تدبر سورة الأنعام: الحلقة الأخيرة
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته … ذكرنا في لقائنا السابق في تدبر سورة الأنعام كيف أن القرآن العظيم يبين أن أساس كل الإنحرافات الأخلاقية و الإجتماعية و الاقتصادية و السياسية هو تلك العلاقة – علاقة الإنسان بربه و خالقه و ما يمكن أن يعتريها من شوائب: شوائب الشرك، شوائب الضلال، شوائب متعلقة يالتوحيد، و لذلك ربي سبحانه و تعالى حين بدء بقضية التشريع في الآية : ( قل تعالوا أتل ما حرم عليكم الا تشركوا به شيئا ) ابتدأ بقضية الشرك لأن الشرك هو أم الكبائر، الشرك هو الذي يشكل في المجتمع عمليات و خطوط انحراف واضحة في مختلف الجزئيات، و لذلك القرآن العظيم في آخر الآية قال ( ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون). أحكام التشريع فيها العديد من الحكم و المقاصد التي لا يمكن أن يدركها الإنسان و لا المجتمع بدون تعقل، و ربي سبحانه و تعالى في سورة الأنعام وصى عباده في الشرائع السماوية، في الكتب التي أنزلها بهذه الوصايا الخالدة في التشريع حتى يعقلها العاقلون، حتى يتعلم منها، حتى يدركون المقاصد و الثمار التي يمكن أن تتحقق في واقعهم، حين ينفذون ما أمر الله به، حين يحلون ما أحل الله و يحرمون ما حرم الله، لا ما حرم أو أحل شركائهم أو شفعاؤهم أو أهوائهم، هذه قضية واضحة في سورة الأنعام.
و في الآية التي تليها ربي عز و جل يقول : ( و لا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن) و قلنا أن في سورة الأنعام و في أكثر من موضع ربي سبحانه و تعالى يؤكد هذه الحقيقة: أن الإثم له ظاهر و باطن، و أن الحرام كذلك له ظاهر و باطن. فكما أن الإنسان حرم عليه أن يأكل لحم الخنزير و الدم المسفوح و ما شابه في الآيات التي قبل، حرم عليه الإقتراب من مال اليتيم، حرم عليه الإقتراب من الأموال الحرام الممنوعة، المكتسبة بطرق غير مشروعة، و تدبروا في النهي: قال ( و لا تقربوا مال اليتيم) لا تقترب منه، و أنت الوصي، التوجيه للأوصياء، للأولياء، الذين يقومون على مسؤوليات اليتيم و الحفاظ على ماله. اليتيم، جزء يفترض بحكم ما جرت عليه العادة و ما تعارف عليه الناس في المجتمع جزء ضعيف، و لكن الله عز و جل ابتدأ بحماية هذا الجزء و حذر من الإقتراب من ماله إلا بغرض تنميته و تحسينه ( إلا بالتي هي أحسن) إلى أن يبلغ مبلغ الرجال و يدرك المصالح و المفاسد المترتبة على إنفاق و إتلاف المال و يفرق بينها، آنذاك يعطى حقوقه كاملة، هذا النهج القرآني ما كانت تعرفه المجتمعات الجاهلية، لماذا؟ لأن منطق الحكم كان مبني على منطق القوة، الأقوى هو الذي يحكم، الأقوى هو الذي يملك حرية التصرف، و لكن القرآن أعاد الأمور إلى نصابها، أعاد البشرية و الإنسانية إلى رشدها، إلى جادة الصواب، كيف؟ المنطق منطق الحق الذي يحكم و ليس منطق القوة، و هناك فارق شاسع بين حكم منطق القوة و الغلبة و حكم منطق الحق، منطق الحق لا يفرق بين الضعيف و القوي، و لا بين الصغير و الكبير، و لا بين السيد و العبد، و لا بين الرجل و المرأة، و لا بين القريب و البعيد، أما منطق القوة فله حسابات و معايير مختلفة تماما أبطلها الإسلا م و القرآن، قال ( و لا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ) و تدبروا معي في موقع هذه التشريعات في ختام سورة الأنعام. السورة بأكملها تتحدث عن الإيمان، عن علاقة الإنسان بربه و كيف تبنى، عن الإيمان كيف يغرس في النفوس، الإيمان الذي يحقق الأمن و الطمأنينة في المجتمع و في حياة الفرد، و في ختام السورة يأتي بالتشريعات ليؤكد هذه الحقيقة: أن الإيمان لا يكتفى فيه أن يقتنع الإنسان بقلبه، و يقول بلسانه كلمة الشهادة، و لكن لا بد أن يطبق المنهج في واقع الاحياة ، في هذه التفاصيل التي يذكرها القرآن ( و أوفوا الكيل و الميزان بالقسط) و الكيل و الميزان ليست مجرد المكاييل و الموازين التي يتعارف عليها الناس، تعارف عليها حتى في السابق و لا تزال طبعا موجودة، كل شيء… الوفاء بحقوق الآخرين، في البيع، في الشراء، في التعامل‘ في الأخذ، في العطاء، في القول، في الحديث عن الآخرين ( و أوفوا الكيل و الميزان بالقسط) عدل، منطق العدل، منطق الحق الذي أقامه القرآن على عين الإيمان. الإيمان الذي لا يحقق في نفسك عدلا اتجاه الآخرين هذا إيمان ضعيف، إيمان مهزوز، الإيمان الذي لا يمنعك من قول الكذب على الآخرين و الإفتراء عليهم هذا ليس بإيمان. و تدبروا معي في ترتب و ترتيب الكلمات في الآية و الواجبات و الأوامر ( لا نكلف نفسا إلا وسعها) هذه الأوامر و التشريعات هي في حدود طاقة البشر، ليست خارج إطار طاقتهم أو قدر اتهم. الإنسان يستطيع القيام بالعدل فعليه أن يقوم به، و لذلك قال ( و إذا قلتم فاعدلوا و لو كان ذا قربى) تدبروا في معاني الآية: الإيمان الذي يدفعك أن تقول الحق و لو على نفسك أو الأقربين ( و إذا قلتم فاعدلوا) بمعنى آخر: راقب أقوالك، راقب تلك الكلمات التي تتلفظ بها و تحرى العدل فيها، تحرى العدل فيما تقول، هذا هو الإيمان، العدل الذي لا يفرق بين الصديق و العدو، و لا بين القريب و البعيد، و لا بين ولائات الإنسان و لذلك قال ( و إذا قلتم فاعدلوا ) مطلقا ( و لو كان ذا قربى) و لو كان قول العدل سيكون ضد الأقارب، ضد من هو قريب أو حبيب إلى نفسك، و لو كان الوالدين أو الأقربين أو النفس… بقطع النظر، العدل في القرآن قيمة مطلقة، العدل قولا و العدل فعلا، و التناسب واضح في (و أوفوا الكيل و الميزان بالقسط و إذا قلتم فاعدلوا)، كما أن عليك أن تتحرى العدالة و الوفاء في التعامل، في الكيل و في الميزان عليك كذلك أن تتحرى العدالة في أقوالك، في كلماتك، في تصرفاتك. بعض الناس إذا كانوا على علاقة طيبة أو جيدة بأحد من الأشخاص قالوا فيه ما ليس فيه، مدحا و ثناء، و إذا خالفهم في شيء أو اختلفوا معه و حدث نزاع بينهم قالوا كذلك عنه ما ليس فيه، افتراء، كذب، ألصقوا فيه تهما ليست فيه، لماذا؟ لأن الذي يتحكم هنا ليس منطق العدل، منطق الهوى، هوى النفس، و القرآن لا يريد أن تحكم أهواء النفوس في حياة البشر و المجتمعات لأنها إن حكمت أفسدتها، و إن حكمت تولد الظلم، و ما انتشر الظلم في مجتمع و لا في أمة إلا أفسدها، أفسدها بكل أشكال الفساد، فساد مادي، فساد أخلاقي، فساد إجتماعي، فساد أسري..كل أشكال الفساد، ذاك الفساد الذي لا يمكن أبدا أن يأتي بالنفع على المجتمع إلا أن يطيح ذلك المجتمع بالهلاك، بأي شكل من أشكال الهلاك، فلذلك كان العدل هو الذي يصون المجتمعات و يصون الأفراد، بمعنى آخر، إذا أردنا أن نحقق أمنا حقيقيا و قد تكلمت سورة الأنعام عن الأمن، فالأمن لا يتحقق إلا بوجود العدالة، بوجود أناس مؤمنين يخافون الله عز و جل، يتقون الله سبحانه و تعالى في أقوالهم و أفعالهم، في أقوالهم و حديثهم عن الآخرين، الميزان- ميزان العدل- لا يعرف هوى النفس، لا يعرف الغضب و الرضا، و لكن إذا أنت لم تراقب الله عز و جل في رضاك أو في غضبك فيما تقوله عن الآخرين، فما الذي يعصمك، و ما الذي يمنعك؟ و ما الذي يترتب بعد ذلك؟ الإنسان إذا لم يجعل له هذه الصيانة في نفسه، لا ممكن أن ينتشر الأمان و العدل أو يسود العدل أبدا، و إذا أراد الإنسان أن يحفظ عرضه فعليه أن يحفظ أعراض الناس، إ ذا أردت أن تحفظ عرضك، احفظ أعراض الناس، إذا أردت ألا يقال فيك إلا خيرا فلا تقول في الناس إلا خيرا. احفظ لسانك، فلسان الإنسان هو بيانه، و لسانه يفصح عما في قلبه، فإذا امتلأ القلب إيمانا و خشية و خوفا من الله سبحانه و تقوى لا يمكن أن يفصح اللسان إلا عن ذلك الرصيد عدالة و إنصافا مع الآخرين، و لذلك ( و إذا قلتم فاعدلوا) الإنسان ذو القلب المؤمن ينعكس على ألفاظه للناس و لذلك لا يمكن أن يكون المؤمن سبابا و لا فاحشا و لا بديئا و لا منافقا و لا مرائيا، لماذا؟ لما كان في قلبه من معاني الإيمان التي لا بد و أن تنعكس على أقواله و أفعاله.
و تدبروا فيما يليها ( و بعهد الله أوفوا) كل تلك العلاقات الإجتماعية – سلسلة العلاقات الإجتماعية و التشريعات- عهود بيننا و بين الله سبحانه و تعالى علينا الوفاء بها، و لذلك قال (ذلكم وصاكم به) وصانا بهذه القيم الإنسانية، و قد قلنا سابقا ربي عز و جل حين وصف حالة الإيمان حين قال (و جعلنا له نورا يمشي به في الناس) نور التطبيق و المنهج، فإذا صار الإنسان بالوفاء و العدل و الحق و عدم الإقتراب من الفواحش و الحفاظ على حقوق الناس ألا ينشر ذلك النور بين الناس الذين يسير فيهم و في وسطهم؟ هو في ذاته و سلوكه و تعامله سيكون نورا يمشي فعلا في االناس، و هذا المطلوب في كتاب الله عز و جل، ليس المطلوب دائما أن نتحدث و نكثر من الكلام، و تأتي الأفعال تخالف و تناقض ( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ) ماذا يريد مني القرآن؟ يريد أن تكون أفعالي و تصرفاتي مرآة لإيماني الذي أؤمن به، مرآة لأقوالي، لاعتقاداتي، بذلك تصبح رسالة القرآن رسالة عالمية، لأن المؤمن إذا سار بهذا الرصيد أينما حل، في أي مجتمع، حتى و لو لم يتحدث بكلمة عن الإسلام أو عن رسالة القرآن، تحدثت أفعاله عنه، تحدثت أخلاقه، تحدثت عدالته، تحدث إنصافه و وفائه بالنيابة عنه، و هذا الذي بناه القرآن في النفوس حين بنى ذلك الجيل الأول، جيل التلقي الذي تلقى القرآن بقلبه فانعكس على سلوكه و واقعه.
قال ( لعلكم تذكرون) تدبروا في الأولى قال( تعقلون)، هنا قال ( تذكرون) و في الثالثة سيقول ( تتقون).
(و أن هذا صراطي مستقيما ) تدبروا معي مرة ثانية (صراطي مستقيما فاتبعوه) و أيضا استعمال كلمة (هذا)، الطريق واضح، المنهج واضح، واضح أمام العيان، واضح أمام من يريد أن يراه، النور موجود، و لكن إن أنت لم تفتح عينك أمام ذلك النور فالمشكلة ليست في النور، المشكلة في تلك العين التي لم تفتح لتراه، و كذلك الأحكام و التشريعات في كتاب الله عز و جل. ( هذا صراطي مستقيما فاتبعوه)، فالقضية واحدة من اثنتين، لا ثالث لهما، إما صراط مستقيم و إما سبل، السبل ما النتيجة المترتبة عليها؟ (فتفرق بكم عن سبيله). التفرق، التمزق، البعد، كلما اتبع الإنسان الطرق و المناهج الأخرى التي اخترعها البشر و ابتدعها من أهوائهم و أمزجتهم، كلما ابتعد عن الصراط المستقيم، و كلما ابتعد عن الصراط المستقيم كلما زادت نسبة الانحراف بكل أشكاله. الصراط المستقيم عدل، واضح، يصل بين النقطتين، يصلك إلى ما تريد، لكن هذه السبل هي التي تكرس قضية الانحراف.
و تدبروا في الآية قال ( ثم آتينا موسى الكتاب) بمعنى آخر أن الله سبحانه لم يترك البشرية يوما بدون منهج أو كتاب، ما تركها تتخبط، كل هذا المنهج و هو بطبيعة الحال قد أتى و آتى موسى الكتاب من قبل( تماما على الذي أحسن و تفصيلا لكل شيء و هدى و رحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون) و تدبروا معي كيف يحدثنا القرآن عن كتاب موسى، لماذا هذا الحديث المتواصل، في بدايات القرآن- و نحن في السور الأولى من القرآن- لماذا الحديث المتواصل عن أهل الكتاب؟ لماذا ذلك الثناء و الذكر للتوراة و الإنجيل، هذه الكتب، لماذا؟ رسالة القرآن رسالة عالمية، و رسالة القرآن و النبي (ص) جاء ليكمل بناء تلك الرسالات، هذا بناء متكامل، و بالتالي لا ينبغي أن تقدم رسالة القرآن بمعزل عن تلك الرسالات الإيمانية، الإيمان لا يكتمل بدون الإيمان بكل الرسل ( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه و المؤمنون كل آمن بالله و ملاكئته و كتبه و رسله لا نفرق بين أحد من رسله و قالوا سمعنا و أطعنا) إذا رسالة القرآن رسالة عالمية، رسالة تعرف للأمم سابقتها من الخير، تعرف و تدرك و تؤمن.
و تدبروا معي في الآية و في الحديث عن القرآن ( و هذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه و اتقوا لعلكم ترحمون) طبيعة هذا الكتاب مبارك، مبارك في حياة الناس، مبارك بكل ما تحمل كلمة البركة من معنى، هذا وصف القرآن. و ذكرنا في مرات سابقة قلنا القرآن و كل ما يقترب من القرآن لا يمكن إلا أن يصيب من تلك البركة شيئا، بركة في العمر، بركة في الوقت، بركة في الرزق، بركة في الصحة، بركة حسية و بركة معنوية ( كتاب أنزلناه مبارك) ما الغرض منه؟ (اتبعوه و اتقوا لعلكم ترحمون) نحن نريد الرحمة لأنفسنا كأفراد و كأسر و كمجتمعات و كأمم، نحن بحاجة لرحمة الله، تتنزل الرحمة علينا بقدر اتباعنا لهذا و تطبيقنا لهذا القرآن العظيم، (كتاب أنزلناه مبارك) لماذا؟ لأجل أن يتبع، لأجل أن يطبق في واقع الحياة، و علينا أن نتقي الله في ذلك ( لعلكم ترحمون)، تدبروا معي في معاني الآيات… البعض قد يقول حتى في قضية التدبر على سبيل المثال، نحن نتدبر القرآن، مطلوب منا أن نتدبر القرآن، و لكن التدبر ليس فقط قضية غاية و نقف عندها و نقول انتهى الأمر. لا! له ما بعد! ماذا بعد؟ فاتبعوه. لا بد أن يكون بعد تدبري لكتاب الله و مع تدبري لكتاب الله اتباع، تطبيق للمنهج. أرأيت الكلام الذي ذكرناه الآن في تدبرنا لسورة الأنعام؟ هذا إن لم يطبق في حياتي سيصبح حجة علي، لا لي ، لأني عرفت فإذا عرف الإنسان شيئا عليه أن يطبقه و يلزمه، عرفت فالزم، و هذا المعنى العظيم هنا ( فاتبعوه و اتقوا لعلكم ترحمون) و نحن ذكرنا في آيات سابقة في سورة الأنعام عن قضية الإيمان، و ذكرنا و أكدنا فيها، قلنا أن الإيمان في سورة الأنعام للتطبيق، اتباع، آمنت بكتاب الله عز و جل اتبع…
( أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا و إن كنا عن دراستهم لغافلين) لم يعد هناك حجة، على بني اسرائيل أنزلت التوراة، و على النصارى أنزل الإنجيل، و على كل أمة من الأمم نزل، ( طائفتين من أهل الكتاب) هذه من أهل الكتاب من قبلنا، و أنتم نزل عليكم هذا الكتاب، لم يعد هناك حجة، تلك الأمم تعاملت مع كتبها بطرق مختلفة ذكرها القرآن في هذه السورة و في سور سابقة، عليكم أن تتخذوا هذه النماذج و تقفوا عندها، و تقوموا بدراستها في سياقاتها و تتجاوزوا ما حصل من الانحرافات ( أو تقولوا لو أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جائكم) تدبروا في وصف القرآن ( جائكم بينة من ربكم و هدى و رحمة) البينة هو الشيء البين، لا يبين، هذا القرآن بين، واضح في مقاصده، واضح في معانيه، واضح في الأوامر التي أمر بها و التشريعات، واضح فيما حرم، و فصل فيه كل شيء، (بينة و هدى و رحمة) إذا (فمن أظلم ممن كذب بآيات الله و صدف عنها)، المطلوب منك أن تصدق، و التصديق يكون بالإتباع و ليس بالإعراض ( سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون) و سوء العذاب هنا لا للحصر فقط في الآخرة، الأمم التي أعرضت عن كتبها كما حدث في بني اسرائيل و في النصارى، و قد ذكرت السورة ذلك، ماذا حدث فيها؟ حدث فيها و لا يزال يحدث ألوان من العذاب، أشكال من العذاب: تفكك في الأسر، ارتفاع في نسب الجرائم، انحلالات أخلاقية و انحرافات، أمراض فتاكة، أشكال مختلفة، أصناف مختلفة، هذه السنة ماضية في الأمم، كل أمة تؤتى كتاب و منهج و لا تحسن التعامل معه تدفع الثمن، ثمن في حياتها، ثمن في أنظمتها، ثمن في أسرها، ثمن في مؤسساتها، تدبروا معي في الآيات…
الآية التي بعدها قال( هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك ) ماذا يريدون؟ نزل على هؤلاء القوم القرآن، ماذا يريدون أكثر؟ ماذا ينتظروا لكي يؤمنوا؟ يثوبوا إلى رشدهم، يعودوا إلى خالقهم، و لذلك قال ( يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا قل انتظروا إنا منتظرون) خلاص، انتهى الموضوع، نزل فيكم هذا الكتاب العظيم، أكبر آية، أعظم معجزة عرفتها البشرية، لستم بحاجة إلى أن تأتي الملائكة أو تحدث معجزات أخرى تتجدد لتحيي فيكم معالم الإيمان، و لن ينفع إذا حدثت هذه الأمور أبدا، لأن الأوان يكون قد فات، الآن الفرصة أمام البشر لكي يؤمنوا و يتوجهوا من جديد لخالقهم و يعودوا إلى رشدهم، و يعودوا لاتباع المنهج.
و لذلك تدبروا في الآيات التي جائت بعد، الآيات مترابطة كما ذكرنا في أكثر من موضع، آيات القرآن مترابطة، آيات السور مترابطة، كلها تؤدي إلى المعاني التي جاءت السورة لبنائها في نفس الإنسان ( إن الذين فرقوا دينهم و كانوا شيعا لست منهم في شيء) لماذا الحديث هنا عن قضية التفرق؟ هو قال قبل قليل ( و لا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) من أين يأتي التفرق؟ من أين يأتي التشرذم؟ من أين يأتي التمزق؟ سواء كان التمزق المذهبي أو التمزق العرقي أو التمزق الطائفي… كل أشكال التمزق التي تعاني منها البشرية، و الآن فعلا، تعاني الأمرين، و تعاني الويلات و الكوارث من جراء ذلك التمزق، من أين؟ من ذلك التعامل ( كذب بآيات الله و صدف عنها) التكذيب ليس بالضرورة يكون فقط بالقول كما كان حاصل مع قريش، التكذيب يمكن يكون بالعمل، أؤمن بالآية و لكن أطبق عكسها، أخالف، ما معنى التصديق؟ التصديق أن يصدق جانب كبير مني، أن يصدق فعلي قولي، أنا أؤمن، الإيمان قائم على التصديق، فتصبح أعمالي و سلوكياتي مصدقة لما أؤمن به، ما ذكرناه، و تؤكده السورة مرة بعد مرة. ما الذي يحدث؟ (فرقوا دينهم و كانوا شيعا لست منهم في شيء) لماذا؟ لأن هذا القرآن العظيم و رسالة القرآن لا تفرق، تجمع، الدين لا يفرق، إذن لماذا الآن تحدث هذه التفرقة؟ و هذا التشرذم؟ و يدعون أن الدين هو السبب وراء ذلك التمزق!كذب! افتراء على الله عز و جل. الدين الذي جاء به القرآن العظيم و بلغه النبي (ص) في رسالته لا يفرق و إنما يجمع، هم كانوا فرقاءو كانوا مفترقين و لكن الله سبحانه و تعالى جمع تلك القلوب على كلمة واحدة ( لو أنفقت ما في الأرض ما ألفت بين قلوبهم) من الذي ألف؟ الله ألف بين قلوبهم. إذن الدين الذي جاء هكذا بهذا القرآن العظيم لا يفرق، ما الذي فرق بين الناس؟ الأهواء! و قد حدث ذلك كذلك في أهل الكتاب. ما الذي فرقهم و مزقهم شيعا و أحزابا و جماعات؟ اتباع الناس لرجالات الدين.. بعض الأحبار و الرهبان الذين كانت تناقض أفعالهم أوامر الكتاب. الدين ليس شعار و ليس لباس يلبس و لا زينة يلبس و يرتدى، الدين ليس زي يرتديه الإنسان أو شعار يكتب عليه دين أو أنا مؤمن، هي ليست كلمة و لا شعار و لا زينة، ماذا إذن؟ أفعال!( ذلكم وصاكم به) تأملوا كم مرة من المرات ( ذلكم وصاكم به) تأكيد، الدين ممارسة، الدين سلوكيات، الدين عدم اقتراب من تلك الحرمات التي جعلها حولها سياج، حوطها، الدين عدم قتل النفس، الدين حفاظ على أموال و حقوق الآخرين (و لا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن) هذا الدين…ممارسة في واقع الحياة، حفاظ على القيم، حفاظ على العدالة ( و إذا قلتم فاعدلوا) هذا هو الدين، ( و بعهد الله أوفوا) هذا هو الدين، أما أن يضع الإنسان شعارا أو علامة أو لونا أو علما و يقول هذا دين، لا، و أفعاله تناقض ما يدعو إليه الدين، أبدا…( فرقوا دينهم و كانوا شيعا لست منهم في شيء) إذن ما الفيصل في هذا يا رب؟ قال ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها و من جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها و هم لا يظلمون) تدبروا معي.. العمل، الحسنة، و السيئة، ما تفعل، أفعالك ( قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم) مرة أخرى الصراط المستقيم، واضح، (دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا و ما كان من المشركين)التوحيد، السورة العظيمة، ختمت بما بدأت به، قضية التوحيد، قضية سورة الأنعام التوحيد الخالص، النقي، الصافي، الذي يبني إنسانا عدلا مستقيما يسير على الطريق المستقيم، يسير على الصراط المستقيم، ( ميتا فأحييناه و جعلنا له نورا يمشي به في الناس)، تأملوا معي ذلك الإعلان النهائي ( قل إن صلاتي و نسكي و محياي و مماتي لله رب العالمين) لا شريك له، أعمالي، سلوكي، أفعالي، قيامي، قعودي، حربي، سلمي، كلامي، عطائي، منعي، لمن؟ لله رب العالمين. المؤمن يعطي حين يعطي لله، و ليس لأجل الناس، يحب حين يحب لله و في الله و ليس لهوى نفسه، يبغض لله، يسعد لله، لا لأجل أحد، قمة التوحيد و الصفاء و النقاء في التوحيد، لا شريك له، لا يشرك معه أحد، لا صنم، و لا حجر، و لا بشر، و لا أحد. الشركيات متعددة لا تأخذ شكلا واحدا. أن يخضع الإنسان في حياته لمنهج سوى منهج الله عز و جل هذا يدخل في هذا الصنف ( و بذلك أمرت و أنا أول المسلمين) و لذلك قال بعدها ( قل أغير الله أبغي ربا ) هل يعقل؟ الرب الذي تعرف إلينا في هذه السورة العظيمة و في كل سور القرآن‘ تعرف إلينا بنعمه، تعرف إلينا بعطائه، تعرف إلينا بآياته، تعرف إلينا بكتابه، أتريد ربا غيره؟ و هو رب كل شيء؟ و القاعدة ( و لا تكسب كل نفس إلا عليها) المسؤولية الفردية، مسؤولية الإنسان كفرد، لا تغني عنه جماعاته، و لا تغني عنه انتمائاته شيئا، و لا تغني عنه أبدا كل الانتمائات المختلفة التي اخترعها البشر، إذن ( و لا تزر وازرة وزر أخرى) قمة المسؤولية الفردية… أعمالك أنت مسائل عنها، لا أحد يحملها غيرك، لا أحد يحمل عن أحد شيئا أبدا، فالقرار بيدك. لماذا الحديث عن المسؤولية الفردية هنا في ختام سورة الأنعام، ليؤكد أن قرار الإيمان قرار اختياري محض، قرار يقوم به الفرد لنفسه، لذاته، و لذلك نحن اليوم كمسلمين في كثير من الأحيان نعاني حقيقة معاناة، معانة من أين جاءت؟ جانب من جوانب تلك المعاناة أننا ورثنا الإيمان لأبنائنا و بناتنا. ما معنى هذا الكلام؟ و لدوا في أسر مسلمة، شيئ عظيم، رائع، و لكن كان علينا كآباء و أمهات و كمربين و معلمين و مدرسين أن نقوم بدورنا الحقيقي في تعليمهم الإيمان، و ذكرنا أكثر من مرة، الإيمان التي تبنيه سورة الأنعام إيمان غير تلقيني، إيمان يبنى بناء، يغرس، يبنى هكذا لبنة لبنة، بناء كما بنته سورة الأنعام، تدبر، تأمل، نظر، بصر، سمع…يتجول الإنسان في أنحاء الكون و الطبيعة فيدرك أن كل هذه الأشياء المبثوثة من حوله آيات ناطقة، ناطقة بأي شيء؟ بقدرة الله عز و جل، بعظيم إرادته سبحانه، بضرورة التوجه إليه و الإنابة إليه و الخضوع لأمره و منهجه، و لذا قال ( ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون) حساب البشر على الله عز و جل، المرجع و المآل إليه، إذن ما المطلوب منا؟ المطلوب علينا أن ندرك ( و لا تكسب كل نفس إلا عليها).
و تأملوا معي في آخر آية من هذه السورة العظيمة قال ( و هو الذي جعلكم خلائف الأرض و رفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما أتاكم إن ربك سريع العقاب و إنه لغفور رحيم)، الآن جاء التعيين، ربي سبحانه و تعالى عيننا نحن البشر، تعيين، أمر تعيين، ما هي الوظيفة؟ خلائف الأرض. كيف يصبح الإنسان خليفة في الأرض؟ بإعمارها، بتعزيز معاني الإيمان فيها، بإقامة شرع الله فيها و منهجه، بالسير على هذا المنهج، باتباعه ( و هذا كتاب أنزلناه مبارك) لأي شيء؟ فاتبعوه. إذن أعطى الأمر بالتعيين خليفة في الأرض، و أعطى المنهج و هو الكتاب فقال ( وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه)، هذا المنهج، و أراك الطريق فقال ( و هذا صراطي مستقيما فاتبعوه) و لا تتبعوا السبل لأن السبل ستتفرق بكم، و عطاك إلى جانبها كل وسائل الإدراك. قال ( و رفع بعضكم فوق بعض درجات) لم يجعلنا سواء، كما ذكرنا ( اعملوا على مكانتكم)، درجات.. تفاضل في الرزق، في المال، في الصحة، في القوة، في البدن، في الوجاهة، في المنزلة، في العلم، في العمر..أشياء مختلفة، و لكن هذا التفاضل الموجود بين الناس ليس لأن يتفرقوا، و لكن لأجل أن يتكاملوا. في أي شيء؟ في تحقيق المعنى، الوظيفة، أن يكون خليفة في الأرض فيقيم الشرع و الكتاب و المنهج فيها، ثم كذلك هذا التفاضل فيما بينكم ليبلوكم في ما أتاكم، و تدبروا في كل كلمة في الآية. ربي سبحانه و تعالى سيختبرنا بما أتانا، و ليس بما لم يأتنا. بعض الناس كما ذكرنا ينظر إلى ما ليس في يده، و لا ينظر إلى ما في يده، كارثة، بكل المقاييس، و لذلك شاعت فيما بيننا هذه الكلمة السائدة: العين بصيرة و اليد قصيرة..من قال هذا؟؟ ربي عز و جل يطالبك بما مكنك فيه و ما أتاك، لا يطالبك بشيء لم يؤتيك إياه. أنت مطالب بأن تقوم بمهامتك وفق إمكانياتك التي ربي سبحانه و تعالى يعلمها ، و لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، لا يطالبك بما لم يؤتك. بعض الناس على سبيل المثال يقول لو أن الله فتح علي و وسع علي في الرزق و في المال لأنفقت! من قال لك أن الإنفاق في المال فقط، الإنفاق له أشكال متنوعة بحسب ما أتاك الله سبحانه و تعالى من قدرة و من قوة، أنفق..أنفق من مالك، أنفق من وقتك، أنفق من خبرتك، أنفق من جهدك..و على فكرة، هناك مؤسسات و أيضا مما يلفت النظر، بعضها قد نشأ في الغرب فعلا، القوم فيهم جوانب كثيرة من الخير يمكن أن نستفيد منها، و أن نتعلم منها، الحكمة ضاالة المؤمن أنى وجدها فهو أولى الناس بها، و نحن أولى لأن الكتاب فعلا يدعونا إلى هذا. بعض المؤسسات قامت على أن قضية التبرع و الإنفاق و المساعدة و التعاون يكون بالوقت أو بالجهد، تبرع بشيء أنت تتقنه، تحسنه، تتقن على سبيل المثال فنا أو خبرة معينة، تبرع بخبرتك، علم أولاد الناس هذه الخبرة أو هذه الصنعة، علمهم، علم الناس، كلما تعلمت في حياتك علمه للآخرين، هذا إنفاق، هذه صدقة، هذا تبرع، و تدبروا معي و دعونا نعود من جديد إلى أول آية في سورة الأنعام ( الحمد لله الذي خلق السماوات و الأرض و جعل الظلمات و النور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون) لماذا خلق السماوات و الأرض؟ لما جعل الظلمات و النور؟ ما خلقها سبحانه عبثا.. حاشا لله، قال في آخر الآية – تأملوا في الترابط و التناسب بين أول آية و آخر آية- ( و هو الذي جعلكم خلائف الأرض) إذن خلق السماوات و الأرض و جعل الظلمات و النور لأجل هذه المهمة، خلق كل هذا و سخر الأنعام و أعطى و كل هذا، كل ما في الكون، لأجل أي شيء؟ لأجل أن نقوم بهذه المهمة العظيمة. بعض البشر للأسف ينشغل بذلك التفاوت في المراتب ( و رفع بعضكم فوق بعض درجات) عن مهمته التي لأجلها خلق، و لا يكف أبدا عن النظر إلى ما في أيدي الآخرين، و لا ينظر إلى ما في يديه، هذا ما لا يريده القرآن، علمك في آية واحدة، قال ( ليبلوكم فيما أتاكم ) يختبرنا فيما أعطانا، فيما وهبنا، فيما منحنا من مواهب، من إمكانات، إمكانياتنا كبشر لا تتوقف عند المال، اكتشف امكانياتك، اكتشف ذاتك، اكتشف ما أتاك الله سبحانه و تعالى، انظر فيما أعطاك و استعمله فيما يرضيه، أعطاك أولادا على سبيل المثال، أحسن تربيتهم، أحسن تذكيرهم، أحسن تعريفهم، لأن مهمة الأبوة و الأمومة لا تقف عند عمر معين، بعض الأشخاص يعتقد أن الأولاد إذا كبروا و بلغوا سنا معينا انتهى دورهم كأب أو أم، لا ينتهي هذا الدور، لا ينتهي إلا بانقطاع أنفاس الحياة ، و لا أي دور من أدوارك كإنسان لا ينتهي إلا بنهاية الحياة، إلا بآخر نفس يخرج، دورك كمربي، دورك كإنسان، دورك كمعلم، حسب إمكانياتك، اكتشف تلك الإمكانيات، انظر إلى نفسك، تأمل فيها، تأمل في الوقت الذي أعطاك الله سبحانه و تعالى، ما تستطيع أن تفعل فيه، افعل الخير، افعل الصلاح، بمعنى آخر كما جاء في سورة الأنعام امشي بالناس و في الناس بذلك النور بل كن أنت ذلك النور الذي يمشي في الناس، سورة الأنعام من أكثر سور القرآن التي تكلمت عن النور، نور التوحيد و الإيمان، النور الحقيقي، أما الأنوار الصناعية التي صنعها الإنسان للأسف ما أخرجته من ظلمات الجهل، التكبر، العناد، الفقر.. لا زال البشر يعاني من ظلمات كثيرة، الظلمات التي ذكرنا..ظلمات التمزق، ظلمات الحروب، ظلمات المعاناة، ظلمات البعد عن منهج الله عز و جل. ما الذي سيخرجه سوى أولئك العقلاء من البشر الذين يطبقون ذلك المنهج، ذلك النور، الذين يدركون رسالة القرآن، و يحملونها للعالم، و يمشون بها في الناس. حمل الرسالة لا يعني كما ذكرنا بالضرورة أن تحملها ككلمات، احملها في قلبك و وجدانك، احملها في عقلك، احملها في سلوكك، احملها في تجارتك، احملها في أمانتك، احملها في وظيفتك، احملها في تعاملك، احملها في الكلمة التي تقول، احملها في المسؤولية التي تحمل، احملها في الكلمة الإعلامية و في الرسالة الإعلامية التي تبلغها للناس، احملها في كل شيء تقوم به، احملها و أنت تتحدث لأنها أمانة، أمانات..( و بعهد الله أوفوا) عهود..
تدبروا هذه المعاني العظيمة التي جاءت بها هذه السورة التي بحق أراد الله سبحانه و تعالى أن يوصل بها هذه الرسالة العظيمة، إخراجا للبشرية من الظلمات إلى النارإلا بهذا القرآن العظيم، إلا بالإيمان به و اتباعه منهجا في واقع الحياة.