تدبر سورة سبأ – الحلقة الرابعة

الحلقة الرابعة (الآيات 15 – 17)

تفريغ د. سمر الأرناؤوط

ما زلنا في تدبرنا في سورة سبأ العظيمة تلك السورة التي جاءت تعرض لنا نماذج من الحضارات والأمم والمجتمعات التي وقفت مواقف مختلفة من حمل الأمانة ؛ أمانة الخلافة على الأرض وبيّن القرآن العظيم في سورة سبأ التي حملت اسم هذه المملكة القوية في كل وسائلها التقدمية والحضارية والمادية الموقف ، بيّن كيف أن نهايات الأمم والمجتمعات ومآلات الأمور والحضارات ، إنما تسير وفق سنن ثابتة لا تتبدل ولا تتغير، فمن أعرض عن ذلك المنهج الإلهي الذي أوضحه الله في الكتب وأرسل به الأنبياء والرسل لا يمكن أن تكون عاقبته إلا الخسارة والدمار.

وكذلك وقفنا في نهاية الآيات التي بينت أن الموت سنة ماضية في الخلق لا تتجاوز صغيرا أو كبيرا، أميرا ملكا، أو مملوكا ضعيفا . إنها سنة ماضية على الجميع وقضاء قدّره الله سبحانه وتعالى على خلقه ليبين لهم طرفا من قدرته سبحانه جل شأنه وأنه القاهر فوق عباده المحيط بهم. وقلنا إن نهاية الملك سليمان عليه السلام كانت نهاية لم تدركها الجنّ الذين كانوا يعملون لديه ما يشاء من محاريب وغيرها، تلك النهاية التي تكشف عن ضعف الجن وعدم قدرتهم على الإحاطة بعلم الغيب وأنه لا يعلم الغيب إلا الله الواحد الأحد.

وتواصل الآيات العظيمة في وصف قضيةٍ وحضارة ومجتمعٍ وأمة قوية ؛ أمة سبأ التي تحمل اسم هذه السورة. وسبأ فيما توارثته وتناقلته كتب الآثار الصحيحة ، أنه في الأصل كان اسم رجل قد بدأ بعمليات السبي في الحروب فسمّي بسبأ . ثم قامت هذه الحضارة وهذه المملكة التي دامت قرونا من الزمن قوية متقدمة متطورة بكل الوسائل والإمكانيات التي عرفها البشر. والقرآن يقص علينا طرفا وجانبا من قصة هذه الأمة ، حيث قال:

(لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ﴿١٥﴾)

وتدبروا في دقة المفردة والسياق القرآني : (لقد كان لسبأ في مسكنهم) ، أي في مكانهم ، في محل إقامتهم . والقرآن العظيم يبين منذ البداية ، وهو يقض علينا قصة هذه المملكة أن الإنسان العاقل ينبغي أن يتفطن لكل ما حوله من آيات . وأن الأمور المختلفة لا يمكن أن تمر أمام عينيه وناظريه دون أن يتفكر فيها أو يتبصر بمآلآتها ، قال : (لقد كان لسبأ في مسكنهم آية) ، ما هي الآية ؟ وما هي تلك العلامة التي يقررها القرآن ويسوق الإنسان للتفكر فيها في كل شيء في حياته ؟ قال : (جنتان عن يمين وعن شمال) ، الله سبحانه وتعالى بقدرته أعطى هذه المملكة وذلك المجتمع جنتين ، مكانا ومسكنا محاطا بالجنان عن يمين وشمال . يقول : (كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور) ، والقرآن حين يذكر ويصف الحال بأوجز مقال بقوله : (بلدة طيبة ورب غفور) ، إنما يؤكد أن هذه المملكة كانت تنعم بالرخاء والأمن والسكن والاستقرار بكل ألوانه ومعانيه . القرآن قدّم طرفا من ذلك: الأمن، الاستقرار، البلد الطيب (بلدة طيبة ورب غفور) . و يطرح علينا قضية كذلك منذ بدايات القصة ، لكن ما المطلوب منك حين تحاط بنعم الله كأمة ومجتمع ؟ قال : (كلوا من رزق ربكم) ، تدبروا في دقة المفردة القرآنية ، هذا الرزق الذي أنتم فيه عليكم أن تدركوا من البداية أنه من الله ، صحيح أن الإنسان يعمل و يحرث الأرض ، و يبذر البذرة ، و يتعهدها بالماء والرعاية حتى تنبت ، ولكن الذي يُنبتها هو الله سبحانه ، فهو الذي يعطيها القدرة على الإنبات و الإثمار . عليك أن تتذكر ذلك دوما . وتدبروا في الربط بين ما قاله عن سليمان عليه السلام : (اعملوا آل داود شكرا) ، إن الشكر لا يكون فقط بإظهار النعمة والتلفظ بها، هذا جزء منه ، ولكن من جوانب الشكر أن لا تستعمل ما فوّضك الله فيه وما مكّنك منه ، وما رزقك ، وما أعطاك فيما يخالف منهجه ، بمعنى آخر أعطاك مالًا ، أمانًا، رزقًا بشتى أشكاله وأنواعه ، فإياك أن تستعمله فيما يخالف منهج الله عز وجل . ما هو ذلك المنهج ؟ هو ألا تتقوى بما مكنك وأعطاك الله في معصيته ، و في التسلط على مقدرات الآخرين في الإفساد في الأرض . أعطاك أمانا في بلدك ، أعطاك استقرارا ، وفتح لك أبوابا يفد إليك من خلالها الناس أفواجا ماذا ستفعل حين سيفد الناس عليك؟ هل ستتحكم في مقدراتهم؟ هل ستغلي وترفع عليهم الأسعار ماذا ستفعل؟ هل ستطرد أولئك الناس من أولي الدخل المحدود؟ هل ستعطي الفقراء حقوقهم من الزكاة والصدقات والتكافل أم ستتجاوز ذلك كله ؟ المنهج ليس مفردة واحدة ، ولكن عمل وسلوك ، فتسير كما أمر الله سبحانه وتعالى . أعطاك رخاء وظفه فيما أنعم الله عليك ، وظفه بالعدل والحق ، وإحقاق الحق وإبطال الباطل . هذا بشكل عام ، أما المفردات والتفاصيل فهي متروكة لك ، لكن المهم أن تؤسس دعائم حكمك وقيادتك لذلك المجتمع وتلك الأمة على أسس العدل والحكمة والرحمة التي أمر الله بها سبحانه . ماذا كانت النتيجة مع قوم سبأ ؟ (فأعرضوا) ، الله عز وجل أعطاهم منهجَ : (كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور) ، وواضح جدا من السياق في قوله عز وجل (ورب غفور) أن هذه الأمة قد عرفت ربها . بمعنى آخر قد عرفت منهج الحق ، ولكنها أعرضت وتنصلت منها . بعض الروايات التاريخية تؤكد وتشير أن ملكة سبأ التي التقت الملك سليمان عليه السلام وآمنت به ، أسلمت مع سليمان لله رب العالمين . وذكرت قصتها في سورة النمل ، عندما رجعت إلى قومها . وقوم سبأ دخلوا في الإسلام أفواجا ، وقاموا على ذلك الدين فترة من الزمن وهي الفترة التي يحدثنا القرآن عنها : (لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال) ، بمعنى آخر أن فترة الرخاء الاقتصادي الذي عاشته مملكة سبأ ، كان حين التزمت المنهج الإلهي وسارت عليه في حياتها. ولكن الإنسان في فترة حياته المحدودة على الأرض يتغير ، و تتبدل أحواله . وطريقة تعامل الإنسان مع النعمة ، أنه يبدأ يعتاد عليها ، وهذه مرحلة خطيرة جدا ؛ فإذا ما اعتاد على النعمة وألِفَها بدأ الدخول في مرحلة جديدة ؛ ألا وهي الملل والسآمة من دوام النعم ورتابتها ورتابة الحياة . وذلك في واقع الأمر لا يحدث لكل فرد وإنسان ، وإنما يحدث للإنسان الذي لا يعلم ولا يستحضر الأمانة الملقاة على عاتقه . إنسان فارغ ، توافرت له وسائل المال والقوة ، والقدرة والصحة والشباب والنعم ، وفي نفس الوقت ليس لديه هدف وغاية في الحياة ؛ فيبدأ شيئا فشيئا يعتاد على النعم ، يعتاد أن يستيقظ كل صباح فيرى أن الله قد ألبسه ثوب الصحة، يقف على قدميه معافى في بدنه آمنا في سربه ، عنده قوت يومه وأيام أُخر، فيبدأ يعتاد على الأمر، ثم يشعر بالسآمة والملل إلى أن يصل إلى مرحلة العبث . بمعنى آخر يعبث في النعم ، وهنا تبدأ إشكالية الفوضى والبطر التي حذر منها القرآن والدخول في عمليات الترف . هذا ينطبق على الأفراد والمجتمعات ، وهي مراحل خطيرة أوضحها القرآن وحذّر منها في سياق الحديث عن مصائر الأمم والمجتمعات والشعوب . فهؤلاء الناس في مملكة سبأ أعرضوا ، لماذا أعرضوا؟ واحد منها هو التي ذكرناها: الاعتياد على النعم ، والدخول في مرحلة البطر. حين يدخل الإنسان في مرحلة البطر تتزامن معها إشكالية أخرى ، وهي إشكالية التوهم أن ما هو فيه من النعم والرخاء والاستقرار، إنما هو من قبيل ذكائه وحسن إستراتيجيته ، وحسن إدارته وحكمه وتخطيطه في واقعه ومجتمعه . بمعنى آخر يصبح كقارون ؛ ينسب النعمة إليه . والمطلوب أن تعيش دوما وأبدا ، وأنت معترف بفضل الله عليك شاكرا لأنعمه : (كلوا من رزق ربكم) . وتدبروا في المقارنة مع ما حدث مع النبي سليمان عليه السلام الذي عاش حضارة حقيقية بكل المقاييس تفوقت على غيرها من الأمم والشعوب ، ولكنه كان دوما وأبدا يستحضر فضل الله عليه ؛ فكلما مر بشيء قال : هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر . هذا الاستذكار الملازم لشخصية سليمان عليه السلام كفيل بحفظ النعم ودوامها واستقرارها ، وكفيل بتذكر الإنسان أن لديه مهمة ، وأن عليه أن يقوم بتلك الأمانة ، وأن لا تلهيه النعم وتأخذه بعيدا عن المنهج . هذه النعم ينبغي أن توظفها فيما يرضي الله وفي طاعته ، وفي إحقاق الحق حتى لا تشتغل بالنعم عن المنعِم . هذا ما حصل مع هؤلاء ، وربما أجيال لاحقة في مملكة سبأ اعتادت على أن ترى النعم بين أيديها ، هذه إشكالية خطيرة . نحن كآباء ومربين في بعض الأحيان كذلك نقع فيها، ربما الجيل الذي سبق عاش حياة طبيعية فيها شدائد و أزمات و صعوبات ، حتى حصل فيها مجاعات ، فحين بدأ بحصد ثمار النجاح والاستقرار كان يقدّر قيمة النعمة ، فلم يقع في إشكالية البطر، ولم يسرف فيها . نحن لا نتكلم عن الشكل للأفراد بصور محددة ، بل نتكلم عن السياق العام ، سياق جيل كان يتفهم قيمة النعم ، عاش حياة متقلبة و ظروفا مختلفة تنوعت ما بين الرخاء والشدة ، وما بين المال وكثرة المال وقلة ذات اليد، هذه الظروف المتقلبة صنعت منهم رجالا ونساء ، لديهم القدرة على استشعار النعم واستذكار قيمة هذه النعم وبالتالي الحفاظ عليها . الإشكالية أن ما تلا ذلك من أجيال من أبنائنا الذين قدمنا لهم كل شيء على طبق من فضة أو ذهب ، شعروا أن النعم من الطبيعي أن تكون بين أيديهم وبذلك ألِفوا النعمة ، ما تعبوا في تحصيلها ؛ لأننا تصورنا وتوهمنا أننا لا نريد أن نجعل أبناءنا يعانون كما عانينا ، ويتعبون كما تعبنا ، وياليتنا ما فعلنا! لأننا حين قدمنا لأبنانئا كل هذه التسهيلات في حياتهم وفي معاشهم ، النتيجة كانت في كثير من الأحيان مأساوية ؛ لأن أولادنا وأبناءنا لم يستطيعوا أن يدركوا قيمة النعم . وحين لا يدرك الإنسان قيمة النعم التي هو فيها يعتبرها تحصيلا حاصلا ، وبالتالي لن يتمكن من الاستشعار بقيمتها ، ومن ثَمّ الحفاظ عليها . إنها إشكالية خطيرة تهدد مجتمعات اليوم . ونحن لا نقول إن النهج التربوي الصحيح أنك تجعل أولادك يعانون ، أبدا، ولكن مرّن أولادك وأبناءك ، وحاول أن تجعلهم على مستوى من الوعي يدركون معه أن الحياة فيها حلو وفيها مر، فيها صعود وفيها نزول، وعليهم أن يتعرضوا لتجارب اجتماعية اقتصادية. لا تسهّل لهم أمور الحياة المختلفة ؛ حتى يشعروا أن الحياة كلها بهذه الطريقة ، ولا تمشي كما هم يريدون . لا بد أن يدركوا أن عليهم السعي والتعب ، وتقديم ما ينبغي أن يقدّم للعيش بحياة كريمة تليق بمستوى التعب والجهد الذي قاموا به . الإنسان حين يتعب في الشيء ويسعى جاهدا لتحصيله يشعر بأهميته و بقيمته حال تحصيله ، فلا يجب أن نضيع على أبنانئا فرصة استشعار لذة الجهد وثمرة الجهد وتحصيله.

إشكالية كبيرة وقعت في مملكة سبأ: (فأعرضوا) ؛ أعرضوا عن المنهج الإلهي و تنكصوا للمنعم ، تنكروا لمن أنعم عليهم بالرخاء والأمن والاستقرار. وظنوا وتوهموا أن كل هذه النعم ، من الممكن أن تبقى مستقرة دون أيّ تغير، فماذا كانت النتيجة ؟ قال :

(فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ﴿١٦﴾) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ ﴿١٧﴾) .

القرآن يقدم سنة من سنن الإعراض عن منهج الله في الأرض بكل أبجدياته . والقرآن لم يفصّل كيف كان ذلك الإعراض ؟ ليس بالضرورة أن يكون كفرا صريحا بوجود الله وبالإيمان به وبمنهجه عز وجل ، يمكن أن يكون كفرا بالنعمة ، أو جحودا بها ، أو عدم استشعار لتلك النعمة وعدم توظيفها فيما أمر الله سبحانه .

أعطاه رخاء وأمنا ، استعمله فيما يغضب الله سبحانه وتعالى . أعطاه استقرارا ، فإذا به يفتح الأبواب للفساد والمفسدين . أعطاه رخاء ماديا حصره على الأغنياء وجعلهم طبقة مترفة لا تشعر بمعاناة الفقراء ولا بآلامهم ولا بأحزانهم ، فاستحدث الطبقية في المجتمعات واستحدث عشرات الممارسات التي تتنكر للعدل والحق في منهج الله سبحانه وتعالى . كانت النتيجة : (فأرسلنا عليهم سيل العرم) ، ولنا أن نتساءل : هل سيل العرم كانت كارثة طبيعية ؟ . يقال في الكتب التي جاءت في كثير من الروايات والآثار أنهم كانوا قد أنشأوا سدودا منها سد مأرب المعروف لأجل حصر المياه بين الجنتين ، والإبقاء على مستوى معين للمياه يكفل عملية الريّ الزراعي في كل الأوقات من السنة . تهدّم السد ، و حين تهدم أصبح سيلا فدمّر وأخذ معه الأخضر واليابس ، ما كان هناك شيء يابس ، كل الحياة كانت خضراء أمامهم . كلها كانت جِنانا جرفها السيل ، كارثة طبيعية ! ليس السؤال عن تلك الكارثة الطبيعية ؛ فالقرآن لا يحدثنا عن قصة بدأت وانتهت . القرآن يريد منك أن تصل تلك القصة بالحدث وواقعك التاريخي الذي تعيشه ، فكم من كارثة طبيعية تحدث لدول و أمم ، وإذا بنا تستغرقنا تلك الكارثة بتفاصيلها بعيدا عن التفكير في لماذا حصلت؟ نضع عشرات الأسباب وراء حدوثها : نقص في تركيبة السد ، نقص في الإسمنت ، نقص في خرسانة الحديد ، فمطلوب من العاملين أن يفسروا الأحداث تفسيرا علميا دقيقا ، هذا مطلوب أيضا من المهندسين والمعماريين وأصحاب السدود والميكانيكيين القائمين على عمل السد ، لفعل أي شيء يتعلق بالكارثة وما حولها بالتفسير العلمي للظاهرة ، حتى يتمكنوا من علاجها . لكن ثمة جزء ينبغي أن تفكر فيه ، وهو علاقتك بالله سبحانه وتعالى، و بمنهجه ، فالقرآن في أكثر من سورة يبين أن سنة من سنن الله الماضية في الكون وفي الأفراد والمجتمعات ، تتمثل في أن التنكر لمنهج الله سبحانه وتعالى لا يمكن أبدا أن تكون عاقبته رخاء في مجتمعك أو استقرارا أو أمنا أو راحة أو خيرا أو عطاءا. وتدبروا في الربط ، قال : (بلدة طيبة) ، الطيب يحتمل كل معاني الرخاء ، و الأمان، و الوفرة في الأرزاق . يحتمل أشياء كثيرة جدا. كل هذه الأرزاق ما صانها الأفراد والمجتمع بالحفاظ على منهج الله فيها، ففرّطوا فيها . هذه أمانة ، وجزء من الأمانة أن الله أعطاك رخاء وأمنا ، واستقرارا ونعمة ، ورزقا وفيرا ، فماذا فعلت بتلك الأمانة ؟ وهل أديتها وفق ما أمرك الله في منهجه ؟ أم فعلت بها شيئا آخر؟ إشكالية خطيرة جدا! من هنا قال القرآن العظيم : (ذلك جزيناهم بما كفروا) ، والكفر كما ذكرنا ليس بالضرورة كفرا بالمنهج و برسالة الأنبياء بشكل مباشر صريح ، فقد يكون كفرا بالنعمة ، قد يكون جحودا وبطرا قد أصابهم ، فجعلهم يتخبطون في النعمة التي أنعمها الله عليهم . واحدة من الإشكاليات التي نراها مع أبنائنا وفي مجتمعاتنا ، أنك تأتي للشاب أو الفتاة أو حتى الصغير فتسأله كيف حالك؟ ما أخبارك؟ يقول لك : أشعر بالملل. الملل أصبح ظاهرة اجتماعية بارزة في مجتمعنا، لديه كل شيء و أكثر مما يحلم به ، ومع ذلك يشعر بالفراغ وبالملل . من أين جاء الفراغ والملل ؟ ذاك الفراغ والملل الذي يقوده إلى العبث و الضياع و الفساد ، إن لم نتنبه إليه ونحاول أن نقوم بإصلاحه . من أين جاء ذلك الملل؟ من هذه الاشكالية الخطيرة : عدم استشعار بالنعمة وعدم استذكار أن النعم أمانات بين يدي أصحابها فكيف يؤدونها ؟

قال : (وهل نجازي إلا الكفور) ، قاعدة عامة ؛ الله لا يجازي عباده بالإهلاك أو الدمار الجماعي أو الكوارث العامة ، إلا كنتيجة حتمية لما يقعون فيه من إنكار وتنكر وعدول عن منهج الله في الأرض . ونحن في مثل هذه الأيام ، العالم بأسره يواجه أزمة عالمية ، وهي انتشار ما عرف بفايروس كورونا . بقطع النظر عن الأسباب والنظريات وما يشاع من نظرية المؤامرة وغيرها ، فهذا وباء ، وكارثة عالمية أصابت اقتصايات دول عظمى . ولايزال الأمر في بداياته . الأطباء المختصون في مجالات الأوبئة والصحة عليهم أن يبذلوا ما في وسعهم لمحاصرة الوباء بدون شك ؛ للكشف عن أسبابه العلمية . لا شك في ذلك ، فلابد من محاولة إيجاد العلاج بكل تأكيد ، و محاصرة ذلك الفايروس . هذا لا غبار عليه ، ولا يمكن أن يختلف عليه العقلاء ، ولكن ثمة جانب آخر ؛ فالإنسان الذي يتدبر ويقرأ القرآن ، ويقرأ هذا الواقع الذي يعيشه العالم ، سيفهم ويستوعب ماذا أصاب البشرية . فسيل العرم كارثة طبيعية ، وفايروس كورونا هو أيضا كذلك من الظواهر الطبيعية التي يمكن تفسيرها تفسيرا علميا . ولكن القرآن لا يقبل فقط أن يُفسر الأمر تفسيرا عليما دون أن تفكر و تعمل عقلك . ماذا فعل العالم ؟ وماذا أصابه ؟ وما هو موقفه وموقف الأمم والمجتمعات وبني البشر اليوم من المنهج الرباني الذي أنزل ؟ أين واقع العدل في حياة الناس ؟ أين واقع الإنصاف ؟ أين واقع الرحمة ؟ أين واقع الحق؟ أين دفاع بني البشر عن الحق؟ أين الظلم ومستويات الظلم؟ هل في مجتمعات البشرية لدينا مستويات ظلم مرتفعة؟ أم منخفضة ؟ العالم يقيس المستويات ، مستويات الفقر ، مستويات الغنى مستويات رفع الأسعار ، مستويات النفط ، ويبقى السؤال مطروحا : هل لديك مقاييس لمستويات الظلم والعدل في مجتمعاتك؟ هل تستطيع أن تستوعب هذا كله؟ أم ماذا ستفعل؟ أم أنك قد تركت الأمر هكذا دون حساب و كتاب؟ .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *