفل بتحقيق ذلك العدل.

ثم يأتي الحديث عن السلام والشفاعة في خضم الحديث عن القتال ليؤكد لنا أن القرآن كتاب ومنهج حياة لا يدعو إلى الحرب يدعو إلى السلام يدعو إلى الاستقرار، إلى سلام قائم على القيم وهو الذي يصنعه القرآن وليس السلام القائم على التخاذل والظلم وعدم الحرية والمساواة هذا ليس بسلام حقيقي، هذا سلام مزيف، الاستقرار الحقيقي هو الذي يبنيه القرآن القائم على القيم ولذلك جاء ربي سبحانه وتعالى بالحديث عن التحية والسلام هنا، الإنسان المؤمن إنسان مسالم ولكن مسالم مع من؟ مع من يلقي إليه السلام وليس مع المعتدين ولا مع الظلمة ولا مع الذين ينتهكون القيم التي جاء القرآن ببيانها وإرسالئها.

ثم تأتي الآيات في الحديث عن المنافق (فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا) كثيرة الآيات عن المنافقين والنفاق لأنها قضية من أخطر القضايا التي يتعرض إليها المجتمع المجتمعات والدول والحديث في سورة النسا ءعن قيمة العدالة والنفاق هو من أخطر الأمراض التي تصيب الأفراد والمجتمع والدول فتقوض قيم العدالة والحرية والمساواة. ونضرب مثالا معاصرا واقعيا: كم في مجتمعنا المعاصر الذي يدعي الحرية والعدالة والمساواة؟ كم من أولئك الذين يرفعون شعارات الحرية والعدالة والمساواة؟! كُثُلا! ما هي أفعالهم؟ ما هي تصرفاتهم؟ كيف هي نصرة هؤلاء لمن يدعون أنهم يناصرونه؟ ضعيفة غير موجودة! يقولون ما لا يفعلون! قضية النفاق قضية خطيرة ولذلك اهتم بها القرآن اهتماما عظيما في هذه الآيات ليؤكد أن من أخطر الأشياء على القيم قضية النفاق، القرآن يؤكد أهمية الأفعال أهمية إحقاق الحق والحرية والمساواة وليس ادعاء نصرة هذه القيم فارق شاسع بين أن يدّعي الإنسان شيئا وبين أن يقوم به حقًا في الواقع والسلوك، الفارق شاسع! ولذلك القرآن العظيم جاء بالحديث عن النفاق في هذا الموضع تحديدًا في نفس الوقت الذي يحدثنا فيه عن السلام، في نفس الوقت الذي يحدثنا فيه عن السلام، يحدثنا القرآن عن القتال ويحدثنا عن السلام ليؤكد أن القتال والسلام كِلا الأمرين شُرعا لأجل حماية تلك القيم العظيمة التي جاء بها القرآن، تدبروا: القتال والسلام لحماية القيم قيم العدالة والمساواة والحرية قيم الارتقاء بالإنسانية والإنسان ولذلك جاء الحديث في الآية (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا) قتال وسلام كلاهما حينما يكونا في سبيل اللة يحققان غاية واحدة غاية القيم والعدالة والحرية والمساواة. وعلى الإنسان المؤمن وعلى المجتمع المسلم الذي اتخذ القرآن منهجًا في الحياة أن يكون ملمًا بهذه الحقائق مدركًا متى يدعو إلى السلام ومتى يلتزم بالسلام ومتى يتخذ قرار القتال. القرار بالقتال أو السلام قرار مرتبط بهذه القيم وحمايتها ولذلك جاء الحديث عن (في سبيل الله) في كل هذه الآيات أما فيما عدا ذلك فالنفس الإنسانية مصونة لا ينبغي للمؤمن بأي حال من الأحوال أن ينتهكها، لها حرمة، مقصد من مقاصد الدين والتشريع الحفاظ على النفس لأن حق الحياة حق لم يهبه إنسان لآخر، الذي وهبه واهب الحياة ربي سبحانه وتعالى، ولأن الذي وهب هو الله فلا ينبغي للإنسان أبدًا أن يحاول أن يعتدي على تلك النفس بأي وسيلة دون أن يأذن الله سبحانه وتعالى بتلك الوسيلة ولذلك جاء الحديث عن القتل الخطأ (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) وتدبروا ما العلاقة بين قضية القتل الخطأ وبين تحرير الرقاب، تحرير العبيد؟ القرآن دين جاء ليحرر الناس ولكن الناس في فترات كثيرة في الحياة الإنسانية والتاريخ البشري عرفوا أشكالًا مختلفة من العبودية، عبودية الإنسان للإنسان لم يسلم منها حتى الزمن المعاصر الذي نعيش فيه والقرآن نزل في بيئة كان متعارفا على نظام الرق فيها فدعا إلى تحرير الرقيق بخطوات عملية وليس فقط بقرارات صورية أو شكلية كما اعتاد عليها البشر في عالمنا. فالإنسان الذي يقتل مؤمنا عن طريق الخطأ جعل الكفارة لذلك القتل تحرير رقبة، العبيد، القرآن يريد أن يعطينا فكرة عظيمة أن الحرية قيمة عظيمة تساوي قيمة الحياة، أنت قتلت مؤمنا خطأ فمقابل هذا القتل الخطأ وانتهاك الإنسان لنفس إنسان آخر ولو عن طريق الخطأ عليك أن تحيي نفسا أخرى بتحريرها الإنسان لا يستطيع أن يحيي لأن الذي يحيي ويميت هو الله لكنك تحيي بأن تهب الحياة من جديد لنفس أخرى بتحريرها، تدبروا المساواة بين الحياة والحرية. أي دين عظيم هذا الدين الذي يعلي من شأن الحرية الإنسانية! هذا هو القرآن حرية حقيقية ليست حرية مزعومة أعلا من شأن البشرية والحياة ولكن ليست ايّ حياة، هي حياة تليق بالإنسان الحياة الحرة التي تصان فيها حرمة الإنسان يصان فيها عرضه ويصان فيها ماله وتصان فيها كرامته، هذا ما أراده القرآن. ولذلك جاءت الآيات العظيمة محذرة المؤمنين من انتهاك حقوق الإنسان بأي شكل من الأشكال ولو في ساحة المعركة. ساحة المعركة تختلط فيها الأوراق فقد يقع الإنسان في قضية قتل عن طريق الخطأ، القرآن حذر أشد التحذير من هذا القتل الخطأ ونحن ليل نهار نسمع في محطات الإذاعة والتلفزة قتل مدنيين عن طريق الخطأ، قتل عشرات، قتل مدن، البشرية عرفت في تاريخها المعاصر سحق وتدمير مدن كاملة عن طريق الخطأ!. تدبروا كيف يعالج القرآن كيف يحيي القرآن ضمير الإنسان الفرد في أن لا تمتد يده إلى نفس إنسان أو حياة بشر (أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) تأكيد مرة بعد مرة، لا تخرج إلا في سبيل الله، لا تضرب في الأرض إلا في سبيل الله، لا تخرجك أهواؤك لا تخرجك مطامعك، انتهى ذلك العهد الذي كان يخرج فيه الناس لحماية أهوائهم ومصالحهم، تحركهم نزواتهم وشهواتهم والمطامع القريبة العاجلة، هذا لا يريده القرآن قال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴿٩٤﴾) تبيّن، تأكد، ابحث، لا يمكن أن يكون القتل هكذا جزافًا، النفس البشرية مكرمة النفس البشرية مكرمة كرمها الخالق وأمرنا بالحفاظ عليها فالتبين قضية مهمة جدًا. هذه الأبجديات التي يحدثنا القرآن عنها في سورة النساء حول قضية القتال قتال لأجل حماية القيم العظيمة التي تقيم وزنًا للحياة الإنسانية بكل أشكالها وصورها تحميها تحقق إنسانية الإنسان ولا تهدر كرامة البشر، ما أعظمها من غايات!. وتدبروا، التدبر لا يمكن أن يكون بعيدا عن الواقع، حين نتدبر القرآن لا يمكن أن نعتزل الواقع الذي نعيشه، لماذا يخرج الناس اليوم للقتال؟ الناس اليوم يقاتلون قوى كبيرة عظمى وصغرى، أشكال متنوعة من البشر يخرجون للقتال اليوم، دعونا نتساءل بين ما يطرحه القرآن هنا من أسباب مشروعة للقتال وبين ما يقاتل الناس لأجله اليوم، يقاتلون لأجل مصالح، يقاتلون لأجل حماية مصالح دنيوية لأجل حماية آبار نفط ومصالح دنيوية عاجلة، كم من الناس يقاتلون اليوم لنصرة هذه القيم التي جاء بها القرآن العظيم؟! أين موقع وحظ تلك القيم التي أمر القرآن بالخروج لأجلها (والمستضعفين من النساء  )، أين تلك القيم؟! نقطة نحتاج أن نستحضرها ونحن نتدبر في آيات هذا الكتاب العظيم.

ولأن القرآن العظيم يقيم وقائع يريد أناسًا أقوياء ولكن هذه القوة ليست قوة قائمة على الظلم، هناك قوة تقوم على الظلم والقوة التي يريدها ويصنعها القرآن قوة قائمة على العدل والقيم فارق شاسع بينهما فقال (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ﴿٩٥﴾) تدبروا هناك فارق بين القاعد وبين القائم، فارق بين الإنسان الذي نذر حياته ونفسه ووظفها لإقامة منهج الله في الأرض، لحماية الإنسانية والكرامة الإنسانية هناك فارق بينه وبين الإنسان القاعد والقرآن حدد قال (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) القرآن يريد أن يصنع أناسًا يقومون بهذه القيم الحق يحتاج إلى نفس تفديه ولسان عدل يدافع عنه ويفديه، قلب يحميه، ويد تدافع عنه وتغليه، الحق لا يقوم بالضعفاء. القيم العظيمة التي دعت إليها سورة النساء لا تقوم على أكتاف الضعفاء والقاعدين والعجزة. وماذا يحدث حين لا يقوم هؤلاء الأقوياء بتلك القيم حماية ونصرة ودفاعا؟ الذي يحدث أن تنتشر رقعة الفساد والمساحة التي يتبؤها أصحاب الحق والقيم تصغر شيئا فشيئا حتى تضيّق عليهم المساحة فلا يجدون مكانا يلجأون إليه فيلجأون للهجرة وتدبروا كيف جاء الحديث عن الهجرة بعد الحديث عن القعود والجهاد. قيمة الجهاد في سبيل الله والجهاد ليس كما يتصور البعض فقط يكون بأن يحمل الإنسان أدوات القتال ويخرج لا غاية ولا تخطيط ولا استراتيجية، هذا ليس ما يدعو إليه القرآن أبدا. ولكن القرآن يعلمنا أن الجهاد بكل أشكاله بالكلمة بالنفس بالمال بالنصرة بالدفاع عنه بكل أشكاله المتعددة بنصرة الحق في نفسك وفي مجتمعك وفي مؤسستك وفي أسرتك بالدفاع عن القيم في حياتك منهجًا وسلوكًا، أنت حين تتمثل القيم قيم الأمانة والحرية والمساواة في بيتك وفي أسرتك ومع طلابك ومع جيرانك ومع أصدقائك ومعارفك ومع من لا تعرف أنت تحقق هذا المعنى العظيم من معاني الجهاد التي للأسف الشديد غفل عنها الكثيرون. ماذا يحدث حين لا نقوم بهذا الأمر الإلهي؟ الذي يحدث أن رقعة الصلاح تضيق وتضيق وتشتد وتضيق الخناق على أهلها حتى لا يجدوا في الأرض مكانا يقيمون فيه هذه القيم العظيمة، ولا مكانا يمارسون فيه هذه القيم العظيمة فلا يجدون مفرا إلا أن يهاجروا وهنا جاء الكلام عن الهجرة في سبيل الله. الإنسان الذي أريد منه وطلب إليه أن يقيم تلك القيم في كل مكان يتواجد فيه فإذا ما قام بتلك الأوامر، ضاقت عليه الأرض بما رحبت وهذا حاصل في زماننا وفي كل زمان حين لا يقوم الناس بما أمر به الله سبحانه وتعالى من إحقاق للحق ونصرة للعدل.

بدأ الكلام عن قضية الهجرة (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ) تدبروا كل ما ذكر في سورة النساء: مستضعفين، استضعفوا، كلمة مقصودة لذاتها، الإنسان لا يولد ضعيفًا، لا يخلق ضعيفًا، لا يُخلق عاجزًا ولكن هو الذي باستسلامه وخضوعه للآخرين يعطي من نفسه ذلك الضعف حتى يصبح فعلًأ ضعيفا لا يؤبه له ولا يقام له وزن (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ) ظلم النفس أن لا يحقق الإنسان لنفسه الغاية التي لأجلها خلق، أعظم ظلم للنفس! ربي عز وجلّ خلقنا لغاية قال (إني جاعل في الأرض خليفة) فإذا لم أحقق الغاية التي لأجلها خلقت أيّ ظلم هذا؟! (قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا) الهجرة، نا فتح باب الهجرة لأن القرآن يعالج واقعًا إنسانيًا. هب أنك كنت في مكان كما كان المسلمون وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في مكة قضوا تلك الفترة وهم يحاولون كل ما يستطيعون القيام به لأجل نصرة القيم التي جاء بها القرآن في ذلك البلد الأمين في ذلك الوطن الذي هو بالفعل وطن لهم لكنهم لم يتمكنوا من تحقيق ذلك، استمروا، ثبتوا، حاولوا عشرات المرات، لم يتسللل إلى نفوسهم ولا إل قلوبهم العجز أو الياس! القضية قضية رسالة، قضية حق، قضية حياة تكون أو لا تكون، فحين ضاقت عليهم الأمور ولم يجدوا بعد ذلك مكانًا يمارسون فيها ذلك المنهج الذي نزل في كتاب الله هاجروا في سبيل الله، الهجرة لأن هذه الأرض شرقا وغربا شمالا أو جنوبا هي أرض الله وهي واسعة للإنسان لأجل أن يقيم منهج الله فيها. فالمكان لا ينبغي أن يكون عذرًا وهو ليس بعذر مقبول بمعنى آخر عليك أن تمارس المنهج الذي أنزله الله في كتابه في اي مكان كنت ولا تجعل قضية المكان هي التي تقف حجر عثرة في تطبيقك لمنهج، إن لم يكن بوسعك، هاجر فأرض الله واسعة. وتدبروا (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا ﴿٩٨﴾) مساحة للواقع الإنساني، القرآن جاء ليعالج واقعا إنسانيا، الناس ليسوا سواء، يتفاوتون في قدراتهم، يتفاوتون في ضعفهم، يتفاوتون في أحوالهم والقرآن كتاب عظيم يخاطب كل النفوس في ضعفها كما في قوتها في عجزها كما في قدرتها في صحتها كما في مرضها جاءت هذه الآية رخصة (فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا ﴿٩٩﴾) ولكن لا يعني ذلك أن يتحول السواد الأعظم من البشر إلى فئة مستضعفة! الفئة الغالبة لا بد أن تكون تلك الفئة القوية القادرة على أن تحقق الرسالة العظيمة ذلك المنهج القرآني العظيم. (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) لا يهاجر في سبيل أطماع مادية ولا يهاجر في سبيل ثمرات عاجلة دنيوية أو منافع أو مكاسب عاجلة وإنما يهاجر في سبيل الله (يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً) يجد بدائل متعددة، يجد مغانم، يفتح الله سبحانه وتعالى بها عليه على قدر ما في قلبه ونيّته من صدق وتوجه لله سبحانه وتعالى.

وهنا قد يقول قائل: هل الهجرة لأجل الكسب المادي أو لأجل حياة أفضل ممنوعة أو محرمة بناء على هذا الكلام في كتاب الله عز وجلّ؟ كتاب الله سبحانه وتعالى لا يقف بنا فقط عند قضية الممنوع أو المحظور أو المباح أو المفتوح أو المسموح به ليس فقط الأمر هكذا، يعطينا أبعادًا عظيمة للفعل الإنساني للفعل التكليفي كما يطلق عليه في عرف الفقهاء، الفعل الإنساني، الحكم التكليفي يعطيه أبعادا عظيمة واسعة أبعادا لا تخرج عن المقصد الذي لأجله خلق الإنسان إطلاقاً، القرآن يعطيك الغاية التي لأجلها خلقت كإنسان، نحن لم نخلق لأجل أن نأكل ونعيش ونلبس ونسكن،لا، نحن خُلقنا وسُخّر لنا ما في الأرض جميعًا من طعام وشراب ومسكن وغير ذلك من حاجيات لا تستقيم حياتنا إلا بها والحصول عليها لأجل أن نكون خلائف الأرض، أن نحقق هذا المنهج الذي أنزله الله في حياتنا وفي واقعنا وفي كل مكان نكون فيه، فلا تلهينا الوسلية عن الغاية ولا يشغلنا ذلك السبب عن المقصد الذي لأجله خُلقنا، هذا هو القصد، بمعنى آخر أنت حين تتخذ قرار الهجرة والفسر قف مع نفسك وقفة صادقة واسأل نفسك: لم تهاجر؟ هب أن تهاجر لأجل عيش كريم، قضية محمودة تمامًا لا غبار عليها ولكنها غير كافية لأجل أن تجعل منك إنسانًا مصنوعًأ على عين المنهج الذي أنزله القرآن العظيم، إذن ماذا أفعل؟ صحح مقصدك قبل أن تسافر وقبل أن تهاجر اِجعل لك حظًا من هذه الآية العظيمة (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) ما هو حظك من هذه الآية؟ هل هجرتك فعلا في سبيل الله؟ فإن لم تكن في سبيل الله فاجعلها في سبيل الله، وما معنى أن تهاجر في سبيل الله؟ ليس هناك تعارض بين أن تعيش عيشة كريمة تليق بإنسانيتك تكسب منها لقمة حلال شريفة كريمة وبين أن تحقق هذا المنهج الذي دعا إليه القرآن، ليس هناك نعارض أبدًا. إذن قدّم ورتب الأولويات في حياتك، هاجِر، اخرج بنفسك، بأسرتك، بأهلك إذا ضاق بك المقام ولكن لا تنس وأنت تهاجر أن تأخذ معك إيمانك، أن تأخذ معك المنهج، أن تأخذ معك الكتاب الذي يبنيك من جديد، الكتاب الذي يهديك في ذلك الطريق الشاق الطويل الذي عزمت أن تسافر فيه، لا تنس أن تأخذه معك. وأنا لا أقصد بالمنهج أن تأخذ مصحفًا للتبرك به فحسب كما يفعل بعض المسلمين ولكن أقصد أن تأخذه في قلبك يقينا أن تأخذه في سلوكك أفعالا وأخلاقا وقيما ومبادئ وأمانة، أن تأخذه في أسرتك تعاملا وقياما بالأمن والأمانة والعدالة فيها، أن تكون أنموذجا لغيرك في تلك البلد التي هاجرت إليها. ولنا وقفة هنا وقفة في التاريخ: المسلمون حين كانوا فعلًا قوامين لله قوامين بالمنهج سافروا، هاجروا، هاجر أعداد كبيرة منهم إلى منطقة جنوب شرق آسيا المنطقة التي هي تشكل اليوم الأغلبية العظمى من تعداد المسلمين أندونيسيا وماليزيا، خرجوا كتجار، خرجوا يضربون في سبيل الله، خرجوا أصحاب تجارة ولكنهم أخذوا المنهج معهم سلوكا أفعالا وقيما ومبادئ فكانت النتيجة أن تلك البلدان دخل أهلها في الإسلام عن طريق هؤلاء التجار والتاريخ يشهد، وفي نفس الوقت لدينا نحن كذلك في تاريخنا المعاصر من عشرات السنوات من يهاجر من بلداننا العربية والإسلامية إلى بلاد الغرب السؤال: ماذا فعل هؤلاء في الغرب؟ وبعيدا عن التعميم هل حملوا منهج القرآن كما حمله السابقون؟ هل امتزجوا بتلك الأقوام التي هاجروا إليها لأجل أن يقيموا وفعلًا ينقلوا بأمانة قيم هذا المنهج العظيم؟! هذا سؤال مهم جدا، سؤال هذا هو وقته الآن والمسلمون يواجهون تلك الحملة العنيفة عليهم في بلدان الشرق والغرب من هنا ومن هناك، سؤال وجيه جدًا: لماذا الآن ما يعرف بالإسلاموفوبيا نراه بذلك العنف والشدة والقوة؟ ما الذي جعلها هكذا؟ التقصير في حمل هذه الرسالة، شُغلنا بأسباب العيش عن هذه الكلمة العظيمة (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) ولا تعارض بينهما قال (يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً) ولكن عليك أن تكون الحركة التي تتحرك بها في سبيل الله، خسرنا كثيرا حين هاجرنا ولكننا لم نهاجر في سبيل الله، خسرنا كثيرا حين أقمنا وقمنا بوضع أماكن وكأنها أماكن عزلة عن المجتمعات التي نعيش فيها والبلدان التي هاجرنا إليها، القرآن ما طلب منا هذا، القرآن طلب من الإنسان أن يندمج في المجتمع الذي يعيش فيه، ولكن يندمج لا بمعنى أن ينصهر ويذوب وينسى كل تلك المبادئ والقيم التي يحملها في قلبه وفي حياته وسلوكه ينسى المنهج، لا، يندمج بسلوكه يقدم ذلك الأنموذج العظيم الذي جاء القرآن ليكون واقعا وسلوكا وحقيقة, هذه الآية آية عظيمة تشعر الإنسان بمسؤوليته التي غفل عنها كثيرون في زماننا هذا. ولذلك تدبروا (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ) هجرة إلى الله، ما جعل الهجرة إلى مكان، لم يحدد مكانًا، قال (مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ) وهل ربي سبحانه وتعالى يُهاجر إليه؟ وهل رسوله صلى الله عليه وسلم يُهاجر إليه؟ تدبروا وفي آية أخرى على لسان إبراهيم عليه السلام قال (إني مهاجر إلى ربي) هجرة إلى الله هجرة بأن يترك الإنسان ذلك العجز والتخاذل وعدم القدرة على القيام بأمره سبحانه إلى مكان يستطيع أن يقوم بما أمر به الله سبحانه وتعالى مهاجرا إلى الله ورسوله. (ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ) لم يحقق شيئا بعد، في الطريق أدركه الموت، (فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) وهنيئا لمن وقع أجره على الله. (فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) آية عظيمة توقظ الإنسان الذي غفل ونام عن هذه الحقائق العظيمة التي جاءت في كتاب الله سبحانه.

وفي تلك الآيات وفي ذاك الموضع جاء الحديث عن الصلاة (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ) لماذا الصلاة؟ إقامة شعائر الله. كم من القصص والوقائع الحقيقية التي أثبتها أصحابها من المسلمين عن مسلمين أفراد يقفون في بعض الأماكن في البلدان التي هاجروا أو أقاموا فيها في الغرب لإقامة شعيرة الصلاة وإذا بهؤلاء القوم من حولهم يتوافدون عليهم يسألون ما هي هذه الحركات؟ قيام قعود سجود؟ كيف أيها الإنسان تضع جبهتك على الأرض؟ ماذا تفعل؟ ولماذا تفعل؟ فكانت بابًا عظيمًا من أبواب الدعوة إلى الله سبحانه. الصلاة العظيمة، إقامة الشعائر، الصلاة بمعناها العظيم وغاياتها العظيمة التي جاءت هنا في سورة النساء لا لأجل أن تقام وراء أبواب مغلقة لا أحد يراها ولا ينظر إليها، الصلاة أريد لها أن تكون ظاهرة واضحة هنا في هذا المقام تحديدا، الكلام هنا عن صلاة الخوف في ساحات القتال لأن الإنسان المؤمن مطالب أن يقيم هذه الشعيرة العظيمة يريها للناس ليس من باب الرياء والمرآءاة وإنما من باب إظهار عظمة هذه الشعيرة ومدى تمسك هذا الإنسان المؤمن بقيمتها وحقيقتها في كل الأحوال في الأمن كما في الخوف في القيام كما في القعود في السفر كما في الإقامة، تدبروا هذه المعاني العظيمة.

ثم قال (فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) إقامة الصلاة في الأمن كما في الخوف، الحرص الشديد على الصلاة، ولماذا الصلاة وموضع الحديث عن الصلاة في أثناء الكلام عن القتال والهجرة والقيم وحماية القيم؟ الصلاة هي تلك المحطة العظيمة التي يتزود بها المؤمن فردا أو جماعة، رحلة الحياة رحلة شاقة، رحلة القتال رحلة شاقة، رحلة الهجرة رحلة صعبة والطريق وعر يحتاج إلى زاد يحتاج إلى محطات نتوقف فيها وعندها وأيّ محطة أعظم من محطة الصلاة حيث يحط المؤمن رحاله على أبواب الصلاة، على أبواب المساجد والأرض كل الأرض جعلت لنا مسجدًا وطهورا يحط رحاله لأجل أن يقف على الباب يسأل مولاه يسأل خالقه القوة (إياك نعبد وإياك نستعين) أنا أتحرك في الأرض وأضرب فيها يمينا وشمالا في سبيلك مستعينا بقدرتك، أنا عاجز ولكن استعانتي بحولك وقوتك يجعلني قويًا، أنا ضعيف كإنسان ولكن استعانتي بحولك وقوتك وتبرؤي من حولي وقوتي يقويني يعيد لي الحياة، أنا فقير ولكن استمدادي وطلبي للعون والغنى بك يغنيني ويحييني ويصرف عني كل الشرور والأوهام والعقبات التي تعترضني في طريق الحياة، الصلاة، ولذلك جاء الحديث عن الصلاة (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا).

(وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ) تدبروا الترابط والتناسب: بعيدًا عن الضعف والوهن يكون المؤمن بإقامة الصلاة، الصلاة تقويك، الصلاة تمنحك القدرة على مواصلة الطريق، الصلاة تمنحك الثبات على القيم وحمايتها والسير وفق المنهج العظيم الذي أراده الله سبحانه أن يكون واقعا ولذلك جاء الحديث هنا عن القرآن (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ﴿١٠٥﴾) تدبروا هنا جاء الحديث عن الخيانة لأن حركة الإنسان المؤمن في الحياة حركة محكومة بحماية الأمانة ومنازلة الخائنين ومخاصمة المعتدين أولئك الذين يعيثون في الأرض فسادا، بدحر القيم الحقيقية التي جاء القرآن بتثبيتها وبنائها الحرية، العدالة والمساواة هؤلاء لا تكن للخائنين خصيما. تدبروا الآيات كل الآيات التي جاءت فيما بعد تتحدث عن هذه القضية في خضم الحديث عن الصلاة. (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴿١١٠﴾) التوبة، العودة، الرجوع لله سبحانه وتعالى، باب التوبة المفتوح هذه هي القيم التي تُبنى بها مناهج الدنيا وتبنى بها الكرامة الإنسانية وتبنى بها قيمة الحياة الإسانية على وجه الأرض وهذا ما أراده القرآن.

وتدبروا هنا (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴿١١٤﴾) أعمال الخير والبر وتدبروا الأعمال التي اختيرت هنا (أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) قيم اجتماعية، قيم تحقق العدالة الإجتماعية وتحفظ الكرامة الإنسانية هذا هو المنهج الذي أراد الله سبحانه وتعالى أن يحقق في الواقع أما أولئك الذين يشاقون الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى ويريدون أن يقيموا ويدافعوا عن قيم تعاكس ذلك المنهج وتخالفه فهنا يقول الله سبحانه وتعالى (نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) هذا هو السبيل، هذا هو المنهج. وما الذي يحول بين الإنسان وبين القيام بمنهج الحق في واقعه؟ جانب منها قضية الشيطان اتباع أهواء النفوس والمنهج الشيطاني ولذلك جاء الحديث هنا عن الشيطان (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا ﴿١١٧﴾ لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ﴿١١٨﴾ وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا ﴿١١٩﴾ يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ﴿١٢٠﴾) صراع بين القيم العظيمة التي جاءت في القرآن وأراد الله سبحانه وتعالى أن تحقق في الأرض وتقام وبين أهل الباطل على الناصية الأخرى الذين تحركهم أهواؤهم ويحركهم هذا المنهج الشيطاني (وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا) هذه النهاية المحتومة.

ثم تدبروا ذاك الترابط العظيم بين آيات القرآن في السورة الواحدة لتحقيق المقصد (وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) إيمان وعمل صالح، في المقابل ليس هناك خط بينهما، هو سبيل الله أو سبيل الطاغوت والطريق واضح فإذا قررت اتخاذ سبيل الله والسير فيه فعليك بالإيمان والعمل الصالح (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ) الإيمان ليس بالتمني ولكنه ما وقر في القلب وصدّقه العمل (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) إذن هو العمل، (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ﴿١٢٤﴾) الإيمان ليس أماني، كثير من الناس اليوم يقول أنا أتمنى أن يكون بيدي أن أنصر الحق والعدل والحرية والمساواة، أتألم، الإيمان ليس بالتمني، الإيمان (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ) هذا هو الإيمان. أما أن لا أعمل وأبقى أتكل على ذلك الإيمان الضعيف في النفس الذي لا يحقق منهجًا ولا يصلح فسادا ولا يوقِف ظلما ولا عدوانا ولا يحمي إنسانًا ولا ضعيفًا ولا ينصر مظلوما ولا رجلا ولا امرأة ولا ولدًا ولا يدافع عن عرض هذا ليس بإيمان!! ولذلك جاءت الآية (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) آيات عظيمة والتناسب بينها واضح، أسلم وجهه أسلم حياته أسلم قياد أمره لله وحده لا شريك له ثم اتباع اتبع ملة إبراهيم حنيفا.

ثم قال (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا ﴿١٢٦﴾) كل شيء بأمر الله، هذا العالم، الأرض، السماء، الملك كل شيء بأمره وملكه. فإذن منهج من ينبغي أن تتبع في حياتك؟! منهج الله المالك الذي يملك كل شيء أم منهج الإنسان الضعيف العبد الذي يشابهك في الإنسانية وفي العبودية وفي الخضوع لله الواحد الأحد؟ منهج من أولى بالاتباع؟!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *