تفريغ سمر الأرناؤوط لموقع إسلاميات حصريًا
بسم الله الرحمن الرحيم. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
توقفنا في المرة السابقة – ولا زلنا في سورة النساء العظيمة – توقفنا عند الحديث عن العدالة المطلب الرئيس الذي جاءت به سورة النساء العظيمة، العدالة في كل تجلياتها وصية الله سبحانه وتعالى لخلقه رسالة للناس أجمعين، لا يمكن أن يتحقق استقرار دون وجود عدالة. ولكن اللافت للنظر أن العدالة التي تدعو إليها هذه السورة العظيمة ليست عدالة مطلب بمعنى آخر أن العدالة كما هي في سورة النساء ليست مطلبًا يطالب به الناس وليست حقًا مكتسبًا يسعى وراءه الناس، العدالة التي تبنيها سورة النساء عدالة واجب بمعنى آخر واجب علينا أن نحققه نحن كبشر في أنفسنا أولًا، في بيوتنا وأُسرنا، في مؤسساتنا وعلاقاتنا الاجتماعية والعملية ومن ثمّ ستتحقق تلك العدالة على كل المستويات المختلفة وهذه قضية في غاية الأهمية خاصة في الوقت الذي نعيش فيه الكل ينظر إلى العدالة كأنها مطلب وكذا الحرية وكذا المساواة، أما القرآن العظيم الرسالة الخالدة التي جاءت لتعمّر وتبني الإنسانبدون بناء وعمارة الإنسان لا يكون هناك عمران حقيقي على وجه الأرض، بدون أن يتحضر في نفسه وقيَمه وعقيدته وتصوراته لا يمكن أن تتحقق هذه القيم خارج الإنسان، لا تُبنى خارج الإنسان تبنى في داخل الإنسان أولًا وهذا واضح جدًا في العلاقة ما بين العدالة التي تقيمها وتدعو إليها سورة النساء وما بين التقوى.
ولو نظرنا إلى سورة النساء في آياتها، كل آيات سورة النساء ولا زلنا في بداياتها نجد أن المطلب الرئيس والمقصد الأول في السورة: العلاقات الأسرية وتحديدًا العلاقات الزوجية، الكلام عن المهر، الكلام عن الحقوق المالية، الكلام عن الحقوق النفسية، الكلام عن كل شيء يتعلق بتلك العلاقة المصونة الميثاق الغليظ بين الرجل والمرأة. ولنا أن نتساءل ونحن نتدبر في السورة لِمَ كل هذا الاهتمام بالأسرة؟ دون الحفاظ على مؤسسة الأسرة وإقامة العدل وتحقيق العدل فيها لا يمكن أن نتكلم عن عدالة خارج الأسرة. لا يمكن أن أتكلم عن عدالة اجتماعية ولا عدالة في الحكم ولا عدالة في القضاء ولا عدالة في مستوى العلاقات بين الدول وأنا كإنسان ضيّعت العلاقة في أسرتي الحصن الأول، اللبنة الأولى في المجتمع. لا يمكن أن أكون إنسانًا عادلًا قادرًا على أن يحقق العدالة ويقدمها للبشرية كما دعت سورة النساء في أول آية لها دون أن أتمكن من تحقيق العدالة فيما بيني وبين نفسي وطبيعي جدًا أن تنعكس تلك العدالة على العلاقة مع الزوجة، على العلاقة في نطاق الأسرة ولذلك لا أنا أستغرب وأنا أتدبر في كتاب الله وأنظر إلى الواقع فأرى سلسلة من المظالم التي ترتكب في بعض المجتمعات في بعض الدول، ذلك الظلم الجماعي الذي بات يئن منه العالم بأسره! لا أستغرب أبدًا لأني حين أنظر إلى الأسرة اللبنة الأولى في المجتمع أجد عشرات الصور التي ضيعت العدالة في مجال الأسرة في العلاقة بين الزوجين. ولذلك ربي سبحانه وتعالى في الآية 21 على سبيل المثال يقول (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ) يتكلم عن المهر والحقوق المالية في إطار الزوجية طبعًا (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ﴿٢١﴾) هذه الآية تهز وجدان الإنسان ليستيقظ الضمير فيه ويتأكد تمامًأ ويتحقق أن العدالة ليست قضية مرتبطة بالأمزجة وليست مرتبطة بالرضى أو بالغضب، تلك الحالات الإنسانية التي تعترض كل إنسان في الحياة، وليست كذلك مرتبطة بالمحبة أو الكره، المحبة والكراهية مشاعر إنسانية ولكن قيمة العدالة قيمة مطلقة والمشاعر الإنسانية نسبية تتغير، الإنسان قد يحب ولكن بعد فترة من الزمن قد يقع في كره نفس الإنسان الذي كان قد وقع في حبّه وهذا واضح في المشاكل الأسرية بين الزوجين ولكن العدالة التي تصنعها سورة النساء عدالة غير مرتبطة بمشاعر الحب والكراهية، عدالة قيمية عدالة مرتبطة بتقوى الإنسان عدالة مرتبطة بذلك الرصيد الإيماني الذي بنته التقوى وتبنيه سورة النساء العظيمة.
ثم بعد ذلك تنتقل الآيات لتتحدث عن المحرّمات من النساء في العلاقات ربي سبحانه وتعالى وضع سياجًا، شيء طبيعي، الأسرة والبيوت والعلاقات لا بد لها من سياج لا بد لها من سور وهذا السور بطبيعة الحال يؤدي غرض الوقاية والحماية وهذا السور لأجل أن يحقق فعلًا مقصد الحماية ومقصد الكفاية الذي نتكلم عنه لا يمكن أن يكون من يضع ذلك السور والسياج أحد من البشر. البشر بطبيعته مهما يحاول لا بد أن تعتريه نواحي ضعف نواحي نقصان بشري ولكن هذا السياج أراد الله سبحانه وتعالى أن يكون هو الذي يشرّعه هو الذي يضع الأسس والمبادئ لذلك للسياج فيحمي به ليس فقط الأسرة وإنما كل منظومة العلاقات الاجتماعية وذلك ليخرج بالإنسان عن غريزيته، لا يجعل الإنسان الذي صانه بهذا العقل وكرّمه على كل شيء لا يجعله كغيره من مخلوقات، صانه بهذه العلاقات صانه بتلك التشريعات لأنه ربّ وقلنا أن الرب يربي بالنعم الحسية وبالنعم المعنوية والنعم المعنوية من قبيل هذه النعم التكالي والأوامر والتشريعات والنواهي والمحرمات وافعل ولا تفعل هذا من قبيل التربية ولذلك التدبر يعطي بعدًا أعمق وبعدا آخر في قضايا الشتريعات، الناس في بعض الأحيان خاصة حين يأتون إلى قضية الأوامر والنواهي والمحرمات ينظرون إلى الجانب الضيق فيها أحيانًا ينظرون إلى جانب أنه يمكن أن يكون فيها جانب من التضييق ونوع من أنواع التحديد ولكن القرآن يعطيه ذلك البُعد التربوي بُعد الحماية، بُعد التربية، بُعد الرعاية، بُعد الكفاية، بُعد أن هذه التشريعات جاءت بالفعل لتحقيق غاية لتحقيق مقصد لتحقيق تكريم الإنسان على أعظم صفة من صفاته وهي الإنسانية ولذلك هذه المحرّمات (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴿٢٣﴾) هذه السلسلة من التشريعات حفاظًا على إنسانية الإنسان حفاظًا على تلك الكرامة الإنسانية التي أراد القرآن لها أن تصان وترفع وأن يجعل تلك العلاقات علاقات الأقارب تعلو فوق قضية الغرائز وما شابه التي وضع لها القرآن الحدود والمصارف وجعل لها المصارف الخاصة التي تليق بإنسانية الإنسان وأتى في سياق ذلك على تلك العلاقات الجاهلية التي كانت منتشرة في جاهلية المجتمعات قبل نزول القرآن (وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا ﴿٢٢﴾) مجتمعات فعلًا برزت فيها تلك المعالم الجاهلية ولذلك قلنا ونقول بأن قضية الجاهلية هي ليست فترة تاريخية أو زمنية، ليست بُعد زمني، البعد الواضح فيها بُعد التعامل والسلوك ولذلك ما نراه في بعض المجتمعات اليوم من إهدار لتلك المحرمات من تجاوز لتلك الحدود من تحطيم الإنسان لهذه الأسوار والسياجات المختلفة على دعوى الحرية والمساواة هي في واقع الأمر كما نراها ونحن نتدبر في كتاب الله عز وجلّ ما هي إلا مرحلة انحطاط بالإنسانية نحو الجاهلية، انحطاط واضح، انحطاط لا يقيم وزنًا لسياج ولا يقيم وزنًا لسور يحمي إنسانية الإنسان. ولذلك يخشى الإنسان بالفعل وهو ينظر في هذه المجتمعات التي بدأت فعلًا تتسرب إليها تحت دعوى الحرية وحقوق الإنسان الممارسات الجاهلية بكل ما تحمل الكلمة من معاني.
والقرآن العظيم في سورة النساء حين يأتي على أشكال في ذلك السياج الذي يبنيه لا يترك صغيرة ولا كبيرة في العلاقات بين الرجل والمرأة إلا ويضع لها الحدود وقلنا في مرة سابقة قد يسأل سائل – وخاصة في زمننا هذا – الدنيا تغيرت والأحوال تبدّلت والإنسان تطور وتقدم، المسألة ليست تطور وتقدم، المسألة أن القرآن حين يخاطب بآياته ويضع هذه الأحكام إنما يتكلم عن طبيعة بشرية للرجل والمرأة غير خاضعة لتقلبات الزمان ولا المكان غير خاضعة لكل هذه التغيرات التي نمر فيها ولذلك المدخل إلى تغيير هذه العلاقات مدخل غير صحيح أبدًا، ولذلك آيات سورة النساء تكلمت عن قوانين وعن تشريعات وعن أحكام متجاوزة لعنصر الزمان والمكان ترتبط بالطبيعة البشرية للرجل والمرأة أما ما يثار اليوم أو يقال تحت نفس الدعوى التي تكلمنا عنها: الحرية أو المساواة أو حقوق الإنسان فهذه الأشياء إنما جاءت نتيجة لتخبط الإنسان المعاصر بعيدا عن منهج الرب. هذا التخبط هو الذي ينتج هذه السجالات غير المبررة لأنها لا تنظر إلى طبيعة الرجل والمرأة وإنما تنظر إلى تلك القشور التي بات يعاني منها الإنسان المعاصر في مجتمعه نتيجة للبعد عن منهج الله سبحانه وتعالى المنهج الرباني الذي وصفه الخالق سبحانه وتعالى اللطيف الخبير العليم بعباده بما يُصلحهم وما يصلح لهم.
ولذلك في ختام هذه الآيات التي تكلمت عن سلسلة العلاقات في الزواج وما شابه وتحديدًا في الآية السادسة والعشرين يقول الله عز وجلّ (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴿٢٦﴾) وقلنا أن سورة النساء جاءت بعشرات الأسماء والصفات لله سبحانه وتعالى وكل واحدة تتناسب مع سياق الحديث في الآيات عن التشريعات. الله سبحانه وتعالى حدد هنا (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) ليس فقط بيان وإنما هداية وتوبة لأنه العليم الحكيم سبحانه وتعالى. وفي نفس الوقت وتدبروا في الآية التي تليها مباشرة (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا ﴿٢٧﴾ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ﴿٢٨﴾) وتدبروا معي يا ترى – هكذا يعلّمنا التدبر أن نتساءل أن نبحث في التناسب بين واقع الآيات في السورة وبين مواضع حتى الكلمات – (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا) ما الذي جاء بالحديث عن هؤلاء وسط هذه الآيات ووسط هذه التشريعات والأحكام؟ هذا إعجاز في حد ذاته، كل ما طرأ في مجتمعاتنا المعاصرة وتغير العلاقات بين الرجل والمرأة وإباحة المحرمات وتلك التشريعات التي خرقت واخترقت إنسانية الإنسان، جاءت من قِبل من؟ هل هي جاءت من تشريعات ربانية أو تعليمات دينية حتى لو كانت محرفة كما هو واقع في الديانات اليهودية والنصرانية وما طرأ عليها؟ أبدا، إذن جاءت من لدن من؟ من الذي يروج ويسوق لها؟ من الذي يخصص لها آلآف وملايين من الأموال والحشود الإعلامية تنفق لأجل أن تصب في هذه التوجهات وفي هذه السموم، من الذي يمولها؟! من الذي يسوق لها؟! من الذي يروج لها ويريد أن يغلفها بغلاف المساواة والحرية وحقوق الإنسان؟! القرآن يعطيني الإجابة (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ) فكل خدش في مجال العلاقات هذه التي وضع الله سبحانه وتعالى في شريعته للعلاقات بين الرجل والمرأة تلك الحدودو ووضعها في سياج كل من يحاول أن يفكك ويقترب من تلك الشريعات ويغير فيها إنما هو يغير من قبيل الشهوات، من قبيل الغرائز وشيء طبيعي جدا أن الإنسان حينما لا يخضع في غرائزه ومشاعره وعلاقاته وعواطفه لتعاليم الله سبحانه وشرائعه فهو خاضع لنداء آخر ذاك النداء الذي يحدثنا عنه القرآن (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا) شيء طبيعي أن الإنسان حين لا يمشي وراء ما شرّعه الله له سيحدث الميل سيحدث الزيغ سيحدث الانحراف ستحدث الجرائم، سترتفع نسب الجرائم بالشكل المهول الذي نراه بات يهدد المجتمعات المعاصرة بل الأدهى والأمر أنه بات كذلك بات يهدد –إذا كنا على قدر من الشجاعة والصراحة مع أنفسنا – حتى المجتمعات العربية والمجتمعات المسلمة من أين جاءت كل هذه النسب الرهيبة التي باتت بالفعل تقض مضاجع الآمنين تهدد الإنسان في أمنه الاجتماعي، هناك أمن يسمى الأمن الاجتماعي وهناك أمن يسمى الأمن الأُسري، الأمن الاجتماعي والأمن الأسري لا يمكن أن يتحقق بعيدا عما أراده الله سبحانه وتعالى ووضعه لخلقه، وضعه للبشر وهو يريد أن يتوب عليهم ولذلك جاءت الآية التي تليها يقول فيها الله عز وجلّ (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ﴿٢٨﴾) عجيب! يخفف عنا بالتشريع؟! يخفف عنا من قبيل النواهي والمحرمات والمنع؟! كيف يكون المنع تخفيفا وكيف يكون غلق الأبواب عندما تقتضي الحاجة تخفيفًا على الإنسان؟! كيف؟! عظمة القرآن، اعجاز القرآن حين نتدبر في معانيه ونتأمل في آياته ونقف عند تلك الآيات والأحكام، المنع من قبيل التخفيف. ربي عز وجلّ وضع حين يقتضي الأمر تلك الموانع والحواجز في العلاقات بين الرجل والمرأة وتلك الحدود من قبيل التخفيف لأنك حين تفتح الأبواب هكذا ولا تجعل هناك أي نوع من أنواع الحدود بدعوى الحرية على سبيل المثال كما هو حاصل إنما تثقل كاهل الإنسان تثقله بذلك الإطلاق غير المبرر للجانب الغريزي في داخل الإنسان وهو ما لا يريده القرآن. القرآن جعل لها مصارف معينة تليق بكرامة الإنسان تليق بإنسانيته مصرف الزواج ولكنك حين تطلق وتفتح الباب هكذا إنما أنت بالفعل تثقل كاهل الإنسان ليس كفرد فحسب وإنما كمجتمع وكأمة. وإذا أردنا دليلا أو شاهدا على ذلك العبء الذي بات فعلا يئن تحته الإنسان المعاصر فقط ننظر إلى نسب الجرائم والاعتداءات المختلفة التي تقع في مختلف المجتمعات المعاصرة اليوم إذا كان فعلا هذا من باب التخفيف والحرية والمساواة فلماذا ترتفع نسب الجرائم والاعتداءات؟ لماذا بلغت مستويات مخيفة هددت بل نستطيع أن نقول أنها قتلت جوانب الأمن الاجتماعي والأمن الأسري لماذا إذا كان فيها خير فعلا؟ طبعا ليس هناك إجابة لأن الذين يتبعون الشهوات لا يقدمون حلولا ولكنهم في واقع الأمر يزيدون من حجم المشاكل والضغوط التي تقع على البشر.
ثم اللافت للنظر بعد ذلك أن الله سبحانه وتعالى يتوجه الخطاب (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) مباشرة بعد الحديث عن العلاقات بين الرجل والمرأة يأتي الكلام عن الأموال، أكثر الأشياء التي تهدد أمن الأسر وأمن المجتمعات وأمن الإنسانية هي هذه القضايا التي يحدثنا القرآن عنها في سورة النساء. الإنسان القادر على أن يقول لنفسه حين يقتضي الأمر:لا، هو الإنسان الذي لا يمكن أن تحدثه نفسه بأن تمتد يده إلى الحرام وأكل أموال الناس بالباطل، أما الإنسان الضعيف المهزوز الذي لا يضع لنفسه ولا لغرائزه حدودًا ولا أسوار ولا يعترف بمنطق السياج للبيوت فهذا إنسان أعجز ما يكون عن الوقوف عند المنع أو الحرام، هو أكثر إنسان لا قدرة لديه على التحكم في نفسه إزاء أموال الآخرين وأكل حقوقهم. وربما يقول قائل ما الدليل على ذلك؟ الدليل هو ما نراه في مجتمعات اليوم، المجتمعات المعاصرة حتى المتقدمة، هذا النهب الجماعي لأموال ومقدرات الشعوب من قبل القوى الأقوى من أين جاء؟ّ وتحت أي مبرر؟ ما الذي يبرره؟! هذا الأكل الجماعي لأقوات الشعوب وترك مجموعات من البشر تئن تحت الجوع والحصار ولا تجد حتى ما يليق بوجودها كبشر في نفس الوقت الذي يرمي به العالم وترمي به المجتمعات المتقدمة بأكداس وأكوام من الطعام والغذاء والشراب في بطون وأعماق البحار والمحيطات! هذا التناقض كيف يمكن أن نفهمه بعيدًا عن هذه الآيات التي يحدثنا القرآن عنها؟ القرآن يعلمنا بالآية بالحرف، بالكلمة وذكرنا (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) ثم قال في نفس الآية (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ﴿٢٩﴾ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ﴿٣٠﴾) هذا التوجيه الرباني في وسط هذه الآيات في سورة النساء التي جاءت لتحقق وتقيم مقصد العدالة العدالة التي لا تقوم بعيدا عن الحفاظ على سياج الأعراض والأموال، سياج وسورة النساء وضعت حدود ذلك السياج حول الأعراض وحول الأموال. أعراض الناس محرّمة أن تنتهك محرمة أن يتعرض إليها الغير بأي شكل من أشكال المهانة التي لا تليق بإنسانية الإنسان بصرف النظر عن كون هذه العلاقات قائمة مع مسلمين مع غير مسلمين، هذه علاقات إنسانية وكذلك الأموال فالرب سبحانه وتعالى حينما يشرّع إنما يشرّع للإنسان يشرّع للخلق بقطع النظر عن معتقداتهم أو ألوانهم أو أشكالهم أو الفروقات الموجودة فيما بينهم.
ثم تأتي بعد ذلك الآيات التي وللأسف الشديد نتيجة لبعدنا الشاسع عن كتاب الله عز وجلّ أصبحنا تُذكر سورة النساء لا يذكر منها إلا بعض أجزاء مقتطعة من آيات مثال (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ) مثال آخر (وَاضْرِبُوهُنَّ) وانتهى! بعض المسلمين لا يعرف من سورة النساء إلا أجزاء من آيات قد لا يستطيع أن يكمل بقية الآيات فيها وهذا ما يمكن أن نُطلق عليه القرآءة العضين قرآءة مجتزأة قرآءة تقتطع، تتخير، تقطع من الآيات دون السياق بل تقتطع من الكلمات كذلك دون الآيات، ثم بعد ذلك تأتي إليها وتسوق هذه الآيات وتستشهد بها في سياق الحديث عن قضية هي موجودة وحاضرة في ذهني وعقلي قبل أن آتي إلى القرآن بزمن. والقرآن يعلمني ويربيني على أن أتأدب حين آتي إليه بمعنى آخر أن آتي إلى القرآن بمنتهى التواضع الذي يليق ببشريتي ويليق بمن قال هذا القرآن العظيم وأنزله علينا، هناك فارق أن حين آتي إلى القرآن بنفسية الإنسان الذي يريد أن يجد في القرآن علاجًا لأمراضه، أن يجد في القرآن إجابة على أسئلته، أن يسأل القرآن ليهتدي بنوره وبصائره وأحكامه وتشريعاته، هذه نفسية مختلفة تمامًا عمن يأتي بآراء مسبقة وجاهزة وإنما جاء إلى القرآن لينتقي ويتخير ويحاول أن يصل فعلًا إلى أدلة يستشهد بها على آرائه وأحكامه الصادرة أصلًا قبل أن يأتي إلى القرآن. الطريقان مختلفان لا يشبه أحدهما الآخر ولذلك الفارق سيترتب كذلك في النتيجة. أنا إن جئت إلى القرآن -وهكذا ينبغي أن آتي – لأن عندي مشاكل أسرية، لأن عندي اضطرابات وأشعر فعلًا بالخوف على ذلك الأمن الأُسري الذي نتكلم عنه وأريد أن أحقق الأمن في بيتي، في أسرتي، في مجتمعي، سؤالي للقرآن سيختلف تمامًا عمن يأتي ليبرر الوضع الذي هو فيه بأخطائه بمساوئه بمشاكله، الفارق شاسع! ولذلك نجد اليوم للأسف في مجتمعاتنا المسلمة –أنا لا أتكلم عن المجتمعات غير المسلمة- من أكثر المحاكم فعلًا التي يأتي إليها الناس نساءً ورجالًا وأحيانا أطفالًا هي المحاكم المتعلقة بالقضايا الأسرية، أصبحنا لا نستطيع أن نحلّ مشاكلنا الأسرية في بيوتنا، عجزنا عن حلّها في بيوتها وذهبنا إلى المحاكم والآن حتى المحاكم والقضاة ربما لا يتمكنون فعلًا من حل هذه الإشكالات والنزاعات والخلافات، السؤال لماذا؟ هل لأننا بحاجة إلى أحكام وتشريعات؟ هذا سؤال نطرح نفسه: هل نحن بحاجة إلى مزيد من التشريع والأحكام؟ هل المشكلة في النقص في التشريعات والأحكام والقوانين؟ أين النقص؟ أين المشكلة؟ تدبروا معي في كتاب الله عز وجلّ في هذه السورة العظيمة التي وضعت سياجًا على العلاقات الزوجية ومع ذلك السياج وضعت كافة الإرشادات والتعليمات لحلّ النزاعات والصراعات. القرآن كتاب يعلم الشعوب كيف تستطيع أن تحل إشكالياتها وصراعاتها بعيدًا عن منطق الحروب وسفك الدماء الذي لا يليق بالمنطق الإنساني الواعي السديد الذي يليق بإنسانية الإنسان، وشيء طبيعي الإنسان حين لا يتمكن من حل صراعاته ونزاعاته بالطريقة الإنسانية التي تليق بكرامته وأخلاقياته كإنسان سيلجأ إلى العنف والقوة فهل يتخيل في ضوء هذا الفهم لمقاصد القرآن العظيم أن القرآن يشرّع لاستعمال العنف أو القوة كمن يتكلم ومن يبرر ويقتطع الآية (وَاضْرِبُوهُنَّ) ويقول القرآن يشرّع استعمال القوة!. هل يُعقل هذا الفهم المغلوط الذي أثر على طبيعة العلاقة والتقبّل لأحكام القرآن وتشريعاته الذي وضع تلك الأسوار الموهومة بيننا وبين كتاب الله عز وجلّ وأنا أتكلم وأوجه خطابي هنا ربما لفئة النساء أكثر في هذه الجوانب في هذه الآيات: إذا أردنا فعلًا حياة أسرية تليق بنا كبشر كنساء كزوجات كأمهات علينا أولًا أن نفهم هذا القرآن العظيم، أن ندرك هذه الأحكام والتشريعات والآداب الكفيلة بتحقيق الأمن الأُسري. القرآن يشرّع للأمن الأُسري، القرآن كتاب يصنع السلام، القرآن كتاب يصنع العدل والرحمة، القرآن كتاب يعلّم الناس كيف يصنعون السلام والعدالة وكما ذكرت العدالة ليست طلبًا، العدالة ليست حقًا تخرج الشعوب لتطالب به على اللافتات أو تكتبه هنا وهناك! العدالة واجب علينا أن نحسن جميعًا القيام به في أنفسنا أولًا في بيوتنا وفي أُسرنا في مؤسساتنا وشوارعنا في كل ما يمكن أن يقع تحت أيدينا ويوكل إلينا أن نقوم بصيانته، هكذا تبنى العدالة وهكذا يبنى الأمن وهكذا يبنى السلام ولذلك القرآن كتاب يعلم الناس كيف يصنعون السلام والاستقرار. واضح أن الإنسان الذي ينعم بالسلام والاستقرار والقادر على حل خلافاته ونزاعاته في داخل أسرته قادر على أن لا تخرج تلك النزاعات جدران البيت والغرفة قطعًا هو الإنسان القادر على أن يحلّ تلك الصراعات والنزاعات حين تقع مع الجيران أو مع الأبعد فالأبعد. وفي نفس الوقت الإنسان العاجز عن ذلك في بيته فهو الأعجز عن ذلك في محيط مجتمعه وقطعا مع الدول الأخرى والمجتمعات الأخرى وهذا يفسر ما وصلنا إليه. لمَ وصلت المجتمعات المعاصرة على تفوقها في الجانب التقني لم وصلت إلى هذا الحال من عدم القدرة على إدارة الصراعات والنزاعات وإيجاد الحلول لها؟ لمَ؟ لمَ أصبحت لا تفهم إلا منطق الحروب وسفك الدماء والاعتداء على الآخرين؟! قطعًا هناك عجز واضح في الجوانب الأسرية في جوانب البيوت ولربما ذلك العجز أدّى إلى هذا العجز الدولي عن تحقيق الاستقرار والأمن والسلام والقرآن يعلمنا كيف نعيد الأمور إلى نصابها. هو في بداية الآيات قبل الحديث عن قضية الرجل والمرأة والأسرة وقوامة الرجل في الأسرة قال (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ) الكلام عن التفاضل والكلام هنا عن التفاضل كلام عن طبيعة الأدوار طبيعة الأشياء التي لا يتحقق تكامل في الحياة بدون وجود شيء من ذلك التفاضل، كلنا نتفاضل على بعضنا البعض في أشياء معينة حتى يحدث تكامل حقيقي، القرآن كلام يعالج الإنسان بواقعية، يعالج الواقع الإنساني من منطلقات واقعية وليس من منطلقات المثالية، فوجود التفاضل لغرض التكامل لأنه بدون تفاضل لا يمكن أن يكون هناك تكامل على وجه الحقيقة، لا يمكن أن يحدث احتياج من جانب إلى آخر وبالتالي لا يمكن أن تستقر ولا تستمر الحياة على هذه الأرض ولذلك ربي سبحانه وتعالى قال (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ﴿٣٢﴾) عليم بأيّ شيء، بالطبيعة البشرية، عليم بطبيعة الرجل والمرأة وإدراك جانب الرجل وجانب المرأة أن هناك نوع من أنواع التفاضل الذي لا يعني أبدًا بالضرورة أن هناك أحسن أو أن هناك أخير، لا، إحداث تكامل. وبالتالي لا ينبغي للمرأة ولا ينبغي كذلك للرجل أن ينظر إلى الأمور من منطلق الشعور بالنقص أو الدونية ولذلك في بدايات سورة النساء قلت أني لا أميل إلى ما يراه أو يقوله بعض المفسرين وخاصة في وقتنا الحاضر أن سورة النساء جاءت لتحقق العدالة للفئات المستضعفة في المجتمع وأولها النساء واليتامى، لا أميل إلى هذا الرأي أبدًا، لماذا؟ من منطلق الآية الأولى في سورة النساء (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) القرآن يعالج النفس الإنسانية ولا يُحدث عند المرأة ولا عند اليتامى ولا عند أي أحد شعور بالنقص أو الدونية، لا، الكل متساوون في الجانب الإنساني، التفاضل بمعنى التمايز أو التميز النوعي إنما يكون في مجالات العمل والإسهام والاستخلاف على هذه الأرض والقيام بالمسؤوليات والتكاليف التي ربي عز وجلّ أوكلها للبشر ولذلك جاءت هذه الآية العظيمة (إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) ليست مسألة دونية، وإذا بقيت المرأة في مجتمعاتنا تعاني من عقدة الشعور بالنقص والدونية عن الرجل فسنبقى ندور في تلك الحلقات المفرغة ولن نتخلص منها وسيهيأ إلينا كما يُصور لنا على أن الحياة صراع بين الرجل والمرأة وحياة الصراع حياة هدم وليست بناء والقرآن ما جاء ليهدم القرآن جاء ليبني ولذلك القرآن لا يقبل بمنطق الصراع ويقدم كل العلاجات لأجل جعل الإنسان إنسان قادر على أن يدير صراعاته وخلافاته ونزاعاته بطريقة تليق بإنسانيته وتليق بالمهمة التي أوكلها الله إليه، مهمة الاستخلاف. ولذلك جاءت الآيات بعد هذا التمهيد جاء الحديث (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) والآيات هنا تتكلم عن مسؤوليات، تتكلم عن مؤسسة وكل مؤسسة ونحن الآن في مؤسساتنا لدينا نوع من أنواع المسؤوليات وتوزيع الأدوار والمهام ولا أحد من البشر يعترض على قضية توزيع المهام ولا الأدوار ولكن العجب العجاب أن يعترض ذلك الإنسان الضعيف رجلًا كان أو امرأة على الربّ الذي يعطي لعباده ما يصلح به شأنهم وحياتهم! ولذلك للأسف الشديد ما شاع نتيجة للجهل، نتيجة لقضية بعدنا عن الله، شاعت تلك الأشياء التي فعلا بدأت تهدد طبيعة علاقتنا اليوم مع هذا الكتاب العظيم وهذا خطر جسيم جدًا إن لم ننتبه إليه ونحاول أن نتداركه في الوقت المناسب.
أما ما ورد من حديث عن قضايا متعلقة بالنشوز فكما ذكرنا والحقيقة لا ينبغي أن يكون هناك وجه للمقارنة فلله المثل الأعلى في كل شيء ولكن نذكرها من باب سوق الأمثلة. كل مؤسسة وكل تشريع وكل قانون هناك أحكام وجزاءات والأحكام والجزاءات والعقوبات والتعزيرات هي وسائل لأجل الحفاظ على ما هو أكبر، على ما هو أدوم، على ما هو أهم فقضية الإسراف والتوغل في الحديث عن قضية النشوز والهجر في المضجع والضرب وتخصيص عشرات المؤلفات في المكتبة الإسلامية لأجل فقط الرد على تهمة أن الإسلام يشرّع لضرب المرأة والعنف الأسري، لا أراها في حقيقة الأمر لا أراها أبدًا انعكاسًا لواقع صحي في التعامل مع كتاب الله عز وجلّ. ينبغي لنا أن نعيد النظر في أطروحاتنا التي نطرح ينبغي لنا أولًا وقبل كل شيء أن نتخلص فعلًا من عقدة الشعور بأننا نُتهم وأننا علينا أن نقف موقف الدفاع عن الدين وعن القرآن وعن الأحكام، علينا أن نتخلص من هذه العقدة أولًا وإذا لم نتمكن من التخلص منها ذاتيا قبل أيّ شيء سنبقى ندور في تلك الحلقات المفرغة سنبقى نقدم تبريرات ومسوغات لأحكام وآداب وتشريعات جاء القرآن بها ليصلح بها من شأننا ومن حياتنا وإذا أردنا فعلًا أن نرى تفسيرًا عمليًا لهذا القرآن العظيم ما علينا إلا أن ننظر إلى واقع حياة النبي صلى الله عليه وسلم كيف عاش؟ هل ضرب يومًا امرأة؟ هل ضرب يومًا طفلًا أو خادمًا؟ هل شرّع لعنف أُسري فعلًا؟ كيف أصبح المجتمع المدني الذي كان يعيش فيه ويطبّق تعاليم وآيات القرآن العظيم وكان مجتمعًا حديث عهد بجاهلية الناس كانوا فيه لا يزالون مخلفات الجاهلية ورواسب الجاهلية وتفكير الجاهلية كان يفترض أن يكون له أثر ولكن جاء القرآن العظيم فعالج كل هذا الواقع. يا ترى لو استطعنا فعلًا أن ننظر وأن نقلب في الحوادث والأشياء التي كانت تحدث من خلال المرويات والآثار عن نِسَب العنف الأسري في ذلك المجتمع كم كانت ستكون النسبة؟ ودعونا نقارن بين تلك النسبة وبين النسب ليس في مجتمعاتنا بل النسب في المجتمعات الغربية على سبيل المثال التي يفترض فيها أن تكون تكلمت على قضية العنف وأنهت الموضوع وليس هناك أي إشكالية تتعلق بالعلاقة بين الرجل والمرأة على الأقل من الجانب النظري. إذن المسألة ليست مسألة الآيات المسألة ليست مسألة الآداب والأحكام التي يدعي البعض أنها قد شرّعت لعنف أسري، على العكس تمامًا، الواقع الإنساني الذي لم يستطع أن يتمثل آداب وأحكام التشريع، الذي لم يستطع أن يطبّق تلك الأحكام كما ينبغي أن تُفهم من حياة النبي صلى الله عليه وسلم الذي يمثل النموذج التطبيقي لآيات هذا الكتاب العظيم. القرآن في هذه الآيات العظيمة يعالج قضية العنف الأسري في واقع الأمر، تأملوا معي في قوله عز وجلّ (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا) ثم بعد هذه الآية (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا ﴿٣٦﴾) التي بدأت تؤسس لوصاية اجتماعية، إقامة نظام اجتماعي نظام علاقات اجتماعية قائمة على تطبيق التوحيد وعلاقة الإنسان بربه في واقع الحياة من خلال إحسان تعامله مع الآخرين فبدأ بقضية الزوجة أولًا في داخل الأسرة ثم انتقل من الأسرة، البيت إلى البيت الأكبر، المجتمع، الأسرة الأكبر المجتمع أسرة ولكني إذا لم أُحسن التعامل داخل أسرتي الصغيرة مع الزوجة ومع الأولاد كيف لي أن أحسن مع الأسرة الأكبر المجتمع أو المؤسسة؟! هكذا سورة النساء هكذا تقرر وتصنع السلام وتعالج ظاهرة العنف والنزاع والشقاق وتعلم الإنسان، الرجل والمرأة، الزوج والزوجة كيف يمكن أن يديروا الصراع أو النزاع أو النشوز وما شابه، ولماذا جاء بها؟ جاء بها كما ذكرت تعاليم القرآن ليست تعاليم مثالية القرآن حين يعالج الواقع الإنساني لأنه من الله سبحانه وتعالى العليم الخبير الحكيم العايم البصير بعباده يعالج واقعًا معاشًا والواقع المُعاش أنت تجد فيه كل شيء وتجد فيه كل أصناف البشر تجد فيه الإنسان الذي يميل بطبعه إلى سرعة الغضب، تجد فيه الإنسان الذي يميل بطبعه إلى الهدوء والتسامح والتعامل باللين والرفق تجد فيه أشكال متنوعة بطبائع مختلفة رجالا ونساء إذا أردت أن تتعامل معه بواقعية وليس بمثالية عليك أن تحيط به علمًا ومن ذا الذي يحيط به علمًا كما يحيط به الرب الذي خلق سبحانه وتعالى؟! خلق الطبائع خلق النفوس وهو أعلم وأدرى بها فحين شرّع ووضع هذه التعاليم شرّعها لأجل أن يستمر الاستقرار الأسري لأن الاستقرار الأسري مطلب من المطالب التي جاءت بها سورة النساء وعملت على تحقيقها من خلال تشريعات الآيات والأحكام والآداب، استقرار الأسرة بقطع النظر عن طبيعة الأزواج والزوجات تلك الطبيعة التي قد تختلف من إنسان لآخر من أسرة لأسرة من امرأة لأخرى من رجل لآخر، هذه الطبائع المختلفة كان لا بد لها أن تقدّم لها علاجات وتعاملات مختلفة بحسب الحالة التي تتعامل بها ونحن كلنا نعلم أن طبيب الجسم وهو طبيب لا يتعامل مع الأمراض حتى لو تشابهت في أعراضها بشكل واحد ولا يصف لمرضاه دواء واحدًا وإنما يأخذ كل حالة من الحالات إذا كان حاذقًا وناجحًا في عمله يأخذها على حدة ينظر فيها حتى لو كان هناك متشابهات فيما بينها، فهو يحاول أن ينظر إلى جانب الفروقات، هذه في الحالات الفيسيولوجية فما بالنا حين ننظر إلى حالات النفسية، حالات علاقات أسرية وعلاقات اجتماعية، القرآن في هذه الآية العظيمة أراد للخلافات الزوجية أن تبقى منحصرة في إطار البيت والحجرة ولا تجاوزها إلى خارج الحجرة الحجرة الخاصة بالزوجين أراد لتلك العلاقات أن تقتصر على جانب الزوج والزوجة لا تخرج خارجها لأن هناك عدد من المشاكل إذا خرج خارج هذا النطاق يتفاقم، لا ينقص لا يعالج وإنما يتفاقم. الصراعات والنزاعات إذا أردنا أن نتعلم كيف نقوم بحلّها ومعالجتها علينا أولًا أن نفهم طبيعة النزاعات والصراعات، الصراعات تحتلف والنزاعات تختلف والخلافات تختلف في درجاتها وفي طبيعتها وفي أسبابها وفي العوامل الباعثة إليها تماما كالخلايا المختلفة. لا أدري لماذا اعتدت أن أسوق أمثلة تتعلق بالجانب الطبي ولكن يحضرني الآن وأنا أتكلم حول هذه القضية الخلايا السرطانية نسأل الله أن يشفي كل مريض وأن يشافي كل المرضى من كل داء ومن كل بلاء وأن يرزقنا جميعًا العفو والعافية، الخلايا السرطانية الطبيب حين يقوم بمعالجتها حتى بعد الاستئصال يلجأ إلى العلاج الكيماوي ليحاصر وليتأكد تمامًا أن تلك الخلايا لن تذهب إلى مكان آخر في الجسد فتهاجمه وتبدأ بعملية التكاثر يحاول أن يحجّم منها قدر ما يستطيع حتى لا تنتشر. نحن نتكلم عن خلافات ونزاعات أسرية القرآن بهذه الآية العظيمة أراد أن يحجّم يحاصر تلك النزاعات التي وقعت بين الزوجين ما أراد لها أن تخرد خارج هذا النطاق لأن هناك أسرار وقضايا في العلاقات بين الزوجين إن خرجت تفاقمت إن خرجت يمكن أن تصل في بعض الأحيان إلى حد الفضائح والقرآن لا يريد لا للرجل ولا للمرأة أن يحدث ما يمسّ أو يمت بأي نوع من الإهانةلكرامة أي واحد منهما لأن الأصل في العلاقة الزوجية المحافظة على الكرامة كل واحد منهم كما أوضحت الآيات (وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ) هذه الآيات تؤسس الكرامة بين الزوجين وحرص كل واحد منهما على كرامة صاحبه لتحقق مطالب الأسرة التي يبنيها القرآن والأسرة التي يصون كرامة كل فرد من أفرادها، الإنسان حين يهان يهان أمام نفسه وأمام الطرف الآخر الزوج أو الأبناء في محيط الأسرة يصبح أكثر هوانًا على نفسه، تهدر الكرامة الإنسانية فبالتالي حين تهدر الكرامة الإنسانية تصبح أسها إهانة في الشارع أو خارج البيت أو خارج نطاق الأسرة والقرآن لا يريد أفرادًا في المجتمع يشعرون بالمهانة أو يشعرون بالذل أراد القرآن أن يصنع إنسانًا كريمًا على نفسه كريمًا في أسرته كريمًا على زوجه كريمًا ويشعر بتلك الكرامة لأن الإنسان الذي يشعر بتلك الكرامة هو الأقدر على الحفاظ على كرامته وكرامة الآخرين والإنسان مخلوق مكرّم في كتاب الله عز وجلّ (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ)[الإسراء: 70] وخلقه في أحسن تقويم كيف يمكن أن يحافظ على تلك الكرامة الإنسانية إذا كانت الأسرار والأحداث الزوجية التي تقع أثناء الخلافات تخرج خارج نطاق الزوجين، في بعض مجتمعاتنا كل شيء يحدث بين الزوجين يُنشَر، النتيجة ليس فقط خلافات وإنما نسب مرتفعة في الطلاق!!. إذن متى يعلمني القرآن أن أخرج بالمشكلة خارج الإطار؟ إذا فقط أردت أن أجد حلًا ولم يتمكن الزوجان من الوصول إلى ذلك الحل ي الداخل عندها فقط يكمن أن يستعان بأطراف أخرى ولا بد لتلك الأطراف أن يكون للزوجين فيها حكمة ونظر بأن فعلًا يكون التحري عمن يريد الإصلاح وليس عمن يريد النزاع أو يريد الشقاق أو يريد الخلاف أو يريد تهديد الحياة الأسرية. هكذا سورة النساء تبني الاستقرار الأسري على أرض صلبة على أساس متين أساس واقعي يتعامل مع مشاكل الناس بواقعية.
ثم جاءت مباشرة الآية التي تليها يقول فيها الله عز وجلّ (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) قد يقول قائل ما وجه التناسب بين الحديث عن آيات تتكلم عن الأسرة والنزاعات بين الزوجين ثم بعد ذلك: واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا؟ القرآن يعلّمنا أن العبادة واحدة وإن تعددت أشكالها أو صورها. بمعنى آخر الإصلاح بين الزوجين عبادة أيّما عبادة وكذلك السعي في الإصلاح بين الناس، صبر المرأة على الزوج وصبر الزوج على المرأة عبادة، إرادة حل الخلافات والنزاعات عبادة وكذلك العبادة التي يتقرب بها الإنسان إلى الله عز وجلّ في علاقته معه صلاة أو زكاة أو صيامًا أو ما شابه بمعنى آخر أن المؤمن يتعبد ويتقرب إلى الله عز وجلّ بإحسان علاقاته مع الآخرين وأولًا في محيط الأسرة (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا). في هذه الآية العظيمة القرآن يعلمني كيف أن مفهوم التوحيد مفهوم عملي وليس مفهومًا تنطيريًا، مفهوم ومقتضى كلمة لا إله إلا الله وعدم الشرك بالله سبحانه وتعالى وتنزيه الرب سبحانه وتعالى عن الشرك يقتضي من الإنسان المؤمن أن يكون راقيًا في تعامله، أن يراعي في تعامله الرقي الذي يليق بعلاقته مع الله عز وجلّ فكلما ارتقى المؤمن في علاقته مع ربه عز وجلّ انعكس ذلك إيجابًا على علاقته مع الآخرين وخاصة الأسرة والمحيط الداخلي الذي يعكس صدق تلك العلاقة مع الله عز وجلّ ولذلك تسقط كل تلك الأوهام التي يروج لها البعض: فلان يذهب إلى الصلاة إلى المسجد كذا مرة ولكنه يضرب زوجته ويفعل كذا ويتكلم يكلمات نابية ووو، الدين براء من هذا كله، الدين لا يمكن أن نوجه له اللوم ولكن فهم بعض الأشخاص للدين وللتوحيد وللعلاقة مع الله عز وجلّ هو الذي ينبغي أن يوجه إليه اللوم، الفهم حدثت فيه أخطاء فادحة ولكن الدين الذي هو من عند الله عز وجلّ يأمرني بهذا (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) في لُبّ وفي وسط كل تلك التعاليم والأحكام التشريعية الخاصة بالأسرة وبتنظيم العلاقة والزواج والمال والأعراض يأتي الحديث عن عبادة الله وتوحيده لأنها لا تنفصل لأن العبادة والتوحيد والعلاقة مع الله هي الشيء الأساسي التي تدور حوله كل تلك العلاقات، إن صحت علاقتك به فلا بد أن تنعكس تلك الصحة على علاقتك بالآخرين وإن كان ثمة مرض وخلل في علاقة الإنسان بربه عز وجلّ فقطعًا سينعكس ذلك المرض على علاقاته بالآخرين.