تفريغ سمر الأرناؤوط لموقع إسلاميات حصريًا
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وصلنا إلى بداية النهايات في سورة النساء العظيمة وكان آخر ما تحدثنا عنه تلك الوصية العظيمة التي وصّى الله بها عباده المؤمنين أن الإيمان لا يتجزأ، أن الإيمان الذي يستقر في سويداء القلب يصاحبه اليقين بالله وباليوم الآخر لا يمكن أن ينبثق عنه إلا كل عمل صالح يُضفي على الفرد وعلى الحياة وعلى الأسرة وعلى المجتمع كل القيم الراقية التي جاءت سورة النساء لبنائها في النفوس. ولذلك فرق الله سبحانه وتعالى في آية صريحة بين التمني وبين الإيمان والعمل. التمني مجرد أن يتمنى الإنسان شيئاً ولكنه لا يسعى ولا يحرص على تحقيقه وحصوله، بينما القاعدة التي ربي سبحانه وتعالى أراد أن يدعو الناس إليها أن الإيمان عمل (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124))ز ويلفت نظر المتدبر في كتاب الله عز وجلّ أن هذه الآيات جاءت بعد الحديث عن أعمال عظيمة: مواجهات، جهاد، هجرة في سبيل الله، ليأتي بعدها هذا الفصل في نهاية الخطاب عن الإيمان والعمل الصالح.
ثم بعد ذلك تبدأ الآيات في قضية ليست بالجديدة عن سورة النساء قضية النساء، قضية الميراث، قضية الحقوق، قضية الأسرة، قضية القيم، تعود عليها مرة أخرى سورة النساء، ولكن قبل العودة إليها جاء قوله عز وجلّ (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126)) وقد ذكرنا أن من قواعد التدبر أن يتأكد المؤمن تمامًا وهو يقرأ هذا الكتاب العظيم أن لكل كلمة في الآية مقصد وموقع مهم جاءت به لتحقق شيئاً ينبغي أن يبنى في نفس المتدبر، فربي سبحانه في هذه الآية وقبل أن يعود بنا إلى الحديث عن قضايا ميراث النساء قال (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) الملك لله، المال، الأشياء التي سخّرها الله عز وجلّ لنا، ما منحنا وما أعطانا، الملك لله وحده. وحين تستقر في نفس الإنسان هذه الحقيقة ويعيشها لحظة بلحظة يدرك أن كل ما لديه إنما هو من قبيل من الودائع والأمانات وعليه أن يتصرف فيها وفق ما أراده من ملّكه إياها وهو الله سبحانه وتعالى ولذلك ختم الآية بقوله (وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا) عليم خبير لا يخرج شيء عن علمه سبحانه وتعالى. وبالتالي استحضار هذه المعاني في نفس المؤمن وتأكيدها مرة بعد مرة يحقق ذلك الصلاح في السلوك وفي أداء الحقوق إلى أصحابها.
ثم جاء الكلام (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ (127)) مرة أخرى قضية اليتامى وهنا تحديداً يتامى النساء. اهتمام آيات الكتاب العظيم في هذه السورة بالنساء واليتامى دليل على أن العدالة في كتاب الله عز وجل العدالة التي جاء القرآن ليبنيها في النفوس عدالة مطلقة لا تنظر إلى موقع الإنسان كإنسان ولكنها تنظر إلى قيمة الإنسان في إنسانيته فإذا ما أحاطت ظروف معينة يتعرض لها كل إنسان من يُتمٍ أو ما شابه في حياة ذلك الإنسان فهذا لا يعني أن تهدر حقوقه في المجتمع ولا يعني أن يسلب ما ينبغي أن تتم المحافظة عليه بل القرآن يجعل من أفراد المجتمع أوصياء على حقوق الناس، أمناء على أداء هذه الحقوق والحرص على الحفاظ عليها. ولذلك جاءت الآية تؤكد المعاني التي بدأت بها سورة النساء في البداية في قضية اليتامى وفي قضية الحديث عن تعدد الزوجات الذي وقفنا عنده ثم قال بعد ذلك في ختامها (وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ) ليس فقط تقسطوا في اليتامى في بداية السورة قال (تقسطوا) وهنا قال (تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ) إذن تصبح قضية العدالة مع هؤلاء اليتامى في المجتمع ليست قضية عابرة وإنما هي قضية تشكل أمرا أساساً في حياة الإنسان يقوم له وتستقيم كل الأمور وكل الحسابات على أساسه ولا تهدر هذه الأمور بأي ظرف من الظروف (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا) ربط الحفاظ على حقوق اليتامى وعلى حقوق الناس وأداء هذه الأمانات بالإيمان بالله سبحانه وتعالى، رصيد المؤمن في إيمانه بالله عز وجل قضية مهمة جداًز (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا) فعل الخير لا يضيع عند الله وإن ضاع بين الناس فكان من المناسب جدًا أن ينتقل الحديث من جديد عن القضايا الأسرية وقضايا الإصلاح والحفاظ على بنية الأسرة مهما كانت الظروف. القرآن يحافظ على الأسرة ويعلي من شأن الأسرة إعلاءً كبيراً جداً وهذا الاهتمام بالأسرة الذي بدأ به السورة وجاء بعده بالحديث عن المجتمع وبالحديث عن الدول وبالحديث عن حقوق الأمم والقتال والمواجهة والهجرة ثم يعود من جديد إلى قضية الأسرة، الأسرة هي الميدان الحقيقي الذي يثبت الإنسان فيه إيمانه وصدقه في التعامل مع الله سبحانه وتعالى، الأسرة هي الميدان التي فعلًا يبدأ يظهر فيها معادن البشر، الأسرة ليس فيها أفراد يمكن أن ينافقهم الإنسان أو يخادعهم في إظهار الجميل وإخفاء القبيح لأن البيت بيته والأسرة هي أسرته أقاربه أقرب الناس الذين يعيشون معه ويشاطرونه العيش، فكان الإحسان والصدق والتقوى إن ظهرت في ذلك البيت وفي ذاك المحيط ظهر معه المعدن الحقيقي لإيمان هذا الإنسان. وجاء القرآن في هذه الآيات بقضية تحدث في كثير من الأحيان ويمكن أن تهدد كيان الأسرة الذي أراد القرآن أن يحافظ عليه إلى آخر مدى لأن القرآن بمحافظته على بنية الأسرة إنما هو يؤسس لمجتمع قوي مجتمع صالح مجتمع يضمن فيه الأفراد نشأة سويّة صحيحة خالية من الانحرافات بعيدة عن المشاكل والعقد النفسية التي يمكن أن يُرفد بها المجتمع، والمجتمع إذا رُفد بتلك العقد النفسية وبأفراد لهم خلفيات معقدة جداً من أسر مفككة وأُسر فيها مشاكل وأُسر فيها اضطرابات لا يمكن أبدًا أن يحققوا نجاحًا أو صلاحاً أو ترتقي بهم المجتمعات والأمم وهذا ما لا يريده القرآن، فالقرآن في هذه الجزئية يعالج حقيقة واقعية أن الرجل والمرأة ولكن الحديث هنا عن قضية الرجل لأنه (تحدث في السابق عن النشوز بالنسبة للمرأة) هنا يعرض القرآن قضية أن الرجل قد يُعرض عن المرأة، قد يزهد في العلاقة بينه وبينها فما هو الحل؟ أمع ذلك الإعراض يمكن أن تُحطّم بنية الأسرة؟ أم أننا نلجأ إلى كل الوسائل الممكنة لانقاذ سفينة الأسرة؟ هذا ما يحدثنا عنه القرآن.
هذا الحرص الشديد على الحفاظ على الأسرة من قبل الرجل ومن قبل المرأة لا يمكن أن يحدث إلا من نفوس تعالت على الشحّ والشح أعمق وأشد من البخل، البخل مجرد أن يمسك الإنسان بما يمتلك الشح أعمق يبخل مع الحرص الشديد وأحيانًا قد يمسك بشيء لا يضره إذا أعطاه أو قدّم ذلك الشيء لشخص آخر ولذلك هو أعمق، الشح إذا وجد في الأسرة ذهبت معه الأسرة بكل تأكيد، تفككت الأسرة ولذلك العلاقات الأسرية والحفاظ عليها من قبل الرجل والمرأة وكذلك من قبل الدائرة الأوسع دائرة الأقارب تحتاج إلى أن يتخلص الإنسان من داء الشحّ (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) فائزون. ولذلك قرر القرآن في هذه الآية (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ (128)) تدبروا هذه القاعدة العظيمة: كل العلاقات الأسرية كل العلاقات الإجتماعية كل العلاقات الإنسانية إدامة والمحافظة على العلاقة عن طريق الصلح هو خير دائما خير من قطع الوشائج، خير من قطع العلاقات، العلاقات المفككة لا يمكن أن يستيقظ بها مجتمع أو أمة، لا يمكن أن يقوى المجتمع بوجود علاقات مجتمعية مفككة مفرّقة ولأجل أن لا تتفكك هذه العلاقات نحن بحاجة إلى علاج الصلح (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ). وقضية الصلح تحتاج إلى أن يتخلص الإنسان من شح نفسه لأن كل المصالحات تحتاج منا لا نقول إلى تنازلات أو تضحيات نحن ناقشنا في مرة سابقة أن الصلح لا يمكن أن يكون تنازلًا ولا يمكن أن يكون تضحية حتى استعمال اللفظة أنك تنزل عن شيء بينما أنت حين تصطلح مع غيرك أنت لا تنزل وإنما ترتفع وترتقي، ترتفع بنفسك على شحّها وتتخلص من ذلك المرض الذي إذا جاء وتولد في النفس واستشرى فيها حرمها من خير كثير من عند الله عز وجل.
ولذلك ربي عز وجلّ بعد هذه الآية (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) قال (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ) الحديث هنا عن يوم القيامة يحضرها ربي عز وجلّ لا تخفى عليه خافية. الإنسان في كثير من الأحيان يتوهم أن الصلح يعني التنازل أن الصلح يعني الضعف يعني التضحية يعني أن يتنازل الإنسان ويتراجع عن موقف أو يخسر نقطة لصالح الطرف الآخر الذي يريد أن يبني معه الصلح والقرآن يحطم هذا المفهوم تماماً ويعطينا درجة عالية للإصلاح بقوله سبحانه (وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) الصلح رقيّ، الصلح ارتقاء، الصلح إحسان، الصلح تقوى، لا تأتي به إلا تلك النفوس الراقية التي لا تريد جزاء ولا تنتظر شكورا من الناس. الناس التي لا تنتظر الشكر من الناس النفوس المتعلقة بخالقها عز وجل المدركة أن الله سبحانه خبير بخبايا النفوس ولذا جاء الحديث مباشرة بعد هذه الآية (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ (129)) الكلام مرة أخرى عن قضية التعدد لأن الطبيعي والواضح أن الرجل حين يعرض عن المرأة ويزهد في استمرار العلاقة الزوجية معها فسيبحث له عن أخرى ولذلك جاءت هذه الآية (فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129)) الصلح المبني على تقوى الله عز وجلّ، الصلح الذي لا يخشى الإنسان فيه من أحد يخشى الله سبحانه وتعالى فقط، الصلح الذي يؤسسه في داخل بيته وأسرته، الصلح الذي يحافظ فيه على العشرة بالمعروف، الصلح الذي لا يجعل العلاقات الزوجية والأُسرية رهينة بعواطف أو مشاعر أو بأمزجة أو بأهواء، الصلح المبني على التقوى والإحسان، هذا التعامل الراقي في داخل البيوت هو ما نحتاج إليه اليوم. البيوت لا تؤسس وقد قلنا في السابق لا تؤسس على المشاعر والعواطف فحسب، اليوم نحن نلاحظ أن نسبة الطلاق وخاصة في الزيجات بين الشباب بين أبنائنا وبناتنا نسب مرتفعة نسب مخيفة نسب تنذر فعلًا بأن هناك خللاً حقيقياً يدكّ أبواب الأسر والبيوت إذا حدث هذا الخلل وهذا التصدع في كيان الأسرة فماذا بقي في المجتمع؟! وماذا بقي في الأمة؟! وماذا بقي لنا نحن اليوم كمسليمن لأجل أن نقدمه إلى العالم؟! نحن بحاجة إلى هذا الخلق الرفيع، بمعنى آخر أن يدرك الإنسان وهو مقبل على مشروع الزواج عظم المسؤولية الملقاة على عاتقه هذه المسؤولية التي لا يمكن أن تتولد إلا على عين التقوى والإصلاح والإحسان والشعور بأن الله سبحانه وتعالى خبير محيط لطيف غفور رحيم وبالتالي هنا تنشأ الأجواء المناسبة جدًا لقيام الأسرة.
ولكن لأن القرآن يعالج واقعاً إنسانياً ليس أمرًا مثالياً ضاربًا في المثالية بعيداً عن الواقع جاء بالآية التي تليها فقال (وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130)) الزواج ليس عقداً أبدياً، إذا استفحلت الخلافات في الأسرة وفي البيت المسام وما عاد هناك مجال بين الزوجين رغم حرصهما على الاستمرار في العلاقة الزوجية أن يكون هناك استمرار فهل يغلق الباب؟ هل توصد الأبواب؟ ويصبح الشعار السائد في الأسرة التعاسة والخلافات التي لا تنتهي والصراعات والشقاق؟ لا، لأن كذلك هذا النوع من الأجواء أجواء غير صالحة لتربية أبناء ولو فرضنا لم يكن هناك أبناء فهل من قدر الزوج والزوجة أن يبقيا في هذه التعاسة الأبدية بدون مجال للخلاص؟! الزواج في القرآن ليس سجناً أبدًا، ليس عقوبة ولذلك جاءت هذه الآية العظيمة (وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ) الحياة الإنسانية لا تنتهي أبداً مع نهاية علاقة إنسانية، نحن نحرص على هذه العلاقات ونحرص على استمراريتها وديموميتها ولكن إن قدّر الله سبحانه وتعالى أمرا آخر وسارت الأمور على خلاف ذلك فلا ينبغي للحياة أن تتوقف ولا ينبغي للإنسان أن يحكم على نفسه وعلى غيره بالتعاسة الأبدية أبداً، هنا تأتي عملية إنهاء العلاقة الزوجية. (وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا) الله سبحانه وتعالى يغني كِلا الطرفين لأن إنهاء العلاقة الزوجية لا يعني النزاع ولا الصراع ولا الاقتتال والمخاصمة التي لا تكون في صالح أيّ أحد من الأطراف (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ (229) البقرة) هذا هو القرآن.
ومرة أخرى جاءت الآية بقوله عز وجلّ (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ (131)) ليعلّق القلب البشري بخالقه سبحانه وتعالى ليشعر القلب البشري بغناه عن البشر. عدد من النساء وربما حتى من الرجال يستمرون في علاقات زوجية وأسرية وهم يدركون تماماً أنها علاقات ميؤوس منها تماماً لا مجال للصلاح، ولكن الذي يدفعهم على الاستمرار فيها القضية المادية الحرص على قضية المعيشة وما شابه وهو أمر لا بد للإنسان أن يهتم به لكن عليه تماماً أن يدرك بأن كل هذه الأمور إنما هي أسباب وعليه أن يبقى دائمًا معلق القلب بمسبّب الأسباب الذي له ملك السماوات والأرض. ولذلك جاء الحديث في نفس الآية (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ) الوصية الخالدة العظيمة (أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا) ومرة ثانية (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132)) تدبروا كم مرة في هذا الجزء فقط من الآيات وردت (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) ليحرّر النفس من الشحّ يحرر النفس من الخضوع للآخرين لتوهم أن الآخرين يمتلكون لأنفسهم أو لنا نحن نفعاً أو ضراً إلا ما شاء الله. الأمر كله لله والتقوى هي المفتاح الحقيقي الذي يوصل الإنسان إلى الغنى فكلما زاد المرء تقوى لله سبحانه وتعالى ومراقبة لأمره ونهيه زاده الله غنى، غنى ليس بالضرورة فقط أن يكون غنى ماديًا، غنى النفس الشعور بالغنى، الشعور بالاستغناء عن الخلق، الخلق الشعور بأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يعطي وليس البشر والبشر في نهاية الأمر إنما هم أسباب يسخرها الله سبحانه وتعالى لمن يشاء ولذلك جاءت الآيات بعد ذلك (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ (133)) أصبح الخطاب للناس (وَيَأْتِ بِآَخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا) ليخلّص النفوس من التعلق بالناس، من ذاك التعلق الذي يدفع الإنسان أحياناً إلى الخضوع للبشر الذي لا ينبغي أن يكون إلا لله وحده لا شريك له، هذا من تمام الإيمان، الخضوع الذي يعقبه الاستسلام في المنهج، السير على المنهج القرآني العظيم الذي جاء القرآن بترسيخه لا يمكن أن يكون هذا الخضوع إلا حين يستسلم القلب لله سبحانه وتعالى استسلاماً مطلقاً خالصاً يسلم معه التوحيد من النظر إلى أيّ أحد من البشر أو إلى أيّ أحد من الخلق ولذلك جاءت الآية الهيمة (مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ (134)) أنت تريد الدنيا وحتى لو كنت تريد الدنيا وتسعى إليها عليك أن تدرك أن الدنيا والآخرة بيد الله ليست بيد أحد من خلقه. إذا استقرت هذه المعاني في النفس كما أراد القرآن في سورة النساء أن يقرّها يجعلها حقيقة يعيشها الإنسان إذا فعلًا استقرت هنا فقط يأتي ذلك الأمر العظيم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ (135)) ولن يتحقق ذلك القيام بالعدل سواء كان في الفرد في نفسه أو في الأسرة في البيت كما تكلم عنها القرآن في الآيات قبل قليل أو في المجتمع أو في المال أو في اليتامى أو في النساء أو في الزواج أو مع الآخرين أو في الحكم على الناس لن يحدث إلا إذا استقرت هذه المعاني في النفوس الإيمان بالله سبحانه الإيمان بعظمته، الإيمان بقدرته، الإيمان بأنه الواحد الأحد الذي ينبغي أن يُتّبع ويطاع فيما يأمر فقال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا) تشريفاً وتكريماً (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) وهو في آيات سابقة في بدايات سورة النساء قال (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ (34)) تدبروا كيف تفسر الآيات بعضها بعضاً. قوَّامون بأيّ شيء؟ كثير من المسلمين – نتيجة للفارق الكبير الذي أصبح بيننا وبين كتاب الله عز وجلّ – يقفون عند الآية (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ) ويسكت ويعتبر القوامة درجة وهي كذلك ولكن هي تكليف هي مسؤولية هي أمانة في نفس السورة يأتي تفسير هذه القوامة بكل أشكالها، قوامة الرجل على زوجته في كيان الأسرة أو قوامة الإنسان المؤمن على نفسه وعلى الآخرين في المجتمع وفي العالم. (قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) كيف تكون قواماً؟ عليك أن تقوم قوامًا بالقسط، (شهداء لله) في قيامك بمسؤولياتك بها بالعدل والإنصاف والتعامل إنما أنت تفعله لا لأجل أحد وإنما لأجل أنك تشهد بهذا القيام لله سبحانه وتعالى وحده. وكيف تتكون تلك الشهادة لله؟ بالآيات التي كانت قبل كم من مرة في هذه الآيات ربي عز وجلّ يقول (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) وكم من الصفات ذكرها سبحانه: محيط، غفور، رحيم، حكيم، خبير، عليم، بصير، سميع، واسع، غني، قدير، حميد، تدبروا في مقطع واحد كم من الصفات ذكرها سبحانه، لماذا؟ ليؤسس معنى أن يكون الإنسان شهيداً لله سبحانه وتعالى، شاهداً له. كيف يكون ذلك والآيات في بدايات السورة (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41))؟ بهذه المعاني العظيمة: أن يترسخ في القلب ويستقر ذلك الإيمان بأسماء الله وصفاته وقدرته وسعة ملكه وقدرته التي لا يحدّها شيء، حينها تستقر المعاني فيقوم الإنسان بالعدل ويتحرر من الخوف. الإنسان لماذا يظلم؟ وقديماً وقد قيل لا يأتي بالظلم الا الإنسان الضعيف المهزوز المهزوم داخلياً لأنه إنسان خائف، الظلم لا يحدث إلا حين يخاف الإنسان، والعدل لا يحدث ولا يتحقق إلا حين يتحرر الإنسان من الخوف من كل أحد ومن كل شيء إلا الله عز وجلّ ولذلك جاءت الآية في موضعها تماماً (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) جاء الأمر هنا بعد أن ركّز دعائم الإيمان العميق في قلوبهم أمرهم بأن يقوموا بالقسط. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) تدبروا، درجة عالية، أمر عظيم، لا يمكن أن يأتيه إلا إنسان له رصيد عالي من الإيمان بالله سبحانه وتعالى كما أسسته سورة النساء العظيمة.
وقال في نفس الآية، القرآن هكذا: يقّدم الأمر، يأمر بالأمر، يقدّم العلاج ومع تقديمه للعلاج يقف بالإنسان على الداء أو على السبب الذي يمكن أن يحول بينه وبين أخذه لذلك العلاج، قال (فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا) تدبروا، إذن ما الذي يدفعني إلى عدم العدل؟ سواء كان في العلاقات الزوجية أو في العلاقات المالية أو في العلاقات الاجتماعية أو في كل شيء؟ اتباع الهوى. (فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا) الذي يمنع الإنسان من العدل اتباع الهوى وما من عدو أخطر على الإنسان من هوى نفسه، اتباع المزاج الذي يوهم الإنسان فعلا بأنه يريد مصلحة ذاته وهو في واقع الأمر أعماه الهوى فأصبح يرى الصالح ضاراً غير نافع ويرى الشيء الضار وكأن فيه الصلاح.
ولذلك الله عز وجلّ في الآية التي بعدها وصف علاج قضية اتباع الهوى. الهوى داء خطير يورِد الإنسان المهالك في الدنيا وفي الآخرة، يحطم كل العلاقات وإلا فبالله عليكم ما الذي يفسد العلاقات الاجتماعية ولا يدفع الناس لأن يصطلحوا فيما بينهم كإخوة وكأقارب وأولاد عم وأزواج وزوجات وأنساب؟ ما الذي يدفع بهم إلى عدم التصالح؟ غير اتباع الهوى؟ يورد الإنسان فعلا التهلكة في الدنيا والآخرة ما هو العلاج؟ قال الله عز وجلّ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136)) الإيمان بهذا الكتاب العظيم، هذا الكتاب هو الذي يعيد الإنسان إلى رشده يعيده إلى جادة الصواب، يعيده إلى الطريق الحق ينقذه من الظلمات، يخرجهم من الظلمات إلى النور، هو هذا الكتاب هذا عمل هذا الكتاب هذه قدرات هذا الكتاب العظيم أنزله الله هدى ونور وشفاء ليُخرج الناس به من الظلمات إلى النور.
ولذلك جاءت الآية بعدها لتؤكد أن إيمان الإنسان بالكتاب يعني أن يتّبع المنهج في حياته وسلوكه فإذا قال أنا آمنت به بلسانه ولم يؤمن بقلبه وتطبيقه في واقعه وحياته وسلوكه كان ذلك نفاقاً كان ازدواجية وادّعاء وهذا هو النفاق ولذلك جاء الكلام عن النفاق بعد ذلك (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138)) لماذا الحديث هنا عن النفاق؟ التناسب واضح، طلب مني الإيمان فماذا بعد الإيمان إلا الكفر والضلال والنفاق؟ الذي قد تهيأ للإنسان أنه حلّ وسط يقول آمن بلسانه ولا يؤمن بلقلبه والقرآن لا يقبل بأنصاف الحلولّ هذا ليس حلًا، هذا إشكال كبير، ولذلك توهم المنافقون في المدينة أنهم فعلًا ينقذوا أنفسهم بهذه الطريقة يؤمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار ويكفروا آخره، هذا التذبذب والتزعزع لا يكون في صالح المنافق ولا أسرة المنافق ولا المجتمع ولا أيّ أحد، القرآن يريد إيماناً حقيقياً يريد إيمانًأ واضحاً يستقر في القلب فيفيض على الإنسان في واقعه وحياته أدباً وسلوكاً وعدلاً وصلاحاً ونهياً عن الفساد والمنكر.
ثم بعد ذلك عرضت الآيات جملة من التصرفات والسلوكيات التي يقوم بها المنافقون في المجتمع وتحديداً كمثال في المجتمع الأول المجتمع المدني لأن أوجه النفاق وصور النفاق صحيح حسب الوضع التاريخي يمكن أن قد تختلف بعض الشيء في أشكالها وصورها لكنها في حقائقها واحدة لا تتغير، والقرآن العظيم لو تدبرنا فيه لوجدنا أنه يأتي بالحديث عن المنافقين في مواضع كثيرة حتى خصص سورة كاملة للحديث عن هذه الفئة في المجتمع لخطورتها على المجتمع وعلى الأسرة وعلى القيم العظيمة التي جاء القرآن بتأسيسها لأن الإنسان المنافق إنسان غير واضح إنسان يتبنى المخادعة ولذلك قال سبحانه وتعالى (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى) لماذا؟ (يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلً (142)) هنا القرآن يعالج قضية النفاق من جذورها، لماذا يحدث النفاق؟ لأن الإنسان حين ينافق فإنما هو ينظر إلى الناس ويرائي الناس ويسعى إلى رضا الناس والله سبحانه وتعالى يريد من الإنسان المؤمن الذي استقر الإيمان في نفسه وفي قلبه أن يُسقط الخلق من حساباته، بمعنى آخر أن يسقط النظر إلى رضى الناس أو عدم رضاهم في سلوكه ومنهجه في الحياة، هو يمشي وفق ما أراد الله عز وجل لا وفق ما يريده الناس لا يلبي رغبات الناس وإنما يسير وفق ما أراد الله سبحانه وتعالى ولذلك عاقبة النفاق خطيرة جداً لما تحدثه في المجتمع من تذبذب من ازدواجية من تصور أن الإيمان قول دون عمل وهذا عكس ما يدعو إليه القرآن العظيم تمامًا ولذلك أعطى الله عز وجلّ هذه النهاية الشديدة للمنافقين. ثم قال (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146)) الإخلاص، تلك العملة النادرة التي بها تكبر الأعمال وبها يتفاوت الناس في قربهم من الله سبحانه وتعالى وفي جزائهم.
ثم بعد ذلك الآيات التي جاءت في سورة النساء حدثتنا عن أشكال النفاق، النفاق ليس شكلاً واحداً منه ما يتعلق بالإعتقاد ومنه ما يتعلق بالعمل منه ما يتعلق بالعمل حتى المجتمعي والعلاقات الإجتماعية ومن الأشياء والمسالك التي يحرص عليها المنافقون وأوضحتها الآيات في سور أخرى كما في سورة النور حين جاؤوا بحادثة الإفك وغيرها كثيرة جداً الأمثلة عليها، من صفات النفاق والمنافقين الحرص على إشاعة السوء، الشائعات، الحرص على الأخبار السيئة ونشر كل الأخبار السيئة عن الآخرين في المجتمع ولذلك القرآن في سورة النور على سبيل المثال قال (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا (19) النور) وهنا ربي سبحانه وتعالى يعالج واحدة من سلوكيات النفاق في المجتمع (لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ (148)) الجهر بالسوء، إشاعة الأخبار السلبية السيئة الحديث عن الآخرين، الانتقاص منهم، هذه ليست من سمات المجتمع. ولماذا جاءت الآية بهذا الشكل (لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ)؟ المجتمع المسلم مجتمع راقي حتى في أحاديثه وسَمَره، أحاديث السمر حين يتسامر المؤمنون في مجتمع راقي يمشي وفق ما أراد الله له أن يمشي في كتاب الله سبحانه، راقي في حديثه حتى المزاح راقي، راقي حتى في الكلمات التي ينتقيها، راقي في سلوكياته راقي في أدبه راقي في طبيعة المحادثات التي تدور بين الإفراد (لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) تدبروا: الحديث السيء لا ينبغي أن يشاع في المجتمعات سمعت حديثاً تفسد كل شيء ليست فقط تفسد العلاقات الاجتماعية في واقع الأمر ولكنها تفسد كذلك المزاج الإنساني والذوق الإنساني الذي ينبغي أن يكون راقياً مهذباً هذّبه القرآن.
الكلام على الناس ونحن في زمننا هذا الذي نعيش فيه ملاحظ جدًا انتشرت وسائل التواصل الإجتماعي المختلفة والخبر الذي كان يأخذ يومًا أو ربما يومين أو أكثر، شهر لأجل أن يصل باعتبار أن وسائل الإتصال ضعيفة في العصور الماضية الآن أصبح في ثواني يمكن أن ينتشر إلى عدد كبير جدًأ
من الناس وكلما زاد النشر والانتشار زادت العواقب الوخيمة المترتبة على ذلك فالجهر بالسوء اليوم قضية خطيرة جداً أفسدت على الناس ليس فقط علاقاتهم أفسدت عليهم القلوب، قلب المؤمن قلب خالص كالمرآة ينبغي أن يبقى نظيفاً طاهراً يعكس معاني الإيمان والتقوى والخوف من الله عز وجل، أما إذا شابته عشرات الشوائب على كل الوسائل المختلفة نشر خبراً وعلى اعتبار وهو اعتبار غير صحيح “ناقل الكفر ليس بكافر” من قال هذا؟ ناقل السوء وناقل الخطأ وناقل الفواحش وناقل الشائعات وناقل الأفكار المنحرفة هو مشارك في نقلها، هو لا يمكن أن لا تقع عليه مسؤولية النقل والنشر، أنت مسؤول ومساءل عما تنشر، أنت مشارك في المسؤولية فلننتبه إلى هذه النقطة الخطرة ولذلك ربي عز وجل ختم الله الآية بقوله (وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا) يسمع ويعلم.
تدبروا (إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)) قدّم إبداء الخير، وفي الآية التي قبل قال (لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ) إذن فماذا يحب ربي عز وجل؟ يحب أن تُظهر الخير وتستر العيب وتُصلح ذات البين (إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا) والنتيجة هو ذلك الإيمان الذي يعود عليه القرآن العظيم مرة بعد مرة (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150)) والسؤال ما وجه التناسب بين هذه الآية والتي قبلها؟ واحدة من الوسائل قضية الجهر بالسوء، قضية الكلام الحديث عن هذه الأقوال وهذه الأشياء وهذه الأفكار وهذه الإنحرافات ليس من باب معالجتها وإنما من باب إشاعتها ومن باب نشرها هذه أجزاء من الأشياء التي يمكن أن تُنشر بهذه الطريقة والقرآن العظيم يريد إيماناً مرتبطاً بسلوكيات راقية في المجتمع هذا الإيمان هو الذي يأتي بذلك الخير الذي أسس له القرآن.
تنتقل بعد ذلك الآيات إلى الحديث عن نموذج من أشخاص لم يحسنوا التعامل مع الكتاب الذي نزل عليهم ليؤكد حقيقة وهي أن هذه الآيات التي جاءت في هذه السورة وفي غيرها من سور القرآن جاءت لتنفذ في الواقع لتظهر في سلوك الإنسان فإذا لم تظهر فعليه أن يحذر أن ذلك قد وقع مع أهل الكتاب، ولذلك جاءت الآيات عن أهل الكتاب. ولذلك ربي عز وجل يحدثنا هنا عن قضية حدثت مع أهل الكتاب (ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآَتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا (154)) ممارسات مارسها أهل الكتاب على رغم أن البينات قد جاءت إليهم وربي عز وجل قال (وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا) الحديث عن أهل الكتاب لتقديم نموذج وتحذير لهذه الأمة التي نزل عليها القرآن أنك يا أمة، يا فرد، يا مجتمع، إن لم تحسني القيام بهذا الكتاب وأوامره فالنتيجة لن تكون مختلفة عما حدث مع أهل الكتاب (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155)) سياق تحذيري تمامًا ثم تعرض الآيات بعد ذلك أشكال لممارسات أهل الكتاب المبنية على نقض العهد والميثاق وعدم تنزيل آيات الكتاب في الواقع وتطبيقه في الواقع، فمنها قضايا تتعلق بالمسيح عليه السلام ومنها قضايا تتعلق بالممارسات الاجتماعية (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161)) ممارسات هم نُهوا عنها في كتابهم ولكنهم لم ينتهوا، فكانت هذه هي النتيجة. إذن القرآن ماذا يريد مني في هذه الآيات؟ القرآن يريد مني في هذه الآيات أن أتجنب الازدواجية، يريد مني أن أنفّّذ هذا الكتاب في حياتي في واقعي أن يكون فعلًا التفسير العملي لهذا الكتاب العظيم هو الواقع الإنساني في مجال الفرد، الأسرة، الاقتصاد، التعامل البنوك، كل شيء ولذلك قال في الآية مباشرة بعدها (لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ (162)) كعادة القرآن في العدالة حين يحدثنا عن الأمم لا يجمع ولا يعمّم ولا يُطلق أحكام عامة على الكل (لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ) تدبروا، رسالة الإيمان واحدة، رسالة موسى عليه السلام لم تختلف عن رسالة عيسى عليه السلام ورسالة نبينا صلى الله عليه وسلم لا تختلف عن تلك الرسالات في التوحيد والإيمان والتشريعات التي نهت عن الظلم والتي جاءت بالأمر بها والوفاء بها لم تختلف أبداً. ولذلك الآية التي بعدها قال (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)) ثم بعد ذلك (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)) ثم الآية التي بعدها (لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166)) فإذا ربي سبحانه وتعالى شهد والملائكة شهدوا معه وكفى به سبحانه وتعالى شهيدًا فكيف لا يشهد الواقع الإنساني بكل تلك الشهادات؟! كيف لا يصدّق الواقع البشري ما شهد به الله سبحانه وتعالى وكل الأنبياء، كيف؟! هذا التنكس هذا التخبط الذي تشهده البشرية اليوم ما شهدته في تاريخها، يناقض كل ما جاءت به الرسل والأنبياء من عدالة ومن قيم ومن مُثُل ومن تعاليم ربانية (وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا) كل الكتب كل الرسل كل من ذكرهم في هذه الآيات ما المناسبة لذكرهم؟ القيم التي جاءت بها سورة النساء فكانت أول آية من آياتها (يا أيها الناس) خطاب عالمي خطاب جاء به كل الأنبياء من قبل (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) الرسالات جاءت بهذه القيم العظيمة، جاءت بالعدل، جاءت بالحرية، جاءت بالمساواة، جاءت بالأمانة، جاءت بالحفاظ على حقوق الآخرين وتحريم كل ما سوى ذلك، ولذلك الآية التي بعدها قال (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) تدبروا خطاب (يا أيها الناس) مرة أخرى في سورة النساء، سورة النساء نموذج لخطاب عالمي خطاب قرآني عالمي، القرآن خطاب عالمي، القرآن ما جاء ليخاطَب به المسلمون فحسب ومن يؤمن به ولذلك عشرات الخطابات (يا أيها الناس) (يا أهل الكتاب) (يا أيها الذين أوتوا الكتاب) لماذا؟ خطاب يخاطب كل الناس. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآَمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ (170)) خيراً لكم في كل شيء في دنياكم وأخراكم في اقتصادكم وفي سياساتكم في معاشكم وفي مآلكم في بيوتكم وفي مجتمعاتكم في حربكم وفي سِلمكم في قلوبكم وفي بيوتكم وفي أُسركم مطلقاً (فَآَمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ) الإيمان خير، القيم خير للبشرية. الذي خلق البشرية ما أراد لها من خلال تطبيق المنهج إلا الخير والدليل أن البشرية يوم تخبطت عن كل تلك الرسالات والمناهج التي أثبتها في كتابه سبحانه وأرسل بها الرسل أصبحت تعاني، تعيش في حالة شقاء، البشرية اليوم تشهد حالات تعاسة وشقاء على المستوى العالمي ما شهدته في تاريخها: حروب، تهجير، نكبات، مصائب، كوارث إنسانية، كوارث طبيعية، كوارث في كل شيء، كوارث حتى في الجو في الهواء في المناخ في كل شيء، من أين جاءت؟ جاءت من عدم اتباع المنهج (فآمنوا خيرا لكم).
(وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) تدبروا الملك لله، ربي حين يعطينا المنهج ليس لأنه سبحانه يريد منا أن نسدي إليه قضية المنهج هو الغني سبحانه، نحن الفقراء إلى المنهج، نحن بحاجة لتطبيق ذلك المنهج في حياتنا أما هو سبحانه فهو غني حميد عليم حكيم.
ثم جاءت الآيات التي بعد، بعد (يا أيها الناس) قال (يا أهل الكتاب) تدبروا القرآن لماذا هنا (يا أهل الكتاب) والحديث عن عن عيسى ومريم؟ لفتح باب العودة أمام العقلاء، أيها العقلاء من أهل الكتاب (انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ (171)) وتدبروا (إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171)) هذه الرسالة العظيمة لأهل الكتاب من سيحملها إليهم؟ من يوصلها إليهم؟ في الحلقة السابقة تكلمنا عن الهجرة، الذي يهاجر في سبيل الله هو من الأشخاص الذين ينبغي لهم أن يحملوا هذه الرسالة، يحملوها ليس فقط من خلال الكلمات وإنما من خلال أفعال، سلوك، تصرفات، أعمال، عدالة، قيم، هذا الذي يريده القرآن هذه أمانة.
قال في نهاية الآيات (فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ (173)) كعادة القرآن ثم عاد من جديد فقال في سورة النساء في ثلاثة مواضع (يا أيها الناس) بدأها بـ(يا أيها الناس) والآن في ختامها يقول (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174)). الآية الأولى من سورة النساء قال (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ (1)) والآيات الأخيرة (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ) لا يمكن للتقوى أن تتحقق بعيداً عن هذا البرهان العظيم، لا يمكن للتقوى أن تتحقق بعيداً عن القرآن العظيم (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا) (فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ (175)) هو ما نحتاج إليه التمسك، وكلمة اعتصام هي أكثر من كلمة التمسك، يعتصم بالشيء يلجأ إليه لكي يعصمه من شيء، يحميه ويكفيه، يعصمه من أيّ شيء؟ يعصمه من كل أشكال التخبط والشرور التي تعرض له في الطريق إذا كان بعيداً عن كتاب الله سبحانه وتعالى. (فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا) يدخلهم في رحمة منه وفضل ليس فقط في الآخرة في الدنيا قبل الآخرة لا مجال لسعادة البشرية بعيداً عن هذا الكتاب العظيم، لا مجال، هكذا هو القرآن.
والملفت للنظر أن الله سبحانه وتعالى آخر آية في سورة النساء وبعد هذه الآيات قال (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ) قضية الميراث لشخص ليس له ولد وله أخت، قضية ميراث، تقسيم أموال. لماذا تقسيم أموال بعد الحديث عن الكتاب أنه برهان والاعتصام به ليؤكد القرآن العظيم أن قضية الاعتصام بكتاب الله عز وجل والرجوع إليه ليست قضية شكلية وإنما هي تطبيق في كل جزئيات الحياة، في المال، في الاقتصاد، في الأعمال، في الحياة، في القليل، في الكثير، في كل شيء.
هذه الجزئيات المفصلة هذا تفصيل في آيات الميراث، لماذا القرآن يفصل في آيات الميراث؟ القرآن يفصل في آيات الميراث لأنها ليست آيات خاضعة لتاريخية معينة ولا لسياقات تاريخية ولذلك هي غير قابلة للتبدل نتيجة لتبدل ظروف الإنسان وحياته ومعيشته وأوضاعه الاقتصادية، بعض الأشخاص يقول لك اليوم على سبيل المثال (فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) فقالوا لا، الآن المرأة تغيرت أوضاعها الاقتصادية أصبحت كالرجل، وبالتالي الميراث ينبغي أن يوزّع بالتساوي! من الذي يفرض المنهج؟ تفرضه أهواؤنا وحساباتنا المتقلبة وأمزجتنا المختلفة المتباينة وأوضاعنا المعيشية والاقتصادية المختلفة من مكان لآخر أم الذي يفرضه من خلق الذكر والأنثى؟ ولذلك قال (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أنت كبشر تعلم شيئًا ولا تعلم آخر ولكن الله هو الذي بكل شيء عليم وعملية التنصيف هي ليست عملية انتقاص من حق المرأة ولا من قيمتها ولا نوع من أنواع الوصاية عليها وعلى الرغم من أني قد أشرت ربما في حلقات أخرى في تدبرنا لكتاب الله عز وجل أن أسلوب الدفاع عن أحكام القرآن وتشريعاته أسلوب آن له أن يتوقف، عدد من الكُتّاب ينظرون ويقدّمون ما يتعلق بتشريعات القرآن خاصة ما يتعلق بالميراث وغيرها وكأن القرآن وتشريعات الإسلام وأحكام الإسلام موضوعة في قفص اتهام وعليهم أن يدافعوا عنها! ما هكذا تُعرض الأمور، فهم فلسفة التشريع ومقاصد التشريع لا يكون بمنطلق دفاعي أبدًا، نحن لسنا في معركة، وإنما نحن في مجال تشريع وفهم لمعاني التشريع ومحاولة لتفهم مقاصده وحكمه وربما نلم بشيء ونغفل عن شيء آخر. القرآن أراد للناس أن يصححوا أوضاعهم الإجتماعية وفق منهجه لا أن يُخضع منهج القرآن لأوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية وما شابه. صحح أوضاعك، قضية تقسيم الميراث قضية تتعلق بالوظائف قضية تتعلق بالأدوار التي ينبغي أن يقوم بها الفرد الرجل والمرأة قضية لا تخضع للحسابات البشرية التي يتعامل بها الناس اليوم.
ثم إن القرآن بعد كل هذا خاصة في سورة النساء يؤسس للأسرة المترابطة، الأسرة ذات العلاقات الاجتماعية والروابط القوية المتينة التي أصبحنا نفتقدها اليوم ولذلك كانت حتى في قضية توزيع الميراث والأنصبة هنا قضية تتعلق بأدوار الفرد في الأسرة بما ينبغي أن يقوم به في الأسرة. تقول ولكن الأمور تغيرت وبعض الرجال وبعض الإخوة يحرمون الأخوات من الميراث ويحرمون الأمهات ويفعلون كذا وكذا، قلنا في مرات سابقة ونقول: أنت لا تقيس المنهج وفق ما يمارَس به في واقعك وإنما أنت عليك فعلًا أن تعدّل تلك الممارسات هذا واجبنا كأفراد، ولذلك ربي أوكل لي مهمة قال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ (135)) وإلا فما معنى قيامنا بالقسط؟! أنا مطلوب مني أن أصحح وأعدل في تلك الممارسات حتى تصبح وفق ما أراد ربي عز وجل في هذا المنهج العظيم، أن تُصَّحح العلاقات الفردية والاجتماعية أن يصبح من جديد الأخ يستشعر مسؤولية تجاه أخته مهما كانت سواء كانت متزوجة أو غير متزوجة، المسألة ليست مسألة أموال، المسألة مسألة مشاعر، أحاسيس، مسؤولية. وجود الرجل سواء كان أب أو أخ أو زوج أو عمّ أو خال في حياة المرأة لا يشكل نوعاً من القهر أو الوصاية كما يهيؤ للبعض ولا حماية المسألة ليست خوف أو حماية وضعف وقوة، لا، منظومة لعلاقات إجتماعية إنسانية إذا فسدت فسد معها كل شيء كما هو حاصل اليوم، اليوم هناك العديد من المجتمعات لا أقول فقط في الغرب وإنما أتكلم عن مجتمعاتنا العربية والإسلامية تعاني تفكك في العلاقات انفصام، تمزّق في العلاقات في الأسرة الواحدة هذا ما لا يريده القرآن، القرآن يريد أن يعيد الأمور في حياة الفرد والأسرة والمجتمع إلى نصابها إلى وضعها السليم ولن يتحقق ذلك بعيدًا عن المنهج.
سورة النساء العظيمة التي بدأت بالوصية بالتقوى وختمت بالحديث عن (قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ) تؤكد كل هذه المعاني والقيم، تؤكد هذه الرسالة التي ينبغي أن نقوم بها جميعا كل حسب ما هيأ الله له من أسباب، قوامين بالقسط، قوامين بتلك القيم، حريصين على نشرها، محاولين كل ما في وسعنا لأجل أن نعيدها من جديد إلى الواقع وإلى السلوك وإلى الحياة. ولذلك لا عجب أن تكون أول آية في السورة التي تليها رغم الفارق الزمني في النزول سورة المائدة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (1) المائدة) هذه القيم هي أشكال من العقود والعهود والمواثيق بيننا وبين خالقنا عز وجلّ الذي رضينا به رباً ورضينا بكتابه كتاباً منزّلًا ورضينا بنبيه صلى الله عليه وسلم نبيًّا رسولاً وناصحاً لهذه الأمة وشهيداً عليها.