تدبر سورة سبأ – الحلقة السادسة

الحلقة السادسة (الآيات 27 – 42)

تفريغ د. سمر الأرناؤوط

وقفنا في تدبرنا في هذه السورة العظيمة ؛ سورة سبأ عند تلك الوسيلة الحوارية التي قدّمها القرآن كأنموذج لوسيلة التخاطب والحوار مع من نختلف معهم . تلك الوسيلة التي تتسم بالحكمة التي تروم إنشاء أرضية مشتركة يتحقق فيها للإنسان المحاور احتواء غضب الآخر نظرا للاختلاف معه في معتقد أو في مسألة كقضية الإيمان بالبعث وما شابه . ذلك الغضب الذي يمكن أن يقف حاجزا وحائلا بين الإنسان ورؤية الحقيقة . القرآن يعلمنا كيف يمكن أن نمتص ذلك الغضب ، بالتركيز على أن الذي يفصل بيننا هو الذي خَلق وليس واحدا منا . وهذه قضية في غاية الأهمية ؛ فالبشر لا يقضون ولا يحكمون ، ولا يفصلون بين الناس ، وينحصر دورهم في التبليغ وإيصال الرسالة وأداء الأمانة على الوجه الذي أمر به سبحانه وتعالى. من هنا يواصل الخطاب بذات السياق ، يقول عز وجل :

(قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿٢٧﴾) .

إنه حوار العقل ، الحوار الذي يجعل الإنسان المعاند المكابر في آيات الله يستفيق من رقدته ، و ينظر إلى حاله ، ونفسه تسأل : من هم هؤلاء الذين أشركهم مع الله سبحانه وتعالى ؟ وماذا فعلوا ، وماذا خلقوا أمام قدرة الله سبحانه وتعالى التي لا يعجزها شيء ؟. من هنا جاءت المواصلة في الحوار مؤكدة دور النبي صلى الله عليه وسلم ودور المؤمنين برسالته في إيصال عالمية هذا الخطاب القرآني للناس كافة ، دون تفرقة بين جنس وآخر أو عرق وغيره ، قال :

(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴿٢٨﴾) .

هذه الرسالة ما جاءت لتكون محصورة و محجوزة في إطار جغرافي معين ، ولا ضمن عرق معين . بل هي لكل الناس ، ومن الأمانة والحكمة أن يقوم المؤمنون بها بإيصالها لشعوب الأرض ، ومخاطبة أمم الأرض بهذا الخطاب العظيم وإيصاله بالحكمة والموعظة الحسنة .

وتستمر الآيات العظيمة في إيراد كافة الشكوك والشبهات والدعاوى التي يمكن أن يطرحها المخالفون في طريق هذه الدعوة ، من أبرزها التكذيب بيوم البعث :

(وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴿٢٩﴾ قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ ﴿٣٠﴾) .

الإيمان بالبعث وعدم الإيمان بيوم البعث لن يقدم أو يؤخر في ميعاد حدوثه ؛ فعلمه عند الله سبحانه وتعالى وليس عند أحد من البشر. واستبطاء البشر ونظرتهم البعيدة إلى أن هذا اليوم لن يقع ، فلن يقدّمه أو يؤخر أوان حدوثه ؛ فالله تعالى قد حدده وضرب له موعدا لا يعلمه إلا هو . كما أن استعجال الناس لوقوع ذلك اليوم لا يمكن أن يؤخر أو يحدث أي تغيير في ميعاده أو زمانه .

(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآَنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ ﴿٣١﴾) .

وهنا القرآن العظيم يقدم لنا أنموذجا لتكبر هؤلاء وعنادهم (لن نؤمن بهذا القرآن) ، ولا بالذي بين يديه من الكتب التي أنزلها الله عزوجل على أنبيائه وصفوته من خلقه . أنزل التوراة و الإنجيل ، وكان هؤلاء القوم على علم بهذه الكتب وهذه الرسالات ، لكنه العناد والإصرار والكفر وإباء الإنسان في كثير من الأحيان وتنكصه وتنكره لتلك المناهج الربانية . وإذا بالقرآن كعادته يضع الآخرة في مواضع الدنيا مباشرة ، و يصل الآخرة بالدنيا ؛ ليجعل رحلة الدنيا قصيرة محدودة الأجل وهي كذلك ، ويبصّر الإنسان ويصله بما سيلاقيه نتيجة ذلك الكفر والتكذيب والإعراض : (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) ، لو تراهم والقرآن يريك إياهم من خلال ما جاء في هذه الآيات العظيمة . لو ترى كيف هم محجوزون محجوبون محصورون في مواقف الحشر، ترى على وجوههم الذلة والمهانة ، موقوفون للحساب والكتاب . يرجع بعضهم إلى بعض القول فيما بينهم على ما فرّطوا في جنب الله . وتدبروا كيف القرآن يصلنا بتلك المواقف التي هي في الدنيا. في الدنيا ، ثمة موانع تحول بين الناس ، وبين الإيمان بهذا الصدق وهذا الحق الذي أنزله الله في كتابه العظيم والذي جاء به الأنبياء والرسل من قبل نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم . ما الذي حال بين الناس وبين الإيمان ؟ تلك الطبقات وتلك الولاءات ، وتلك الانشغالات والانصرافات ببعض الناس مع بعض ، قد حالت بينهم وبين الإيمان . تلك الولاءات المهترئة الزائفة الكاذبة الخادعة التي جعلت هؤلاء لا يرون الحق حقا ولا يتبعونه . هؤلاء سيقفون يوم القيامة محجوزين عند الله سبحانه وتعالى ، محصورين محبوسين ينتظرون بألم وندامة وحسرة يوم العرض على الله عز وجل . ولكنهم أدركوا بعد فوات الأوان أن ذلك اليوم الذي كذبوا فيه قد حان ، وهاهم اليوم يقفون بين يدي خالقهم الذي طالما كذبوا بقدرته على البعث والإحياء بعد الموت : (يرجع بعضهم إلى بعض القول) ، يتلاومون فيما بينهم . وهنا القرآن يبرز فئتين من فئات المجتمع تراهم في كل مجتمع ، وتراهم في كل أمة وفي كل وقت ؛ الذين استُضعِفوا والذين استكبروا ، الذين استضعفوا يوجهون اللوم للذين استكبروا ، ويحاولون أن يبرروا كفرهم وعنادهم وتكذيبهم بهذه الدعوة : (لولا أنتم لكنا مؤمنين) . وأسلوب التبرير وإلقاء التهم على الآخرين أسلوب لا يقبله القرآن مطلقا ؛ فالقرآن يكرس ويعزز مبدأ مسؤولية الإنسان عن قوله وفعله في واقع الحياة . التحديات موجودة ، واحدة من تلك التحديات ممكن أن تكون فئة الكبراء ، كما يصورهم القرآن ، المعاندين المترفين ، الملأ في كل فئة من الناس . ولكن وجود هؤلاء لا يبرر للإنسان السير في طريق الكفر والعناد والتكذيب ؛ فالمسؤولية تقع على عاتقه هو بالدرجة الأولى ، فلا يلومن أحدا إلا نفسه. (يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) ، يبدأ في نفس الوقت الحوار الذي لا فائدة منه ، والجدال العقيم الذي يكون في مواقف الحشر يوم القيامة ويستمر:

(قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ ﴿٣٢﴾) .

ردوا عليهم القول : (أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين) ، أنحن الذين منعناكم عن الهدى ؟ الآن اعترف الجميع حين انكشفت كل الأغطية والأكنّة والغشاوات المختلفة . اعترف الجميع بأن هذا القرآن هدى وحق ونور وكتاب من الله سبحانه وتعالى ، فيه هدى لكل من أراد الهدى . (يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) ، كِلا الطرفين يلقي بالتهم على الآخر في محاولة يائسة لكي يبرأ ساحته ، و يبرر لنفسه ما كان فيه من إصرر وعناد . ومرة أخرى يرجع بعضهم لبعض القول :

(وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿٣٣﴾) .

الذين استضعفوا كانوا أدوات ووسائل في أيدي أولئك المستكبرين : (مكر الليل والنهار) ، من خلال المؤامرات والمكائد والدسائس والمخططات التي أردتم من خلالها أن نكفر بالله ونجعل له أندادا . المكر هنا غايته أن يُنشر الكفر بالله سبحانه وتعالى ، ولكن الوسائل والسبل واحدة ، منها على سبيل المثال ما ذكره الله سبحانه وتعالى في أول السورة : (أفترى على الله كذبا أم به جنّة بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد) ، تنوعت الافتراءات والأباطيل والإشاعات والأكاذيب الزائفة التي كان ينشرها هؤلاء على الأنبياء و الأخيار و المصلحين ؛ ليحولوا بينهم وبين إيصال دعوة الحق للناس . هذا مكر و كيد ، و دسائس . وهنا في ذلك الموقف العصيب يذكّر بعضهم بعضا بما كانوا يمكرون ويكيدون .

(وأسروا الندامة) ، الندامة هي عبارة عن شدة الأسف على ما قد فات . الندامة والتحسر يجديان حين يكون للإنسان متسع من الوقت للاستدراك ، ولكنهما لا يجديان حين يفوت الوقت وتزول ساعة الاستدراك . وما يبقى للإنسان بين يديه سوى الأسف والندامة . (هل يجزون إلا ما كانوا يعملون) ، هنا يقدم القرآن سنة من السنن ، وهي أن الإنسان لا يجزى إلا بما عمل ، وأن كل نفس بما كسبت رهينة . وأن الإنسان يحاسب على عمله ، و مسؤول مسؤولية مباشرة عنه ، حتى لو كان في ضمن طريقه الذي مشى فيه وسار تحديات مختلفة من وساوس شياطين الجن والإنس الذين يوسوسون له ، وليس له عليهم سلطان ، من المستكبرين الذين يعثيون في الأرض فسادا ، ويصدون عن سبيل الله أولئك المستضعفين الذين يخافون أن يقولوا كلمة الحق أو يتفوهوا بها . كل أشكل التحديات لا قيمة لها أمام إرادة الإنسان القوية التي يريد القرآن أن يحييها و يكرسها في نفسه . تلك الإرادة التي تجعل منه مسؤولا مسؤولية مباشرة عن أعماله وخياراته وقراراته ، وأعظم قرار يمكن أن يتخذه في حياته وآخرته ، قرار الإيمان (هل يجزون إلا ما كانوا يعملون) .

(وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ﴿٣٤﴾) .

شيء طبيعي ، وسنة من السنن أنه كلما أرسل الله رسولا وأنزل كتابا تصدى له علية القوم من المترفين الذين يرون في دعوات الأنبياء ، وفي القيم التي جاؤوا بها من العدل والحق تهديدا وتقويضا لما هم فيه من الترف والنعيم الزاف . والحل أن يتخلصوا من دعوات الأنبياء . ما قام فيهم نذير أو بشير ، ولا ظهر بينهم كتاب إلا وكانوا عليه سيوفا تريد أن تنقض عليه و على ذلك الحق الذي جاء به . لا تريد حقا ، بل تريد باطلا ؛ لأن في دعوة الأنبياء من الصدق والعدل والحكمة ما يقوّض إشكالية الترف التي عاشوا عليها ، و يقتاتون عليها ، فلا يستطيعون العيش بدونها . والتي تبرر لهم عوامل النقص الموجودة في ذاتهم ، و تعطيهم نوعا من أنواع الشرعية للتسلط على الآخرين . وهو ما لم يقبل به رسول ، ولم ينزل به كتاب من عند الله سبحانه وتعالى ، فما هو الحل؟ (إنا بما أرسلتم به كافرون) . وتدبروا في الوصل الواضح بين الدنيا والآخرة ، القرآن كتاب يصل بين الدنيا والآخرة ، فيجعل مواقف الآخرة حاضرة وسط الحديث عن الدنيا . وكذلك وسط الكلام عن الدنيا والعقاب والندامة والحسرة ، إذا به يأتي بمواقف الدنيا ؛ لأجل أن يوقظ في الإنسان القدرة على التغيير ، ويجعله عندما يستمع إلى آيات هذا الكتاب متحررا من خوفه . يستدرك ما فاته ، فيسرع وينهض من جديد لأجل أن يقوم من عثرته وكبوته ، ويسير إلى الله سبحانه وتعالى قبل فوات الأوان ؛ إيمانا وتصديقا وخضوعا وانقيادا لهذا المنهج العظيم الذي أنزله الله في كتابه .

(وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ﴿٣٥﴾) .

واحدة من ترّهاتهم وسفاهات عقولهم ، أنهم كانوا ينظرون نظرة ضيقة إلى ما وهبهم الله من أموال وأولاد (وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا) ، وتلك إن دلت على شيء إنما تدل على سفاهة وحماقة هؤلاء القوم ؛ فلا كثرة المال ولا كثرة الولد تعني أن ذلك الإنسان عزيز عند الله أو ذو مكانة أو وجاهة عنده . فليس المال ولا كثرة الولد ولا كثرة المتاع الزائف من الدنيا ، هي ما يجعل الإنسان قريبا إلى الله . وليس وجود تلك الأمور دلالة على أن ذلك الإنسان هو مقرّب عند الله سبحانه وتعالى . ولذلك لو نظرت في أحوال الأنبياء والصالحين عبر التاريخ وعبر الأمم والمجتمعات ، لوجدت أن غالبية الأنبياء كانوا من أقل الناس مالا وعددا وأولادا ، فهل هذا دليل على أن هؤلاء ليسوا بأصفياء وليسوا بذوي مكانة عند الله عز وجل ؟! حاشاهم جميعا. ولكنه غرور الإنسان المترف الذي لا يرى الحقائق ، وإنما ينظر إلى كل شيء بمعيار ومقياس المادية البحتة ، خسر كل أنواع القياس والمعيارية الأخلاقية ؛ لأنه قد خسر هذا المنهج الذي يعلمه كيف تقاس الأمور . خسر المنهج الذي يبصره ويفهمه ويعلمه أن الأمور ليست بظواهرها ، وأن القضايا لا تؤخذ هكذا ، وأن كثرة المتاع من الدنيا لا تعني أبدا أن هذا العبد أو ذاك من المقربين عند الله سبحانه وتعالى ، بل إن من أعظم ما تَعتبر من خلاله أنه يدل على حظوتك ومكانتك عند خالقك عز وجل ، هو أن تنظر فيم هداك الله إليه ، هل هداك إلى الحق ، وفعل الخير ، هداك لطاعته ، أم هداك لغير ذلك ؟ إن أردت أن تعرف مقامك عند الله ، انظر فيمَ هداك إليه ، انظر فيم شُغلت به ، انظر فيم مكنك الله فيه ، وكيف استعملته . كثرة الأموال والأولاد ستُسأل عنها يوم القيامة ، إن لم ترحّلها عند صاحب الملك وصاحب النعم والذي سيسألك عن كل شيء أعطاك إياه ومكّنك فيه ؟ ما قيمة المال إن أصبح حجة عليك ؟ المال عارية والأولاد عارية ، وكل ما نحن فيه إنما هو عارية . وفي يوم من الأيام سترد كل هذه الأمانات ، ولكنها حين تُردّ ستُسأل كيف تصرفت بها ، وكيف اكتسبتها ، وفيم أنفقتها . وهذا هو الذي ينبغي أن يكون . قال سبحانه وتعالى بعد ذلك ليقرر هذه الحقيقة وينهي إشكالية التزييف والخداع الذي قد وقع فيه هؤلاء المترفون :

(قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴿٣٦﴾) .

بسط الرزق وتقديره وتقتيره أمور محكومة بحكمة الله وإرادته جل شأنه ، يبسط لمن يشاء . وقد بسط للكافرين من عباده كيفما يشاء . وما كان بسطه جل شأنه دليلا على أن هؤلاء من المقربين لديه إطلاقا . المقاييس مختلفة ؛ فالقرآن يعلمك كيف تقيس الأمور ، وكيف تحسبها بموازين صحيحة ودقيقة . بسط الرزق وتقديره إنما هو من عند الله سبحانه وتعالى ، وأكثر الناس لا يعلمون أن بسط الرزق لا يعني أن الله راض عنك ، ولا يعني أن الله سبحانه وتعالى قد فتح لك الأبواب . أبدا فهذا ابتلاء و اختبار ، ولكن مما يؤسف له أن كثيرا من الناس قد اختلطت عليهم المقاييس ، وهذه واحدة من التحديات التي واجهها جميع الأنبياء ؛ فكثير من المترفين كانوا يقولون ، ومنهم هؤلاء الذين عاندوا نبينا صلى الله عليه وسلم : إذا كان فعلا ربك يعطي ويهب ويعمل ما يشاء لماذا ، فلماذا لا يعطيك بيتا من زخرف ، أو ترقى في السماء ، أو يكون لك جنات أو بساتين أو تأتي بالله والملاكة ؟! حسابات مغلوطة لا قيمة لها . لم يدرك هؤلاء أن من أعظم النعم على العبد أن يعرّفه بخالقه عز وجل ، وليس أن يبسط له في الرزق ؛ فالرزق سواء ما بَسط منه وما قَدر فيه في نهاية الأمر مأخوذ منك ، فأنت ستخرج من الدنيا بلا شيء سوى العمل كما دخلت إليها بلا شيء . أنت دخلت إلى هذه الدنيا يوم ولدت بلا شيء ؛ لا متاع ولا مال ، وستخرج منها هكذا ، اللهم إلا بخرقة بيضاء لا تساوي إلا دراهم معدودة . ولكن الذي يهم ، أنك ستخرج بماذا ؟ ستخرج بعمل صالح أم ستخرج بعمل غير صالح ؟ هذا ما ستُسأل عنه وتحاسب ، أما ما اكتسبته في الدنيا أنت ستتركه وراءك ، و لن تأخذ معك شيئا. بنيت وعمّرت وشيدت وأخذت وفعلت ، هل ستأخذ من كل ذلك شيئا ؟ أم سيبقى وراءك لورثتك وستُسأل عنه وتُحاسَب عليه ؟ هذه إشكالية خطيرة لا يدركها الإنسان وهنا يؤكدها القرآن . ولنا أن نتساءل لماذا القرآن في سورة سبأ يؤكد هذه المسائل والقضايا ، وهي مهمة ، لأن من أكبر التحديات ، و خاصة في ظل التفوق الحضاري والمعماري في أي أمة ومجتمع : المال ، القوة ، الأولاد ، قال :

(وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آَمِنُونَ ﴿٣٧﴾) .

لماذا القرآن يؤكد هذه الحقيقة؟ حتى نفهم الموازين و المقاييس ، و ندرك أن ما نحن فيه من إقبال الدنيا علينا ليس هو دلالة على شيء ، إنما هو جزء من الامتحان ؛ فليس مالك يجعلك محظيا عند الله عز وجل إلا في حالة واحدة ، إذا جعلت ذلك المال قربة تتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى ، و أنفقته في الخير و الإعمار، و الإصلاح ، و التكافل ، و مواساة الآخرين ومعاونتهم ، ومحاولة تضميد جراحهم ، عندها فقط يكون المال قربى لك عند الله سبحانه وتعالى ، والأولاد كذلك . كم من إنسان أنجب أولادا كانوا وبالا عليه ، بل كانوا سُبّة له في الدنيا قبل الآخرة . عليك أن تفهم وتستوعب أن الذي يقربك إلى الله ما تعمل وليس ما تملك ، إذا وظفته للخير، وفيما أمر به الله عز وجل .

قال : (إلا من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون) ، ما هو جزاء الضعف ؟ جزاء الإيمان الذي آمنوا به ، وجزاء النعمة التي خولهم الله إياها من المال ، والولد فوظفوها بما يرضي الله سبحانه وتعالى . لماذا القرآن يبصرني بكل هذا ؟ حتى أستدرك ما فات و أقدم بين يدي الله تعالى ما مكني فيه . مالك ستتركه ويتركك لن يغني عنك شيئا . المهم ماذا تفعل بهذا المال ، فالمال ليس لأجل التخزين والتكديس . وتدبروا في الربط بين هذا المعنى العظيم في سلب الشح من نفس الإنسان في استئصاله من نفسه الإنسان وقلبه . و الأمم الحالية كمملكة سبأ ، على سبيل المثال حين يفتح الله ويغدق عليها بالنهم ، يصبح عندها رخاء وأموال وخزائن ملآى بالأموال . إذا لم تدرك هذه الأمم والشعوب والأفراد وتتفقه أن هذه الأموال هي مساءلة عنها ، وأن الله مكنها منها ؛ لأجل أن تنفقها إصلاحا ، وإعمارا ومعاونة وإحقاقا للحق ، ورفعا للظلم فهذا لن ينفعها في شيء . إذا لم تدرك هذه الحقيقة أصبحت تلك الأموال وبالًا عليها . وتأملوا في حال كثير من المجتمعات المتفوقة ماديا وحضاريا اليوم ، فكم من المجتمعات و الأفراد حين جرى بين يديها المال اتجهت إلى تعاطي الممنوعات ، وأصبح ذلك المال والانفتاح في الدنيا والزيادة في المال وبالا عليها وعلى أسرتها و حياتها وعلى معيشتها ومجتمعها . كم من بشر حين كانوا يعيشون في حياة متواضعة بسيطة من الناحية المادية ، كانوا في راحة بال ، فلما فُتحت عليهم الدنيا ، طغوا وأفسدوا وضلّوا عن سبيل الله . ليس المال هو الذي يضلّ ؛ فالمال وسيلة ، لكن لأن وجود المال بين يدي الإنسان قد يشغله و يفوت عليه التفكر والتبصر في هذه المعاني العظيمة التي جاء بها القرآن العظيم وأرادها أن تكون مؤسسة و راسخة في الإنسان المؤمن .

من هنا جاء بالنموذج الآخر، قال :

(وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ ﴿٣٨﴾) .

بطبيعة الحال الذين يسعون في آيات الله معاجزين ، لن يسعوا دون وجود مال وقوة مادية وأسلحة وصناعات وتحضّر وتفوق ، هذا السعي في الأرض بالكفر والصد عن سبيل الله يحتاج إلى مال و ميزانيات ضخمة ويحتاج إلى تجنيد وسائل إعلام لأجل أن تُضل الناس عن دين الحق كما كان يفعل المجرمون و المترفون و والملأ في كل الأمم السابقة . قال : (أولئك في العذاب محضرون) ، تدبروا في الربط مع الآخرة والجزاء فيها ، القرآن يبصرني بالحقائق و يربط بينها ، ويؤكد مرة بعد مرة :

(قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴿٣٩﴾) .

قاعدة عظيمة ، عليك أن تستوعب وتفهم أن الله هو الذي يبسط وهو الذي يقدر: (وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين) ، هذا التأكيد في سورة سبأ على المال وبسطه والتنعم به ، وبسط الرزق وتقديره لأجل الذي قلناه ، وهو أن السورة العظيمة تتحدث عن ممالك و مجتمعات متطورة متقدمة متفوقة ماديا وحضاريا . لا بد أن تفهم هذه الثنائية و تستوعبها ؛ لأن المال لا ينفعك إلا بقدر ما يوصلك ويقربك إلى الله سبحانه وتعالى ، ولذلك جاء بالآية (وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه) أنفقتم في أي شيء ؟ أأنفقتم في الصد عن سبيل الله ، أيُخلف عليك ؟! أأنفقته في الفساد؟ أنفقته في أي شيء ؟! أأنفقته في سبيل الله سبحانه وتعالى ؟ والآية مرتبطة بالآية التي جاءت قبلها : (وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا) ، ولذلك جاءت الآية (وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه) ، هذا وعد من الله سبحانه وتعالى فكل ما تنفقه ، ولو كان فلسا الله يخلفه عليك . ليس بالضرورة أن يخلفه عليك عشرة أو ألف فلس ، قد يخلفه صحة ، أو إيمانا ، أو برّا من أولادك ، أو قد يخلفه في أبواب خير تفتح لك . قد يخلفه في طاعة تتقرب بها إلى الله ، أو في أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، ولكنه سيخلفه وعدا عليه ، والله لا يخلف الميعاد . والله خير الرازقين ، بمعنى آخر تخلّص من شح قلبك ، أنفق ولا تخشَ الفقر، أنفق ولا تخش التلف تحرر من شح نفسك وذاتك . أنفق مما عندك و مما رزقك الله ، وتذكر دوما وأبدا أن الله هو الذي رزقك ، أنت خرجت إلى الدنيا بلا رزق . الله هو الذي رزقك ، غذّاك وسوّاك ، وأعطاك ونمّاك ، وقوّاك حتى صيّرك عظيما كبيرا قويا لديك من الأموال والبيوت وغير ذلك . من الذي رزقك ؟! الذي رزقك هو الذي يريد أن يخلّصك من داء الشحّ ، والإنسان إذا تخلص من شح نفسه فقد فاز: (ومن يوق شح نفسه فأولئك هم الملفحون) ، (فهو يخلفه وهو خير الرازقين) لماذا كل هذا؟ لأن الكلام عند الدنيا و الآخرة والجزاء يوم القيامة أنت بحاجة إلى أن تنفق ، أنت أحوج إلى أن تنفق في الخير والعمل الصالح من أي شيء آخر. كل ما تنفقه على نفسك في هذه الحياة الدنيا سيذهب ، ولكن ما تنفقه في عمل صالح لن يذهب أبدا ؛ فالله سيخلفه في الدنيا و الآخرة ؛ رضا ورضوان وجزاء نتيجة ذلك العمل الصالح . بهذا الأسلوب القرآني الفذّ العظيم تُشحذ همة الإنسان للعطاء و البذل ، و لأجل أن يكون إنسانا ، و يوظف ذلك المال في سبيل تضميد جراحات الآخرين ؛ ومواساة الفقراء والضعفاء والمظلومين ، وإحقاق الحق ونصرة العدل وتلكم هي رسالة الأنبياء . المال ما جاء في الحياة لأجل أن يتكدس ، ولا لأجل أن يرصّ ، و أن تتباهى به على فقير، ولا لأجل أن تكسر به خاطرا ، ولا لأجل أن تسيطر به على أمم الأرض وشعوبها وترغمها ؛ إمعانا في الذل والمهانة . أبدا ، المال الذي يحدثنا القرآن عن إنفاقه ، مكنك الله فيه لأجل أن تنفق و تعطي ، و تجبر به مسكينا ، وترفع به ظلما ، وتحق به حقا ، وتبطل به باطلا ، وتأمر به بمعروف ، وتصلح به أرضا ، وتحيي به يبابا مواتا . تساعد الناس ، وتضمد جراحهم ، وتخفف آلامهم وأحزانهم ، وتساعد وتعاون في علاج مريضهم . إنها روح إنسانية نقية . فقل بالله عليك أيّ الفريقين أهدى سبيلا : ذاك الذي يكدس أمواله لإحراق نفسه بالظلم والحقد والتفاخر المزعوم ، أم ذاك الذي ينفق ماله ليلا ونهارا إصلاحا وإعمارا وبناء ؟! هذه الحقائق التي لا ينبغي أن تغيب عن إنسان ، هذه هي الحقائق التي يبصرنا القرآن فيها ولذلك جاءت الآية مباشرة :

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ ﴿٤٠﴾ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ ﴿٤١﴾ .

لماذا القرآن يأتينا بكل هذه التفاصيل يوم القيامة ؟ حتى ينزع عن الإنسان الغشاوات ، وتتساقط كل الشفاعات ويتساقط كل أولئك الذين اتخذتموهم من دون الله ، لا الملائكة الذين كنتم تزينون لأنفسكم عبادة أحد منهم ، ولا الجن الذين كنتم تخافون منهم وتخشونهم ، وتتوجهون إليهم بالاستعانة والاستغاثة ، ولا كل أحد من دون الله عز وجل . تدبروا في هذا المعنى العظيم الذي يجعل الإنسان واقفا أمام توحيد الله سبحانه وتعالى :

(فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ﴿٤٢﴾) .

لا أحد يملك لأحد النفع ولا الضر، هذا المعنى العظيم الذي يريد القرآن للناس أن يفهموه . يوم القيامة الذي تستبعدون وقوعه وحدوثه آت لا محالة ، وها هو القرآن يبصرك بمواقف منه ، ويقدم لك صورا متعددة تبين لك حال الناس يوم القيامة ، وتساؤلاتهم وتخبطهم وفزعهم لأجل أولئك الذين كانوا يتخذونهم من دون الله . تساقط كل الشركاء الذين أشركوا بهم من دون الله ، كلهم لا ينفع و لا يضر. وكلهم لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعا ولا ضرا ، هذه الحقيقية التي يقدمها القرآن ليذهب بالغشاوة عن عين الإنسان ، وليجعله متبصرا واعيا مدركا لما هو فيه ، ولما هو مقبل عليه .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *