تدبر سورة الفاتحة

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله حمد الشاكرين والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أعظم سورة في كتاب الله عز وجل سورة الفاتحة تلك السورة التي اختارها الله عز وجل بتوقيف منه ليجعلها فاتحة للكتاب الذي يخاطب به عباده على اختلاف الأزمنة واختلاف الأماكن، ليفتتح بها رسالته إلى خلقه الخلق الذين أرادهم أن يكونوا خلفاء في الأرض يقيموا رسالة القرآن ويحققوا مقاصدها ثم بعد ذلك يصبح ذلك الكتاب نبراساً لهم للسير على الصراط المستقيم نحو الجنة ونحو ذلك الجزاء الذي ينتظرهم بعد اتمام عملهم على الأرض

أم الكتاب، السبع المثاني، تعددت فيها الأسماء وتكاثرت نظراً لتعدد مقاصدها ومعانيها العظيمة ولكن ربما يغلب على تلك الأسماء اسم “الفاتحة”. ماذا في أم الكتاب من معاني ومقاصد جعلها تختص بكل هذه الخصائص بما فيها أنه رقية وشفاء، شفاء لأمراض الإنسان المتعددة نفسية، بدنية، معنوية، ماذا في أم الكتاب من مقاصد؟ ماذا حوت من معاني جعلها تستحق أن تُتلى في كل ركعة من ركعات الصلاة؟ ماذا في أم الكتاب جعلها تختص حتى بمعاني الصلاة كما ورد في الخبر الصحيح عن الله عز وجل: “قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، نصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل” ولم يذكر في ذلك الخبر القدسي أي كلام عن أي شيء سوى فاتحة الكتاب وكأن الصلاة هي فاتحة الكتاب ومن هنا جاء قول النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: لا صلاة لمن لم يقرأ بأم الكتاب. الصلاة التي لا تقرأ فيها أم الكتاب صلاة ناقصة، خِداج، ما الذي في أم الكتاب لتحوز على كل هذه المنزلة العظيمة في كتاب الله عز وجل وفي الصلاة التي هي صلة العبد بربّه؟ ماذا في أم الكتاب؟

هذه السورة العظيمة حوت مفتاح العلاقة بين العبد والربّ، العلاقة التي لا يمكن أن تكون علاقة صحيحة قوية بدون وجود المعاني التي جاءت في أم الكتاب علاقة التوحيد والعبودية، علاقة الإنسان بربه علاقة قائمة على تصحيح التوحيد بأشكاله المعروفة توحيد الربوبية، توحيد الألوهية، توحيد الأسماء والصفات. لا يمكن أن تُبنى علاقة بين العبد وربه لا في الصلاة ولا في غير الصلاة دون أن تصح معاني التوحيد المذكورة في سورة الفاتحة. لا يمكن أن أفتتح علاقتي مع الله عز وجل وأبنيها بشكل صحيح بدون هذه المعاني التي وردت في سورة الفاتحة.

الكلمة الأولى والآية الأولى التي وردت في هذه السورة جاءت (بسم الله) وسواء كنا مع المفسرين الذين اعتبروها آية من سورة الفاتحة أو مع من لم يعتبرها واعتبر البسملة آية في كل سورة النتيجة واحدة: أنا لا أفتتح هذا الكتاب إلا بقول: بسم الله الرحمن الرحيم. أنا لا أمتلك أن أفهم وأتدبر وأدخل في ضمن العلاقة مع كتاب الله دون ذكر البسملة ليس فقط التدبر أو الفهم أو علاقتي مع الله بل مختلف الأعمال التي أقوم بها صغيرة كانت أو كبيرة، حتى شربة الماء الذي نشرب أنا لا أستطيع أن أدخل على هذا الفعل دون ذكر البسملة، لماذا؟ البسملة تذكّرني بأني عبد وأن كل ما أنا فيه من أعمال وكل ما أقوم به من أعمال أنا لا أدخل على العمل بذاتي ولا بقوتي ولا بإمكانياتي ولا بالأسباب لوحدها أنا أدخل عليها باسم الله. البسملة تذكرني أن لا شيء يتحرك في الكون بدون اسم الله عز وجل إقرار مني بأن الله هو الذي يحرّك، هو الذي يفعل، هو الذي يسبب هذه الأسباب، هو الذي يجعلني أستعمل هذه الأسباب. إذن سورة الفاتحة ومن أول كلمة فيها (بسم الله) تربيني، تجعلني عبداً أتخرّج فعلاً في مدرسة العبودية وأتعلّم منذ أول كلمة (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) أن أكون عبداً حقاً لله سبحانه، عبداً تربّيه سورة الفاتحة، ومن هنا نبدأ نفهم ما الحكمة من وراء تكرار سورة الفاتحة في كل ركعة وجعل الصلاة لا تتم إلا بهذه السورة.

لفظة (الله) لفظ الجلالة سبحانه واختيار (الله) مع البسملة وقبل الرحمن الرحيم أن لفظ الجلالة العظيم لفظ الله سبحانه وتعالى جمع كل صفات الكمال والجمال، جمع كل صفات العبد التي تعلّمه أن يكون عبداً ويعبد الله سبحانه وتعالى ويتعبده بأسمائه.

ثم جاءت (الرحمن الرحيم) والرحمن الرحيم في كلمة البسملة ثم (الرحمن الرحيم) التي ستأتي فيما بعد في سورة الفاتحة تذكرني بأمور عديدة: واحدة من أعظمها أن علاقتي مع الله عز وجل قائمة على الرحمة، صحيح أنا عبد وصحيح هو ربّ وصحيح هو مالك يوم الدين ومالك الملك ومالك الكون وهو خالقي سبحانه وعليّ أن أستحضر هذه المعاني ولكن عليّ أن لا تفارقني في أي لحظة محض العلاقة بيني وبينه علاقة رحمة، هو رب سبحانه ولكن طبيعة علاقتي به علاقة رحمة فأنا عبد مرحوم لأن علاقتي بمن؟ علاقتي بالرحمن الرحيم. وسبحان الله العظيم اختيار الإسمين معاً (رحمن رحيم) رحيم بعباده رحمة متواصلة سواء كان هؤلاء العباد في حالة خطأ في حالة بُعْد عنه أو في حالة تقرّب إليه وعبودية خاصة. نحن جميعاً عبيد، عبيد ربوبيته سواء عصيناه أو أطعناه وهو في هذه الحالة رحمن بنا سبحانه وتعالى وكذلك نحن عبيد عبودية الألوهية حين نختار طريق العبودية وعلاقة العبودية هنا فيها اختيار وهنا يأتي معنى الرحيم يعطيني رحمة خاصة لأهل عبوديته لأولئك العبيد الذين يعبدونه عبودية الألوهية، الاختيار، وسنأتي عليها ونحن نتحدث عن هذه الآيات العظيمة. الشاهد أني منذ قولي (بسم الله الرحمن الرحيم) وافتتاح علاقتي مع الله عز وجل أنا سجلت اسمي أنا أريد أن أكون عبداً في مدرسة العبودية، أنا أريد أن ألتحق بركب العبودية ولن ألتحق بهذا الركب ولن يحقق الله لي سبحانه هذه المنزلة العظيمة دون أن أدخل على العلاقة باسمه سبحانه، إقرار بأني لا أمتلك هذا الحق ولا أستطيع أن أفتتح العلاقة أبداً ولا أن أدخل على كتابك قرآءة وفهماً وتدبراً وفعلاً في واقعي وفي سلوكي دون اسمك أنت يا رب، أنا أدخل باسمك وهذا معنى البسملة. ولذا لا ينبغي لي أن أعمل عملاً دون البدء به ببسم الله وإلا كان العمل ناقصاً أبتر مقطوعاً مبتوراً قليل البركة، قليل الفائدة.

ثم تنتقل بي بعد ذلك سورة الفاتحة لتبني شيئاً جديداً في العلاقة العلاقة القوية التي تبنيها سورة الفاتحة العلاقة بيني وبين ربي وهذا مصداق الحديث القدسي “قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين”. الكلمة الثانية التي تنميها فيّ سورة الفاتحة (الحمد لله رب العالمين) الحمد. أنا أول ما أفتتح العلاقة بيني وبين الله عز وجل أول كلمة أريد أن أخاطب بها ربي أول كلمة أريد أن أقولها لربي: يا رب الحمد لله. ومن هنا كان يستحب للمؤمن أن لا يبدأ دعاءً إلا بقوله: الحمد لله، تقديم الثناء، تقديم الشكر. والحمد لله كلمة جامعة تجمع كل معاني الثناء، كل معاني المدح، كل معاني التذلل والانكسار بين يدي الله عز وجل (الحمد لله). وهنا يتحول الحمد الذي تبنيه سورة الفاتحة التي تُعرف بسورة الحمد جعلنا الله جميعاً من الحامدين لآلآئه المستشعرين لعبادة الحمد هنا تبدأ سورة الفاتحة بجعل الحمد وتحويله من مجرد لفظة باللسان إلى عبادة عظيمة تدور عليها كل أعمال الإنسان في واقعه وحياته (الحمد لله)، كيف؟ الحمد الذي تبنيه سورة الفاتحة في نفس المؤمن ليس لفظة، لا، يبدأ بتمرير كل النعم التي يمكن أن أستحضرها في حياتي، أنا لا أستطيع أن أحصي ثناء عليه سبحانه. ولكن سورة الفاتحة التي تكرر في كل ركعة تعودني أن أستحضر النعم، تعودني وتعلّمني وتدرّبني على أن أرى النعم بعيني والفارق شاسع بين عبد يقول الحمد لله مجرد كلمة وبين عبد حين يقول الحمد لله من أعماق قلبه تبدأ كل النعم التي وهبها الله عز وجل لهذا الإنسان تظهر أمام عينيه واضحة للعيان. الحمد الذي تبنيه سورة الفاتحة لكي يكون عبادة حقيقية حمدٌ يحوّل الحمد من شعور في القلب وكلام باللسان إلى فعل وسلوك كيف؟ الحمد لا يتم ولا يكون حمداً إلا حين يستشعر الإنسان أن لدي الفائض من النعم، عليّ أن أفيض بهذا الفائض على من هو أقل مني فيظهر العمل في السلوك والجوارح. وما حمد العبد الله عز وجل حمداً حقيقياً حين يبخل ويضنّ بما لديه من نعم على غيره في مجتمعه ومن حوله. فعلى سبيل المثال من وهبه الله فضل مال أفاض بذاك الفضل على غيره، من وهبه الله فضل علم ولو بكلمة في أي مجال من مجالات العلم أفاض به على غيره، من علّمه الله حرفاً علّمه لغيره، من أعطاه شيئاً من متاع الذنيا أفاض به على غيره، من أعطاه الله جاهاً أفاض بذاك الجاه على غيره منفعة وعطاء وبذلاً وسخاء ليحرك هذا الإنسان فيصبح خليفة حقيقياً على هذه الأرض، خليفة لله على أرضه حامداً لأنعمه حق الحمد. الحمد ما عاد كلمة، ما عاد شعوراً، الحمد عاد سلوكاً، عاد واقعاً ليس واقعاً جامداً، بل متفاعلاً مع الإنسان في كل شيء ومحرِّكاً له وبهذا نفهم معنى الحديث: أن الله سبحانه يُنال رضاه بكلمة يقولها العبد (الحمد لله) على شربة ماء شربها، لماذا؟ لأن الحمد هنا ما عاد كلمة، لا، أصبح هذا الإنسان عبداً فاعلاً في واقع الحياة بحمد الله مستشعراً بالنعم التي وهبها الله إياها وبالتالي متحرك بهذه النعم يغدق بها على الآخرين، خليفة حقيقي. الحمد مدرسة، الحمد الذي تبنيه سورة الفاتحة مدرسة حقيقية.

(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) بعد أن يستكمل معنى الحمد ويمرر هذه النعم ويتفاعل معها حقيقة يستذكر أن هذا الحمد إنما يوجهه لرب العالمين سبحانه. وكلمة رب واختيار الكلمة معجزة فالرب هو الذي يربّي، الرب هو الذي يُغدق، الرب هو الذي يعطي، هو الذي يمنع والمنع والعطاء تربية. وكون أن علاقتي بالله عز وجل علاقة تربية واستحضاري لها المعنى يدربني وينقلني إلى مرحلة جديدة في مدرسة العبودية، أنا أريد أن أصبح عبداً ولكن أيّ عبد الذي أريده في سورة الفاتحة؟ عبد يتخرج برتبة (مع الذين أنعمت عليهم)، عبد برتبة غير مغضوب عليه، عبد ليس من الضالين ولا من المغضوب عليهم وهذا يحتاج إلى ترقّي، يحتاج إلى تنقل، يحتاج إلى تربية، والتربية لن أجدها إلا حين يربيني رب العالمين سبحانه. هذا النوع من التربية والتعليم أنا لا أجده في مدارس ولا أقرأه في كتب ولكني أجده في فاتحة الكتاب، حين أجعل فاتحة الكتاب دستوراً يربيني، حين أجعل فاتحة الكتاب تربيني وربي أراد أن يربيني بالفاتحة ولو ما أراد أن يربيني ما فرضها عليّ في كل ركعة ولا جعل الصلاة التي هي صلة بيني وبينه قائمة على هذه الفاتحة العظيمة، إذن هو رب. وحين أستحضر أن ربي يربيني في سورة الفاتحة أنظر إلى الحياة الآن بطريقة مختلفة، أنظر إلى الجوانب المظلمة لأن حياة الإنسان لا تخلو سواء كانت فرداً أو مجتمعاً لا تخلو أبداً من جانب مظلمة وجوانب مشرقة مضيئة، شيء طبيعي، لا تخلو من الصعود ومن النزول، لا تخلو من الفرح والحزن، لا تخلو من المنع والعطاء. الرب يربيني بكل هذا، الرب لا يربي بالعطاء دوماً، لا، لا بد من ذاك العطاء أن يتخلله منع ولا بد من الصعود أن يتخلله نزول ولا بد من الجوانب المضيئة المشرقة التي تبهج الإنسان وتدخل السرور على قلبه أن يتخللها الحزن، الحزن مطلوب لا لذاته ولكن لما يغدق على الإنسان من تربية، من آثاره. الحزن مطلوب والمنع مطلوب في حياتنا سواء أفراد أو مجتمعات ولكن ليس لذاته ولكن لأجل ما يترتب عليه من آثار. إذن هي التربية ربي يربيني سبحانه وحين يستحضر المؤمن هذه الكلمة وهو يقول ويردد (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) رب كل شيء كل العوالم ما علمت منها وما لم أعلم يصبح الحمد شيئاً محققاً في نفسي، أنا أحمد الله رب العالمين على منعه كما أحمده على عطائه، أحمد رب العالمين على أخذه كما على عطائه، أحمده على كل شيء على كل نعمة على كل حال أنا أتنقل فيها وأترقى فيها وهذا مصداق الحمد الذي تربيني سورة الفاتحة عليه.

والعظيم أن الآية التي تليها جاءت بعد الرب بقوله (الرحمن الرحيم) مرة أخرى يذكرني أنه في تربيته لي سبحانه لا يمكن أن يخرج عن أنه رحمن رحيم سبحانه وتعالى. والصلة بين الرب رب العالمين والرحمن الرحيم تبين صلة الرب بمربوبيه، صلة الخالق سبحانه بعباده، صلة تستجيش معاني الحمد حقاً أن الرب الذي يربيني هو رب رحيم رؤوف بي، عالمٌ بنقاط الضعف والقوة فيّ، عالم بقدرة تحمُّلي لن يكلني إلى سوء، تستشعر الحمد حقيقة، الحمد هنا في سورة الحمد بالفعل يربي الإنسان أن يكون إنساناً إيجابياً إنساناً متفائلاً إنساناً قادراً أن يتحمل مسؤولية الخلافة على الأرض لأن الإنسان المكبّل بقيود الحزن والألم والإحباط واليأس إنسان غير قادر على أن يحمل أعباء الخلافة، إنسان غير قادر على العمل في حياته. سورة الفاتحة من هنا جاءت معاني الشفاء في سورة الفاتحة سورة الفاتحة تحمل الإنسان من هذه المعاني ومن المخاوف ومن الهواجس من الماضي من المستقبل مما يصيبه مما يحدث له من حوادث قد تسوؤه إلى عالم رحب، عالم فيه رحمة، عالم فيه نوع من أنواع الرأفة الإلهية التي تحيط به من كل جوانبه وبالتالي تهدأ نفسه وتسكن جوارحه ويشعر بمعنى الاطمئنان لذاك الرب الرحمن الرحيم الذي لا يريد به إلا الخير، لا يريد به أن يطارده كما يطارد الأقوياء الضعفاء. صحيح هو رب، صحيح هو قادر عليّ، صحيح أنا حياتي وآخرتي وكل ما في الكون تحت سلطته سبحانه ولكنه في تعامله معي لا يخرج عن الرحمة سبحانه وتعالى وهذا المعنى معنى عظيم جداً تكرسه سورة الفاتحة فتجعل الإنسان يهدأ وتجعل الإنسان يتحرر من العبودية لغير لله سبحانه حتى الخوف. الخوف قد يتحول إلى شيء من أنواع الاستعباد، سورة الفاتحة تحررني من هذا ومن هنا كانت سورة الفاتحة تكرّس معاني التوحيد العظيمة توحيد الألوهية. نحن انتقلنا، نحن قلنا أن سورة الفاتحة تنقلني نقلات، تنقلني إلى منازل لكي أرتقي وأصبح عبداً من نوع خاص، عبداً عبودية درجة خاصة هذا العبد الذي تبنيه سورة الفاتحة لا يمكن أن يكون مكبلاً بقيود الاستعباد لغير الله عز وجل فسورة الحمد تحرر الإنسان وتجعله ينفتح إلى عطاء توحيد الألوهية. واحدة من عطاءات توحيد الألوهية تلك الطمأنينة التي تنزل على قلب المؤمن حين يستشعر أن من يتصرف فيه هو الرحمن الرحيم فتهدأ النفس.

ثم تنتقل الآية إلى آية عظيمة جداً تنقل الإنسان إلى الواقع الذي لا ينبغي أن ينفك عنه الإنسان أبداً في حياته (مالك يوم الدين). رحلة الحياة القصيرة التي قد تستغرق من الإنسان كل الهموم كل الأحزان كل الاهتمامات وتذهب بعيداً به عن خالقه وتشرد به أحياناً حتى في صلاته، هذا الاستغراق الكامل للحياة القصيرة تحررها كلمة (مالك يوم الدين) تذكر تماماً أن الرب الذي أقمت وافتتحت العلاقة معه في الدنيا هو الرب الذي يملك يوم الدين يوم الجزاء. يذكِّرك ويربط دائماً وهذه طبيعة القرآن وسورة الفاتحة تؤسس هذا المعنى أن الحياة ليست هي نهاية المطاف في الحقيقة الحياة هي بداية المطاف. في الحقيقة بداية العلاقة التي تبنيها سورة الفاتحة في الحياة ستمتد إلى ذلك اليوم العظيم (مالك يوم الدين). فإذا كان الرب الذي أعطاك ومنحك وأغدق عليك نعمه ظاهرة وباطنة وتولى تربيتك في الدنيا هو الذي سيتولى الجزاء في الآخرة، هو الذي يمتلك يوم الدين، فكيف يا ترى سيكون ظنّك به؟ كيف سيكون اقبالك عليه؟ كيف سيكون حرصك على تقوية العلاقة به عز وجل (مالك يوم الدين)؟. وهل سيبقى في قلبك ملوك آخرين إن صح التعبير؟ وهل سيبقى في قلبك شعور بالعبودية لأحد سواه سبحانه وتعالى؟ وجاء بكلمة (مالك) وجاء بكلمة (يوم الدين) وقد يقول قائل ويتبادر إلى الذهن أن في الدنيا ملوك وهذه حقيقة ولكن الحقيقة أن هذا الملك الذي ينسب إلى ملوك الدنيا مهما كثروا ومهما كان ملكهم إنما هو ملك ظاهري يقال على سبيل التجوّز فقد يمتلك الإنسان قطعة أرض، قطعة بلد، شيء من متاع الدنيا ملك ظاهري يملك التصرف فيه إلى حد ما، الملك هنا ليس ملكاً مطلقاً إلى حد ما فترة من الزمن ولكن لمن سيعود ذلك؟ الملك الحقيقي لمن؟ لله الواحد القهار، ملكه مُلك حقيقي، ملك تصرّف، ملك أخذ، ملك عطاء، ملك قوة، ملك قدرة وهيمنة وسلطة مطلقة كامل التصرف وإلا فقل لي بالله أين ذهب ملك فرعون الذي كان يقول (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي (51 الزخرف)؟! أين ذهب ملك فرعون؟ لمن الملك الحقيقي؟ أليس هو لله؟ فإذا كان ملك الدنيا لله عز وجل فما بالك يوم الدين الذي خصّه؟ لا أحد على وجه الإطلاق يمتلك لا شيئاً ظاهرياً ولا غير ظاهري في يوم الدين سوى الله سبحانه وتعالى. هذه المعاني حين تتأكد في النفس وتبنيها سورة الفاتحة تحرر الإنسان، تحرر الإنسان من الاستشعار بأن أحداً من الناس يملك له ضراً أو نفعاً، عطاء أو أخذاً، مالاً أو غير مال، فقراً  أو غنى، لا أحد، كلها أسباب ولكن يبقى تعلّق القلب بمسبب الأسباب. ثم إن مالك الملك تربي في نفس الإنسان الشعور بالطمأنينة أن الحياة ليست نهاية المطاف فمن لا قدّر الله ظُلم أو وقع عليه أمر يكرهه ولا يمتلك ولا حتى في محاكم الدنيا بأسرها أن يستردّ حقه أو أن يرد عنه أحد من الناس مظلمته لسبب أو لآخر، ربما لأنه ضعيف ربما لأن من ظلمه صاحب قوة أو منصب أو جاه أو عشرات الأسباب، الحياة ليست نهاية المطاف. إيماني بأن هناك يوماً آخر بأن هناك يوماً ترد فيه الحقوق لأصحابها ترفع المظالم عن المظلومين هذا اليوم الذي يجازى فيه الظالم على ظلمه ولو كان كلمة، هذا اليوم الذي ترد فيه الحقوق إلى أصحابها يجعل الإنسان على يقين وطمأنينه بأن الله سبحانه قادر على شيء قدير سيرد الحقوق إلى أصحابها سيجازي الظالم سيعطي المظلوم سيأخد الحق من أصحاب الحقوق التي قد ضاعت ويردها إلى أصحابها الحقيقين. الإيمان باليوم الآخر واحد من أهم أركان هذا الدين من أهم أركان العلاقة بيني وبين ربي سبحانه حتى لا تتزعزع طبيعة الثقة بيني وبين ربي عز وجل حين يؤخذ مني حق، حين تقع عليّ مظلمة، طبيعة العلاقة التي تقيمها سورة الفاتحة بين العبد وربه علاقة قوية علاقة قائمة على حسن ظن العبد بربه ظناً مطلقاً لا يمكن أن تغيره أو تبدله الأحوال المختلفة التي قد يتعرض إليها الإنسان في حياته. أنا كبشر قد يقع عليّ شيء يسوؤني شيء أبغضه ولا أستطيع أن أردّه ولا أفهم الحكمة من ورائه. ما الذي يجعل العلاقة بيني وبين ربي لا تتزعزع ولا تتغير؟ ما الذي يدفعني لأحسن الظن بربي سبحانه؟ إيماني باليوم الآخر يفتح لي أبواباً من الرحمة، أبواباً من الأمل، أبواباً من التفاؤل، أبواباً تأخذ بيدي وبقلبي وبتلابيب روحي نحو ذاك التفاؤل وتصرفني عن ذاك الشعور بالإحباط أو اليأس أو التساؤل عن الحكمة مما يحدث لي في هذا العالم الإيمان باليوم الآخر.

وبعد أن يترقى الإنسان في كل تلك المراحل في مدرسة العبودية بعد أن أصبح عبداً حامداً شاكراً لله محسن الظن بربه عز موقناً أن الله يعيد الحق لكل أحد ولكل شيء. يبدأ الإنسان يدخل في عالم جديد في مرحلة جديدة. الآن انتقل إلى مرحلة عالية من مراحل العبودية من مراحل العلاقة والصلة بينه وبين الله عز وجل التي بنتها سورة الفاتحة بالكلمات (إياك نعبد) الآن حُق لهذا العبد أن يقول (إياك نعبد) حُقّ لهذا العبد أن يخاطب ربه ويستشعر بأنه بالفعل يخاطبه بكل كلمة “فإن لم تكن تراه فإنه يراك” ولكن حتى وأنت عبد لا تستطيع رؤية الخالق سبحانه فهو لا تدركه الأبصار، أنت ترى آثار عبوديتك له، أنت ترى آثار رحمته سبحانه ومن آثار رحمته أنك لا تتوجه بالعبادة لأحد سواه. فإن القلب المشتت المتردد بين الأرباب المتعددين هذا يقول له شيء وهذا يأمره بشيء وذاك ينهاه بشيء، قلب شاذّ شارد لا يستطيع أن يحصر جوانب العبودية لأحد (أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ (39) يوسف) أم من؟ (أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) سبحانه. ربي سبحانه أخذ هذا المؤمن الذي ترقّى بمراحل العبودية وتخرّج في مدرسة سورة الفاتحة والحمد، هذا العبد أخذ به واستقبله وهداه لعبادته وحده لا شريك له وهذه بدايات الهداية العظيمة التي سيسأل العبد في أواخر سورة الحمد (إياك نعبد). من هدايته لنا ومن رحمته بنا سبحانه ومن تمام ربوبيته لنا سبحانه أن ربّانا بأن لا نعبد إلا إياه (إياك نعبد) توجه القلب قلب هذا المؤمن لله وحده لا شريك له. وكلمة (إياك نعبد) كلمة جامعة رائعة فالعبودية ليست مجرد فعل جوارح، العبودية لا يمكن أن تكون عبودية جوارح فحسب، لا، هي خضوع، هي انكسار مع كمال المحبة لله عز وجل. عبودية بدون محبة لا تسمى عبودية التعبد الذي تبنيه سورة الفاتحة تعبد قائم على عبودية ومحبة أنا أخافه وأخشاه وأهابه سبحانه ولكني أحبه حباً يلفّ كل هذه العبوديات مع بعضها البعض ليخرج هذه الكلمة العظيمة (إياك نعبد) قصرت وحصرت العبادة لا تكون إلا لله عز وجل سواء أكانت عبودية أعمال القلوب التي تبنيها سورة الفاتحة، بَنَت الأمل، بَنَت الإستعانة، بَنَت التوحيد، بَنَت النقاء، بَنَت عدم الانشغال بغير الله عز وجل، هذه كلها منازل ومراحل. هذه العبودية لا تكون عبودية جوارح كل أعمال القلوب والجوارح لا تنصرف إلا لله وحده لا شريك له.

ثم إن العبودية التي نقول حين نقول (إياك نعبد) عبودية لا تكون إلا بمحض هوى النفس، الآن بدأت سورة الفاتحة بالفعل تُحقق معنى الشفاء في نفس المؤمن، أنا لا أعبد الله عز وجل على هوى نفسي، أنا لا أعبد الله على مزاجي، أنا لا أعبد الله عز وجل بناء على آرائي وعلى أقوال الرجال قال فلان وقال غيره ولكني حين أعبده لا تصح مني العبادة إلا أن أعبده وفق ما يأمرني به سبحانه، وهنا تُحرر الخضوع لغيره سبحانه من الأوهام، من الضلالات، من الآراء المنحرفة التي من الممكن أن تقود العبد إلى الضلال. وتأملوا معي الترابط الواضح بين (إياك نعبد) وما تبنيه سورة الفاتحة وتنتقل به من درجات وما هو سؤالي في نهاية السورة (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)) متى يصبح الإنسان من المغضوب عليهم؟ حين يبتعد عن الله عز وجل ويتّبع الهوى ويتخذ الهوى إلهاً له من غير الله عز وجل إلهاً يُعبد، حين يعبد الله رب العالمين وفق آرائه وفق مناهج البشر الضالين منهم في كثير من الأحيان. إذن الآية في قوله (إياك نعبد) حرّرتني من كل ذلك، خلصتني من الضلال، أخذتني بعيداً في الأصل عن طريق الضالين، أخذتني بعيداً عن طريق المغضوب عليهم، فربي لا يغضب على عبد عَبَده وفق ما أمره. (إياك نعبد) حصراً وقصراً وهي إقرار من العبد وتسليم بأني لا أعبدك يا رب إلا وفق ما تأمر به أنت، وأين أجد هذه الأوامر؟ في هذا الكتاب العظيم. ومن هنا كانت الفاتحة تُسلم العبد إلى ما بعدها من سور إلى ما بعدها من أوامر جاءت في سورة البقرة، آل عمران وغيرها من السور. لا يمكن للعبد أن يأتمر بأمر الله من دون أن يعبد، لماذا؟ لأن مبنى العبودية هي الخضوع والاستكانة لأمر الله عز وجل مع المحبة. وهذا الخضوع وتلك الاستكانة لا يمكن أن تتحقق في هذه الأوامر إلا وفق ما أراد الله. إذاً بالفعل سورة الفاتحة فاتحة، بالفعل سورة الفاتحة تفتح العلاقة بيني وبين ربي، أنا لا أخضع لخالق لا أعبده، أنا لا أخضع لأوامر من لا أحبه “إن المحب لمن يحب مطيع”. سورة الفاتحة لما انبنت على علاقتي على الحب والخضوع والتذلل والسكون وتوجيه الإرادة والقلب لواحد لا شريك له وخلصتني من الأرباب المتعددين، هوى النفس، الأرباب الآخرين ما يُعبد من دون الله عز وجل كل هؤلاء أصبحوا لا شيء، وجهت القلب (إياك نعبد).

وهذه لله (إياك نعبد) لله ولكني لا أستطيع هذه العبادة يا رب دون طلب العون منك سبحانك فجاءت معها (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) وجاء التكرار وهو ليس بتكرار (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) في الآية مرتين لماذا؟ حصر، تأكيد معنى التوحيد بناء لمعنى التوحيد الحقيقي الذي بالفعل يريده الله عز وجل من ذاك العبد الذي سيترقى بعد قليل ويصبح مستحقاً لمرتبة (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ). هذه مرتبة هذه منزلة لا يمكن أن أصل إليها فقط بالدعاء المحض دون أخذ بالأسباب، الأسباب علمتني إياها سورة الفاتحة، أنا آخذ بالأسباب، كل آية من الآيات سبب من هذه الأسباب فأنا أُقرّ أن لا عون لي للرقي إلى مراحل العبودية إليك سبحانك دون العون والإذن منك، تخليص للنفس من مرض العُجب، تخليص للنفس من مرض تصور أني أمتلك أن أترقّى بالعبودية بغير معونة الله، وبالتالي الصلاة التي أصليها لله، الركعة التي أركعها لله، السجدة التي أسجدها، شعور الخشوع الذي يستحضرني ويمنّ به ربي عليّ في الصلاة لا يمكن أن يتحقق بدون (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ). والإستعانة من أعظم أعمال القلوب أنا أحتاج إلى معونة الله، الإستعانة من أعظم العبادات من أعظم المنازل ولذا تواصل العلماء في الحديث عن منازل إياك نعبد وإياك نستعين وتعددوا وعدّدوا ونوّعوا فيها لماذا؟ لأنها تنقُّل لأنها ترقّي بالعبد إلى مراحل، الشعور بطلب العون من الله عز وجل يذكّر الإنسان بحجمه الطبيعي، حجمه الحقيقي أنه ضعيف (وخلق الإنسان ضعيفا) أني ضعيف حتى وإن أردت. يعني هَبْ أني قد أردت العبادة إرادة حقيقية من الذي يعينني على تحقيق هذه العبادة؟ هب أني نويت الحج وتأكدت من كل الأعمال والاستعدادات لحج أو لعمرة على سبيل المثال وجهزت الحقائب وأعددت للسفر كل شيء وأخذت بكل الأسباب ولكن ربي سبحانه وتعالى أراد أمراً آخر وأبسط مثال منعني مانع، مرض أو موت أيّ مانع من هذه الموانع. يا ترى أنا بعون مَنْ أستطيع أن أذهب وأحقق هذه العبادة؟ وما يقال عن حج أو عمرة يقال عن صلاة يقال عن صيام يقال عن أفعال الخير وصنائع المعروف المتعددة وتلاوة القرآن وتدبر القرآن وكل ما يتعلق من صغير أو كبير بعلاقتي مع الله عز وجل. وبالتالي أنا لا أتمكن أن أصل إلى شيء دون أن يوصلني إليه الله عز وجل. وأمور الحياة البسيطة أنا لا أستطيع أن أقوم بها إلا بمعونة الله عز وجل ومن هنا كانت (لا حول ولا قوة إلا بالله) من كنوز الجنة، لماذا؟ لأنها هي إقرار مني كعبد أني عبد، أني ضعيف، أني لا أمتلك الوسائل ولا القوة ولا المعونة إلا بك سبحانك. وهنا يأتي السؤال: إذا كنت في أحوال الدنيا العادية أنا لا أستطيع أن أصل إليها إلا بحول الله وقوته فما بالك حين أريد الوصول إلى الله عز وجل؟! أريد بناء علاقة قوية مع الله يا ترى هل أستطيع أن أصل إلى الله دون معونته سبحانه؟ أبداً. إذاً لن يُفتح لي الباب إلا حين تتحقق إرادة ومشيئة الله عز وجل بفتح الباب وهذا لا أستطيع أن أصل إليه إلا بـ(إياك نستعين)، أستعين بالله وفي كلمتين جامعتين حررت الإنسان من أعظم وأخطر الأمراض أمراض الرياء وأمراض العُجب.

أنا لا فضل لي في عبادة أتعبد بها لله سبحانه وتعالى الفضل أولاً له وثانياً له وآخراً له سبحانه لا فضل لي، حين أقوم بعمل أنا أرى فضل الله عليّ بين عيني قبل أن أرى العمل وبالتالي يصغر العمل وإن كان كبيراً. لا تعد الطاعة حتى وإن تعددت وتنوعت وتزايدت وتضاعفت وتكاثرت لا يعد لها حجم حقيقي لأني أدرك كعبد أن مصدر هذه الطاعات والمنعِم بها عليّ هو الله سبحانه فكيف لي أن أمنّ بها عليه وهو رب وأنا عبد؟! وهو منعم وأنا فقير؟! وهو غني عن عبادتي وأنا محتاج وفي غاية الفقر والحاجة إليها؟ من المنعم الحقيقي؟ الله. إذاً حررت القلب من موجبات الضلال وغضب الله عز وجل قبل أن تصل بي إلى الدعاء وطلب الهداية تأملوا معي هذا الترابط العجيب. أنا لا يكفي فقط أن أدعو وأكرر وإن كان الدعاء من أعظم الوسائل (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) وخلّصني من المغضوب عليهم ومن الضالين ولا تجعلني في زمرتهم واجعلني في زمرة من أنعمت عليهم لا أستطيع ذلك بمجرد الدعاء وإن كان ربي قادر على إجابته ولكن أنا كعبد أحتاج أن آخذ بالأسباب ومن أعظم هذه الأسباب أن أترقى كما تربيني سورة الفاتحة. فـ(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) حين أتحقق بمعناها في واقعي لا يبقى للعُجب ولا للرياء ولا لأمراض النفس مكان في ذاك القلب الذي أدرك كيف يعبد الله عز وجل وكيف يوحّده حقاً. وهنا يتخلص من هذا الداء وهنا يصبح العبد بعد أن أخذ بالأسباب التي وضعها ربي عز وجل بين يديه في سورة الفاتحة، أعطاه المفتاح فتح بهذه الأسباب عليه، فتح له الباب، فتح له باب الهداية، هنا آن لذاك العبد أن يرفع يديه بالدعاء ويقول (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) من الذي فتح له الباب؟ ربي سبحانه. فتح له أسباب الهداية في الآيات التي قد سبقت، وفّر له تلك الأسباب ليصبح الطريق أمام ذاك العبد معبّداً لأن يأخذ الله عز وجل بيديه ويهديه فكمّله وتمّمه بالدعاء (إهدنا الصراط المستقيم). والهداية هي أعظم مطلوب وقد يتعجب الإنسان بعد تقديم الثناء وبعد تقديم التوحيد بأشكاله لله سبحانه وأنواعه وبعد الترقّي يا ترى ألا أطلب شيئاً غير الهداية؟ أبداً. أعظم مطلوب تربيني سورة الفاتحة عليه الهداية والهداية. كما نعلم جميعاً على نوعين:

هداية عامة لكل البشر لعبيد ربوبيته هو قال سبحانه (رب العالمين) رب كل أحد رب الكافر ورب المؤمن رب الذي يعصيه كما هو رب الذي يطيعه. الهداية الأولى العامة هداية البيان ربي بيّن ربي أرسل رسلاً أنزل كتباً أعطى كل هذه الدلائل أعطى كل هذه الإشارات للتوصل إليه لسلوك الطريق إليه لبناء العلاقة معه عز وجل هذه هداية عامة.

ولكن الهداية التي أطلب في سورة الفاتحة هداية خاصة هداية لا تكون إلا لعبيد ألوهيته، العبيد من درجة خاصة، العبيد الذين ترقّت بهم سورة الفاتحة (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ). هداية خاصة بمعنى هداية التوفيق هداية التيسير هداية التوفيق للطاعات وأعمال البر هداية التيسير.

أنا أحيانا كبشر قد لا أكون قررت على طاعة معينة ليست في الحسبان لم أعمل لها حساباً لم أرتب برنامجي على أن أقوم بهذه الطاعة وإذا بالطاعة أجدها أمام عيني وفي طريقي وُضِعت في طريقي، السؤال من الذي يسّر تلك الطاعة؟ من الذي أهدى لي تلك الطاعة؟ أحيانا أكون ماراً بمجلس ما من المجالس التي يذكر فيها اسم الله وليس في حسباني ولا في جدول برنامجي أعمالي أن أجلس تلك الجلسة وربي سبحانه يأخذ بيدي ويجلسني في ذاك المجلس. اِعلم إذا ربي سبحانه قدّم لك ذلك اِعلم أنه قد هداك هداية خاصة هداية لا يهديها إلا لأهل عبودية ألوهيته سبحانه، العبيد الذين من درجة خاصة يهديهم هداية التوفيق، هداية لما تتشعب الطرق وتشتبك الأوراق وتختلط الأمور ولا يعرف الإنسان أين يذهب يمنة أو يسرة، يذهب هنا أم هناك تأتي تلك الهداية الخاصة فتنشله من ذاك التردد ومن تلك الحيرة لتأخذ به وتضعه على الموضع الصح. وقد يقول قائل ولِمَ استحق هؤلاء العبيد الذين هم من درجة خاصة هداية التوفيق؟ لِمَ يميز الله بين عباده سبحانه وتعالى وهو العدل في كل شيء؟ هذا التمييز إنما جاء لأن ذلك العبد قد أخذ بالدرجة الأولى بتلك الأسباب التي ذكرت سورة الفاتحة. عبد تعلم كيف يحمد ربه عز وجل، عبد تعلم كيف يتعبد لله وحده لا شريك له فتميز بأن ربي خصّه بالهداية الخاصة فالجزاء من جنس العمل. أخذ هذا العبد بأسباب الهداية العامة وبالإشارات والدلائل اتّبع الرسل فتح الكتاب فتح قلبه ومسامعه وبصره لهذا الكتاب العظيم، اتّبع أوامر الله عز وجل واجتنب نواهيه أفلا يستحق تلك الهداية الخاصة؟! وربي سبحانه يجازي بالإحسان إحساناً ويجازي بمن قد سار على طريقه هداية ونعمة وغفراناً. الجزاء من جنس العمل من اهتدى إلى الله هداه ومن أراد التوفيق لأمر الله عز وجل وصدق في النية معه ربي سبحانه وفّقه وأعانه وأعطاه ومن استعان بالله أعانه ومن استعان بغيره تركه إلى ذاك الغير وأضعفه وأوكله إلى نفسه، ولا خير في عبد يوكله الله إلى نفسه أو إلى غيره سبحانه. إذن هنا تأتي الهداية وهنا يأتي طلب الهداية وهنا يأتي معنى عظمة نعمة الهداية إذا ربي سبحانه أهدى الإنسان هذه الهداية لا عليه ما فاته من الدنيا. (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) وتدبروا معي كيف أن كلمة اهدنا جاءت بصيغة الجمع لتذكر الإنسان أنك فرد صحيح ولكنك فرد في جماعة وأن هذا الأمر متعلق بمشيئته سبحانه، أنا فرد صحيح أحب الخير لنفسي باعتبار البشرية وحدود البشرية ولكنك أنت عبد يريد ربك أن يربيك والعبد الذي يريد الله أن يربيه عبد غير أناني، عبد معطاء، عبد يطلب الهداية لنفسه ولغيره ولذا جاءت (إهدنا) بصيغة الجمع ولم تأتي بصيغة المفرد ولا تُقبل من العبد حين يطلبها على الإفراد لأنك تعبده كما يريد لا تعبده كما أنت تريد.

قد يريد العبد الهداية والخير لنفسه فقط بحكم الشُحّ وحكم الأنانية ولكن سورة الفاتحة التي تعالج وتشفي ما في القلوب تعالج مرض الشُحّ وتنتزعه من القلوب في كلمة واحدة (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) كلها جاءت بصيغة الجمع. ثم تممت فقال في طلب الهداية (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) ليخرج الإنسان من داعية الهوى هوى النفس، ليخرج من داعية البخل والشح بالخير على غيره. وأيُّ صراط ذاك الذي أدعو الله أن يهديني إليه؟ وهل الصراط المستقيم هو شيء متعلق فقط بالآخرة؟ أبداً، من لم يسر على الصراط المستقيم في الدنيا لن يصل إلى شيء في الآخرة. الصراط المستقيم طريق واضح بدايته هنا ونهايته هناك في الفردوس الأعلى مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. صراط مستقيم واضح المعالم ربي سبحانه لم يتركني بدون إشارات في ذاك الصراط إنه واضح تمام الوضوح ولكن العجيب في ذلك الصراط أني صحيح أنا أدخل ومرة أخرى نتذكر أنا لا أدخل الصراط بقدراتي، أنا لا أدخل الصراط بإرادتي، أنا أستعين بالله على دخول هذا الصراط وأطلب الهداية والعون واسم الله على الدخول في هذا الصراط. ثم تذكرني الآية في نفس الآية (صراط الذين أنعمت عليهم مرتين، تكررت كلمة (الصراط) في سورة الفاتحة (إهدنا الصراط) ثم تأتي (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) القضية في غاية الأهمية ومن الذي يُنعم؟ ومن الذي يُغدق على العبد ليسير في الصراط المستقيم؟ الله مرة أخرى. العلاقة التي تبنيها سورة الفاتحة العلاقة بين الله سبحانه وتعالى وبين عبيده علاقة عجيبة علاقة تُشعر المؤمن بأن كل حركة تقوم بها الفضل فيها لله سبحانه. (أنعمت) أنت الذي تُنعم لست أنا باختيار بعض الناس قد يهيأ له للحظة أن يمنّ على الله سبحانه وتعالى أنا أصلي وأصوم وأفعل الخير، من الذي يمنّ؟! (أنعمت) أنت الذي تنعم بالطاعة (أنعمت عليهم). وتضع الإنسان سورة الفاتحة في هذه الآية على المحك النعمة الحقيقية ليست في كثرة مال ولا في فتح الدنيا من كل أبوابها على الإنسان، النعمة الحقيقية هي الهداية إلى الصراط المستقيم أنا قد أمتلك أموالاً وجاهاً ومناصب ونعماً دنيوية متعددة فتكون هي مصدر الضلال والغضب من الله عز وجل، إذاً أين النعمة في هذه؟ هذه نقمة ليست نعمة. النعمة الحقيقية هي الهداية وهي النعمة الكبرى لأنها تحوّل كل الأشياء التي يهبني ربي عز وجل إلى نعم متعددة تصب في تلك النعمة. ثم إن ذاك الصراط الذي نسير عليه لنا فيه رفقة لنا فيه صحبة صالحة (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) أنا عندي رفقة ورفقاء الدرب غالبيتهم أنا لا أراهم، لم أرهم، لم ألتقِ بهم من النبيين والصديقين والشهداء سبقوني في ذاك الطريق، الطريق آمن، الطريق مأهول، الطريق ليس طريقاً غريباً الطريق ليس طريقاً موحشاً يمكن فيه صعوبات صحيح فيه بعض العثرات فيه بعض الأيحجار، فيه بعض الصخور ولكن الصخور لم توضع في ذلك الطريق لسد علي الطريق أبداً، الصخور والصعوبات وضعت لأرتقي عليها فأواصل الطريق وهذا معنى عظيم في مفهو الصراط المستقيم.

السورة في سورة الفاتحة تفتح على الإنسان في هذه الآية شيئاً عجيباً تخلصه من الشعور بالغربة وخاصة غربة آخر الزمان حين يستشعر الإنسان أنه غريب في وسط جموع من الناس قد تختلف معه في الآراء في الأفعال في التصرفات قد يخيل إليه في بعض الأحيان فعلاً أنه غريب غريب بكل معاني الغربة، غريب في ما يفعله، غريب في تصوراته ومعتقداته، غريب حين ينأى عن الدنيا بمعنى الترفع عن دناياها، غريب بهذه التصورات، فالكل متكالب على الدنيا على سبيل المثال ولكن هذه الغربة تبددها سورة الفاتحة حين تضع في حسبان المؤمن أنك مع الذين أنعمت عليهم وأن هذا يا مؤمن هو مطلوبك في الأصل وأنك تدعو ليل نهار بهذا الدعاء (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ). إذاً حين تتفرق سبل الدنيا لا تأسف عليها فقد تكون تلك السبل طريق الضالين أو ربما طريق من غضب الله عليهم والضلال والغضب بينهما تناسب. والآية في سورة الفاتحة وضعت علاجاً للضلال وللغضب في آياتها واحدة تلو الأخرى خلّصت الإنسان من الضلال، الضلال البعد عن الله عز وجل بكل أشكاله وأنواعه ولا يمكن أن يأتي الضلال لأنه إنتكاسة إلا باتباع منهج غير منهج الله سبحانه. ولما جاءت (إياك نعبد) جعلتني فعلاً أبتعد في حصانة، في درع، في وقاية من الضلال. لا يمكن أن يأتي الضلال وأنا أعبد الله حق العبادة، الضلال لا يأتي إلا حين أتخذ معبوداً من دون الله وغالب من يُعبد من دون الله هو الهوى، النفس. الضلال وكل الأمراض المتشعبة المتنوعة من حسد من حقد من تنافس على الدنيا من أشياء متنوعة من أشكال الضلال لا يمكن أن تأتي إلا من قبيل النفس فقط واتباع الهوى خلّصتني سورة الفاتحة منها.

ثم ختمت لي بموضوع (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) لتسدل الستار على جميع الأنواع والأفعال التي يمكن أن تقود وتأخذ الإنسان بعيداً عن منهج الله عز وجل وكأن ذاك الإنسان واقفاً على ما يغضب الله عز وجل إن كان بعيداً عن ذاك المنهج. الأعمال والأفعال التي يقع فيها الإنسان وتستجلب غضب الله عز وجل لا يمكن أن تكون إلا حين يبتعد عن المنهج ولذا ربي عز وجل حذّر في آيات متعددة من أفعال اليهود ووصف بالوصف الدقيق في بعض الأحيان (غضِب الله عليهم) لماذا؟ لو أردنا أن نلخص الأفعال كاملة لوجدناها في البعد عن منهج الله عز وجل. العبد أيّاً كان حين لا يحقق معنى إياك نعبد في واقع حياته ويعبد أشياء متعددة ويعبد هوى النفس ويبتعد عن الطريق قطعاً قد وقع في ضلال مستجلباً غضب الله عز وجل. الترابط بين الضلال والغضب واضح، من ضلّ عن منهج الله غضب الله عليه ومن عبد الله حق عبادته كما أوضحت سورة الفاتحة لا يمكن أن يكون ضالاً أو مغضوباً عليه.

إذاً سورة الفاتحة بالفعل تشفي قلب المؤمن من كل تلك الأمراض، تشفي قلب المؤمن وتحصّنه من أمراض النفس، من أخطارها التي هي أخطر بكثير من أخطار أو أمراض البدن. الروح حين ترتقي وتقوى بهذه المعاني العظيمة ببساطة شديدة تستطيع أن تواجه أصعب الأمراض البدنية ولذا ابن القيم عنده لفتة جميلة حين يقول أنه كان يتداوى بسورة الفاتحة، تقوي اليقين بالله عز وجل أنه لن يصيبك إلا ما كتب الله لك ليأتي اليوم العلم الحديث ويكشف أن من أكثر الأشياء التي تقوي مناعة المريض المريض أمراض بدنية ضد الأمراض أن تقوي جانب الإرادة والتفاؤل لديه، الطاقة الإيجابية الحقيقية فيه. سورة الفاتحة تعطيني هذا المعنى حين أقول وأردد (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) حين أكون مستحضراً لهذه المعاني مقرراً لها بقلبي وفعلي ولساني أن الرب الذي يصرّفني في أموري الرب الذي يكتب لي المرض التعب الشقاء أحياناً الأشياء التي لا تروق لي رب رحمن رب رحيم وهذه معاني عظيمة تحققها سورة الفاتحة لتفتح لي طبيعة العلاقة الجديدة بيني وبين الله عز وجل.

بهذه المعاني العظيمة استحقت هذه السورة أن تكون أعظم سورة في كتاب الله. بهذه المعاني وهذه التربية وهذه المراحل التي تنقّلت بها سورة الفاتحة في تربية الإنسان المؤمن ليصبح عبداً حقيقياً لله مستحقاً لهدايته الهداية الخاصة مستحقاً لرحمته الرحمة الخاصة القريبة من عباده المحسنين، بهذه المعاني استحقت أن تكون فاتحة في كل شيء، فاتحة الكتاب الذي هو منهج الذي لا يمكن أن أدخل عليه في علاقتي دون أن أدرك طبيعة العلاقة بيني وبين الله عز وجل. ومن معجزات هذا الكتاب العظيم أن سورة البقرة التي جاءت بعد سورة الفاتحة جاءت محققة للإستجابة لهذا الدعاء، أنا دعوت قبل قليل قلت (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) اُنظروا لقوله عز وجل (الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) البقرة) تريد الهداية؟ تطلب الهداية؟ لا يكفي فقط الدعاء، عليك كمؤمن كعبد أن تسير وفق المنهج الذي جعله ربي هداية عليك الأخذ بالأسباب. سورة الفاتحة تحققت بهذه المعاني.

ربي سبحانه قادر على أن يهديني وقادر على أن يرحمني ولكن أنا عليّ كعبد أن أقوم بموجبات ومقتضيات هذه العبودية وأن أترقى فيها واحدة واحدة كما أمرني فيها ربي عز وجل. وكلما ازداد العبد عبودية لله عز وجل واحساناً في ترقّيه في منازل تلك العبودية كما بنتها سورة الفاتحة كلما زادت المعونة من الله له سبحانه، كلما زاد ربي سبحانه عطاء له بالهداية الخاصة هداية التوفيق. وربما هذا يكون معنى من معاني الحديث الصحيح الذي جاء فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان جالساً وكان عنده جبريل إذ سمع نقيضاً فوقه فرفع جبريل بصره إلى السماء فقال: هذا باب قد فُتح من السماء ما فتح قطّ فنزل منه ملك فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أبشِر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لم تقرأ منهما حرفاً إلا أُعطيته.

إذاً هي سورة الفاتحة بكل عطاءاتها، بكل ذلك النور الذي يعطيه ربي عز وجل للمؤمن لكي يهديه لكي يوضّح له الطريق الذي جاء بيانه في هذا الكتاب العظيم.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يفتح علينا في هذا الكتاب العظيم وأن يجعل الفاتحة فاتحة لنا لكل خير إنه سميع مجيب الدعاء والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *