بسم الله الرحمن الرحيم
تدبُّر في سورة الرعد )الحلقة السابعة(
ولا زلنا في تدبُّرنا لسورة الرعد الكريمة، السورة التي جاءت لإيقاظ النفوس، جاءت بمقصد تغيير النفوس، وإحداث التغيير المقصود نحو الأفضل في حياة الخلق، في حياة المجتمعات وفي حياة الأمم. ذلك التغيير الذي تبنَّته السورة آية بعد آية، وتنوعت أساليبه في السورة العظيمة لتنقل الإنسان وقلبه ما بين النظر في النفس والطبيعة والكون، ولتوقظ تلك الفطرة التي قد يكون علاها ما علاها من غبار الدنيا، وظلمات الجهل، والبعد عن الله سبحانه وتعالى.
ثم تأتي الآية العظيمة في سياق الحديث عن القرآن، والآية التي قبلها تقول:﴿كَذَٰلِكَ أَرۡسَلۡنَٰكَ فِيٓ أُمَّةٍ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهَآ أُمَمٌ لِّتَتۡلُوَاْ عَلَيۡهِمُ ٱلَّذِيٓ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ وَهُمۡ يَكۡفُرُونَ بِٱلرَّحۡمَٰنِۚ قُلۡ هُوَ ربِّي لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ عَلَيۡهِ تَوَكَّلۡتُ وَإِلَيۡهِ مَتَابِ﴾ الآية 30 في سياق الكلام عن الآيات حيث طالب كفار قريش والكثير من الخلق النبيّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، طالبوه بآيات حسية وقد نزلت عليهم أعظم آية، القرآن العظيم، وقال سبحانه وتعالى: ﴿وَلَوۡ أَنَّ قُرۡءَانًا سُيِّرَتۡ بِهِ ٱلۡجِبَالُ أَوۡ قُطِّعَتۡ بِهِ ٱلۡأَرۡضُ أَوۡ كُلِّمَ بِهِ ٱلۡمَوۡتَىٰۗ بَل لِّلَّهِ ٱلۡأَمۡرُ جَمِيعًاۗ أَفَلَمۡ يَاْيَۡٔسِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن لَّوۡ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَهَدَى ٱلنَّاسَ جَمِيعًاۗ﴾ من الآية 31 هذه الآية نزلت حين طالب مشركو قريش النبيّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن ينزل عليهم كتابًا أو قرآنًا يسيِّر به جبال مكة، قالوا له: نحن نعيش في منطقة جبلية لا نستطيع أن نزرع فيها، فحرك لنا هذه الجبال، فقال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَوۡ أَنَّ قُرۡءَانًا سُيِّرَتۡ بِهِ ٱلۡجِبَالُ أَوۡ قُطِّعَتۡ بِهِ ٱلۡأَرۡضُ﴾ من الآية 31 لو كان هنالك كتاب تسير به الأرض والجبال لكان هذا القرآن العظيم، من عظمته ومن هيبته ومن الإعجاز الذي حواه، لا أعظم من كلام الله جلَّ وعلا.
ولذلك قال الله سبحانه وتعالى في آية أخرى: ﴿ لَوۡ أَنزَلۡنَا هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيۡتَهُۥ خَٰشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنۡ خَشۡيَةِ ٱللَّهِۚ ﴾من الآية 21 سورة الحشر.
أنتم تطالبون بأن تسير لكم الجبال، تقطع لكم الأرض، تقطع لكم حتى تستطيعوا أن تعيشوا حياة مختلفة عن التي تعيشونها الآن؟ لو كان هنالك كتاب يفعل ذلك لكان هذا الكتاب العظيم، الذي كفرتم به، ﴿وَلَوۡ أَنَّ قُرۡءَانًا سُيِّرَتۡ بِهِ ٱلۡجِبَالُ أَوۡ قُطِّعَتۡ بِهِ ٱلۡأَرۡضُ أَوۡ كُلِّمَ بِهِ ٱلۡمَوۡتَىٰۗ بَل لِّلَّهِ ٱلۡأَمۡرُ جَمِيعًاۗ ﴾من الآية 31 . أيُّ أمر لله عزَّ وجلَّ؟ كلّ أمر، وأمر الآيات التي يلح عليها هؤلاء المشركون، الآيات المحسوسة، وغيرها وإنزالها ليس بيد النبيّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. إن الأمر كله بيد الله وحده لا شريك له.
إذن هذا القرآن هو أعظم آية، فآمنوا به أو لا تؤمنوا به، إذن المسألة ليست بمسألة آيات، ولذلك في هذه الآية العظيمة ربنا عزَّ وجلَّ أعطى لنبيه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وللمؤمنين ولأولئك المصلحين الذين يرغبون في التغيير نحو الأفضل قاعدة عظيمة في قوله سبحانه وتعالى: ﴿أَفَلَمۡ يَاْيَۡٔسِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن لَّوۡ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَهَدَى ٱلنَّاسَ جَمِيعًاۗ﴾ من الآية 31 عليك أن تدرك وتصل إلى حقيقة وقناعة أن ربِّي عزَّ وجلَّ لو أراد أن يهدي الخلق جميعًا، ويجعل كلّ من في الأرض يؤمن به، لفعل سبحانه وتعالى، ولكن اقتضت حكمته عزَّ وجلَّ أن يعطي هؤلاء الخلق الحرية والاختيار. هكذا اقتضت حكمته جلَّ وعلا، إذًا: ﴿ لَّوۡ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَهَدَى ٱلنَّاسَ جَمِيعًاۗ﴾ من الآية 31 ولكنه سبحانه وتعالى أراد أن يعطي الإنسان تلك الفرصة في الاختيار.
ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَلَا يَزَالُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوۡ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمۡ حَتَّىٰ يَأۡتِيَ وَعۡدُ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُخۡلِفُ ٱلۡمِيعَادَ﴾ من الآية 31. دعهم يترقبون بسبب كفرهم قارعة، صواعق، أيامًا مثل أيام الأمم التي سبقت، إما أن تأتي عليهم هم أو تأتي قريبًا منهم، لماذا؟ لأن الإنسان الكافر لا يعيش في طمأنينة ولا في أمن، ربِّي عزَّ وجلَّ قد توعد هؤلاء القوم الكافرين، حتى يأتي وعد الله. إن الله لا يخلف الميعاد، فسنة الله في الخلق ماضية، إن الله سبحانه وتعالى يمهل خلقه، ويمهل عباده يعطيهم الفرصة تلو الفرصة، ولكنه سبحانه وتعالى لا يتركهم. فحين لا يبتغي الإنسان التغيير نحو الأفضل في حياته، أو تغيير ذلك الواقع الذي يعيش فيه من الكفر والتكذيب والضلال، يكفر بالرحمن، فماذا تتوقع، كيف ستكون النهاية؟
ويقول الله جلَّ وعلا: ﴿وَلَا يَزَالُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ﴾ من الآية 31. ماذا صنعوا؟ كفروا وجحدوا نعم الله سبحانه وتعالى، وكذبوا بآياته، وكذبوا بهذا القرآن العظيم، فماذا ننتظر إلا أن تحل بهم هذه القارعة سواءً عندهم أو قريبًا من دارهم؟ إلى أن يأتي الوعد الحق من عند الله عزَّ وجلَّ وهو نتيجة حتمية. ويقول الله جلَّ جلاله:﴿ وَلَقَدِ ٱسۡتُهۡزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبۡلِكَ فَأَمۡلَيۡتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ من الآية 32. سنَّة ماضية، سنَّة الإملاء والإمهال، ﴿ثُمَّ أَخَذۡتُهُمۡۖ فَكَيۡفَ كَانَ عِقَابِ﴾ من الآية 32. ولماذا يملي لهم عزَّ وجلَّ؟ اختبار، مزيد من الابتلاءات والامتحانات.
ولذلك نحن في واقعنا لا ينبغي أن نفتن حين نرى الظالم يمد له، يمد له في صحته وفي قوته وفي بطشه وفي جبروته وفي عمره، يملي له الله سبحانه وتعالى، ﴿فَأَمۡلَيۡتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ من الآية 32 ولكن ذلك لا يعني أن الله سبحانه وتعالى سيأخذه أخذ عزيز مقتدر، المؤمن مطمئن. ولذلك جاءت الآية التي تليها:﴿أَفَمَنۡ هُوَ قَآئِمٌ عَلَىٰ كلّ نَفۡسِۢ بِمَا كَسَبَتۡۗ وَجَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَآءَ﴾ من الآية 33 ربِّي عزَّ وجلَّ القائم على كلّ نفس سواء الكافرة أو المؤمنة، يحصي عليها أعمالها، يحصي عليها كلّ ما تعمل، يحصي عليها إيمانها أو بعدها عنه سبحانه وتعالى. ﴿ أَفَمَنۡ هُوَ قَآئِمٌ عَلَىٰ كلّ نَفۡسِۢ بِمَا كَسَبَتۡۗ وَجَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَآءَ قُلۡ سَمُّوهُمۡۚ﴾ أتشركون بالله في قدرته؟ وهو القادر على كلّ شيء، الذي بيده كلّ شيء، قل سموهم، سموا هؤلاء الشركاء، تدبَّروا معي في التحدي: ﴿أَمۡ تُنَبِّئُُٔونَهُۥ بِمَا لَا يَعۡلَمُ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَم بِظَٰهِرٍ مِّنَ ٱلۡقَوۡلِۗ ﴾ من الآية 33 أأنتم تنبئون الله عزَّ وجلَّ بشيء لا يعلمه؟
ويقول الله سبحانه وتعالى: ﴿بَلۡ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكۡرُهُمۡ وَصُدُّواْ عَنِ ٱلسَّبِيلِۗ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِنۡ هَادٍ﴾من الآية 33. تدبَّروا معي في هذه الآيات، تدبَّروا في تخبط الكافرين، زين لهم مكرهم وكيدهم وضلالهم، فرأوا الباطل حقًّا، ورأوا الحق باطلًا، ورأوا الكفر والجحود والإصرار والعناد والغي والضلال والإذلال والذل علوًّا ومنعة وقوة، لم يروا الحقائق، مكرهم زين لهم. وزين كلمة عظيمة في هذا السياق، هو شيء قبيح في حقيقته، فإذا بذلك القبيح يهيأ للمرء أنه جميل﴿ وَصُدُّواْ عَنِ ٱلسَّبِيلِۗ ﴾ من الآية 33. يا ترى من الذي صدَّهم عن السبيل؟ ضلالهم، كفرهم، شركهم بالله العلي العظيم. وقد قال سبحانه وتعالى في الآية الكريمة: ﴿وَجَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَآءَ﴾ من الآية 33 فصدَّهم الشرك بالله عزَّ وجلَّ واتخاذ الأولياء من دونه عن السبيل، عن الحق، عن الخير، فما عادوا يرون الخير خيرًا، وما عادوا يرون النور نورًا، وما عادوا يرون الحق حقًّا.
قال تعالى: ﴿وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِنۡ هَادٍ﴾ من الآية 33. قاعدة عظيمة، امشِ في طريق الحياة وافعل ما يمكنك أن تفعله، ولكن لا تذهب نفسك حسرات على من لم يؤمن، ولا يريد الخير ولا يريد الصلاح، فأولئك في أنفسهم علوٌّ واستكبار عن الحق، وإن لم يغيِّروا ما بدواخلهم وما بأنفسهم فلن يتغيروا. ﴿وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِنۡ هَادٍ ﴾ من الآية 33 ويقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿لَّهُمۡ عَذَابٌ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ ﴾من الآية 34 عذاب الحياة الدنيا ليس بالضرورة صاعقة أو طوفان أو ما شابه، لا. عذاب الضمير، عذاب الحيرة، عذاب الكفر والشرك والشك، وعدم الطمأنينة وهذه الأخيرة مرتبطة بذكر الله سبحانه وتعالى كما ذكرنا من قبل. لا يمكن أن تمنح إلا للمؤمن الذاكر لربه جلَّ وعلا المطمئن لولايته لربه سبحانه وتعالى الذي قال في كتابه العزيز: ﴿ ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ﴾من الآية 257 / سورة البقرة. تولى سبحانه وتعالى شؤون حياتهم وتصريفها، أما هؤلاء الذين أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانًا فمن يتولى حياتهم؟ وأنا وأنت من يتولى شؤون حياتنا؟ هم يعيشون في عذاب ﴿ لَّهُمۡ عَذَابٌ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ ﴾ من الآية 34. هذا العذاب شامل لكل أنواعه، ليس بالضرورة أن يكون عذابًا حسيًّا كعذاب الأمم السابقة التي خلت، ولكن كلّ أنواع العذاب النفسي أو المعنوي، عذاب الخوف، عذاب الشك، عذاب التخبط، عذاب الخضوع لهذا وذاك، عذاب الحيرة لمن يلتفت أإلى هذا أم ذاك؟ من يرضي؟ هذه الجهة أم تلك الجهة، كلّ هذا عذاب، ويقول سبحانه وتعالى: ﴿وَلَعَذَابُ ٱلۡأٓخِرَةِ أَشَقُّۖ وَمَا لَهُم مِّنَ ٱللَّهِ مِن وَاقٍ ﴾من الآية 34
إن طريق الإيمان واضح، طريق التغيير، وتدبَّروا معي كيف تتوصل الآيات إلى تحقيق وتأكيد أهمية التغيير في حياتنا نحو الأفضل، فحياة الإنسان والتركيز على أن أفضل مفتاح للتغيير هو التغيير في داخل النفس، أن يغيِّروا ما بأنفسهم وليس هنالك شيء أفضل من أن يغيِّر الإنسان ما بنفسه من علاقته بالله عزَّ وجلَّ إيمانًا وتوحيدًا، خضوعًا واستسلامًا.