الحلقة السادسة (من الآية التاسعة والثلاثين حتى نهاية السورة)
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله حمد الشاكرين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وقفنا في تدبرنا في سورة الشورى المباركة عند تلك الصفات العظيمة التي يتصف بها المؤمنون: ﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ [الشورى: 38]. وقلنا إن القرآن العظيم في هذه السورة المباركة يعالج ويستأصل إشكالية الاستبداد بالرأي والتسلط وتضخم الأنا عند الإنسان فردًا، وَمِنْ ثَمَّ مجتمعًا، وجماعةً، وأمةً.
فالاستبداد (كإشكاليَّةٍ خَطِرَةٍ) أول ما يبدأ يبدأ في الفرد، ولكنه لا يتنامى عند الفرد إلا إذا وجدت معه تلك البيئة التي تؤهله أن يتنامى ويتزايد ويترسخ ويتأصل، وتغض تلك البيئة الطرف عن تلك الإشكاليَّةِ الْخَطِرَةِ التي قد تبدأ وتظهر بوادرها منذ الصغر، ولكن الإنسان والأسرة والمدرسة والمجتمع الذين لا يلتفتون إلى هذه الظاهرة الخطرة يساعدون (بشكل أو بآخر) في تناميها وترسيخها.
فإذا ما تمكن ذلك الإنسان المستبد برأيه من أن يكون في وضع القرار، وفي مناصب اتخاذ القرار، تراه يتحول إلى طاغية شيئًا فشيئًا، شيئًا فشيئًا. يمارس الظلم والطغيان على مختلِفِ المستويات بحسب مكانه وموقعه ولا يجد من يقف في وجهه، ولا يجد من ينصح له، ولا يجد من يجرؤ أن يوضح له الخطأ من الصواب، فيرى يومًا بعد يوم أن رأيه الصواب ورأي الآخرين خطأ على طول الخط، وهذا ما يكرس ظاهرة الاستبداد والبغي في المجتمعات. من هنا انتقلت الآيات الكريمة إلى قوله عز وجل في الحديث عن مواصفات المؤمنين، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ﴾ [الشورى: 39]، وتدبروا في دقة المفردات القرآنية والتناسب بينها. (أصابهم البغي)، و(هم ينتصرون). هؤلاء من المؤمنين الذين استجابوا لربهم؛ فهم ليسوا أناسًا أو بشرًا متقاعسين عن القيام بأداء الواجب، وليسوا أناسًا ضعفاء الشخصيَّةِ، وليسوا أناسًا لا حيلة لهم، وليسوا بشرًا مسلوبي الإرادة: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ﴾ [الشورى: 39]، والقرآن هنا حين يتحدث عن البغي ويقدم إشكاليَّةَ البغي ويضعها على الطاولة للمعالجة؛ لتشريحها وتفكيكها وبيان جذورها -يأتي بها بعد الحديث عن الشورى مباشرة!
بمعنى آخر: إنك إما أن تعلم الأفراد أن يمارسوا الشورى في حياتهم في كل المستويات المختلفة، وإما فستكون النتيجة أن يصابوا بالبغي، وتدبروا في الترابط: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ [الشورى: من الآية 38]، ثم بعدها مباشرة: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ﴾ [الشورى: 39]. فإذا لم تُمارَسِ الشُّورى، ولم تكن ثمة أفكار وقيم ومؤسسات تحمي هذه الشورى، فماذا ستكون النتيجة؟ إن البغي سيمتد وسيصيب الناس، وممن سيصيبهم البغي هم الذين آمنوا.
وتدبروا في ترابط القرآن، وتدبروا كيف يبني القرآن مجتمعًا، وأمة، ومؤسساتٍ قائمةً على العدل والإنصاف. الشورى مبدأ أصيل، والشورى ليست قضية يُسَاوَمُ عليها، لا! الشورى حق، والشورى واجب، فهي حق وواجب في الوقت نفسه، والواجب والحق بالذات لا بُدَّ أن يفهم في إطاره وسياقه حتى لا يتم التنازل عنه أو لا يُهَيَّأُ للآخرين أنه يمكن أن يتنازل عن حقهم في الشورى وفي التشاور في مختلف المستويات. ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ﴾ [الشورى: 39]، لماذا سيصيبهم البغي في غياب الشورى ومؤسساتها في المجتمع؟ والقرآن حين يقول: ﴿أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ﴾، تدبروا في اللفظة، بمعنى أن هذا البغي الذي هو فساد، وظلم، واعتداء بقصد ولغاية ولذلك سمي بغيًا.
القرآن يأتي بمفردات مختلفة، يأتي بمفردة الظلم، ويأتي بمفردة الاعتداء، ويأتي بمفردة البغي. البغي أعلاها؛ لِأَنَّهُ بقصد الإفساد في المجتمع. فالإنسان قد يقع في ظلم، والظلم ببساطة شديدة بتعريفه ومفهومه المبسط: أنك لا تعطي إنسانًا حقه. هذا ظلم ولكن هذا الظلم الذي نقول عنه ممكن أن يقع بدون قصد. أنت من الممكن أن تغفل عن إعطاء إنسان حقه، هذا ممكن لسبب أو لآخر، ولكن حين يكون بقصد الاعتداء على حقوق الآخرين هنا يكون بغيًا، فيه ظلم، وفيه عدوان، وفيه اعتداء، وفيه قصد للإفساد والظلم. ومن هنا يتحول إلى إشكالية البغي التي هي أعلى، وأقسى، وأشد، وأخطر!
فحين يُصَابُ الناسُ بالظلم فمعنى ذلك أن مستويات البغي في المجتمع قد وصلت إلى مؤشراتٍ خَطِرَةٍ جِدًّا فأصاب هؤلاء البغي. يعني أن البغي استشرى فأصاب ممن أصاب هؤلاء من المؤمنين، فماذا يكون موقفهم؟ قال إذا هم ينتصرون. المؤمن ليس سلبيَّ الإرادة، والمؤمن ليس إنسانًا سلبيًّا مكتوف الأيدي يرى الظلم والبغي أمام عينيه ولا يحرك ساكنًا، لماذا؟ لِأَنَّ البغي لا بُدَّ من مواجهته، حتى لو استشرى خطره، حتى لو استفحل أمره فلا بد أن يُوَاجَهَ، ولا بُدَّ من أن يكون ثمة تدافع بين الحق والباطل، وبين الخير والشر، وبين الباطل والعدل!
لا بُدَّ أن يكون ثمة تدافع بين البغي والعدل وإقامة الإنصاف وتحقيقه بين الناس. إذا هم ينتصرون، ينتصرون لمن؟ ينتصرون للحق، وليس ينتصرون لأنفسهم. يوجد فرق شاسع بين أن يقوم الإنسان ليسترد فقط حقه وهذا المشروع، وبين أن يقوم لأجل أن يسترد حقه وكذلك حقوق الآخرين. الإنسان الذي لا يعيش لذاته فحسب، الإنسان الذي لا ينزعج ويتضايق لأجل سلب حقوقه فحسب، ولكن يشعر بآلام الآخرين حين تُسْلَبُ حقوقُهم. يوجد فارق شاسع، ولذلك المفردة القرآنية والآية واضحة ودقيقة في الكلمات والمفردات. قال: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ [الشورى: من الآية 40] بمعنى: بدون اعتداء تأخذ حقك، ولكنك لا تأخذ زيادة عن ذلك الحق حتى لا يصبح اعتداء: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا﴾. قال: ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ [الشورى: من الآية 40]، وتدبروا معي في هذه الآيات!
الأولى أثنت عليهم، وقالت: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ﴾ [الشورى: 39]، ولكن بعد ذلك قال: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ [الشورى: 40]، لماذا القرآن بعد الانتصار للبغي، وإقامة العدل، والحض على عدم الاعتداء في أخذ الحق الذي هو لك، لماذا يأتي بمنظومة العفو؟ عفا وأصلح ويجعل أجره على الله وليس على أحد من الناس. لماذا كل هذا؟
يوجد فارق شاسع بين المستويين، ولذلك فكثير من الناس اليوم حين يقرأ هذه الآيات تختلط عليه الأوراق. يوجد فارق شاسع بين أن تتنازل عن حقك الشخصي كفرد وبين أن يكون البغي قد انتشر في مجتمع من المجتمعات ثم لا تنتصر له. ففي حقك الشخصي يقول القرآن: ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ [الشورى: من الآية 40]؛ لِأَنَّ القضية أصبحت شخصية بين فردين، ولكن لما تصبح القضية قضية بغي شاع في المجتمع، فهذا حق المجتمع، وهذا لا ينبغي أن يتم التنازل عنه.
تدبروا في التناسب في الآيتين. لا تعارض بين الآيتين على الإطلاق. الأولى تحدثت عن حق المجتمع، فهؤلاء من المؤمنين حين يرون البغي قد استشرى في المجتمع: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ﴾ [الشورى: 39]. ينتصرون ليس لأجل أنفسهم فقط أو نيل حقوقهم الشخصية، لا! وإنما ينتصرون لأجل الحق العام ولأجل الدفاع عن الحق العام!
وعلى المستوى الشخصي، قال تعالى: ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ [الشورى: من الآية 40]، ولكن أي عفو هذا الذي يكلمني عنه القرآن؟ العفو عند المقدرة، والعفو في الموقف الذي تستطيع أن تسترد فيه حقك، ولكنك تعفو وتصلح، هنا يكون أجرك على الله، وتدبروا في هذه المعاني العظيمة. بمعنى آخر: لا ينبغي أن تقفز إلى قضية العفو والإصلاح وأنت ترى أن الحقوق منتهكة في المجتمع، فلا بُدَّ أولًا من أن تقيم العدل والحق، وبعد العدل والحق يأتي العفو والإصلاح.
تدبروا في هذا الترابط العجيب، وفي ذاك التناغم والاتساق في آيات القرآن ومفرداته، على المستوى التطبيقي والعملي وليس فقط على المستوى المفاهيمي. شيء عجيب! على سبيل المثال في قضية القصاص بين الناس، شخص قتل شخصًا معينًا، فأولياء المقتول لهم الحق في القصاص، أو الدية، أو العفو. ولكن هذا متى يكون؟ بعد أن يتمكنوا من القاتل. بمعنى آخر: بعد أن يدرك القاتل ويدرك المجتمع أن الحق قد تحقق، وأن العدالة قد قامت، وأن الأسس التي ينبني عليها التعامل في المجتمع قائمة على العدل والإنصاف وعدم سلب الحقوق وعدم الاعتداء على حقوق الآخرين. حينها يأتي الحق الشخصي لأولياء المقتول، إما بأخذ الدية، وإما بالتنازل والعفو والإصلاح: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾ [البقرة: من الآية 178]. قضية مختلفة، لا خلط بين الأمور، إذ حق المجتمع لا ينبغي التنازل عنه، لماذا لا ينبغي التنازل؟ حتى تُحْفَظَ الحقوقُ التي قال عنها القرآن قبل آيات في نفس السورة: ﴿اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ﴾ [الشورى: من الآية 17]، وتدبروا في الآيات والترابط بينها، وهنا قال تعالى: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ [الشورى: من الآية 40] بمعنى أنك حين تريد أن تقتص وتأخذ حقك فلا تعتدِ في أخذ الحق.
تدبروا في القرآن كيف يبني العلاقة على العدل والإنصاف، وكيف يبني ويؤسس، وكيف يعلم أفراد المجتمع أن يقيموا الحق والعدل في قلوبهم وفي أنفسهم وفي حياتهم، وأن يجعلوا من أنفسهم قضاة على أنفسهم. يا لها من عدالة! من هنا قال تعالى: ﴿إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ [الشورى: من الآية 40]، هنا ما قال عن البغي، قال عن الظلم، لماذا؟ لِأَنَّ الظلم أنك لا تعطي صاحب الحق حقه، أو تزيد في أخذ الحق الذي هو لك بمعنى أنك تعتدي. قال: ﴿إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ [الشورى: من الآية 40]. من هم هنا الظالمون؟ أولئك الذين حين يأخذون حقوقهم، يعتدون كذلك ويأخذون زيادة على حقوقهم. لا بُدَّ من المثلية في أداء الحقوق، ولا بُدَّ من المثلية في العدل وفي الإنصاف وفي إعطاء الحقوق لأصحابها. قال تعالى: ﴿وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ﴾ [الشورى: 41]، إنسان يريد أن ينتصر بعد أن ظُلِمَ، هذا ما عليه من سبيل. لماذا؟ هذا على المستوى الفردي هنا. لماذا؟ لِأَنَّ القرآن يتعامل مع مختلِفِ النفسيَّاتِ والمستويات.
القرآن ما جاء لأجل أن يؤسس مجتمعًا مثاليًّا، لا! جاء يريد أن يؤسس مجتمعًا واقعيًّا يقوم على العدل والإنصاف. فهناك نفوس لا تستطيع أن تتنازل عن حقها، حين يُؤْخَذُ منها حق تريد أن تأخذه، وهذا من حقها، والقرآن يحترم تمامًا هذه النفسية. فهذا ينتصر بعد ظلمه، ويريد حقه، ولا يريد أن يتنازل عن حقه. هذا ما عليه من سبيل ولا عليه إثم ولا عليه حرج.
وهناك من يريد الأفضل والأعلى، ويريد الأجر على الله (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى). والناس درجات يتفاوتون، وبعض النفوس تتوق إلى العفو والإصلاح الذي يستجلب الأجر من الله (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى)، ومن الممكن أن يعفو. وفي كل الأحوال فالمهم ألا يكون هناك اعتداء. وتدبروا في القرآن كيف يعالج النفوس ويخاطب النفوس على اختلافها، واختلاف ما تفكر فيه، واختلاف ما تشعر به. قال تعالى: ﴿إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [الشورى: 42]. السبيل والإثم والعقوبة على من؟ على أولئك الذين يظلمون.
تدبروا في القرآن كيف يأتي بـ (يظلمون) و(يبغون)؛ لِأَنَّ هناك فرق شاسع بين الظلم والبغي. فالظلم ألا يعطي صاحب حق حقه، أو حين يأخذ حقه من الآخرين فهو يزيد على الحق الذي أُخِذَ منه، فهذا هو الظلم. ولكن البغي: اعتداء على حقوق الآخرين بقصد الإفساد، فهو أعلى. ولذلك قال: ﴿وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ﴾ [الشورى: من الآية 42]، تدبروا في اللفظة. الظلم حين لا يعالج يتحول إلى بغي، والبغي أشد خطورة في المجتمع من الظلم، ولذلك جاء في (صحيح مسلم) عَنْ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِيمَا رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: «يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلَا تَظَالَمُوا…».
قال تعالى: ﴿إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [الشورى: 42] فليس من حقك أن تظلم، وليس من حقك أن تحول هذا العالم الذي نعيش فيه إلى غابة صراع ولا إلى حَلْبَةِ صراع، ينتصر فيه القوي. لا! لِأَنَّ هناك فارقًا بين مجتمع يعيش بشريعة الغاب وبين مجتمع يعيش بشرعة الله سبحانه، والقرآن أنزل منهجًا حتى يعيش الناس بمجتمعات بشرع الله وليس بشرع الغاب، القوي يأكل الضعيف، والغني يسلب الحقوق من الفقير، فيزداد الغني غِنًى ويزداد الفقير فقرًا، ويزداد الظالم ظلمًا ويزداد المظلوم مظلمةً وسلبًا لحقوقه. هذا لا يقبل به القرآن؛ ولذلك توعد عليه فقال: ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [الشورى: من الآية 42].
ثم قال بعد ذلك: ﴿وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ [الشورى: 43]. صبر وغفران، لماذا الصبر والمغفرة؟ على مستوى الحقوق الفردية كما ذكرنا قبل قليل. صبر وغفر، وعفا وأصلح، هذه على المستويات الفردية. لماذا لا يحق على مستوى المجتمع أو مستوى الحق العام؟ لِأَنَّكَ حين تتنازل على مستوى الحق العام فأنت في واقع الأمر تعزز فكرة الاعتداء على حقوق الآخرين؛ ولذلك لا بد من الأخذ على يد الظالم، ولا بد من رد الحقوق إلى أصحابها، ثم بعد ذلك إذا أراد صاحب الحق أن يعفوَ ويتنازلَ ويغفرَ فهذا شأنه، ولكن أنت كمجتمع، أنت كسلطة لا بُدَّ أن تُحِقَّ الحق وَتُبْطِلَ الباطل، وتعطي صاحب الحق حقه، وتأخذ لصاحب الحق الذي سُلِبَ حقه من الظالم، ولا بُدَّ أن تعطيه جزاءه الذي ينتظره.
يوجد فرق شاسع بين الأمرين. لماذا بين الأفراد يريد القرآن أن يُحْيِيَ وَيُشِيعَ رُوحَ التسامح والصبر والمغفرة؟ لِأَنَّ على المستوى الفردي نحن بحاجة إلى هذه القيم والمبادئ. ونحن بحاجة إلى التسامح فيما بيننا، كأفراد. ولكن حين يصل أو تصل القضايا بيننا والعلاقات والحقوق بيننا عند القضاء والسلطة القضائية والتشريعية فالأمر يختلف، المستوى أصبح مختلفًا. على المستوى الفردي قبل أن يصل إلى السلطة التشريعية والقضائية، تستطيع أن تصبر وتغفر وتصلح وتعفو فيما بين الناس، ولكن متى ما وصل إلى القضاء فلا بُدَّ من إقامة الحق والعدل وإعادة الحقوق إلى أصحابها.
تدبروا في القرآن كيف يبني مجتمعًا. أنت من الممكن أن يحدث بينك وبين أخيك أو ابن عمك أو جيرانك نزاع وخصام، ثم لا ترغب في أن تصل به إلى ساحات المحاكم، من الممكن أن تعفوَ وتصلحَ وتنهيَ الموضوع، وهنا العفو والإصلاح أحق، وهنا العفو والإصلاح أولى للإبقاء على المودة في العلاقات الإنسانية والاجتماعية خاصة في العلاقات بين الأقارب، ولكن حين يصل الأمر إلى القضاء فلا بُدَّ من إحقاق العدل. هنا لا يمكن أن يأتي القاضي ويقول لك: لماذا لا تعفو وينتهي الموضوع إلا بعد أن يرد الحق لك. فإذا كان ثمة حق تستطيع أن تتنازل عنه فالأمر إليك، تتنازل أو تعفو وتصلح، ولكن هو كسلطة قضائية فلا بُدَّ أن يرد الحق إليك، ويعطي كل ذي حق حقه حتى يدرك الناس في المجتمع أن هناك سلطة تحمي المظلوم، وأن هناك سلطة تأخذ على يد الظالم، وأن هناك سلطة ترد الحقوق إلى أصحابها؛ ولذلك يقول الله (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى) بعد ذلك: ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ﴾ [الشورى: 44] ما دخل الضلال هنا؟ لِأَنَّ الظلم والضلال مقترنان؛ فكل ظلم ضلال. ولا يمكن أن يقع ويشيع الظلم في مجتمع إلا ويحل فيه الضلال والتخبط والحيرة والقلق. قال تعالى: ﴿وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ﴾ [الشورى: من الآية 44].
تدبروا في الربط، ففي بداية الآية قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ﴾ [الشورى: من الآية 44]، وبعدها قال تعالى: ﴿وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ﴾ [الشورى: من الآية 44]، للترابط والتلازم بين الظلم والضلال، ولذلك الظلم ظلمات يوم القيامة. ومن أخطر الأشياء التي تشيع في مجتمع من المجتمعات الظلم!
وأنت لو نظرت إلى مجتمعاتنا المعاصرة، المسلمة، ترى أن كثيرًا من الممارسات القائمة على الظلم والاعتداء على حقوق الآخرين، قائمة بين الناس. يصلون ويصومون ومن الممكن حتى أن يتصدقوا، ولكنهم يتظالمون فيما بينهم، فلا ينكر أحد على الظالم ظلمه، خشيةً منه! وخوفًا منه! ومجاملةً له! والظلم ليس فقط في مجال العلاقات المالية، فالظلم حدوده واسعة، وحدوده مختلفة ومتباينة ومتعددة. ومن الممكن أن يكون شكل من أشكال الظلم بالكلام! من الممكن بإلقاء التهم على الآخرين والتقول عليهم بما ليس فيهم! توجد عشرات الأشكال والصور من الظلم وليس صورة واحدة، وهنا تكمن الخطورة. فلا بُدَّ للناس أن يدركوا خطورة الظلم في مجتمعاتهم، ومؤسساتهم، وأسرهم، وبيوتهم.
أحيانًا قد يمارس الأب والأم الظلم على أبنائهم من دون أن يلتفتا إليه، يحكم الوالد لابن على آخر من دون أن يستمع للطرفين، وهنا يكون الوالد قد وقع في ظلم؛ لِأَنَّ استماعك لطرف دون أن تستمع للآخر، وتحكم دون بينة، وتفصل دون أن تستمع إلى الحق. توجد إشكاليات خَطِرَةٌ وكبيرة جِدًّا في أسرنا وبيوتنا، يوجد تظالم حقيقي، ويوجد ظلم حقيقي واقع، ولذلك الآيات العظيمة في سورة الشورى ستأتي بعد ذلك في الحديث عن أي شيء؟ عن: ﴿يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ﴾ [الشورى: من الآية 49]، ما علاقة كل هذا بقضية الظلم والبغي؟ لِأَنَّ كثيرًا من المجتمعات، وخاصة المجتمع المكي حينها، تعارف على ظلم الإناث. وما كان يعرف للأنثى حقًّا، لا في ميراث، ولا في زاوج، ولا في أسرة ولا في غيرها، وحين يتعارف الناس على الظلم فيما بينهم حتى يصبح الظلم وكأنه عرف سائد بين الناس لا ينكره عاقل، ويرضى به العقلاء من الناس ويسكتون عنه؛ فهذه كارثه بكل المقاييس، وهذا تأسيس للاستكبار والاستعلاء في الأرض والعدوان والبغي.
قال تعالى: ﴿وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ﴾ [الشورى: من الآية 45] لماذا القرآن يأتي بمواقف يوم القيامة والحساب هنا؟ حتى يقدم رسالة واضحة: أن يا ظالم لك يوم كما يقال، قد تفر من محاكم الدنيا ولا تجد من يوقفك عند حدك ويحاسبك على الظلم الذي ظلمت. ظلمت الناس، وقمت بالاعتداء على حقوقهم وربما أعراضهم وربما أموالهم، وسفكت، وفعلت، وأفقرت، وهجرت، ودمرت، وخربت. وعليك أن تعلم وتدرك تمامًا أن الله (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى) قادر على كل شيء، وأن الله (جَلَّ شَأْنُهُ) لا بُدَّ من أن يحاسبك على ما أنت فيه. قال تعالى: ﴿وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ﴾ [الشورى: من الآية 45]، لماذا يصف حالهم بالذل؟ لِأَنَّهُمْ طالما أذلوا الناس بظلمهم في الحياة الدنيا. الظالم من طبيعته إذلال غيره، وأنت ترى في بعض المؤسسات أو الشركات والمجتمعات، مديرًا، أو رئيسًا، أو مسئولَ عمل، يبخس الناس أو العمال حقوقهم فلا يعطيهم حقوقهم! ويذلهم لأجل أن ينالوا حقًّا لا بُدَّ أن ينالوه، وعلى الرغم من كل ذلك يتفنن في إذلال الآخرين لأجل أن يعطيهم جزءًا من حقوقهم، وليس حقوقهم كاملة، كيف يكون مصيره؟
قال تعالى: ﴿وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ﴾ [الشورى: 45] فتدبروا في الترابط. الخاسر الحقيقي الذي خسر نفسه وأهله، وكيف يخسر الإنسان نفسه وأهله؟ حين يبيع آخرته بعرض من الدنيا، وحين يبيع آخرته بمال زائل، وحين يبيع آخرته بتجارة كاسدة، وحين يبيع آخرته بالاقتيات على دماء الناس وأقواتهم، وحين يبيع آخرته لأجل أن يربح ملاليم أو ملايين من الدنانير يعيش بها ويتمتع بها في الحياة الدنيا، ولكنه لا يدرك أنه قد خسر معها كل شيء.
تدبروا في القرآن كيف يقدم مفهوم الخسارة الحقيقية. الكثير من الناس اليوم يتكلمون عن الخسارة، خسرت شركات الطيران على إثر فيروس كورونا ملايين، وخسرت الشركات والأسواق العالمية والبورصات ملايين، وهذه خسرت مليارات، ويتحسر الناس، وحق لهم، على ما خسروا من أموال، ولكن العجب العجاب ألا يتحسر الناس على ما خسروا من قيمهم ومبادئهم وإنسانيتهم ودينهم، ولا يدركون حجم خسارتهم إلى أن يقفوا يوم العرض على الله سبحانه ليروا أنهم فعلًا خسروا كل شيء، وأن تلك الدنيا التي كانوا يلهثون وراءها والأموال التي كانوا يجمعونها، ويدفعون لأجلها كل قيمة وكل خلق وكل مبدأ، ويساومون على العدل ويداهنون وينافقون ويجاملون، هذه هي الخسارة الحقيقية، ما كانت تساوي شيئًا، خسروا كل شيء، ما خسروا فقط أنفسهم. قال: ﴿وَأَهْلِيهِمْ﴾؛ لِأَنَّ غالب الظالمين حين يقومون بظلمهم ويسرقون، ويأخذون من أموال الضعفاء والآخرين وحقوقهم من أجل أن يعيشوا حياة مرفهة هم وأبناؤهم وأهلوهم وأسرهم ومن كان معهم، لأجل أن يعيش كل هؤلاء، ولكن ما قيمة أن تعيش متمتعًا بالدنيا، منعمًا بكل نعيم الدنيا، وأنت خسرت كل شيء، خسرت نفسك التي بين جنبيك، وخسرت قيمتك الإنسانية، وخسرت مبادئك، وخسرت كل شيء، وخسرت ما يمكن أن تعتز به. قال تعالى: ﴿أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ﴾، تدبروا في لفظة الظلم هنا، وتدبروا في الترابط كيف تؤسس له سورة الشورى.
قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ﴾ [الشورى: 46]، لماذا ذكر الأولياء؟ لِأَنَّ الناس حين يتظالمون بينهم، يتناصرون بينهم، بل أدهى من ذلك وأمر: أن بعض الناس قد يقعون في ظلم غيرهم ليس لأجل دنياهم هم، ولكن لأجل دنيا غيرهم! دنيا غيرهم تقودهم إلى الوقوع في ظلم الناس، لمحاباة أو لنيل مرضاة أحد ممن يعتبرونه من الكبراء أو ما شابه. وتدبروا في القرآن كيف يؤسس هذه المعاني ويرسخها. وتدبروا في القرآن كيف يأتي بهذه المعاني العظيمة، وكيف يعزز هذه المعاني العظيمة: ﴿وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ﴾ [الشورى: من الآية 46] أين الأولياء الذين لأجلهم أقاموا الظلم في الناس؟ غالب الظلمة، الغالبية العظمى بالنسبة للظلمة، ونحن نرى ذلك في حياتنا الدنيا، يظلمون لأجل غيرهم، سادتهم وكبرائهم، أين أولئك الكبراء؟ أين أولئك الأولياء؟
في الوقت الذي يحتاج إليه الإنسان أن ينتصر ويحتاج إلى من ينصر، قال تعالى: ﴿اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ﴾ [الشورى: 47] تدبروا في الروابط وفتح باب التوبة. استجيبوا لربكم، استجيبوا لربكم بإقامة العدل والإنصاف في نفوسكم، وحياتكم، ومجتمعاتكم. استجيبوا لربكم بإقامة وتأسيس الشورى في بيوتكم، ومؤسساتكم، وأعمالكم، وتجارتكم، وسياساتكم. استجيبوا لربكم بإقامة العدل في أنفسكم. استجيبوا لربكم بإحباط الظلم والاعتداء على الآخرين. استجيبوا لربكم بإيقاف هذا السيل الجارف من الظلم والعدوان. استجيبوا لربكم من الاعتداء على حقوق الآخرين. استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله، قبل فوات الأوان. ما لكم من ملجأ يومئذ وما لكم من نكير، لا تستطيعون أن تلجئوا إلى أحد من شدة العذاب ولا أن تنكروا ما قد قمتم به من ظلم وبغي وعدوان.
قال تعالى: ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ﴾ [الشورى: 48]، وتدبروا في الربط بينها وبين هذه الآية: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ﴾ [الشورى: 6]، وقال هنا: ﴿وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ﴾ [الشورى: 46]، وهنا: ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ﴾، لطمأنة قلب النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وتسليته، أنت عليك البلاغ، أنت قمت بما ينبغي أن تقوم به فلا تذهب نفسك عليهم حسرات: ﴿وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ﴾ [الشورى: من الآية 48].
تدبروا كم مرة في سورة الشورى القرآن يؤكد أن السيئة والمصائب تقع وتحيق بالإنسان والأفراد والمجتمعات بما قدمت أيديهم. مسئولية الإنسان عما يحصل في الدنيا من كوارث، ومن مشكلات، ومن حروب، ومن مجاعات، ومن دمار، ومن فقر، ومن خوف، ومن رعب. قال تعالى: ﴿وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ﴾ [الشورى: من الآية 48]، وليس الله بظلام للعبيد ﴿فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ﴾. لماذا القرآن يقدم لي هذه الآية في خضم الحديث عن مواقف يوم القيامة؟ تقلب أحوال الدنيا يعلمك أنك أنت يا ظالم، أنت اليوم قادر وقوي ولك أسباب الظلم وأسباب أن تفعل ما تشاء، ولكن اعلم أن الدنيا دول، وأن الأيام دول بين الناس، وأنه يوم لك ويوم عليك، فلا تظلم، وأنك اليوم تعيش في الرحمة فستفرح بها، وتفرح بقوتك وجنودك ومنعتك وبأسك وشدتك، ولكنك غدًا أو بعد غد ستصيبك سيئة بما قدمت يديك، ستصيبهم سيئة، تدبروا: ﴿تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ [الشورى: من الآية 48]، فماذا سيكون موقفك؟ ﴿فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ﴾ [الشورى: من الآية 48].
﴿لِلهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ﴾ [الشورى: 49]، الله الذي يَمْلِكُ كل شيء، أما البشر إن ملكوا يومًا فلن يملكوا يومًا بعده، وإن قاموا يومًا فلن يقوموا اليوم الذي بعده، وإن تمكنوا من ظلم خلق الله يومًا فلن يتمكنوا في اليوم الذي بعده. قال تعالى: ﴿يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ﴾ [الشورى: من الآية 49]، قدرة الله (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى). لماذا هنا ذكر الإناث والذكور؟ لماذا ذكر قدرة الله سبحانه؟ كما ذكرنا قبل قليل، المجتمع الجاهلي مجتمع تعارف على ظلم الإناث حتى أصبح عُرْفًا دارجًا لا ينكره العقلاء منهم، ونحن حتى اليوم في مجتمعات كثيرة، مجتمعات مسلمة معاصرة، تعارفت على ظلم البنات، وظلم الأخوات، والأخ يأخذ حق أخواته في الميراث وفي غيره، وهذا يأكل حق هذا وذاك يأكل حق هذا، وكأننا نعيش في غابة (شرعة غاب).
قال سبحانه: ﴿لِلهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ﴾ [الشورى: 49، 50]. ملك السماوات والأرض بيد الله، يعطي ويهب ويمنع ويأخذ، له ملك السماوات والأرض. فلا تفرح بما آتاك الله، ولا تحزن على ما لم يؤتك الله سبحانه. كل شيء عنده بمقدار، كل شيء عنده بحساب. أعطاك أو منعك ليبتليك ويختبرك وهو بك أعلم.
المهم أن تحق الحق وتقوم بما ينبغي أن تقوم به. قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ [الشورى: 51]، ولكن ما دخل الحديث عن الوحي بهذه الآيات التي جاءت قبلها؟ هؤلاء من كفار قريش، كانوا يجادلون في الباطل، وكانوا يَدَّعُونَ أن الملائكة إناث، وأن الملائكة بنات الله، ولماذا الله يوحي لهذا ولا يوحي لذاك، ولماذا يرسل محمدًا (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) نبيًّا ولا يرسل واحدًا من سادات أو كبار قريش؟
هذا الأمر ليس بيدك أنت. تدبروا في القرآن كيف يربط، يذكرهم بشيء هم يعيشونه، ويعاينونه. أنتم لا تملكون ما يهب الله لكم. أنتم لا تستطيعون أن تتحكموا نريد أنثى ونريد ذكرًا خاصَّةً أننا في مجتمعات كانت تفضل ولادة الذكور على الإناث. الله هو الذي يحكم، وهو الذي له ملك السماوات والأرض، ويعطي من يشاء منكم ويهب؛ لِأَنَّهُ عطاء منه بدون مقابل. ذكورًا أو إناثًا أو يجعله عقيمًا، فالأمر له من قبل ومن بعد.
ومادام الأمر له من قبل ومن بعد في كل شيء في تفاصيل حياتكم، فَلِمَ لا تقبلون أن يكون له الأمر من قبل ومن بعد فيمن يوحى إليه وفيما يوحى وفي كيفية الوحى؟ تدبروا في الربط. فأنتم ليس لكم من الأمر شيء، فَلِمَ تجادلون؟ لماذا أرسل لهذا ولم يرسل إلى ذاك؟ له ملك السماوات والأرض، يهب لمن يشاء، ويوحي إلى من يشاء، ويكلم من يشاء، ويرسل من يشاء بما شاء (جَلَّ شَأْنُهُ).
قال تعالى: ﴿إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾، تدبروا في الأسماء. عَلِيٌّ على عباده (جَلَّ شَأْنُهُ)، حكيم فيما يعطي ويمنع وفيمن يرسل وإلى من يرسل ويصطفي ويختار. قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الشورى: 52]، هذا الوحي ليس من عند النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وإنما من الله سبحانه، من أمرنا. هذا القرآن وهذا الكتاب من أمرنا وليس من تلقاء نفسك. وأنت ﴿مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ﴾. عاش بينكم رَدَحًا من الزمن، لا كان يعرف القراءة ولا الكتابة، وأنتم تعرفونه جَيِّدًا. ولا جالس عَرَّافًا ولا جالس كاهنًا، ولا ذهب إلى راهب ولا ذهب إلى حبر من أحبار اليهود، فَمِمَّنْ تعلم هذا الوحي؟ ﴿وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ هذا الأمر وهذا الوحي وهذا الكتاب ليس من تلقاء نفسه، وليس من عند نفسه، هذا من أمر الله (جَلَّ شَأْنُهُ) الذي له ملك السماوات والأرض. وليس له هو فيه شيء، حين تأخر الوحي عنه (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ما استطاع أن يعجل منه شيئًا، ولا استطاع أن يفعل منه شيئًا؛ لِأَنَّ الأمر ليس له، نور جعله الله فيمن يشاء من عباده ويهدي إليه من يشاء. ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾، ولكنك حين تهدي عليك أن تستحضر دومًا أنك تهدي بأمر الله وليس من تلقاء نفسك، إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء.
قال تعالى: ﴿صِرَاطِ اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ﴾ [الشورى: 53]. اهدنا الصراط المستقيم، وليس صراطك أنت، بل صراط الله الذي أرسل إليك، والذي أوحى إليك، والذي له ما في السماوات وما في الأرض وأنتم جميعًا إليه تصيرون.
هذا هو الحكم وهذا هو المنهج وهذه هي الأوامر العظيمة من إقامة العدل والإنصاف والشورى والرحمة والإصلاح بين الناس، هذا ما جاء من محمد (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، وإنما من الرب الذي لا يكون شيء إلا بأمره: ﴿صِرَاطِ اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ﴾ [الشورى: 53].
تدبروا في الربط العظيم بين أوائل السورة وخواتمها: ﴿كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [الشورى: 3]، وقال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا﴾ [الشورى: من الآية 52].
الله هو الذي يُوحِي وليس أي أحد آخر، وهذا الاختصاص الذي خُصَّ وَفُضِّلَ به هذا النبيُّ الكريمُ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ليس من اختياره لتجادلوه وتعاندوه! لماذا تفعلون ما تفعلون؟ النبيُّ الكريمُ ما فعلَ شيئًا، فهو ما طَلَبَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ، والله هو الذي اصطفاه وأوحى إليه.