تدبر سورة الرعد: الحلقة السادسة

بسم الله الرحمن الرحيم

تدبُّر في سورة الرعد (الحلقة السادسة(

       وقفنا في تدبُّرنا لسورة الرعد الكريمة عند صفات أولئك الذين استجابوا لربهم، أولئك الذين أرادوا أن يغيِّروا واقعهم من خلال تغيير أنفسهم، فجعلوا التوحيد والإيمان واقعًا معاشًا متمثلًا في صفات كثيرة تحلوا بها؛ من أهم هذه الصفات الأخلاق والتعاملات بأنواعها، ووفاء العهود والحفاظ على العقود والصدقات، وإقامة العلاقات، والتواصي بالخير، والإحسان إلى الخلق والصفح والعفو والتسامح وكلّ الصفات الإنسانية العليا.

     كلّ هذه الصفات إن وجدت في الفرد، أو وجدت في المجتمع أصلحته فيصبح مجتمعًا خاليًا من النزاعات والصراعات ومن الكراهية، مجتمعًا آمنًا مطمئنًا.  وبطبيعة الحال المجتمع الذي يتصف أصحابه بهذه الصفات التي أوردتها سورة الرعد الكريمة سيتغير، سيتغير ما فيه من جهل ومرض وفقر أو ما شابه، فالصفات المعنوية أو الأمراض النفسية أو الاجتماعية ترتبط ارتباطًا شديدًا بالجوانب الأخلاقية التي جاء القرآن العظيم ليتممها في نفوس الناس وليبقي على الخيِّر منها، وفي نفس الوقت يعالج ما كان منها بعيدًا عن تلك الأخلاق العالية.

     وفي ذات الوقت تنتقل بنا السورة العظيمة في صفات أولئك الذين ينقضون الميثاق، أولئك الذين لم يستجيبوا لربهم لتبين لنا كيف تنعكس تلك الصفات والمزايا الموجودة في هؤلاء على تعاملاتهم، وعلى واقعهم وسلوكياتهم، ليصبح التوحيد والإيمان بالفعل كما تأتي به هذه السورة العظيمة عاملًا أخلاقيًا، ومحفزًا حضاريًا وعنصرًا فاعلًا في التغيير لا يمكن أن يحدث التغيير بدونه، ولكن ليس بالتوحيد النظري المجرد عن الأخلاقيات، المجرد عن أخلاق الناس وواقعهم وسلوكهم وبيعهم وأخذهم وعطائهم، توحيد فاعل في واقع الحياة، فإذا ما غاب ذلك التوحيد جاءتنا الصورة المناقضة.

      يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهۡدَ ٱللَّهِ مِنۢ بَعۡدِ مِيثَٰقِهِۦ﴾من الآية 25. وعهد الله سبحانه وتعالى هو أعظم عهد، إنما هو تلك العلاقة بين الإنسان وخالقه، علاقة التوحيد، فإذا ما نقض ذلك الإنسان علاقة التوحيد بخالقه لنا أن نتخيل ما الذي سيكون.  ويقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿ وَيَقۡطَعُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِۦٓ أَن يُوصَلَ﴾ من الآية 25  قطيعة أرحام، قطيعة في جوانب الأخلاقيات الاجتماعية والسلوكية والبيع والشراء. يقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَيُفۡسِدُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ﴾ من الآية 25  تدبَّروا معي في هذه الكلمات العظيمة، عندما جاء بالصورة المقابلة الأولى﴿ لِلَّذِينَ ٱسۡتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ﴾ من الآية 18 ذكر صفات معينة وقال سبحانه وتعالى: ﴿ ٱلَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهۡدِ ٱللَّهِ وَلَا يَنقُضُونَ ٱلۡمِيثَٰقَ 20 وَٱلَّذِينَ يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِۦٓ أَن يُوصَلَ وَيَخۡشَوۡنَ رَبَّهُمۡ﴾ من الآية 21 ، صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم. 

     وأما في الصورة المقابلة للذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه لم يأتِ بتفاصيل، لم يأتِ بسلوكيات معينة منحرفة، قال كلمتين فقط، الكلمة الأولى قال: ﴿وَيَقۡطَعُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِۦٓ أَن يُوصَلَ﴾ وقال كلمة مجملة يندرج تحتها عشرات بل مئات السلوكيات المنحرفة، قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَيُفۡسِدُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ﴾ كلمة جامعة، الإنسان الذي يفسد علاقته بالله عزَّ وجلَّ من الطبيعي أن ينعكس ذلك الفساد على روحه، وعلى عقله، وعلى تصرفاته وسلوكياته، وعلى واقعه، وجاء بكلمة واحدة  ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل، الصلات والعلاقات التي أمر الله سبحانه وتعالى عباده بوصلها، ليس فقط في صلة الأرحام ولا في بر الوالدين، ولا في الإحسان إلى الجيران، ولا إلى المعارف، ولا إلى علاقات الشبكات الاجتماعية في المجتمع الإنساني، لا يمكن أن تصلح إلا بتلك العلاقة الموثقة الوطيدة بين الإنسان وربه، لماذا؟ لأن العلاقة بالله عزَّ وجلَّ القوية القائمة على الإيمان الخالص، التوحيد الخالص، علاقة تدفع بالإنسان إلى التسامح، إلى التصالح، إلى محبة الخير للناس، تستخرج الضغينة من قلوب الناس، يعلم الناس كيف يعيشون بمحبة وسلام وكيف يحبون الخير لغيرهم كما يحبونه لأنفسهم. 

     هذه العلاقات فُقدت حين فسدت العلاقة بين الإنسان وربه، ولذلك ما أتى سبحانه وتعالى على التفاصيل بل قال كلمة واحدة ﴿ وَيُفۡسِدُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ﴾ من الآية 25. كلمة جامعة لكل أشكال الفساد، فساد اقتصادي، فساد أخلاقي، فساد أسري، فساد سياسي، كلّ أشكال الفساد تندرج تحت هذه الكلمة، أسها وأساسها ورأسها ذلك الفساد الذي حدث في علاقة الإنسان بخالقه.  ولذا فسدت نظرة هذا الإنسان إلى الكون، وفسدت نظرته إلى الطبيعة وإلى كلّ من حوله، فسدت نظرته إلى المجتمع الذي يعيش فيه.  يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمُ ٱللَّعۡنَةُ وَلَهُمۡ سُوٓءُ ٱلدَّار ﴾من الآية 25

     ويقول الله جلَّ وعلا: ﴿ٱللَّهُ يَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقۡدِرُۚ وَفَرِحُواْ بِٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا فِي ٱلۡأٓخِرَةِ إِلَّا مَتَٰعٌ﴾لآية 26 وقد ذكرنا في تدبُّرنا لكتاب الله عزَّ وجلَّ أن الآيات تربط بينها مناسبات، وأن كلّ آية في موضعها في كتاب الله سبحانه وتعالى لها مقصد يرتبط بالمقصد أو المحور الذي تقوم عليه السورة، وفي ذات الوقت نجد أن الترابط والتناسب بين الآيات في السورة الواحدة شيء واضح حين يتدبر القارئ في الآيات.  ونتساءل لماذا جاء قول الله عزَّ وجلَّ هنا: ﴿ٱللَّهُ يَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقۡدِرُۚ ﴾بعد الكلام عن أولئك الذين ينقضون الميثاق ويفسدون في الأرض، ربِّي عزَّ وجلَّ أراد أن يعلِّمنا في هذه الآية الكريمة أن اتساع الرزق وجريان الأموال ومتاع الحياة الدنيا بين أيدي أولئك الذين ينقضون الميثاق، هذا لا يعني ولا يدل على كرامة هؤلاء الناس عند الله عزَّ وجلَّ، ولا يدل على سعادة ولا يدل على ربح، ولا يدل على شيء من هذا أبدًا.

      قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ٱللَّهُ يَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقۡدِرُۚ﴾ هذه سنَّة من السنن أن ربِّي عزَّ وجلَّ قسم الأرزاق بين الناس، هنالك من بسط له الرزق، وهنالك من ضيق عليه. وفي كلّ الأحوال هو ابتلاء وامتحان من الله سبحانه وتعالى.  ويقول جلَّ وعلا: ﴿وَفَرِحُواْ بِٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا فِي ٱلۡأٓخِرَةِ إِلَّا مَتَٰعٌ ﴾ من الآية 26. هؤلاء الذين ينقضون الميثاق، والقرآن العظيم قد ضرب لنا أمثلة وأشكالًا وأممًا سابقة وأفرادًا مثل قارون وهامان وفرعون وغيرهم كثير ممن كفروا بأنعم الله. ولكن الله عزَّ وجلَّ فتح عليهم من الدنيا ما فتح، ووسع لهم من الدنيا، فهل هذا مقياس يحاج به؟ أبدًا.

      وحين نتدبر في قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَفَرِحُواْ بِٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا﴾ من الآية 26. هل الحياة الدنيا يفرح بها؟ الحياة الدنيا لا يفرح بها، لا يفرح بإقبالها فهي متاع زائل إلى فناء،﴿وَمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا فِي ٱلۡأٓخِرَةِ إِلَّا مَتَٰعٌ ﴾ من الآية 26. إذن إقبال الدنيا على الإنسان ليس بدليل كرامة عند الخالق سبحانه وتعالى، وليس بدليل على أن ذلك الإنسان قد فاز ونجح، في حين أن عددًا من البشر الذين لم تفتح بصائرهم لكتاب الله جلَّ وعلا أو نوره يعتقدون أن الدنيا حين تقبل على الشخص فهذا يعني بأن الأمور سائرة دائمًا بهذا المنوال، هؤلاء لا يعرفون حقيقة الدنيا، ولا يعرفون ولا يدركون حقيقة تقلب الدنيا بأهلها وتغير أحوالها بهم، ويعتقدون أن مقياس السعة في الرزق والتقتير والتضييق في متاع الدنيا مقياس صحيح ومقياس حقيقي، ولذلك حين يرون من يعصي الله سبحانه وتعالى ويفتح له في الرزق ويوسع ويفتح له ويمد له الله عزَّ وجلَّ ويمهله ويعطيه الفرصة بعد الفرصة، هؤلاء يتوهمون ويغترون ويعتقدون أن ذلك دائم، وواقع الأمر أن متاع الحياة الدنيا في الآخرة يسير، نعم ﴿وَمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا فِي ٱلۡأٓخِرَةِ إِلَّا مَتَٰعٌ﴾الحياة الآخرة هي الحقيقية، هي المقياس الحقيقي وهي الحيوان.  السعادة الأخروية هي السعادة الدائمة التي ربطها الله عزَّ وجلَّ بالآخرة، أما الدنيا فليست بمقياس فقد يفتح الله سبحانه وتعالى على الكافر من متاع الدنيا ما لا يفتحه على المؤمن، ولكن الله عزَّ وجلَّ في كلّ ذلك يختبر عباده، وهو بهم عليم. وفي ذات الوقت أعطى الحقائق لأولي الألباب ولذوي الأبصار في كتابه العزيز وبيَّن لهم الأمور، بيَّن لهم أن الأشياء ليست بظواهرها، وأن إقبال الدنيا أو إدبارها ليس بدليل الكرامة أو الرضا من الله عزَّ وجلَّ على خلقه أو غضبه عليهم، إنما هو الابتلاء.

       وتنتقل الآيات بعد ذلك إلى أولئك المكذبين أو المعاندين من كفار قريش وغيرهم فيقول الله سبحانه وتعالى:﴿وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡلَآ أُنزِلَ عَلَيۡهِ ءَايَةٌ مِّن رَّبِّهِۦۚ قُلۡ إِنَّ ٱللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهۡدِيٓ إِلَيۡهِ مَنۡ أَنَابَ﴾ الآية 27. بعد كلّ هذه الآيات التي ساقها وبينها الله جلَّ وعلا في الكون وفي الطبيعة وفي الأمم السابقة وفي النفس البشرية، في عواطفها وأحاسيسها بعد كلّ هذا يقولون لولا أنزلت عليه آية! أبعد كلّ هذا الحق، وبعد كلّ ما في الكون والنفس من آيات يطالب هؤلاء القوم بالمزيد من الآيات؟  إذن لماذا يطالبون؟  يقول الله سبحانه وتعالى:﴿قُلۡ إِنَّ ٱللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهۡدِيٓ إِلَيۡهِ مَنۡ أَنَابَ

      تدبَّروا معي في هذه القاعدة العظيمة، الهداية بيد الله عزَّ وجلَّ، هنالك هداية خاصة لعباده الذين آمنوا به وامتثلوا لأمره وأقبلوا عليه بالتوحيد الخالص وبالطاعة والانقياد والاستسلام له سبحانه وتعالى، وهنالك هداية عامة لكل البشر، هداية الرسل والأنبياء الذين أرسلهم سبحانه وتعالى لكل الخلق المؤمن والكافر، داية الكتب السماوية التي أنزلها الله عزَّ وجلَّ، هداية الآيات المبثوثة في الكون وفي الطبيعة. ولكن من ينتفع بهذا كله؟ إنما يتدبر أولو الألباب، إنما ينتفع بهذه الآيات الذين يؤمنون، أولئك الذين يتفكرون، أولئك الذين لم تعلُ قلوبَهم ولا عقولهم غشاوةٌ ولا سدت أبصارهم عن رؤية الحقائق فتبصروا بها لتوصلهم إلى الخالق سبحانه وتعالى.

         وقال عزَّ وجلَّ: ﴿وَيَهۡدِيٓ إِلَيۡهِ مَنۡ أَنَابَ﴾ تدبَّروا في المعنى العظيم، من يهدي إليه؟ من بانت واتضحت وسائل الهداية في نفسه وقلبه، رجع إلى ربه فهداه، آمن بالله عزَّ وجلَّ فزاده هدًى، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَٱلَّذِينَ ٱهۡتَدَوۡاْ زَادَهُمۡ هُدًى وَءَاتَىٰهُمۡ تَقۡوَىٰهُمۡ﴾ الآية 17 / سورة محمد تدبَّروا معي في هذه المعاني العظيمة.

    ثم تأتي الآية الكريمة العظيمة التي نرددها كثيرًا في حياتنا، الكثير منا يستدل بها، قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطۡمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكۡرِ ٱللَّهِۗ أَلَا بِذِكۡرِ ٱللَّهِ تَطۡمَئِنُّ ٱلۡقُلُوبُ الآية 28 الحياة الحقيقية، الإيمان والتوحيد، والذكر والدعاء، هذه هي راحة قلب المؤمن، المؤمن الذي عرف ربه فأناب، الذي أبصر الآيات في الكون فسجد قلبه قبل أن تسجد جبهته للواحد الأحد الفرد الصمد، الذي خضع قلبه وسائر جوارحه استسلامًا لأمر الله سبحانه وتعالى، أمر الله عزَّ وجلَّ في قدره وأقداره، وأمر الله سبحانه فيما أمر ونهى، أمر الله جلَّ جلاله في تشريعاته، أمر الله سبحانه وتعالى فيما أمر به من الحسنى، وفيما أمر به أن يوصل، فيما أمر به أن يوفى به من العقود والعهود والمواثيق، ﴿ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطۡمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكۡرِ ٱللَّهِۗ ﴾ من الآية 28

       ولنا أن نتساءل أين موقع هذه الآية الكريمة في ذلك السياق الذي يكلمنا عن أولئك الذين نقضوا الميثاق وأولئك الذين استجابوا لربهم؟ ولماذا يزرع الإيمان في قلب الإنسان الطمأنينة؟ ولماذا بعدها قرر سبحانه وتعالى حقيقة فقال: ﴿ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطۡمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكۡرِ ٱللَّهِۗ أَلَا بِذِكۡرِ ٱللَّهِ تَطۡمَئِنُّ ٱلۡقُلُوبُ﴾ من الآية 28. لماذا ذكرُ الله عزَّ وجلَّ ينزل الطمأنينة؟ الطمأنينة لا تقاس بكثرة الأموال ولا تقاس بكثرة عروض الدنيا، قد لا يمتلك الإنسان شيئًا من متاع الدنيا ولكن القلب مطمئن، مطمئن بذكر الله، هادئ النفس، يشعر بالسكينة، يشعر بالرضا والسعادة. كلّ هذه مفاهيم وقيم لا يمكن شراؤها، لا تشترى بأموال ولا تشترى بعرض الدنيا ومتاعها الزائل، ولا تشترى بكل ما يمكن أن يفكر فيه الإنسان من ماديات.

       إذن بمَ تشترى هذه السلعة العظيمة عند الله جلَّ وعلا؟ إنها تشترى بالإيمان والإنابة إلى الخالق العظيم الذي يقول: ﴿ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطۡمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكۡرِ ٱللَّهِ من الآية 28. الإيمان سلعة عظيمة، الإيمان منحة عظيمة، الإيمان ومن المسمى ذاته نستشف أنه يؤمِّن صاحبه، ويجعله في مأمن من القلق، من الخوف، من الحيرة، من الشك، ومن الضلال الذي جاءت الآية التي سبقت بذكره﴿ قُلۡ إِنَّ ٱللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهۡدِيٓ إِلَيۡهِ مَنۡ أَنَابَ﴾من الآية 27 حياة الضلال حياة بؤس، حياة شقاء، وحياة حيرة، حياة شك وحياة عذاب.  قد يمتلك الإنسان الكافر الضال كلّ ما يمكن أن يتصوره الإنسان من رفاهية، ولكن هل هذا بالضرورة سيجعله يعيش حالة رضا أو سعادة أو طمأنينة؟ إطلاقًا. ومن أين تأتي الطمأنينة؟ تأتي من علاقتك بخالقك، بالله عزَّ وجلَّ، تأتي من يقينك وإيمانك به سبحانه وتعالى، ولماذا هذا الربط الواضح ﴿أَلَا بِذِكۡرِ ٱللَّهِ تَطۡمَئِنُّ ٱلۡقُلُوبُ﴾من الآية 28؟

         إن ذكر الله عزَّ وجلَّ يذكرك بأن لك خالقًا رحمنَ رحيمًا ودودًا حنانًا منانًا، أحن عليك من كلّ أحد، أحن عليك من نفسك التي بين جنبيك، أحن عليك من أمك وأبيك، فإذا ما استشعر الإنسان المؤمن أنه إذا ذكر ربه فإن ذلك الرب سبحانه وتعالى يذكره، فإذا ما استشعر ذلك الذكر واستشعر بركونه لذلك الذكر وخضوعه لركن الله عزَّ وجلَّ، استشعر معاني القوة، واستشعر معاني الرحمة ومعاني اللطف به، فاطمأن لله جلَّ جلاله في قضائه وفي أقداره حتى المؤلم منها، فاستشعر هذه المعاني العظيمة.

      لماذا ذكرُ الله سبحانه وتعالى يدخل الطمأنينة في قلب المؤمن؟ لأنه يذكِّره برحمة الله عزَّ وجلَّ، يذكره بلطفه ويذكره بقربه قربًا يليق بجلاله من عباده، ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌۖ أُجِيبُ دَعۡوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ من الآية 186 / سورة البقرة

     ذكر الله جلَّ وعلا يذكرك بأن لك خالقًا أبوابه لا تغلق، لا تغلق في وجهك مهما أخطأت ومهما ضعفت، ومهما أصبت من ذنوب وابتعدت عنه سبحانه وتعالى.  تستغفره فيغفر لك، وتسترحمه فيرحمك، تطلب منه الهداية فيهديك، بشرط واحد قاله في الآية التي قبلها، قال عزَّ وجلَّ:﴿وَيَهۡدِيٓ إِلَيۡهِ مَنۡ أَنَابَ﴾ من الآية 27 الإنابة والرجوع إليه سبحانه وتعالى، الرجوع إليه بالتوبة، الرجوع إليه بالتراجع عن كلّ أخطاء الماضي. وتدبَّروا معي في الربط بين كلّ هذه المعاني العظيمة ومحور وعمود السورة الكريمة: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يغيِّر مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ يغيِّروا مَا بِأَنفُسِهِمۡۗ من الآية 11  

     ما الذي يريده الله سبحانه وتعالى منا وهو الغني عنا؟ يريد منا الإنابة، يريد أن نرجع إليه ونعود إليه، نعود إلى فطرتنا، تلك الفطرة الصافية النقية التي فطرنا وخلقنا عليها، تلك الفطرة التي قد يعلوها في مسيرة الحياة الكثير من الغبار والشكوك والظلمات، ظلمات الجهل والحيرة والبعد عن الله سبحانه وتعالى والغفلة، ولكن مهما أغلقت الأبواب في وجوهنا فأبواب الله عزَّ وجلَّ، أبواب رحمته لا تغلق. 

     ارجع إلى الله جلَّ جلاله، لماذا يطمئِن ذكرُ الله عزَّ وجلَّ القلب؟ القلب مضغة، القلب قطعة من عضلات ودم، هذه القطعة التي يصفها الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز كثيرًا بأنها تؤمن، تكفر، تجحد، القلب ليس مجرد مضخة تضخُّ الدم إلى سائر أجزاء الجسد، أبدًا. القلب فيه تلك المشاعر والأحاسيس التي تجعل من الإنسان إنسانًا رقيقًا مؤمنًا مخبتًا موحدًا خاضعًا لخالقه سبحانه وتعالى، فإذا ما خلا ذلك القلب من ذكر الله عزَّ وجلَّ، قسا،﴿ثُمَّ قَسَتۡ قُلُوبُكُم مِّنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَٱلۡحِجَارَةِ أَوۡ أَشَدُّ قَسۡوَةً ﴾ من الآية 74 / سورة البقرة

         إن القرآن العظيم يعبر عن هذه المعاني ليذكر الإنسان أنه ليس بماله ولا بمتاعه ولا بكل ما يمتلك يعلو ويصبح إنسانًا، الإنسان يعلو ويسمو ويرتفع بقدر ما في قلبه من إيمان ومن توحيد ومن إنابة، ومن سمو ومن رقي في أخلاقياته وفي تعامله. ذكر الله عزَّ وجلَّ الطاعة الوحيدة التي أمر القرآن العظيم بالاستزادة منها وكثرتها، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ ذِكۡرًا كَثِيرًا، وَسَبِّحُوهُ بُكۡرَةً وَأَصِيلًا﴾ الآيتان 41-42 / سورة الأحزاب

     ذكر الله جلَّ وعلا، تسبيحه واستغفاره يذكرك بعبوديتك له جلَّ وعلا، يذكرك أنك ليس وحدك في هذه الدنيا، وأن طريق التغيير الذي ذكرناه مهما اعترضته من عوائق وصخور ومحن لا تقابله بالخوف والبؤس. لماذا؟ ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَاۖ﴾ من الآية 40 / سورة التوبة.

      تدبَّروا معي في هذه المعاني العظيمة، ذكرُ الله عزَّ وجلَّ يذكرك بأن الله سبحانه وتعالى وجلَّ جلاله معك، بأنه عزَّ وجلَّ يحميك، بأنه سبحانه وتعالى يكفيك،﴿ أَلَيۡسَ ٱللَّهُ بِكَافٍ عَبۡدَهُۥۖ وَيُخَوِّفُونَكَ بِٱلَّذِينَ مِن دُونِهِۦ﴾ الآية 36 / سورة الزمر

 ويذكرك بأن الله جلَّ وعلا سينصرك طالما أنت على الحق، طالما أنك على الهدى، طالما أنك تحب الخير لغيرك، طالما أنك تريد الإصلاح، ولا شيء غير الإصلاح. 

    ﴿أَلَا بِذِكۡرِ ٱللَّهِ تَطۡمَئِنُّ ٱلۡقُلُوبُ﴾ من الآية 28. ذكر الله سبحانه وتعالى يبعث الطمأنينة في القلوب، وبعض المفسرين قالوا، وهذا الكلام ممكن جدًّا وهو معنًى عظيم، أن ذكر الله عزَّ وجلَّ هنا المقصود به القرآن، وما من كتاب يبعث في الناس الطمأنينة كذكر الله وكلامه، القرآن كلام الله، كيف لا يبعث في قلوب المؤمنين به الطمأنينة؟ كيف لا يبعث في قلوب المؤمنين به الحياة والأمل والتفاؤل مهما أظلمت الظروف من حولهم؟ مهما تغيرت وتبدلت الأقدار من حولك، طمأنينتك بالله عزَّ وجلَّ واطمئنانك سيكون بلطفه ورحمته سبحانه وتعالى وبحكمته فيما يفعل عزَّ وجلَّ وفيما يختار لك، فيما يعطيك وفيما يمنع عنك.

      هذا هو ذكر الله عزَّ وجلَّ، ولذلك جاءت بعدها الآية الكريمة ﴿ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ طُوبَىٰ لَهُمۡ وَحُسۡنُ مَ‍َٔآبٍ﴾ من الآية 29. في الدنيا طمأنينة نفس، وفي الآخرة طوبى لهم وحسن مآب، تدبَّروا معي في ذلك التقابل بين أولئك الذين فرحوا بالحياة الدنيا من الكافرين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، لهم الحياة الدنيا، وأقبلت عليهم الحياة الدنيا، ولكن ما قيمتها؟ ما قيمة الآلاف أو الملايين من الدنانير ومن الذهب؟ ما قيمتها إن حرم الإنسان من طمأنينة القلب والنفس، ومن راحة البال، وهدوء القلب؟ بينما النفس المؤمنة متيقنة أن قضاء الله سبحانه وتعالى لها خير دائمًا. ما نوع التقابل؟ الذين آمنوا قد يملكون المال وقد يحرمون منه، ولكن المهم الطمأنينة التي في قلوبهم وفي أنفسهم، تدبَّروا في ذلك التقابل، أولئك لهم الحياة الدنيا، قد تقبل عليهم وقد لا تقبل ولكن المؤمن له طمأنينة النفس والقلب ولا تُمنح هذه الطمأنينة والأمن إلا لذلك المؤمن.

      اليوم، وفي واقعنا المعاش، نتكلم كثيرًا عن شتى أنواع الأمن، الأمن الغذائي، الأمن النفسي، والأمن الاقتصادي والأمن الفكري وغيرها، ولكن يبقى السؤال مطروحًا: هل الإنسان المعاصر اليوم في بحثه عن الأمن هو فعلًا يسير في الطريق الصحيح؟ أم أنه يتخبط؟ ولا يرى طريقًا صحيحًا يتبعه؟ أم أنه اختلطت عليه الأوراق؟ ما الذي يميِّز بين الحق والباطل؟ ما الذي يميِّز بين الهدى والضلال؟  إنه نور البصيرة، نور البصيرة الذي يزداد ويقوى. وكلَّما قوي في نفسك الإيمان أصلحت ما بينك وبين خالقك عزَّ وجلَّ. أصلح ما بنفسك، غيِّر ما بنفسك حتى يتغيَّر واقعك.  واقعنا اليوم فيه الكثير من المخاوف، مخاوف على الغذاء، مخاوف على الدخل، مخاوف من الاقتصاد، شتى المخاوف. تريد أمنًا حقيقيًّا، غيِّر ما بنفسك، أصلح علاقتك بالله عزَّ وجلَّ، أصلح العلاقة حتى تصلح نفسك، وتصلح حياتك ويصلح واقعك، حتى يتغيَّر الخوف، وحتى يبدل الله خوفنا أمنًا وسلامًا، حتى يتبدل ذلك الخوف وعدم الطمأنينة إلى سلام.

       اليوم كلنا ننشد السلام، العالم بأسره ينشد السلام، صحيح أن الإنسان قد توصل إلى ما لم يتوصل إليه آباؤه وأجداده من قبل في شتى نواحي الحياة ووسائل وأنواع الرفاهية، ولكن يبقى السؤال: هل هذا الإنسان المعاصر يعيش ولو شيئًا يسيرًا من الراحة والسكينة والطمأنينة؟  هل هو بمأمن حقيقي؟ وفي أمان حقيقي؟ ربِّي عزَّ وجلَّ ربط بين ذكره سبحانه وتعالى وبين الطمأنينة ليؤكِّد لنا أن تلك المنحة العظيمة لا تمنح إلا لتلك القلوب التي عرفته خالقًا، عرفته معبودًا واحدًا أحدًا صمدًا، عرفته ربًا كريمًا رحمنَ، عرفته ربًا أوحدًا في قلبها وفي مشاعرها وفي ولائها وفي ولايتها وفي أحاسيسها وفي توجهاتها وفي خططها الاستراتيجية وفي الاجتماع وفي الاقتصاد والسلوك والسياسة،  هذه القلوب كفل الله لها وضمن الطمأنينة والراحة والسكينة؛ ولذلك جاءت الآيات التي بعدها لتبين ولتجعل الإنسان ينظر في عمق التاريخ والأمم.

         يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿كَذَٰلِكَ أَرۡسَلۡنَٰكَ فِيٓ أُمَّةٍ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهَآ أُمَمٌ لِّتَتۡلُوَاْ عَلَيۡهِمُ ٱلَّذِيٓ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ من الآية 30 هذه الأمة التي نزل عليها هذا الكتاب العظيم، والتي أنت منها شرفت بنزول القرآن عليها، ولكن كيف كان موقفها منه؟ كان للأسف، ﴿ وَهُمۡ يَكۡفُرُونَ بِٱلرَّحۡمَٰنِۚ﴾من الآية 30. وتدبَّروا معي، لماذا جاء بصفة الرحمن والكلام هنا عن الكفر؟ ربِّي عزَّ وجلَّ رحمن بعباده، ومن رحمته بخلقه أنه يمهلهم ويعطيهم الفرصة تلو الفرصة لعلهم يعودون إلى جادة الصواب، لعلهم يراجعون أنفسهم ويراجعون حساباتهم، ويراجعون ما هم فيه من الضلال، ويعودون إلى الله سبحانه وتعالى عودة حقيقية. 

       أما أنت، أيُّها المؤمن، فالطريق واضح، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿قُلۡ هُوَ ربِّي لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ من الآية 30. توحيد خالص،﴿ عَلَيۡهِ تَوَكَّلۡتُ وَإِلَيۡهِ مَتَابِ﴾ من الآية 30  تدبَّروا معي في هذه المعاني العظيمة، توحيد خالص بدونه لا يمكن أن يكون هنالك توكُّل على الله عزَّ وجلَّ. ولكن هل يكفي هذا التوكُّل وذلك الإيمان؟ لا. فأنا أحتاج معهما إلى توبة مستمرة، واستغفار وإنابة إلى خالقي سبحانه وتعالى، معانٍ عظيمة ضمتها هذه الآيات الكريمات، معانٍ تهز القلب كما تعودنا من سورة الرعد، معاني توقظ الفطرة وتبعثها، توقظ القلب لينيب إلى خالقه من جديد، ليسكن وليهدأ من حيرته تلك، الحيرة التي بتنا نعاني منها، فمتى يسكن القلب؟ متى تسكن أرواحنا؟ متى تهدأ نفوسنا؟ حين تطمئن بذكر الله جلَّ وعلا: ﴿أَلَا بِذِكۡرِ ٱللَّهِ تَطۡمَئِنُّ ٱلۡقُلُوبُ﴾ من الآية 28

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *