تفريغ سمر الأرناؤوط لموقع إسلاميات حصريًا
بسم الله الرحمن الرحيم. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
نريد اليوم أن نتدبر في سورة النساء، هذه السورة التي نزلت بعد سورة الممتحنة ولكن في ترتيب المصحف هي السورة الرابعة بعد سورة آل عمران مباشرة. ولو تأملنا في هذا الترتيب العظيم وكنا قد قلنا في مناسبات سابقة أن ترتيب القرآن بالشكل الذي هو عليه اليوم وبين أيدينا توقيفي جاء بالوحي وليس للبشر فيه شيء على الإطلاق. هذا الترتيب بين السور في كتاب الله عز وجلّ، هذا النظم القرآني، هذا البناء المتكامل ربي سبحانه وتعالى أراد منه أن يُحقق حكمًا ومقاصد ما كانت لتتحقق لو أن هذه السورة وضعت في مكان سورة أخرى ولذلك اهتم منذ القدم العلماء لسابقون والمفسرون بقضية التناسب بين السور، التناسب بين نهايات السور وفواتحها، التناسب بين الآيات، التناسب بين أول الآية وآخر الآية، أشكال متنوعة من التناسب، وكل أنواع وأشكال البحث في المناسبات لتحقيق ذلك المقصد التربوي العظيم في كتاب الله عز وجلّ (التدبر). التدبر الذي لا بد أن يلحق به العمل والتنفيذ والتطبيق. هذا القرآن العظيم على عظمته وعلو منزلته ند الله سبحانه وتعالى وعند الخلق إلا أنه ما جاء ليبقى فقط بين دفتي كتاب جاء ليطبق جاء ليحقق وأول مكان ووعاء يمكن أن يتحقق فيه القرآن وتنزل فيه معانيه العظيمة إنما هو ذلك القلب الإنساني (نزله على قلبك) إذا لم يتحقق ويطبق القرآن وآيات القرآن العظيمة والأحكام والتعاليم في قلوبنا أولًا لا يمكن أن تجد محلًا في مجتمعاتنا ولا في أُسرنا ولا في محاكمنا ولا في شوارعنا ولا في مؤسساتنا ولذلك أول ما كان ينبغي أن تنصرف الهمم إليه القلوب وأين موضع القرآن فيها؟ ولذلك قلنا في أوقات سابقة أنه على الإنسان المؤمن المتدبر الذي ينوي أن يأتي بهذا الكتاب العظيم أن يطهّر قلبه، أن يخلّص عقله وفكره، أن يجعل ذلك القلب والعقل الذي هو فعلًا محل الإدراك والتفهم والتبصر والتأمل في كتاب الله أن يجعل هذه الأوعية المستقبلة لهذا الخطاب الرائع العظيم على قدر من التفهم والتبصر والنقاوة والصفاء لكي تليق تلك الأوعية لاستقبال هذه المعاني العظيمة تصبح قادرة على أن ترتقي لتصل فعلًا إلى جزء من هذه المعاني في كتاب الله سبحانه وتعالى.
سورة النساء سورة من الاسم تتكلم عن حقوق النساء ولكن قبل أن ندخل فيما جائت به سورة النساء دعونا نستذكر ونستحضر بقية السور التي جاءت قبل هذه السورة العظيمة. ربي سبحانه وتعالى افتتح كتابه الكريم بسورة الفاتحة تلك السورة التي جاءت بكل معاني القرآن الأساسية التي لا يمكن للإنسان أبدًأ أن يعيش بدونها أو بعيدا عنها، وقلنا فيما قلنا أن هذه الحكمة واحدة من أسباب أن الفاتحة لا بد للإنسان المسلم من أن يقرأ بها ويأتي بها في كل ركعة من ركعات صلاته. ثم جاءت سورة البقرة سورة مدنية سورة تكلمت عن التقوى في كل تجلياتها في الحياة، التقوى المحور الذي يقوم عليه الدين، صحيح أن سورة البقرة حوت الكثير من الأحكام المتعلقة ببناء المجتمع المسلم بدءًا من الأسرة، بدءًا من الكلام عن المال وصولا إلى قصايا متعلقة بالمجتمع، قضايا متعلقة بالأحكام، تتعلق بالسياسة، تتعلق بالقضاء، بالديون، عشرات الأحكام ولكن جعلت المحور الذي تدور عليه كل الأحكام: التقوى، التقوى التي تُبنى في القلوب. الحكم الشرعي ليس مجرد حكم، الحكم الشرعي ليس مجرد حُكم خالي من الحِكَم وإلا أصبحت الأحكام مجرد أشكال مجردة، أشكال تنظيرية كما هي حال القوانين والصيغ والأحكام التي يضعها البشر وحاشا لله سبحانه وتعالى أن تكون الأحكام التي أنزلها في كتابه العظيم بهذا الشكل التنظيري أو التجريدي! أحكام القرآن جاءت فيها تلك المعاني، معاني التقوى لتجعل منها أحكامًا حية في واقع الإنسان، أحكام تعبّر عن الإنسان في شعوره وخلجات نفسه، أحكام حقيقية أحكام تعالج الإنسان، أحكام انبثقت تمامًا من معنى أن يكون للإنسان حاجة في التعامل مع نفسه أو مع الآخرين من حوله ولذلك هي صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان لأنها قامت على وضوح وبيان من الخالق الذي خلق الطبيعة البشرية الإنسانية التي لا تقبل التغيير ولا التبديل، تتغير الأزمنة، صحيح، تتغير المجتمعات، تتغير الأشال، تتغير الصور، قضايا جزئيات متعلقة بالحياة الإنسانية، ولكن الطبيعة البشرية لا تتغير، طبيعة الرجل وطبيعة المرأة لا تتغير، طبيعة الاحتياجات البشرية والإنسانية لا تتغير لذلك ربي سبحانه وتعالى لما وضع تلك الأحكام جعلها متناسبة تماما مع تلبية احتياجات النفس البشرية وما يصلحها وما تقوم به عبر الأزمنة.
ثم جاءت سورة آل عمران تعلم الإنسان الثبات، سورة البقرة علّمته التقوى وعلمته كيف يقوم بتطبيق التقوى في حياته وسورة آل عمران جاءت تعلم الإنسان الثبات في وسط كل التحديات الداخلية والخارجية التي يمكن أن يواجهها في رحلة الحياة سواء كانت تحديات من قِبل الأمم المختلفة التي تعايشها المجتمعات المسلمة أو تحديات داخل النفس البشرية تحديات داخلية أو خارجية تستدعي تمامًا عامل الثبات، عامل الاستقامة الذي بنته وأسسته سورة آل عمران. وفي ختام سورة آل عمران ربي عز وجلّ أمر عباده المؤمنين بالتقوى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴿٢٠٠﴾) خطاب رباني يذكّر الإنسان بأن كل الأنشطة البشرية التي يقوم بها في واقعه إذا خلت من التقوى أصبحت جوفاء، مجرد صور وأشكال ولكن إذا أردنا فعلًا أن تحقق تلك الأحكام والتطبيقات النتائج وتؤتي الثمار فعلًا فعلينا بالتقوى، مفتاح كل شيء في الإسلام وفي القرآن: التقوى.
وصلنا إلى سورة النساء السورة التي بدأها ربي سبحانه وتعالى بقوله (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ) ودعونا نقف عند الآية الأخيرة في سورة آل عمران يقول الله عز وجلّ فيها (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا) الخطاب للمؤمنين (اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ثم سورة النساء في أولها (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ) خطاب لكل الناس. خطاب سورة آل عمران وصية للمؤمنين (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا) والخطاب في مفتتح سورة النساء يبدأ (يَاأَيُّهَا النَّاسُ). التعاليم العظيمة التي جاءت في كتاب الله عز وجلّ تذكّرنا سورة بعد سورة أن رسالة هذا القرآن رسالة عالمية لا تختص بالمسلمين فحسب، لا تختص بالقوم الذين شرفهم الله بنزول القرآن فيهم أولا بل إن مهمة هؤلاء الأساسية أن يحملوا هذا النور لكل الناس، العالم ولذلك الأمانة الكبيرة جدًا هي رسالة القرآن والحمل لهذه الرسالة ليس بالضرورة يكون بأن يقرأوا القرآن على الناس قد تمر عليهم أوقات كما هو الحال اليوم ليس أمة من الأمم بحاجة إلى أن تستمع إلى الآيات أو السور، الحاجة الحقيقية إلى رؤية التطبيق، النموذج الذي جاءت به الآيات القرآنية التعاليم الربانية المنزّلة في كتاب الله سبحانه، اِسماع الأمم وتبليغ رسالة القرآن لا يكون فقط من خلال التلاوة أو القرآءة المجردة بل يكون من خلال تنزيل هذه الأحكام التي جاءت في الآيات واقعا يبصره ويراه القريب والبعيد. ولذلك لما أدرك المسلمين الأوائل، الجيل الأول هذه الحقائق طاروا بها في شرق الأرض وغربها بتعالميها، بتطبيقها، بشعورهم وإحساسهم بالمسؤولية والأمانة تجاه أمم الأرض، حملوا تعاليم القرآن في أخلاقهم، في تعاملهم بالدرهم والدينار، تعاملهم فيما بينهم، الأخلاق، السلوك، الأقوال، القضاء، المعاملة المالية، كل أشكال التعامل هذا نوع من أنواع حمل الرسالة وهذا الحمل للرسالة لكي يؤدي فعلًا النتيجة والمقصد التي لأجله كان لا بد أن يكون له رصيد عميق جدًا من التقوى، رصيد التقوى. ورصيد التقوى يذكرني القرآن به مرة بعد مرة ولذلك جاء التذكير به في أول سورة النساء (اتَّقُوا رَبَّكُمُ) التقوى والتقوى لكي تتحقق في ذات الآية الأولى من سورة النساء تكلمت عن كيفية بناء التقوى، التقوى تبنى حين يستحضر الإنسان رجلًا كان أو امرأة الطبيعة والخِلقة التي خلقه الله سبحانه وتعالى عليها.
سورة النساء سورة تتكلم في كل آياتها عن العدالة وتحقيق العدالة بكل صورها ولذلك السورة سورة مدنية نزلت لكي تُطبّق في المجتمع المسلم الأول في المدينة، القرآن وأحكام القرآن تنزل لأجل أن تطبق، التطبيق العملي للآيات هو التفسير الحقيقي لهذه الآيات العظيمة. ولذلك نجد أن حياة النبي صلى الله عليه وسلم كانت التفسير لهذه الآيات طريقة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم في التعامل كانت التفسير لهذه الآيات التطبيق التنفيذ في الواقع. السورة بكل آيات 176 آية كل هذه الآيات تحدثنا عن العدالة، عدالة في المشاعر، عدالة في القول، عدالة في الظن، عدالة في العمل والسلوك، عدالة مع النساء، عدالة مع الصغار، عدالة مع الكبار، عدالة مع الأقوياء، عدالة مع الضعفاء، عدالة أول ما تبدأ تبدأ في النفس ولذلك أعظم أنواع العدل أن يتقي الإنسان ربه. صورة العدالة تتجسد في النفس الإنسانية على قدر ما يحمل الإنسان من التقوى ترجمة حقيقية لمعاني العدالة في النفس. الإنسان إذا لم يتقي ربه كيف يمكن أن يكون عادلًا مع الآخرين سواء كان في الأسرة أو في المجتمع؟! كيف يمكن أن يكون منصفًا وهو لم يحقق معاني العدالة مع خالقه سبحانه وتعالى؟! فالنفس البشرية لكي يكون لها رصيد حقيقي من العدالة لا بد أن تحمل رصيدًا من التقوى ولذلك بدأت السورة بالحديث عن التقوى أول وصية، أعظم وصية لكل البشر: تصحيح العلاقة مع الربّ.
سورة النساء تكلمت عن العدالة بكل صورها كما سنأتي عليها: عدالة في الحكم، عدالة في السياسة، عدالة في الاقتصاد، عدالة في المال والاقتصاد، عدالة في المجتمع، عدالة في الأسرة، عدالة في النفس، كل شيء. ولكن العدالة لو أردنا أن نرسم لها مثلثًا كما جاءت في سورة النساء سنجد أن معها أطرافًا أخرى في المثلث، على رأسه العدالة ثم على الجانب الآخر الرحمة ثم على الجانب الثالث الأمانة. بمعنى آخر لو رسمنا مثلث العدالة كما جاء في سورة النساء لوجدنا على رأسه العدالة ثم الرحمة ومعها بنفس المستوى الأمانة، وكل واحد من هذه القيم العظيمة القرآنية يؤدي إلى القيمة الثانية وبدون أن تتكامل الثلاثة قيم هذه لا يمكن أن تتحقق العدالة وفي القلب وفي المحور والمركز تمامًا هناك مكان التقوى، هذه العدالة التي تصنعها سورة النساء.
لفت انتباهي وأنا اقلّب في التفاسير المختلفة سواء كانت القديمة أو المعاصرة أن الكثير من المفسرين يتكلمون عن سورة النساء وفي كلامهم عن العدالة يقولون بأن سورة النساء قد بدأت بالكلام عن العدالة مع النساء ومع اليتامى ومع الضعفاء لأن السورة تتكلم عن العدالة مع الضعفاء، وهذه الفئات من النساء واليتامى فئات ضعيفة في المجتمع والإنسان حين يكون في موطن ضعف فإنه مما لا شك فيه أن يمكن أن يكون محلًا لوقوع الظلم عليه فجاء الكلام في هذه السورة عن العدالة لحماية هؤلاء الضعفاء ولكن حين قرأت في الآية الأولى من سورة النساء لم أجد مكانًا للحديث عن الضعف، وجدت حين تدبرت في الآية أن الله سبحانه وتعالى يعلّمنا أن ننظر إلى خلقه جميعًا رجالًا ونساء، صغارًا وكبارًا، أغنياء وافقراء، يتامى حُرموا من الأب أو اشخاص لديهم أُسر ومكتفين بهم، يتحدث عن الجميع في آية واحدة وكلمة واحدة فيقول (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) وهذه الكلمة لها مقصد ولها معنى، المعنى والله أعلم معنى المساواة، بمعنى آخر أن قيمة العدالة التي تتحدث عنها سورة النساء فيها محور آخر قائم على المساواة بين الخلق، المساواة في القيمة الإنسانية (مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) التي جاءت بها سورة النساء. ولذلك لا أجد فيها كلامًا عن الضعف، بالعكس هناك كلام عن العدالة مع القوة لأن العدالة لا بد لكي تتحقق فعلًا أن تقوم على الشعور بأن الخلق متساوون فيما بينهم، متساوون في أصل خلقتهم، متساوون في أن الذي خلقهم سبحانه واحد وهذا معنى عظيم نحتاج أن نستحضره ونحن نتدبر في آيات سورة النساء.
ثم بعد ذلك ونحن ننظر في الايات نجد أن في الآية الأولى في سورة النساء أن الكلام عن التقوى يأتي في موضعين (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) وفي نفس الآية (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) الأولى (اتقوا ربكم) والأخرى (واتقوا الله). الرب الذي يربّي سبحانه، الرب الذي خلق الرجل والمرأة، الصغير والكبير، الرب الذي يربي خلقه والتربية ليست مجرد تغذية جسدية، الرب الذي خلق من نفس واحدة وأعطى كل مقومات الحياة وسخّر الشمس والقمر وحفظ للإنسان ما يمكن أن يقوم به معاشه على الأرض، هو الربّ الذي يربي الإنسان بالتعاليم والشرائع، فمن تمام التربية أن يشرّع لنا وهذا معنى عظيم جدًا. الكثير من الناس اليوم في علاقتهم مع أبنائهم في التربية يتوهمون أن التربية مجرد تغذية جسدية، قيام بالاحتياجات التي يحتاج إليها الولد أو البنت: طعام، ملابس، مدارس، لكن القرآن يعطيني بعدًأ آخر للتربية: الشرائع التعاليم والقيم والأخلاق التي لا تستقيم بدونها الحياة البشرية، لا يمكن للإنسان أن يُربى بدون قيم، بدون أخلاق، بدون تعاليم، بدون شرائع وأعظم وأصلح من يمكن أن يقدم لي هذه الشرائع هو الرب الذي خلق ولذلك جاءت (اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ) فالخالق هو الذي يربّي، الذي أوجد من العدم، الذي خلق الرجل والمرأة هو الرب سبحانه وتعالى القادر العالم اللطيف الخبير الرقيب الذي يعلم سبحانه ما تصلح به حياة الرجل وحياة المرأة وحياة البشر على هذه الأرض.
ثم إن الله سبحانه وتعالى في الآية الأولى من سورة النساء أوكل الرقابة الحقيقة وكل أجهزة الرقابة على المرأة والرجل، على الخلق، على العنصر الإنساني فقال (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) وبدون استشعار الإنسان لهذه الرقابة الإلهية الدائمة التي لا تنقطع لا في ليل ولا في نهار لا في سر ولا في علانية، بدون استشعارها فعلًا لا تستقيم الحياة. كل أجهزة المراقبة في العالم، كل الكاميرات التي توضع في المؤسسات والشوارع والمحلات التجارية لا يمكن لها أن تؤدي دورها الحقيقي إذا لم يكن هناك رصيد من الشعور بالرقابة الذاتية، الرقابة الذاتية مكمّلة وتكملها وتحميها تلك الرقابة التي يصنعها البشر بمختلف الأجهزة التي نراها ولكن بدون استكمال الاثنين معًا لا يمكن أن تتحقق العدالة. وتدبروا عظمة هذا القرآن في كل كلمة من كلماته: العدالة تحتاج إلى رقابة، لا يمكن أن تتحقق عدالة في أسرة أو مؤسسة أو مجتمع بدون عنصر رقابة بمعنى آخر لا تتكل أن يكون هناك مجرد عدالة بين الناس فتترك موضوع الرقابة، لا بد من الرقابة والمتابعة وهذا تنبيه وتنويه لكل المؤسسات المجتمعية في الواقع الإنساني، دور الرقابة دور مهم جدًا دور لا يمكن الاستغناء عنه لأجل أن تستكمل العدالة التحقق في تلك المؤسسات وفي تلك المجتمعات.
ثم تبدأ بعد ذلك السورة بتحقق أشكال العدالة وتفاصيلها واللافت للنظر أنها أول ما تبدأ تبدأ بالكلام عن اليتامى، شيء عجيب جداً! أول ما تبدأ بعد هذه المقدمة الواضحة بقوله عز وجلّ (وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ) جرت عادة البشر حين يضعون القوانين يبدأون بالأهم ثم الأقل أهمية، حسب الأهمية، ولله المثل الأعلى ربي عز وجلّ بدأ بهذه الفئة لكي يتحقق معنى ومفهوم وقيمة العدالة المطلقة التي جاء بها هذا القرآن العظيم.
أيضًا لفت انتباهي قضية أخرى وأنا أقلّب في السورة، هناك مقولة قديمة تقول أن العدالة عمياء وهي مقولة يقصد بها معنى إيجابي، يقصد بها أن العدالة لا تنظر إلى جنس ولا تنظر إلى لون ولا تنظر إلى عرق ولا تنظر إلى تفاوت بين الناس في الأموال ولا في الأجناس ولا في أي شيء. فأطلقت هذه الكلمة “العدالة عمياء” ولكن العدالة التي يؤسسها القرآن عدالة مبصرة عدالة لا تحتاج أن يكون الإنسان معصوب العينين لكي يحققها في الواقع بل على العكس تمامًأ يحتاج أن يكون مبصرًا يرى الأشياء، يراها كما هي ولكنه يُخضع قلبه ووجدانه وأحكامه لميزان العدالة، العدالة التي يدعو الناس إليها القرآن عدالة مبصرة. مهم جدًا أن نتعرف وأن نقارن ونحن في سياق التدبر، التدبر من أعظم معانيه أن الإنسان يتعلم كيف ينظرإلى القرآن وكيف ينظر إلى واقعه الذي يعيش ويحيى، ينظر إلى الأمرين، والقرآن بصائر بدون هذه البصائر لا يستطيع الإنسان أن يبصر واقعه كما ينبغي أن يكون فالرب عز وجلّ بدأ بالحديث عن اليتامى واللافت للنظر في الآية الثانية (وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا ﴿٢﴾) بدأ باليتامى، بدأ بالعنصر الأهمّ في المجتمع، السؤال لماذا؟ لأن قيمة العدالة التي يؤسسها القرآن وسورة النساء عدالة لا ترتبط بأوضاع الناس الاجتماعية، أبدًأ، عدالة ترتبط بإنسانية الإنسان، عدالة ترتبط بالإنسانية، عدالة ترتبط فعلًا بأن هذه الفئة من الناس اليتامى الموجودة في المجتمع قد يحدث نتيجة لتقلبات الزمان والتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية أن هذه الفئة تُهدَر أموالها لسبب أو لآخر فأراد القرآن أن يبدأ بهذه الفئة لأن المجتمع الذي يتعلم فيه أفراده كيف يحققون العدالة مع هذه الفئة هو المجتمع الأقرب إلى تطبيق العدالة الأُممية مع كل أمم وشعوب الأرض، المجتمع الذي يمارس العدالة مع اليتامى في أموالهم وحقوقهم هو المجتمع الأمثل الذي يبنيه القرآن ويصنعه القرآن لأجل أن يحمل ويكون جديرًا بحمل رسالته إلى الأمم كافة. بمعنى آخر إذا أردت أن تقيس هل هذا المجتمع يستحق أن يقود أمم الأرض أو لا يقود انظر إلى أحوال اليتامى وأموال اليتامى والقاصرين والمؤسسات التي تقوم عليها في مجتمعك ثم احكم بعد ذلك، تأملوا في هذا المعنى العظيم! مقياس، القرآن يعطيني مقياس أقيس به تقدم الأمم وتقدم الشعوب ومقدار الأمانة المتحققة فيها وبالتالي لا أغتر بالمقاييس الظاهرية أو الشكلية للأمم والشعوب وإنما أبحث في الجذور والأعماق، أبحث عن حقوق هذه الفئات في المدتمع لكي أدرك حقا هل هذا المجتمع أو تلك الأمة تمارس العدالة أم لا تمارسها؟ وتدبروا ذلك القول العظيم في الآية (وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) المال الخبيث وإن كثُر فإن الخبث كصفة يبقى ملازمًا له لا يغادره ولأنه خبيث فسيأتي قطعًا على الحياة الإنسانية يهدرها هدرًا يجعلها حياة شقية حياة لا تعرف طعم السعادة بعكس الطيب وإن كان قليلًا أو بسيطًا أو محدودًا.
وهنا كعادة القرآن، القرآن يصحح الأوضاع بكلمة وبجملة وبجزء من آية فتأملوا لو أننا كمجتمعات إنسانية حققنا هذه القاعدة (وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) إياك أن تفرّط بالطيب لصالح الخبيث! بكل الأشياء، قاعدة عامة ليست فقط في الأموال، في الكلام، في التعامل، في الأخلاق خبيث، الميزان ليس بواحد. لماذا القرآن يصحح لي هذا المقياس؟ أنا بحاجة إلى تصحيحه في التعامل الإنساني، لا تستقيم الحياة حين يرتقي الخبيث على الطيب لأي سبب من الأسباب، فلأجل أن أحقق العدالة فعلًا لا بد أن أدرك أن الخبيث وإن كثر وإن زاد وإن قوي فهو يبقى على خبثه، والطيب مهما كان بسيطًا أو قليلًا أو محدودًا فهو طيب ولن تتغير هذه الصفة فيه، هذه الصفة ملازمة فيه.
ثم بعد ذلك تبدأ الآيات تنتقل إلى الكلام عن النساء وفي كلامها عن النساء تعالج عشرات الممارسات الاجتماعية التي كانت موجودة في البيئة الأولى بيئة نزول القرآن، ممارسات في المجتمع الجاهلي الذي كان يقوم على خرق هذه القيم، قيم العدالة، قيم الرحمة قيم الأمانة، قيم المساواة، ولماذا كانت هذه الخروقات في المجتمع الجاهلي؟ إذا أردنا أن ندرك السبب الرئيس وهو أسّ هذه الخروقات سنجد أن العلاقة بين الإنسان والخالق كانت علاقة شركية قائمة على اتخاذ الشركاء فحين أخطأ وتخبط الإنسان الجاهلي في علاقته مع الله عز وجلّ نتج عن ذلك كل أشكال وصور التخبط في مجال العلاقات والسلوكيات الإنسانية فوقع في الظلم ظلم اليتامى، ظلم النساء، ظلم العبيد، ظلم كل الطبقات الموجودة في المجتمع وأوجد الطبقية لا عدالة في الحكم ولا عدالة في الأسرة ولا عدالة في المال ولا عدالة في الميراث ولا عدالة في أي شيء ولو أردنا أن نفهم السبب الرئيس وراء كل هذا لوجدنا أن الإنسان حين لا يكون عادلًا ويصحح العلاقة مع الرب الذي خلق كما جاء في أول آية في سورة النساء: ربّ وخَلَق، إذا لم أصحح العلاقة مع ربي الذي خلقني فأنّى لي أن أصحح العلاقة مع أي أحد؟!. ولذلك تتابعت الآيات بعد ذلك وعرضت صورًا مختلفة للظلم الاجتماعي الذي كان يقع في الجاهلية ولو تأملنا اليوم وحاولنا أن أن نقرأ مجتمعات اليوم لوجدنا أن عامل الزمن ليس هو السبب وراء الوقوع في الظلم الاجتماعي بمعنى آخر كما يقول بعض المفكرين أن الجاهلية هي ليست فترة زمنية أو تاريخية وإنما الجاهلية هي حالة فكرية ثقافية اجتماعية اقتصادية يقع فيها الإنسان حين يبتعد عن خالقه سبحانه وتعالى ولذلك صحيح الآيات عرضت لنا صورًا من الظلم الاجتماعي ومنه قضية المهور أن النساء في العصر الجاهلي كانت بعض القبائل لا تعطي المرأة مهرًا أصلًا أو أن المهر في الأصل يكون من حق الولي ولو نظرنا إلى مجتمعاتنا اليوم لوجدنا الكثير من الممارسات لا تختلف بقليل ولا كثير عما كان عليه الوضع في الجاهلية. إذن الجاهلية ليست فترة زمنية، هي ممارسة اجتماعية وثقافية وفكرية وأنا عليّ أن أصحح هذه الممارسات وأن أبني الأساسات الصحيحة على بناء متين من القيم والتقوى وأن أجعل لها عنصر رقابي ذاتي حتى أستطيع أن أصل إلى عنصر المحافظة عليها.
ثم تنتقل بعد ذلك الآيات إلى الكلام مرة أخرى عن اليتامى والقرآن يطلق كذلك ويستعمل لفظة “السفهاء” الإنسان الذي لا يعرف كيف يمكن أن يتصرف في ماله، كيف يكون التعامل مع هذا النوع من البشر في قضية المال؟ الله سبحانه وتعالى أوجد لنا السبيل، الكلام في سورة النساء موجه للحديث عن الأولياء والأوصياء وعادة يكونون من الأعمام لأن أولياء الإنسان حين يفقد الصغير أباه فالذي يقوم على الوصاية هم الأقارب من جهة الأب وغالبًا ما يكون العمّ، لكل هؤلاء الأصناف ربي سبحانه وتعالى يوصي بالتقوى في التعامل حين يكون التعامل قائمًا على المعروف حين يكون التعامل قائمًا كما تحدده الآيات (فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) (وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا) ثم بعد ذلك (فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا) حساب ورقابة حتى في الكلمات المستعملة والألفاظ التي جاءت في سورة النساء.
ثم بعد ذلك تنتقل الآيات للكلام عن الميراث، حقوق الأموال في إطار من العدالة والرقابة والحساب، الحساب الحقيقي الذي توجده سورة النساء. وتأتي مع ذكر هذه الآيات بطبيعة الحال في سورة النساء لتعالج صورًا من الممارسات القائمة على الظلم الاجتماعي في المجتمع الجاهلي الذي كان يحرِم النساء ويحرِم الصغار من حق الميراث على اعتبار باطل جدًأ أن الفئات تكون أولى بالميراث على اعتبار أن هذه الفئات هي التي تقوم بواجب الحماية والدفاع عن العشيرة والأسرة والقبيلة فهي الأحق بالمال بينما تلك الفئات من النساء والصغار لا يقومون بأيّ حماية فعلى أي أساس تقسم لهم الثروة أو يعطوا مالًا من الميراث؟! فكانت المجتمعات الجاهلية تحرم هذه الفئات من الميراث فجاء القرآن العظيم بتعاليمه في سورة النساء ليعطي حقا لم يعط من قبل للنساء وللصغار (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ﴿٧﴾) “نصيبًا مفروضًا” تدبروا في هذه الآيات. ولنا أن نتخيل وأن نعود بذاكرتنا إلى الوراء لندرك طبيعة البيئة التي نزل فيها القرآن، الكثير الآن يجادل بغير علم، يتكلم عن حقوق المرأة وحقوق النساء ويتكلم عن حقوق المرأة وكأنها فتح جاء على يد الأنظمة والمجتمع في الغرب والكلام فيه ظلم واضح بيّن. هذه الشواهد العظيمة، هذا القرآن العظيم الذي نزل قبل مئات السنين نزل بحقوق وتعاليم وأحكام لم يخطر على بال أحد في المجتمع آنذاك أن يطالب بها وهذا فارق جوهري بين الأحكام التي جاءت في كتاب الله عز وجلّ وطبقت في سنة النبي صلى الله عليه وسلم وفي المجتمع الذي بناه وبين أحكام وحقوق اليوم والتاريخ يشهد تاريخ المرأة أو النساء على سبيل المثال في أوروبا مليء بالانتهاكات، قضية حقوق النساء أصلا ما جاءت إلا بعد عشرات المطالبات من قبل النساء لكي يأخذن جزءا يسيرا من الحقوق أما القرآن العظيم فقد أعطى للمرأة وللنساء وللكل حقوقًا بدون مطالبة، حقوقًا قائمة على الإنسانية، حقوقًا من قِبَل الرب الذي خلق ولذلك إذا أرادت النساء فعلًا أن يحافظن على حقوقهن فعلًا فعليهن التمسك بالمصدر الحقيقي لهذه الحقوق: الرب سبحانه وتعالى، الشرع، الدين لأنه هو الذي أعطى والرب حين يعطي عطاؤه سبحانه غير منقوص وغير ممنون بينما الخلق حين يعطون فهم كذلك يمنّون وإن أعطوا أعطوا عطاءً منقوصًا غير كامل، وهذا فارق جوهري علينا أن نفهمه حق الفهم لندرك الفوارق العظيمة الهائلة التي لا وجه للمقارنة بين الحقوق التي أعطاها القرآن للنساء في سورة النساء تحديدًا وبين الحقوق التي يتحدث عنها العالم ويتحدث عنها البشر للنساء.
(وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ﴿٩﴾) معادلة صعبة بالنسبة للبشرية أن يدركوها. نحن في التدبر لا نقف عند كل آية نحن نريد أن نعرف فقط من الآيات ماذا تريد الآية مني أن أحققه في حياتي في واقعي ومجتمعي؟ هذا معنى من معاني التدبر العظيمة.
ربي سبحانه وتعالى يقول هنا (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ) واقع إنساني، الإنسان بطبيعته يخاف على أبنائه يريد أن يؤمن مستقبلهم ولكن اللافت للنظر أن هذه الآية العظيمة تعطيني وصفة لكل من يخشى على أولاده ويريد حقًا أن يؤمن مستقبلهم ماذا يفعل؟ (فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا) بينما نحن في واقعنا إذا أردنا أن نتأمل في الواقع إذا أردنا أن نؤمن على مستقبل أولادنا نزيد لهم في الحسابات في البنك ونزيد في الشراء ونزيد في الأموال ونزيد في الأراضي والقرآن يقول لي (فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا) حِزام ضابط. المفروض لا تعارض بين الاثنين بمعنى آخر الإنسان يعقل ويتوكل، يتقي الله ويقوم بما يقدره الله سبحانه وتعالى ويمكنه فيه من العمل وأن يترك أولاده فعلًا وهم ليسوا بحاجة لأحد ماديًا أفضل بكثير من أن يتركهم وهم عالة على أنفسهم وعلى مجتمعاتهم ولكن علينا ضبط الأمور ووضع الأمور في نصابها كما يضعها القرآن العظيم. إذا أردت فعلا أن تؤمن مستقبل أولادك فعليك بالتقوى والقول السديد وهذا المعنى العظيم وهذه اللفتة التربوية جاءت في سور عديدة في كتاب الله عز وجلّ ومنها سورة الكهف (وكان أبوهما صالحا) لفتة رائعة لكل الآباء والأمهات: إذا أردت صلاح الأبناء وتأمين مستقبل الأبناء فعليك بالتقوى في نفسك والعدالة في القول مع الآخرين، العدالة في القول والعمل لأن الآية التي تليها مباشرة (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ﴿١٠﴾). وتدبروا اعجاز اللفظة القرآنية في تصوير العمل الحرام البشع أولًا جاءت كلمة (يأكلون) أكل، هل المال يؤكل؟! في زماننا المال أوراق نقدية، فهل تؤكل؟! هل رأينا فعلًا أكل حقيقي للمال؟! الإنسان يأكل أوراقا؟! لا، إذن لماذا القرآن يعبر عنها بالأكل (يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى)؟ يمكن أن يكون أحد الأسباب أن الأكل هو أكثر ما تقوم به حياة الإنسان بالمال يتصرف به بالأكل الذي هو قوام الحياة البشرية. ويمكن أن يكون لتنفير الإنسان من هذا الفعل ومزاولته ولذلك جاء بها مرتين في آية واحدة (إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا) أكل! الإنسان الذي يأكل حقوق الآخرين إنما هو يأكل نارًا فهل يعقل لإنسان عاقل فعلًا أن يستسيغ أكل النار؟! المال الحرام نار، المال الحرام لا يمكن أن تقوم به حياة بشرية ولا تستقيم به حياة بشرية وتدبروا ربي سبحانه وتعالى جاء بلفظة نار (إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا) لأن طبيعة النار تحرق وتأكل كل شيء تأتي عليه، ربي سبحانه وتعالى بهذه اللفظة العظيمة المعجزة في هذه الآية أراد أن ينفرنا من الحرام، أراد أن يجعل الإنسان قبل أن يأخذ من المال الحرام ولو فلسًا واحدًا يتأمل فيه يدرك ويستحضر أن هذا الدينار الحرام سيأتي على كل ماله كما تأتي النار على كل شيء فتأكله وتجعله أثرًا بعد عين. المال الحرام يأتي على قوام الحياة البشرية يفسدها يجعلها فعلًأ أثرا بعد عين، فهل هذا الذي تريده لنفسك؟ القرآن يعالج ظاهرة اجتماعية الإنسان حين تكون عنده أسرة ويكون عنده أولاد يبدأ يحمل همّ الرزق وهمّ العيال وكيف أؤمن ملبسهم وكيف أؤمن مدارسهم؟ هذا الخوف الذي ما أراده القرآن أن يكون لأنه خوف سلبي، الرزق بيد الله، والآيات في سورة النساء ستعالجه، هذا الخوف السلبي قد يدفع بالإنسان إلى أن يقع في الحرام والمحظور فنتيجة لذلك الخوف غير المبرر على الأبناء ومستقبل الأبناء ولماذا وكيف وماذا سأفعل وراتبي لا يكفي والحياة غالية والأسعار في ارتفاع وعشرات المبررات! هذه المبررات والمخاوف لا ينبغي أن تكون في نفس الإنسان الذي يدرك أن الرزق بيد الله وأن الله هو الرزاق ذو القوة المتين، هذا الخوف قد يدفع الإنسان بأن يسلك مسلكًا حرامًأ فتمتد يده إلى الحرام مبررًا ذلك لنفسه أنه يريد أن يؤمن مستقبل الأولاد وتدبروا بالله عليكم في حياتنا المعاصرة اليوم كم من أب اختلس أو وقع في الرشوة أو أكل مال اليتيم من أبناء إخوته أو من قريب أو بعيد تحت مبرر أولادي لا أريد أن أتركهم فقراء وأن ألبي احتياجات أولادي؟! عالجها القرآن بهذه الكلمة. تفكّر تدبر هل يمكن أن تقوم حياة الأولاد أو حياتك أنت بأكل النار؟! نار حقيقية! المال الحرام نار لا يمكن أن تستقيم به الحياة فهل تُدخل النار على بيتك وأسرتك وأولادك؟ هل تقبل؟ نحن نحمي أنفسنا وأبناءنا وبيوتنا من النار إذا اشتعلت الآن في بيتك نار لا بد أن تحرص أشد الحرص على أن تطفئها لأنك تدرك بحسّك الإنساني خطر النار فما بالنا لا ندرك ونحن نقرأ ونتدبر في كتاب الله خطر النار الحقيقية: نار الحرام هل لأننا لا نرى لهيبها؟! القرآن يرينا النار في هذه الآية لهيب نار المال الحرام حين يصورها أبشع تصوير (إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) آية عظيمة آية حين يقف عندها الإنسان يستحضر معانيها يدرك حجم الخطأ المهول الذي يقع فيه حين تمتد يده إلى حرام قلّ أو كثُر ولذلك خسرنا كثيرًا حين ابتعدنا عن التدبر في كتاب الله أيّما خسارة ولسنا نحن فقط من خسرنا، نحن وقعنا كذلك في وصول شعوب العالم اليوم إلى الخسارة التي يعانون منها اليوم، خسارة حقيقية، حتى الخسارة الاقتصادية، حتى ما يعاني منه العالم اليوم من فقر، العالم اليوم مستويات الفقر والبطالة فيه بلغت أدنى مستويات الإنسانية وأعلى مستويات الفقر والبطالة! من أين جاءت هذه المستويات؟ من عدم إدراك هذه المعاني التي جاءت في كتاب الله عز وجلّ.
ولذلك الآية التي بعدها في الكلام عن الأولاد وتقسيم الميراث بين الذكور والإناث (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ) تأملوا الآية الأولى قالت (فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا) ثم بعد ذلك (إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) ثم الآية (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ) آيات مترابطة. الآية الأولى تكلمت عن الخوف غير المبرر خوفي على أبنائي وحذرتني من الوقوع في الحرام نتيجة الخوف غير المبرر والآية الثالثة قالت (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ) الرب الذي أعطاني كل هذه الأوامر رب رحيم رب يوصيني بأولادي خيرًا فهو حينًا يحذرني من إدخال الحرام على نفسي وعلى أولادي وأسرتي إنما لأجلي لصالحي هو الرب الذي يوصيني في أولادي هو الرب الذي شرّع لي هذه التعليمات لذلك اللافت للنظر في الأحكام في سورة النساء وفي سائر القرآن أن فيها بعد رحمة لا تجده في كل القوانين التي وضعها البشر. أحكام وتشريعات القرآن العادلة مبنية على الرحمة الرحمة لا تغادرها، في الحقيقة هي منطوية على الرحمة، عدالة القرآن، العدالة التي يصنعها القرآن وتبنيها سورة النساء عدالة قائمة على الرحمة، الرحمة في كل جوانبها، ما عليك إلا أن تتدبر في الآيات لترى جوانب ولمسات الرحمة في كل شيء. ربي حينما حرّم الحرام وحرّم أكل أموال اليتيم وأكل أموال الناس بالباطل وأكل حقوق الآخرين إنما رحمة بنا رحمة بضعفنا وعجزنا رحمة بنا من إدخال النار على حياتنا وأُسرنا وقلوبنا وأموالنا وأنفسنا ومجتمعاتنا النار التي إن لم ننتبه إلى لهيبها وأصبحنا اليوم نعاني من ويلاتها تحت نيران الأزمات الاقتصادية التي بدأت تطيح بالدول المختلفة، تطيح بدول وليس فقط أفراد، تطيح بهم الأزمات الاقتصادية بسبب مخالفة هذه التعاليم الربانية السامية القائمة على العدالة والرحمة. ولذلك نهاية الكلام في آيات الميراث تقول (آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا) فإذا أنا لم أعلم كبشر لمحدوديت أيهم أقرب لي نفعًا الفروع أم الأصول أيّ واحد من أبنائي ومن أقاربي؟ عدالة التشريع وعدالة التوزيع تنصرف لمن وتكون بيد من غير الخالق الرب الذي يعلم ما كان وما سيكون وما هو أقرب لي نفعًا وما هو أعظم لي نفعًأ في ديني ودنياي وآخرتي ولذلك جاءت الآية (فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا) وسورة النساء من أكثر سور القرآن التي جاءت فيها سلسلة من الصفات والأسماء لله سبحانه وتعالى يدور معظمها حول العلم والحكمة والرحمة والرقابة والحسيب وطبعًأ هي صفات لها معنى وقصد في نهاية كل آية من الآيات. من الذي هو أحق بالتشريع؟ الله الرب الذي يعرف ومطّلع على خفايا النفوس وطبيعة النفوس وما يصلح لها وما لا يصلح أم البشر الذين إن علموا شيئا جهلوا أشياء وإن أحاطوا بأمر لم يحيطوا بأمور كثيرة؟! من هو الذي هو أولى بالتشريع؟ من هو الذي يحق له أن يشرّع؟ من سوى الخالق الرب سبحانه وتعالى؟! ولذلك قلنا في بداية الكلام عن سورة النساء أعظم شكل من أشكال العدالة أن تكون عادلًا مع نفسك ولا يمكن أن أكون عادلًا مع نفسي إن لم أصحح علاقة نفسي بخالقها عز وجلّ. قمة العدالة أن تصحح العلاقة مع الله وعن تلك العدالة تنبثق كل قيم العدالة الأخرى في التعامل ولكن إن لم أكن عادلًا مع نفسي كيف لي أن أحقق العدالة بكل مستوياتها مع الآخرين؟! عدالة منقوصة! لأني لم أدرك كيف أحقق تلك العدالة مع الله سبحانه وتعالى.
وتبدأ الآيات بالكلام عن قضية الميراث (فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ) (يُوصِيكُمُ اللَّهُ) (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا) كل هذه الوصايا في تقسيم الأموال ونحن نرى في واقعنا الإنساني قديمًا أو حديثا كثيرًا من الخلافات التي تقع بين البشر بل بين أفراد الأسرة الواحدة مردّها المال وعدم العدالة في التوزيع فإذا استطاع الإنسان أن يحل هذه النزاعات القائمة على تقسيم وتوزيع الثروة المالية نستيطع أن نقول أكثر من خمسين بالمئة إن لم يكن أكثر بكثير من مشاكل الأُسَر والمجتمعات والدول ستُحَلّ. لو نظرنا حتى إلى النزاعات بين الدول لوجدنا من أهم أسباب النزاع توزيع الثروات، المال، من الذي يملك حق التوزيع؟ الذي يملك حق التوزيع فعلًا الرب سبحانه وتعالى لذلك جاء بكلمة (يُوصِيكُمُ اللَّهُ) (فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ) الرب الغني الرب الذي هو سبحانه أعطى المال وهو الغني عنا وعن أموالنا وما جعل المال إلا لتقوم به حياة الإنسان. الرب الرحمن الرب الذي حتى حين شرع لنا شرع لصالحنا وليس لأي شيء آخر أما البشر فحينما يشرّعون ويضعون القوانين والتشريعات لا يمكن أن تضمن إلى أي مدى استطاعوا أن يتخلصوا من النظر في مصالحهم ولذلك حال الأمم اليوم كما نرى في المجتمعات لأن تلك العدالة عدالة لم تستطع أن تُسقط المصالح الشخصية لنفسها أما عدالة الخالق سبحانه وتعالى العدالة التي يصنعها القرآن العظيم في سورة النساء عدالة مطلقة لأنها عدالة الغني سبحانه وتعالى عن عباده وهم الفقراء إليه.
وتنتقل بعد ذلك الآيات للحديث عن نوع آخر من العدالة الاجتماعية العدالة في إقامة الحدود، العدالة في الجرائم الأخلاقية الجرائم المتعلقة بالعلاقات خارج إطار الزواج الذي وضعه الله سبحانه وتعالى ليكون الإطار الحقيقي لكل علاقة بين رجل وامرأة وخارج تلك العلاقة لا يكون الإنسان إنسانًا (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ) (وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ) كل العلاقات أسقطها خارج إطار العلاقة المشروعة بين الرجل والمرأة ضمن الأسرة في الزواج. ولذلك قلنا ونقول ليست الجاهلية فترة زمينة ما نراه اليوم في بعض المجتمعات من تدهور وانحطاط إنساني قبل أن يكون أخلاقي أو ديني: علاقة رجل برجل وعلاقة رجل بنساء خارج إطار الزواج هذا التدهور قيمي، هذا انحطاط إنساني قبل أن يكون أخلاقي. هذه العلاقة ربي عز وجلّ أراد لها أن تكون مصانة تليق بإنسانية الإنسان فإذا نزلنا بها وجعلناها تكون أقرب ما تكون إلى الحيوانية والبهيمية كل ما يشتهيه الإنسان يسعى إليه ويحصل عليه، إذن حصل انحطاط في الجانب الإنساني، ما عاد الإنسان إنسانا وإنما عاد كبهيمة لأن البهيمة تنظر فقط إلى قضية الغريزة والشهوة فهل هذا هو الرقي الذي نريده في مجتمعات اليوم؟! للأسف الشديد حتى في قضايا العلاقات الجنسية اليوم المدتمعات في الغرب على سبيل المثال بدأت تروج لها هذه العلاقات المحرمة بدعوى المساواة لأنه يفترض عندما يكون هناك مساواة أن هؤلاء الذين يمارسون العلاقات من هذا النوع لهم الحقوق في أن يمارسوا ما يريدون! تزييف! تزييف حتى للطبيعة الإنسانية الفطرة التي خلق الله الناس عليها. والسؤال: يا ترى ما هي طبيعة الويلات والكوارث الاجتماعية والإنسانية التي ستأتي على المجتمعات التي تسكت على هذا النوع من التردي الإنساني والانحطاط؟!! ماذا سيفعل البشر؟! أريد أن أقف معكم عند قضية قضية معاناة المجتمعات المسلمة اليوم إزاء هذه العلاقات لأن الكثير من القوانين باتت تُفرض عليها فرضًا من الأقوى. السؤال: يا ترى لماذا اليوم أصبحت المجتمعات المسلمة تعاني وتقع تجت طائلة هذه الوصاية التي هي لا تريدها فعلًا؟ المجتمعات المسلمة للأسف أصبحت تدفع ضريبة عدم إيصالها لهذا الخطاب القرآني الذي بدأت به سورة النساء، ربي عز وجلّ يقول (يا أيها الناس) ما دورنا نحن كمجتمعات مسلمة وكأفراد في إيصال هذا الخطاب للعالم؟! فشلنا في إيصاله وحين فشلنا كان لا بد أن ندفع الثمن والثمن سيدفع غاليًا!!. تكلمنا قبل قليل عن قضية تأمين مستقبل الأولاد بالأموال والتركات والميراث وما شابه، كيف سأؤمن يا ترى مستقبل أولادي وأحفادي وهم يعيشون في مجتمعات ويذهبون إلى مدارس ومؤسسات الطبيعي فيها أن تكون هناك علاقات شاذة أو محرّمة، أين الأمان هنا؟! كيف سأؤمن أولادي في مثل هذه المجتمعات؟! هل سأحجر على أولادي وهل سيصل بي المقام وينتهي بي أن أضطر أن أحبس أولادي في البيت لكي لا يختلطوا بالآخرين؟! ماذا سأفعل؟ الأمان الحقيقي هو الذي تكلمت عنه سورة النساء (فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ) تقوى الله عز وجلّ ومن مقتضى التقوى أن أقوم بدوري في إيصال رسالة القرآن للبشرية التي تعاني اليوم وهي بحاجة إلى من ينقذها فعلًا بحاجة إلى من يقول لها لا، بحاجة إلى من يقف في وجه هذا الطوفان، هذه النار التي ستأكل كل شيء. هذه المواقف التي تأتي ونحن نتدبر في سورة النساء العظيمة.
بارك الله فيكم وجزاكم الله خيرا