بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله حمد الشاكرين والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين. الأخوات الكريمات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وكل عام وأنتم بخير وتقبل الله منا جميعاً الطاعات والأعمال في هذا الشهر الفضيل. اليوم حديثنا عن الحِرَف والمهن. كما نعلم جميعاً كل واحد منا له مهنة أو عمل يقوم به فالمرأة في بيتها على سبيل المثال تقوم بعمل رعاية المنزل رعاية الأسرة تربية الأولاد، المعلِّمة إما في المدرسة أو الجامعة تقوم بعمل التدريس، الطبيب يقوم بالتطبيب، المهندس وهكذا وهكذا. فكل واحد منا له حرفة وله مهنة والله عز وجل أعلى من شأن الحرفة والعمل وجعل العمل الصالح مقروناً بالإيمان ولذلك لو تتبعنا الآيات في القرآن الكريم سنجد الكثير من الآيات يقول فيه الله عز وجل (الذين آمنوا وعملوا الصالحات) يقرن بين العمل وبين الإيمان، العمل الصالح والإيمان. ولو تتبعنا في القرآن الكريم أيضاً أنواع الأعمال التي يطلق عليها القرآن أنها أعمال صالحة لوجدنا أن فيها أعمال زراعية وأعمال صناعية وأعمال متعلقة بالحرف وبالمهن المختلفة، لماذا؟ ليؤكد على حقيقة أن الحياة باسرها هي ميدان للعمل الصالح. لكن هذه الأعمال التي يقوم بها الإنسان ويتعلم فنون الصنعة وفنون المهنة والحرفة التي يقوم بها سواء كان طبيباً أو مهندساً أو ربة بيت أو أي من هذه الحرف، في كثير من الأحيان تصل أو تمتد إلى مرحلة زمنية فترة محددة ثم تنقطع وهو ما يُعرَف بسنّ التقاعد. سن التقاعد كما نعلم أن الإنسان حين يصل في بعض الدول إلى ستين عاماً وفي دول أخرى إلى الخامسة والستين لكن حين يصل إلى سن معينة يتوقف عن مزاولة هذه الحرفة أو هذه المهنة. الحرفة والمهنة والعمل التي يقوم بها الإنسان يقوم بها لأجل الحصول على أجر مادي معين لضمان حساة مستقرة هذه هي الغاية وهذا هو الهدف من هذه الحرفة أو الصنعة. ولكن العمل الذي نريد أن نتحدث عنه اليوم في هذه الساعة عمل يختلف عن كل الذي تحدثنا عن أصنافه قبل قليل. عمل إذا امتهنه الإنسان وتبناه وقام به لا يتوقف الزمن به عند مرحلة معينة ويقال له انتهينا وصلت إلى سن التقاعد! أبداً، يستمر مع الإنسان، هذه النقطة الأولى. النقطة الثانية أن هذا العمل الذي يقوم به الإنسان أو يصبح مهنة له الأجر فيه مفتوح يعني كما يقال باللهجة الدارجة “الشيك فيه على بياض” يعني ليس هناك أجر محدود، ألفي درهم، ثلاثة آلاف خمسة، لا، الأجر مفتوح يمكن أن يصل إلى ملايين. النقطة الأخرى أن هذا الأجر لا يقف فقط عند الحياة الدنيا التي نعيشها وإنما يمتد إلى ما بعد الحياة فيجد الإنسان ثمرة العمل أو ثمرة المهنة التي امتهنها في هذه الحياة بعد انقضاء الحياة والعمر، في أثناء فترة البرزخ وما بعدها يوم القيامة. السؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما هي هذه المهنة؟ أو ما هي هذه الحرفة التي إذا امتهنها الإنسان لا يتوقف الأجر فيها فقط عند الدنيا؟ باختصار شديد كما يحمل العنوان هذا المعنى “المعروف“. حين نسأل بعضنا البعض ما هي المهنة التي أمتهنها فأقول: صانعة معروف، أصنع معروف ولكن ما هو المعروف؟ المعروف هو كل أعمال الخير لا تنحصر فقط في العمل أو في الفعل وإنما تمتد لتشمل القول والنيّة كذلك. ما معنى هذا الكلام؟ معناه أن الإنسان في هذه الصنعة حتى إذا لم يقم بالعمل قبل أن يقوم به مجرد أنه اجتمعت النية أو الإرادة في النفس على القيام بالعمل ثبت الأجر وكتب له الثواب وكتب له وكأنه قد قام بهذا العمل وكما ذكرت قبل قليل الأجر فيه مفتوح والأجر فيه من جنس العمل. ما معنى الأجر من جنس العمل؟ معناه أن الإنسان على سبيل المثال كما ورد في كثير من الأحاديث الصحيحة إذا قام بتنفيس كربة عن مؤمن نجد الجزاء من جنس العمل نجد من ينفّس عنه كربته. إذا قام بقضاء دين عن أحد يجد من يقضي عنه الدين، إذا ساعد أحد يجد من يساعده، إذا عاون أحد يجد من يعاونه، إذا قلم بتعليم أحد يجد من يعلمه وهكذا في كل المهن وفي كل الأعمال التي يقوم بها ولا صغيرة ولا كبيرة تُترك دون أن يجازي الله عز وجل هذا الإنسان بهذه الأعمال. ولذلك نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح: “من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة” ولنا أن نتخيل الفارق بين كرب الدنيا وكرب يوم القيامة، ليس هناك وجه للمقارنة، كرب الدنيا باي شيء تكون؟ ما هي نوع المعاناة التي نعاني منها في الدنيا؟ ربما ضيق في المال، ربما ضيق في بعض الأحوال، ربما ضيق في الصحة، ربما مشاكل في الأسرة، مشاكل في الأولاد، مشاكل في الحياة الزوجية، مشاكل في العمل، لا تخرج عن هذا الإطار أما كرب الآخرة فهي من نوع خاص تتعلق بأشياء مصيرية تتعلق بالحشر تتعلق بالحساب تتعلق بالعرض تتعلق بالوقوف بين يدي الله عز وجل، كرب من نوع خاص، فتخيلي إذا قام الإنسان بواحد من صنائع المعروف بأن ينفّس – ولاحظي دقة التعبير في الحديث نفّس- وكأن هناك ضغط على هذا الإنسان فجاء شخص آخر من يقوم بالمعروف فقام بالتنفيس بالتفريج عنه، هذا عمل إنساني، الجزاء عليه ليس فقط في الآخرة وإنما في الدنيا يجد الإنسان كذلك من ينفس عنه من يقف بجانبه من يمد إليه يد العون وهذا من كرم الله عز وجل أنه حين يجازي بالإحسان لا يجازيه نسيئة، ما معنى نسيئة؟ يعني متأخر إلى يوم القيامة، أبداً، يجازي به كذلك في الدنيا ولكن الجزاء الأوفى والأمثل هو في الآخرة ولذلك الأمر لا يقارن بشيء. وفي نفس الحديث يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: ومن يسّر على مُعسِر يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة” ما معنى يسّر على معسر؟ من منا لا يمر بموقف صعب؟ من منا لا يأتي في حياته موقف يشعر فيه بالضعف أو العجز عن الاستمرار عن مسألة معينة ليس فقط بالأشياء المادية، البعض يعتقد أن مساعدة الناس أو تقديم الخير والمعروف لهم فقط في المال أو في الأشياء المادية والحقيقة أن كثيراً من الأشياء التي يحتاج فيها الناس لبعضهم البعض متعلقة بالأشياء المعنوية وليست بالأشياء المادية ليست بالمال أو بالدراهم وإنما بالقضايا المعنوية، الإحساس بآلآم الآخرين، التألم أو الحزن لأحزانهم، الفرح لفرحهم، عيادة المريض من أعظم القربات للإنسان، بل أكثر من ذلك أن يدعو للآخرين بظهر الغيب هذه من أعظم القربات عند الله عز وجل، المشي في الجنائز من أعظم القربات. إذن أعمال البر وأعمال الخير وأعمال الإنسانية في ديننا لا تنحصر في اشياء مادية أو في تقديم المال فقط وإنما تشمل كل الأشياء المعنوية وكل أنواع المساعدات الإنسانية لترتقي بالإنسان فتحول الحياة إلى صناعة وإلى حرفة ثم يكمل في الحديث فيقول: “ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه”. هذا الحديث الذي الكثير منا يحفظ الألفاظ الموجودة فيه، نحتاج فيه إلى تطبيق. لماذا أطلقنا على عمل المعروف أو الخير بأنه حرفة أو مهنة؟ لأنه هناك فرق بين أن اقوم بالمعروف فقط في المناسبات والمواسم في رمضان على سبيل المثال نجد أن كثيراً من الناس يسارع في الخيرات وهذا شيء ممتاز جداً ولكن الأفضل من ذلك أن تكون المسارعة في الخيرات حرفة، مهنة، كيف ذلك؟ يعني أن يكون عملي وشغلي الشاغل دائماً أن أمد يد العون للآخرين أن أساعد الآخرين أن أقدم الخير والمعروف للآخرين، هذا هو الدين ولذلك لو تتبعنا في القرآن الكريم وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم سنجد أن أعمال الخير وأعمال البر تتعلق وتتفرع وتشمل هذه الأعمال الإنسانية منذ أن يصبح الإنسان وإلى أن ينتهي اليوم لماذا؟ لأن هذا الدين هو دين إنساني بالدرجة الأولى حتى مفاهيم العبادة الصلاة الصيام الحج هي أعمال لا يقوم الإنسان فيها بمفرده وإنما يقوم بها مع الجماعة في المجتمع ولذلك كل أعمال الخير الموجودة والتي يحث ويحض عليها هذا الدين أعمال تتعلق بالجماعة أعمال تتعلق بالمجتمع بمعنى آخر إذا أردت أن أزداد قرباً من الله عز وجل عليّ أن أزداد نفعاً للناس ولذلك أحبّ الناس وأقرب الناس إلى الله عز وجل هو من كان أكثر نفعاً للناس وللمجتمع أكثر عطاء أكثر تقديماً للخير أكثر بذلاً للخير. هناك أيضاً الحديث الذي نعرفه جميعاً يوم أن تحدثت السيدة خديجة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم حين جاءها من غار حراء وهو يرتجف عندما نزل عليه الوحي أول مرة. السيدة خديجة قالت كلمات معدودة لكن تحمل رسالة الإسلام وتحمل مهنة المعروف التي نتحدث عنها، قالت: لا يخزيك الله أبداً فوالله إنك لتصل الرحم – صلة الأرحام وخاصة صلة الأرحام التي تقطعت! اليوم في مجتمعاتنا ومع الأسف الشديد نجد الكثير البيوت والأُسر والأخوات فرقت بينهم سبل الدنيا وتفاهات الدنيا وترهات الدنيا بشكل آخر أحياناً على ميراث أحياناً على مسائل بسيطة أشياء متعددة لكن النتيجة واحدة وهي قطيعة الرحم وهي من أبشع الجرائم التي يرتكبها الإنسان في حق نفسه أولاً قبل أن تكون في حق الآخرين- السيدة خديجة أعطت الخلاصة للنبي صلى الله عليه وسلم حين قالت إن الله لن يتخلى عنك هذا في الدنيا قبل الآخرة لأنك إنسان لأنك امتهنت صناعة المعروف كل ما تقوم به هو معروف صناعتك هي المعروف منذ أن تستيقظ في الصباح وإلى أن تنام في المساء كل ما تقوم به من أعمال هي في صلب الخير والمعروف. ثم قالت: وتَصْدُق الحديث وتحمل الكلّ وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق”. مشاكل ومصاعب الدنيا بمعنى آخر أنت تشعر بآلآم الآخرين أنت تتألم لآلآمهم وتحزن لأحزانهم وتفرح لأفراحهم فكيف يتخلى الله عنك أو يخزيك؟ هذا المعنى في حياتنا المعاصرة نحن بحاجة إلى إحيائه من جديد، لماذا؟ الحياة المعاصرة بكل ما حملت من الكماليات ومن الرفاهية ومن الوسائل التي نعيشها اليوم حملت وجلبت معها أشياء أخرى، من جملة ما جلبته إذا لم ننتبه إليه بشكل جيد “الفردية”. ما معنى الفردية؟ الفردية أن يعيش الإنسان لنفسه فقط، أن لا يهتم إلا بأمر نفسه وبالتالي لا يهتم لأمر جاره لا يهم ولا يسأل إذا كان الجار جوعان أو كان في مأزق أو كان عنده مشكلة أو أو أو، المعلم لا يهتم لطلابه، الطبيب لا يهتم كثيراً لمرضاه لأنه في كثير من الأحيان عندما نسأل أصحاب هذه المهن أول إجابة تأتي أنه ما عندي وقت، ليس لدي وقت. المعلم على سبيل المثال إذا سألناه هل تتبع أحوال الطلاب؟ يقول أنا ما عندي وقت عندي مائة طالب كيف ساقوم بتتبع أحوال كل هؤلاء الطلبة! النبي صلى الله عليه وسلم وقد كان معلماً ليس فقط لأشخاص معدودين أو في مدرسة وإنما كان النبي معلّماً للدنيا بأسرها كان يجد لديه الوقت وسعة الصدر حتى للأطفال الصغار ولذلك ربما كلنا سمعنا عن الحديث الجميل الذي رواه أنس بن مالك حين كان يقول كان لي أخ يقال له أبو عمير، ابو عمير كان صغيراً في السنّ فهذا أبو عمير كان كلما يراه النبي صلى الله عليه وسلم يسأله ويقول: ما فعل النُغير؟ يلعب بالنُغير فكان النبي عليه الصلاة والسلام يداعبه ويمازحه ويقول له: ماذا فعل النغير؟ السؤال أين وجد النبي صلى الله عليه وسلم الوقت الكافي لكي يحض الأمة ويجد الوقت المناسب حتى لطفل صغير يداعبه ويمازحه؟ أين وجد الوقت؟ المسألة ليست مسألة وقت فقط وإنما تتعلق بسعة الصدر. بل أكثر من ذلك، النبي صلى الله عليه وسلم كان يمر ذات يوم فمرّ على حائظ أي بستان لرجل من الأنصار فدخل في الحائط حين دخل وجد جملاً الجمل كان يتألم دعونا نتأمل للحظات رقة مشاعر النبي صلى الله عليه وسلم وإنسنية النبي صلى الله عليه وسلم رأى الجمل فحنّ له وسأل عن صاحبه فوجد أن صاحب الجمل فتى صغير فلا ينتبه للجمل كثيراً ولا يهتم لأمره فإذا النبي صلهم يسال فياتي الفتى ويقول أنا يا رسول الله فيقول النبي صلى الله عليه وسلم له إن هذا الجمل شكى لي أنك تجيعه. الجمل شكى للنبي صلى الله عليه وسلم أن هذا الفتى يجيعه فحنّ عليه ومسح ذفراه. هذا النبي صلى الله عليه وسلم معلّم أمة وحامل رسالة ويجد الوقت لكي يعلم ولكي يقاتل ولكي يبني ولكي يؤسس ولكي يعمر ولكي يداعب الصغير ولكي يشعر بالجمل وبالحيوان. لماذا؟ لأنه أدرك عليه الصلاة والسلام أن هذا الدين دين إنساني لا يمكن أن أتقرب فيه إلى الله بمجرد العبادة المجردة، أبداً. العبادة وسيلة لكي أصبح إنساناً، العبادة وسيلة لكي أصبح أحسن خلقاً ولذلك أقرب الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة من؟ أحاسنكم أخلاقاً. وما من شيء أثقل في ميزان العبد من التقوى وحسن الخلق. إذن ما المطلوب مني؟ المطلوب أن أحول هذه الأعمال الخيرية التي بعض منا يعتاد عليها فقط في المواسم في رمضان في العشر الأوائل من ذي الحجة وهكذا، نريد أن نحولها من أعمال موسمية إلى مهنة وحرفة أقوم بها طوال الوقت كل يوم اقوم بعمل معروف. وكما ذكرنا قبل قليل ليس بالضرورة أني أصرف الأموال أو أغدق على الناس الدراهم واقول بعد ذلك لي حجة أني لا أمتلك المال الكافي، لا، يكفي مجرد المشاعر أحياناً والأحاسيس، يكفي مجرد أن أربت على طفل صغير، يكفي أن أمسح دمعة عن عين يتيم. ولذلك الحقيقة هناك قصة وهي قصة معروفة واشتهرت جداً لا تدور في مجتمعاتنا وإنما في مجتمع غربي ترويها إحدى المربيات والمدرسات تقول فيها كانت تقضي فترات التعليم والتدريس في مدرسة ابتدائية واعتادت أن تقوم بواجبها كما يقوم الكثير منا بطريقة روتينية تدخل الفصل تقرأ الكتاب وتقدم المادة وتودع الطلاب وانتهينا، ولكن في يوم من الأيام وفي بداية العام الدراسي سألت الطلاب الصغار في هذه المدرسة الابتدائية ماذا فعلتم؟ ما هي أحوالكم؟ سألت عن الأب والأم والأسرة بمعنى آخر حاولت أن تتقرب إليهم تتعرف على أوضاعهم وأحوالهم، لفت انتباهها أن هناك طفل صغير في الابتدائية رثّ الثياب ثيابه مهلهلة وممزقة ويبدو عليه التعب والإرهاق لفت انتباهها لكنها لم تعجب به كحال بعض المعلمات والمدرسات أو كثير منا حين يرى إنساناً في حالة متعبة وممزق الثياب يتركه أو يدعه، يوماً بعد يوم وجدت أن الحالة عند هذا الطفل تسوء ولا تتحسن. وفي يوم من الأيام – نحن نعلم أن لديهم عادة الاحتفال بعيد المعلم وكذلك بعيد الميلاد – فحصل أن هذه المعلمة كان عيد الميلاد لها والطلبة في هذا الفصل الابتدائي أحضروا لها الهدايا احتفالاً بعيد ميلادها إلا هذا الطفل لم يحضر هدية مغلّفة بتغليف جيد وحلوة وجذابة وإنما أحضر عقداً هذا العقد فيه حبات سقطت منه وبطريقة غير جذابة على الإطلاق وبدون تغليف وزجاجة من العطر وهذه الزجاجة من العطر مستعملة، أتى بهدية لمعلمته على هذا النحو بمجرد أن قام فإذا ببقية الطلبة في الفصل يقومون بالسخرية والاستهزاء من هذا الطالب وكذلك المدرّسة شعرت بشيء من الضيق والضجر والامتعاض من هذا الطالب. في نهاية الدوام جاءت إلى هذا الطالب وسألته: لماذا أحضرت لي هذه الهدية؟! المعلّمة انبهرت من الإجابة، الطفل الذي أحضر لها هذه الهدية قال: أولاً أنا لا أملك غير هذه الأشياء، ثانياً هذه الزجاجة من العطر التي بقي نصفها هي لأمي التي توفيت قبل عام بمرض السرطان ولأني أحبك أنت معلمتي فأردت أن تضعي هذا العطر لكي أشمه لأني لم أشمه منذ فترة طويلة منذ أن توفيت أمي، الطفل قد فقد أمه، وأما العقد فهو لأمي أردت أن تلبسيه أمامي لتذكريني بأمي. المعلمة حين سمعت هذه الكلمات أيقظ فيها الحسّ الإنساني فانهمرت الدموع من عينيها، ذهبت تقلّب في الملف الشخصي لهذا الطفل لتجد أن هذا الطفل في الرابع ابتدائي السنة التي رأته هي فيها كان في حالة من التعب في مستوى التحصيل الدراسي ولكن في الأعوام الأولى كان من أفضل الطلبة وحصلت لديه مشاكل متعلقة بمرض الأم فأدّت إلى ما أدّت إليه من انحدار وانكسار في نفسية الطفل وفي مستواه التدريسي ومنذ ذلك الوقت قررت المعلمة ألا تكون مجرد معلمة تنقل المعلومات فقط وتقرأ من الكتاب ولكن قررت أن تتحول إلى إنسانة حقيقية إلى أم إلى مربية أن تجعل المعروف صنعة لها صناعة تقوم بها ليس فقط في نفسها وإنما بنقلها إلى هؤلاء الطلاب. يوم بعد يوم وإذا بهذا الطالب يبدأ بالتحسن نتيجة للإهتمام الشديد الذي كانت تقوم به هذه المعلمة التي أصبحت أماً وليس فقط مجرد معلمة أو ناقلة للمعلومات. الطفل كبر ودخل إلى الثانوية وتخرج من الثانوية ودخل إلى كلية الطب ثم حصل على الدكتوراه وتمر الأيام -هو الذي يروي القصة- وتمر الأيام وإذا بهذا الطفل يدعو هذه المعلمة لكي تحضر حفل زفافه وتكون المفاجأة في يوم الزفاف يُجلِس المعلمة إلى جانبه في المقعد الذي كان ينبغي أن تجلس فيه الأم التي غابت وحضرت في شخص المعلمة. قام بشكرها وقال أنا أشكرك على كل ما قمت بها فإذا بها تقول له أنا من ينبغي أن يشكرك لأنك علّمتني كيف أكون مدرّسة. هذه القصة الواقعية ديننا مليء بأمثالها حين حوّل المعروف والخير إلى حرفة يقوم بها الإنسان في البيت والمدرسة، الطبيب يقوم بها في المستشفى، المهندس يقوم بها في موقع العمل، ربة البيت مع الأولاد مع الخادمة مع الجيران مع الكل، كل المهن تحتاج إلى صناعة المعروف وليس فقط هذه المهنة. دعونا نتأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث حين ساله أبو ذر، يا رسول الله أيّ الأعمال أفضل؟ قال الإيمان بالله والجهاد في سبيله، قال فأيّ الرقاب أفضل؟ قال أنفسها عند أهلها، (عتق الرقاب الغالية الثمينة)، قال فإن لم أفعل (لا أجد رقبة أحررها ولا أجد ما أنفقه) فماذا أفعل؟ قال تعين صانعاً أو تصنع لأخرق. تعين أحداً أو تساعد شخصاً لا يعرف كيف يقوم بما يقوم به حتى لو أن يكون طفلاً أو صغيراً تعلمه كيف يمسك بالقلم أو تمسك بيده أو تأخذ به إلى الطريق أو ربما تدل شخصاً على طريق، ضخ ضاع في الطريق لا يعرف أين يذهب يسأل عن شارع معين أو يسأل عن منطقة معينة فتقول له إذهب يميناً أو شمالاً. تخيلوا إلى أي ّ حد يصل المعروف في هذا الدين! حتى إلى هذا الحدّ! ثم يقول: أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل؟ قال تكفّ شرّك عن الناس فإنها صدقة منك على نفسك. هذا هو الدين، هذا هو الإسلام الذي ينبغي فيه أن يتحول الخير إلى صناعة وإلى مهنة لا أقوم بها مرة في السنة ولا مرتين في السنة فقط وإنما اقوم بها في كل لحظة. وقد يسأل سائل كيف اقوم بالمعروف في كل لحظة؟ تستطيعين أختي وأنت جالسة الآن على الكرسي، إدعي للمسلمين قولي اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات اللهم ارجمهم اللهم عافهم واعف عنهم، فتكون صدقة عن كل مسلم، تخيلي كم مسلم في العالم؟! هذا هو الدين.
نقطة أخيرة نقف عندها في حديثنا عن صناعة المعروف، هذا المعروف وهذه لحرفة لها آداب، لها أسس إذا لم أتقن هذه الأسس لا أستطيع أن أحوّل هذا الخير أو المعروف إلى صناعة، يبقى الخير والمعروف موسمياً في أثناء المواسم كرمضان وغيرها. كيف أحوّله إلى صناعة وإلى حرفة وتبقى ملازمة لي في كل عمل وكل نفس؟
أول نقطة مهمة من آداب تحويل المعروف إلى صناعة ألا أبتغي به إلا وجه الله، يعني كل ما أقوم به أبتغي به رضى الله عز وجل وليس رضى أحد من البشر على الإطلاق. ولذلك كل ما نقوم به ينبغي أن يكون لله سبحانه لا أطلب جزاء ولا شكوراً من الناس (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا (9) الإنسان) لوجه الله، نحن بحاجة إلى أن نحرر ونقيم هذا المعنى في قلوبنا وفي نفوسنا أن أعمل العمل لا أبتغي به إلا رضى الله عز وجل، لا أبتغي به محمدة من الناس أو ثناء أو شكر فيقال فلان كريم أو يقال فلان سخيّ أو يقال فلان عالِم، أبداً، أبتغي به وجه الله. إذا استطعت أن أحقق هذه النقطة المهمة أو الجوهرية سأتخلص من كثير من المشاكل التي تقف بيني وبين أن يتحول المعروف عندي إلى حِرفة، كيف؟ كثير من الناس لا يقوم بالمعروف لسبب بسيط أنه يقول أن الناس لا يستحقون هذا المعروف، فإذا قلت لأحد لماذا لا تساعد فلاناً؟ يقول لا يستاهل، لا يستحق! هذا العذر السيء القبيح ليس له أي مبرر في ديننا. ديننا يقوم على الإحسان إلى الآخرين أحسنوا أو أساؤوا. أن تحسن إلى من أساء إليك. دعوني أضعها في هذا الإطار: هل ينبغي للإنسان أن يحسن إلى من أحسن إليه؟ هذا شيء طبيعي، النفس مجبولة على أن تحسن إلى من أحسن إليها فأنا حين يقدّم لي كوب من الماء أقول شكراً لأن هذا معروف هذا خير شيء طبيعي. لكن أين الإشكالية؟ أن تقدّم الإساءة فيقدّم الإنسان الإحسان مقابل الإساءة (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) فصّلت) هذا هو الدين، هذا هو الارتقاء بالمعروف. إذن تحويل المعروف إلى صنعة أو حرفة تحتاج مني أن أروّض نفسي أن أقوم بالعمل لله دون أن أنتظر مقابلاً من أحد، وهذا صعب على النفس يحتاج إلى تدريب أو إلى تمرين.
والنقطة المهمة الأخرى أن أتيقن تماماً أن كل معروف وكل خير أقوم به سأجد له جزاء في الدنيا قبل الآخرة فالله عز وجل كما قلنا قبل قليل لا يجازي بالمعروف والخير نسيئة يعني لا يؤخر أجر الجزاء وإنما يعجّل لصاحبه في الدنيا سواء في صلاح الأولاد أو في صحة أو في مال أو في تفريج كربة أو في فتح باب مغلق (ومن يتق مخرجا) وهذه حقيقة نحن بجاجة اليوم إلى تطبيقها في حياتنا المعاصرة لأن حياتنا المعاصرة أصبحت مليئة بالمشاكل مليئة بالضغوطات النفسية نحتاج من يقف إلى جانبنا نحتاج من يربت على أكتافنا، إذا لم أقم بالرحمة وبإعطاء هذه الأعمال الإنسانية لن أجد من يقوم بها في المقابل ولذلك في كثير من الأحيان نستطيع أن نقوم بالتشبيه فيها قضية الأواني المستطرقة، الأواني المستطرقة تعرفونها في المدرسة هي عبارة عندما نضع جزءاً من الشراب في منفذ من المنافذ الأنبوبة -هي أنبوبة من طرفين مفتوحة على بعضها البعض- عندما أضع جزءاً من الشراب في الطرف الأول سيذهب إلى الطرف الآخر، هذه هي الأواني المستطرقة. صناعة المعروف والخير والرحمة هي بالضبط بهذا الشكل كلما سكبت رحمة في قلوب الخلق وكلما قمنا بأداء المعروف والخير والإحسان للآخرين حتى لو لم تجدي له مقابل عند الناس أو شكراً قطعاً سيعود عليك في يوم من الأيام (هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) الرحمن) ومن الذي يجازي بالإحسان؟ الله عز وجل. إذن نحن بحاجة إلى أن يصبح المعروف والخير لنا حرفة ومهنة فحين أُسأل -وليس بالضرورة أن اقوم ذلك شفاهاً أو علناً لأنه في كثير من الأحيان أقوم بأعمال سر خبيئة بيني وبين الله لا يطلع عليها أحد إلا الله- ولذلك كان زين العابدين رضي الله عنه وكذا كثير من السلف والصحابة والتابعين يقوم بأعمال سر وخبيئة بينه وبين الله عز وجل لا يعلم بها أحد إلا الله عز وجل، فكان زين العابدين على سبيل المثال يقوم بنقل اكياس الطحين والشعير في الليل للأرامل والمساكين ولم يكن أحد في بيوتات المدينة يعرف من الذي ياتي بالدقيق والشعير إليهم إلا بعد أن توفي، لم يكن يُخبر عن هذا العمل أعمال بالسر بيني وبين الله عز وجل. وكما ذكرت هذا النوع من الأعمال ليس بالضرورة أن تبذلي فيها المال فقط، بذلت المال والوجه عبوس على سبيل المثال!! ما قيمة المال؟! “تبسُّمك في وجه أخيك صدقة” (قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى (263) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ (264) البقرة) إذن في حياتنا لسنا بحاجة فقط إلى الأموال والدراهم ولا أن يكون التعامل بيننا في الأموال نحن بحاجة إلى التعامل الإنساني أن نشعر ببعضنا البعض إلى أن نتعاون على إحياء هذه الفريضة في حياتنا نتعلم كيف نخفف عن الآخرين نتعلم كيف نتألم لآلآمهم نتعلم كيف نشعر بهم نتعلم كيف نكون أكثر إحساساً وألماً وفرحاً وتفاعلاً مع الآخرين. ولذلك هذا الدين يقوم على هذه الأسس. هل صناعة المعروف أو حِرفة المعروف بعد ذلك تستحق مني الجهد أو لا تستحق؟ تستحق. الأجر فيها لا يتوقف عند الدنيا وإنما يمتد إلى الآخرة سقيت إنساناً في الدنيا يسقيك الله يوم القيامة، كسوت إنساناً في الدنيا الله عز وجل سوف يلبسك من لباس الجنة والفارق بين الدنيا والجنة فارق شاسع هائل. فرّجت عن مسلم يفرّج عنك، زرت أحداً تزارين في يوم من الأيام وقيسي على ذلك بقية الأعمال. نحتاج إلى أن تتحول أعمال البر والخير والمعروف في حياتنا إلى حرفة ومهنة فتكون عمل نقوم به طوال الليل والنهار، كيف طوال النهار؟ بالعمل الذي أستطيع أن أقوم به ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق. وفي الليل وحتى في غير الليل بالدعاء بالفرح لفرح المسلمين وبالحزن لآلآمهم وأحزانهم وبالدعاء لهم بأن يخفف الله عنهم. أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم وأسأله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من صانعي المعروف ومن الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه وجزاكم الله كل خير والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(تفريغ صفحة إسلاميات حصريًا)