تدبر سورة الرعد: الحلقة الأخيرة

بسم الله الرحمن الرحيم

تدبُّر في سورة الرعد (الحلقة الثامنة والأخيرة)

     وصلنا إلى الحلقة الأخيرة في تدبُّرنا لسورة الرعد الكريمة العظيمة، الحلقة الختام للسورة التي توقظ الإنسان لأجل أن يغيِّر ما بنفسه، ويغير الواقع الذي يعيش فيه نحو الأفضل والأحسن.     هذه السورة العظيمة ذكرت كلّ أشكال الحوارات التي جاءت مع أولئك المكذبين، أولئك الذين وصفهم القرآن العظيم في هذه السورة الكريمة بأمثلة عديدة منها الأعمى، منها باسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه، أمثلة عديدة في هذه السورة الكريمة. وكلها لتقرب المعاني، ولتبين أن الإنسان الذي لا ينتفع بتلك الآيات المبثوثة في الكون وفي الطبيعة من حوله وفي النفس البشرية وفي الأمم التي سبقت، هذا الإنسان لا يستحق إلا أن يوصف بالأعمى. الحقائق أظهر من ألا يراها ذلك الإنسان، إلا أن يكون هذا الإنسان فعلًا قد أصيب بعمى البصيرة.

      وانتقلت بعد ذلك الآيات إلى حوارات تستنكر على المشركين أن يجعلوا لله عزَّ وجلَّ شركاء، أن يجعلوا لله سبحانه وتعالى أولياء من دونه، بعد أن تبيَّنت لهم قدرته جلَّ وعلا في كلّ شيء.  بعد ذلك تعود الآيات من جديد إلى جزاء المؤمنين، جزاء أولئك الذين واجهوا التحديات في واقعهم وفي حياتهم، جزاء الأنبياء، جزاء أولئك الذين يسيرون في درب الإصلاح.  قال سبحانه وتعالى: ﴿مَّثَلُ ٱلۡجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلۡمُتَّقُونَۖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُۖ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وَظِلُّهَاۚ تِلۡكَ عُقۡبَى ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْۚ وَّعُقۡبَى ٱلۡكَٰفِرِينَ ٱلنَّارُ الآية 35 هذا التقابل الواضح من طبيعة، ومن مزايا سورة الرعد، فهو تقابل بين الصور المتناقضة، بين صورة الإنسان المؤمن التقيِّ، وبين صورة الكافر، ولذلك جاءت في موضعين في آية واحدة ﴿ مَّثَلُ ٱلۡجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلۡمُتَّقُونَۖ

    إذن هي التقوى، التقوى التي يبرزها القرآن في هذه السورة باعتبارها عنصرًا من عناصر التغيير، وقد ذكرنا في بداية السورة أن محور السورة ومقصدها أن يغيِّر الإنسان ما في نفسه، يغيِّر سريرته التي هي محط نظر الله عزَّ وجلَّ. والتقوى لا تكون إلا في تلك السريرة، ولذلك جاء في ختام السورة، وتدبَّروا معي في الربط، جاء في ختام السورة الحديث عن التقوى. قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿ مَّثَلُ ٱلۡجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلۡمُتَّقُونَۖ﴾ من الآية 35 إذن هي التقوى، التقوى التي يرقى إليها الإنسان المؤمن حين ينقِّي تلك السريرة التي لا يطلع عليها إلا الله سبحانه وتعالى .وكما أشار النبيّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: (التقوى ها هنا وأشار إلى صدره الشريف).إذن التقوى ليس محل رؤية الآخرين من البشر، لا تقاس بكمٍّ، ولا تقاس بنوع، ولا تقاس بمدح الناس ولا بإقبال الدنيا على ذلك الإنسان ولا بإدبارها. هي بين العبد وربه. ولكنها تنعكس في أخلاقياته وسلوكه وتصرفاته وفي طريقة تعامله مع الآخرين، ولكنها قطعًا تبدأ من القلب وتنتهي فيه.

     ثم تنتقل الآيات بعد ذلك إلى شيء من التحدِّي، قاعدة أخرى من قواعد التغيير في مواجهة تلك التحديات التي يواجهها الأنبياء والمصلحون. قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿ وَٱلَّذِينَ ءَاتَيۡنَٰهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ يَفۡرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَۖ ﴾من الآية 36 الذين آتاهم الله سبحانه وتعالى الكتاب ليسوا سواءً، وقد قال بعض  المفسِّرين إن هذه الآية الكريمة نزلت في المدينة، فالنبي صلى الله عليه وسلَّم قد واجه الذين أوتوا الكتاب في المدينة. يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ ءَاتَيۡنَٰهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ يَفۡرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَۖ﴾ ليسوا سواءً، منهم من آمن، منهم من يستبشر ويفرح بذلك الكتاب، ويدرك تمامًا أنه جاء على نفس ما أوحى الله عزَّ وجلَّ إلى موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام من قبل. 

     ويقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَمِنَ ٱلۡأَحۡزَابِ مَن يُنكِرُ بَعۡضَهُۥۚ قُلۡ إِنَّمَآ أُمِرۡتُ أَنۡ أَعۡبُدَ ٱللَّهَ وَلَآ أُشۡرِكَ بِهِۦٓۚ إِلَيۡهِ أَدۡعُواْ وَإِلَيۡهِ مَ‍َٔآبِ﴾ من الآية 36 إذن الناس ليسوا سواءً في تقبُّل هذه الدعوة، ولا في مواقفهم من القرآن الكريم، فمنهم من يفرح ويؤمن به ويقبل عليه، ومنهم من ينكره وإن كان يدرك في قرارة نفسه أنه الحق.  ولكن سواءً من أنكر ومن صدَّق وآمن فالدعوة لا تتغير، من سماتها الثبات والاستقامة، ويقول الله سبحانه وتعالى: ﴿قُلۡ إِنَّمَآ أُمِرۡتُ أَنۡ أَعۡبُدَ ٱللَّهَ وَلَآ أُشۡرِكَ بِهِۦٓۚ ﴿﴾من الآية 36

     ذكرنا في بدايات السورة الكريمة أن أعظم قاعدة من قواعد التغيير كما تأتي به هذه السورة العظيمة تتمثل في قاعدة التوحيد، ذلك التوحيد الخالص، التوحيد الذي يعلنه النبيّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم توحيد خالص، يقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿أُمِرۡتُ أَنۡ أَعۡبُدَ ٱللَّهَ وَلَآ أُشۡرِكَ بِهِۦٓۚ إِلَيۡهِ أَدۡعُواْ وَإِلَيۡهِ مَ‍َٔآبِ﴾من الآية 36 إذن هو التوحيد الذي بات سلوكًا فاعلًا في حياة الإنسان، بات دعوة حقيقية يدعو إليها ذلك الإنسان المؤمن، لا يهتم لمن صدق، لمن كذب، لمن أقبل، لمن أدبر، لمن نازع في شيء، لا يهتم بذلك قدر اهتمامه بتلك الدعوة وإيصالها للناس: ﴿إِلَيۡهِ أَدۡعُواْ وَإِلَيۡهِ مَ‍َٔآبِ من الآية 36  وفي هذه الآية لفتة عظيمة لكل المصلحين، هذه اللفتة تتمثَّل في أن المشروع الذي تقوم به وتأخذه على عاتقك وتتحمَّل مسؤولية أدائه، ذلك المشروع يجب ألا يلهيك ولا يشغلك عنه ما يقوله الآخرون عنك، فكلما انغمست واستسلمت، وكلما خضت فيما يقوله الآخرون عن مشروعك وعن عملك وعن اهتمامك وعن دعوتك، أنت في واقع الأمر تنجر في تلك الدهاليز البعيدة المظلمة، أما حين تبقى في ذلك النور، نور الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، في ذلك الحيِّز الرحب العظيم الواسع، أفق الدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ، وفي ظل هبة التوحيد الخالص، عندئذ تزداد قوَّة، ولا يهمك من جادل فيه، أو من أقبل عليه. هذا النوع من أنواع الثبات والاستقامة في غاية الأهمية في سير الإنسان في رحلة التغيير للأفضل.

        يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ أَنزَلۡنَٰهُ حُكۡمًا عَرَبِيًّاۚ وَلَئِنِ ٱتَّبَعۡتَ أَهۡوَآءَهُم بَعۡدَ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلۡعِلۡمِ مَا لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ﴾ الآية 37 إذن من المهم كذلك في قواعد التغيير وفي دعوة الأنبياء والمصلحين أن لا يكون الإنسان تبعًا لأحد من البشر، التبعية من أعظم الأمراض التي تصيب الإنسان والمجتمعات، التبعية العمياء، التبعية التي تجعل من الإنسان أداة في أيدي الآخرين، أداة من أجل أن يحقِّق رضاهم، والربُّ سبحانه وتعالى بمقتضى رسالة التوحيد التي ذكرها في الآية التي سبقت يبيِّن أن الوجهة واحدة، يقول جلَّ جلاله: ﴿ إِلَيۡهِ أَدۡعُواْ وَإِلَيۡهِ مَ‍َٔابِ﴾من الآية 36 إذن أنت وجهتك في طلب الدعوة وإيصال الرضى والتغيير التي أمر بها الله سبحانه وتعالى في واقع الحياة لا تكون من أجل إرضاء أحد من الناس. التبعية للآخرين من أجل نيل رضائهم لا يكون من صفات المؤمنين، ولا من صفات المجدِّدين، ولا من صفات المصلحين وبالطبع هو ليس من صفات الأنبياء، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَئِنِ ٱتَّبَعۡتَ أَهۡوَآءَهُم بَعۡدَ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلۡعِلۡمِ مَا لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ من الآية 37

     لا تخضع لتلك الأهواء، ولا لتلك الآراء ولا لتلك الأقوال، ولا إلى ما يقوله وما يمليه الآخرون عليك.  المشروع الإصلاحي فيه الكثير من التحديات والعقبات، والإنسان بشر، فحين يكذبونك _كما فعلوا مع النبيّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فاتهموه بالكذب افتراءً، وبالجنون وبالسحر وبالكهانة والشعوذة. وكلّ هذه الاتهامات هو منها بريء بلا شك_ لا تتأثر بهم، ولا تستجب لاتهاماتهم، وفي الأنبياء خير قدوة  تجعل منك إنسانًا ثابتًا راسخًا، الوجهة لديك واضحة تماما.  وربِّي عزَّ وجلَّ يتولى شؤون حياتك يدير ويصرف، فالباني يكون محطَّ نظر واهتمام الآخرين فلا يعنهِ الآخرون قالوا أم سكتوا، رضوا أم لم يرضوا وغضبوا. أقبلوا أم أدبروا، القضية واحدة.

       ويقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَئِنِ ٱتَّبَعۡتَ أَهۡوَآءَهُم بَعۡدَ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلۡعِلۡمِ مَا لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ ﴾ من الآية 37 وتدبَّروا معي في كلّ ما جاءوا به من أباطيل وصفها الله جلَّ جلاله بأنها أهواء، بأنها تحرِّك نفوسهم وتحرِّك مصالحهم الدنيوية العاجلة، أما ما جاءك في هذا الكتاب العظيم الذي أنزله الله عزَّ وجلَّ حكمًا عربيًّا فهو العلم. وماذا بعد الحق إلا الضلال، وماذا بعد العلم إلا الجهل والهوى والتخبُّط.

       ويقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلًا مِّن قَبۡلِكَ ﴾ من الآية 38 الآيات في ختام السورة الكريمة عبارة عن حوار واضح، حوار يلقِّن النبيّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الحجج التي يواجِه بها قريشًا وغيرهم من أهل المدينة. فقد واجه المنافقين، وواجه أهل الكتاب، واجه كلّ الأمم التي جاءت بعد ذلك تجادل في الحق الذي نزل عليه. والله سبحانه وتعالى في هذه الآيات يعطيه الحجج ويلقِّنه ويعلِّمه ويبيِّن له الحقَّ، ويبيِّن له الأشياء التي زعموا أنها الحق، ولكنها ليست بحق وإنما هي باطل. 

       ويقول الله جلَّ وعلا: ﴿وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلًا مِّن قَبۡلِكَ وَجَعَلۡنَا لَهُمۡ أَزۡوَٰجًا وَذُرِّيَّةًۚ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأۡتِيَ بِ‍َٔايَةٍ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ﴾الآية 38 كانوا يجادلون في بشرية النبيّ عليه الصلاة والسلام، كيف تكون نبيًّا ويكون لك أزواج وأولاد وذرية؟ والله سبحانه وتعالى يبيِّن له أنه ما من رسول من قبلك أرسل إلا وكان له أزواج وذرية.  قضية البشرية في الأنبياء والرسل مقصودة لذاتها. فربِّي عزَّ وجلَّ لو أرسل إلى البشر ملَكًا من غير جنسهم لقالوا كيف نقتدي به؟ كيف نتأسَّى بهديه؟ كيف نسير على ما يقول، ونلبِّي دعوته وهو ليس مثلنا، لا يشعر مثل مشاعرنا ولا يواجه ما نواجهه كبشر؟ 

     الله جلَّ جلاله أراد بحكمته ولطفه بعباده أن يجعل الأنبياء رسلًا من البشر لهم احتياجات البشر، ولهم أزواج وذرية يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق لأجل أن يكون بهم الاقتداء، ولأجل أن يجد البشر فيهم ضالَّتهم المنشودة في الاقتداء بمن هو عظيم.  الأنبياء بشر في احتياجاتهم، ولكنهم أنبياء في رسالاتهم ودعوتهم، أنبياء في ذلك التغيير الذي جاءوا به ودعوة التوحيد التي هي أساس بعثهم، ودعوة الإصلاح التي هي محل الاقتداء بهم، بشرًا ورسلًا منذرين ومبشِّرين.

     ولذلك ربِّي عزَّ وجلَّ قال: ﴿وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأۡتِيَ بِ‍َٔآيَةٍ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ﴾ من الآية 38 فالأنبياء الذين سبقوك يا محمد كموسى عليهم جميعًا وعليك السلام، جاء بآيات لبني إسرائيل، وجاء بآيات لفرعون. وكذلك عيسى عليه السلام، وكذلك من سبق من الأنبياء، ولكن ما من نبيٍّ من الأنبياء جاء بآية من لدن نفسه. إنما الآيات من عند الله سبحانه وتعالى. وقد أراد الله عزَّ وجلَّ أن تكون البشرية في زمن النبيّ عليه الصلاة والسلام، وفي أثناء رسالته قد وصلت إلى درجة من النضج لتدرك بها أن الآيات والمعجزات الحسية لا تصلح مع هذه الرسالة العظيمة، هذه الرسالة الخاتمة، خاتمة الرسلات، وسيأتي أقوام لم يشهدوا تلك المعجزات الحسية لو نزلت.  إذن معجزة القرآن، والقرآن وحده كافٍ لأن يحقق ذلك الإعجاز، ولأن يجعل تلك النفوس تؤمن بأن هذه الرسالة حق، وأن هذا القرآن حق، وبأن ما يدعو إليه النبيّ عليه الصلاة والسلام حق، ولا شيء غيره.

    ثم يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿يَمۡحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثۡبِتُۖ وَعِندَهُۥٓ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ﴾الآية 39 ولذلك جاء الكلام هنا عن الرسالات السابقة لدعوة نبينا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليؤكد أن كلّ تلك الرسالات التي جاءت قبل دعوة الإسلام قد نسخت: ﴿يَمۡحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثۡبِتُۖ وَعِندَهُۥٓ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ ﴾ عنده أصل الأشياء، عنده أصل الكتاب في اللوح المحفوظ، سواء ما كان من الكتب والرسالات السابقة أو ما كان من قضاء الله عزَّ وجلَّ في البشر، أو ما كان من قضاء  الله سبحانه وتعالى في الكون. كلٌّ في كتاب.  وهذه الآية العظيمة تبيِّن للإنسان علم الله سبحانه وتعالى، علمه الذي أحاط بكلِّ شيء، علمه سبحانه بما كان وبما سوف يكون، علمه بما وقع في الأقوام وفي الرسالات السابقة، ولذلك جاء في الآية الكريمة: ﴿وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعۡضَ ٱلَّذِي نَعِدُهُمۡ أَوۡ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيۡكَ ٱلۡبَلَٰغُ وَعَلَيۡنَا ٱلۡحِسَابُ﴾ الآية 40

     هؤلاء المشركون كانوا يطالبون النبيّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بإيقاع العذاب، بإنزال ما وعدهم به من العذاب إن لم يؤمنوا، ولكن إذا لم يحدث هذا وتوفَّاك الله عزَّ وجلَّ قبل أن ترى تحققه، فإن مهمتك تنحصر في البلاغ. والله سبحانه وتعالى هو الذي يتولى الحساب، تدبَّروا كيف أن الله سبحانه وتعالى في هذه السورة العظيمة يسلي قلب نبيه عليه الصلاة والسلام، ويؤكد له المرة بعد الأخرى أن مهمتك تنحصر في البلاغ. كان يشق عليه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن قومه لا يؤمنون برسالته، كان وهو الرحمة المهداة للبشرية حريصًا على أن يؤمنوا، ولكن الله عزَّ وجلَّ أراد أن يبيِّن له -والكلام لكل المصلحين السائرين على دربه وهداه- أن دعوة الإصلاح ودعوة التغيير نحو الأفضل ليس من مقتضياتها حرص الإنسان الشديد على أن يسير معه كلّ الناس، كلّ من يحب من الأهل والأقارب والأصحاب وحتى الأبناء.  نوح عليه السلام، على سبيل المثال، ما آمن به ابنه، إذن المسألة هنا أن مهمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هي البلاغ وأن الله عزَّ وجلَّ عليه الحساب. 

     ثم انتقلت الآيات إلى بيان آية تُفهم في كل عصر بشكل مختلف حسب تطور العلم  وارتقائه قال سبحانه وتعالى: ﴿أَوَ لَمۡ يَرَوۡاْ أَنَّا نَأۡتِي ٱلۡأَرۡضَ نَنقُصُهَا مِنۡ أَطۡرَافِهَاۚ من الآية 41 يقول ربِّي عزَّ وجلَّ أنه ينقص الأرض من أطرافها، كيف ينقصها؟ ممكن أن يكون النقص من خلال موت العلماء والناس والأنبياء والرسل والمصلحين، وممكن أن الأرض هي بالفعل تتناقص كما أشارت بعض النظريات الموجودة في العصر الحديث على تفاصيل مختلفة، ممكن، ولكن من الواضح جدًّا أن سياق الآية الكريمة، والمقصود من الآية أن الأرض بيد الله سبحانه وتعالى، فإذا كانت الأرض على وتساعها أمام أعيننا بهذا الحجم فإن البشر لا يساوون أمام حجمها شيئًا، هم كالذرِّ، وأقل من الذر مقارنة بالأرض. فإذا كانت الأرض التي خلقها الله سبحانه وتعالى والبشر فيها كالذرِّ ينقصها الله عزَّ وجلَّ من أطرافها، فما بالك بالبشر؟ هو جلَّ جلاله قادر عليهم سبحانه وتعالى، قادر، وقدرته معجزة سبحانه وتعالى، قادر على أن ينزل عليهم العذاب، وأن يأخذهم أخذ عزيز مقتدر. 

      ولكن لكلِّ أجل كتاب، كلّ شيء عنده بمقدار سبحانه وتعالى يمهل ويمهل ويعطي الفرصة للبشر، ولكنه في ذات الوقت سبحانه وجل في علاه حين يحكم: ﴿ لَا مُعَقِّبَ لِحُكۡمِهِۦۚ وَهُوَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ﴾ من الآية 41  إذًا في هذه الآية الكريمة ربِّي عزَّ وجلَّ يطمئن قلب النبيّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأن عناد هؤلاء المشركين، ومجادلتهم بالباطل، وتكذيبهم لهذه الدعوة العظيمة لا شك بأنه لا يغيِّر من الحقائق شيئًا.  العذاب حين يريد الله سبحانه وتعالى أن ينزله سينزله لأنه جلَّ جلاله هو الذي يحكم، ولا معقب لحكمه، وهو سريع الحساب، بقدر ما يمهل ويعطي الإنسان الفرصة تلو الفرصة إلا أن حسابه سريع، تهديد، ووعيد لأولئك المكذبين. 

      ولذلك قال سبحانه وتعالى: ﴿وَقَدۡ مَكَرَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ فَلِلَّهِ ٱلۡمَكۡرُ جَمِيعًاۖ ﴾ من الآية 42 يمكرون، وقد مكروا بالنبي عليه الصلاة والسلام. وتدبَّروا معي في التمهيد، قلنا إن هذه السورة الكريمة نزلت في أواخر العهد المكي، وقريش كانت تمكر بالنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، بمعنى أنها كانت تحتال لأجل الوصول إلى ما تريد، كانت تريد القضاء على دعوة الإسلام فكانت تخطِّط وتمكر به وبأصحابه وبهذه الدعوة، ﴿وَقَدۡ مَكَرَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ من الآية 42 ولكن أين ذهب ذلك المكر؟ مكر اليهود بموسى عليه السلام، ومكروا بالأنبياء من قبله، ومكروا بعيسى عليه السلام، أين ذهب مكرهم؟ ﴿ فَلِلَّهِ ٱلۡمَكۡرُ جَمِيعًاۖ ﴾ من الآية 42 بما يليق بجلاله سبحانه وتعالى.  وما يريده سبحانه وتعالى نافذ في خلقه: ﴿ يَعۡلَمُ مَا تَكۡسِبُ كُلُّ نَفۡسٍۗ وَسَيَعۡلَمُ ٱلۡكُفَّٰرُ لِمَنۡ عُقۡبَى ٱلدَّارِ﴾ من الآية 42

      وتدبَّروا معي في هذه الآيات التي تقرع القلوب، القلوب القاسية التي ما هزَّتها آيات الطبيعة وآيات الكون من حولها ولا البرق ولا الرعد ولا حتى آيات هذا الكتاب العظيم.  يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَسَيَعۡلَمُ ٱلۡكُفَّٰرُ لِمَنۡ عُقۡبَى ٱلدَّارِ﴾الله عزَّ وجلَّ يعلم أن مكرهم مردود عليهم ﴿ وَيَمۡكُرُونَ وَيَمۡكُرُ ٱللَّهُۖ ﴾ من الآية 30 سورة الأنفال، فيها نوع من البيان والتمهيد لنبيِّنا عليه الصلاة والسلام أن القوم سيمكرون بك، وقد حدث في وقت الهجرة الشريفة، وفي ليلة الهجرة حين أرادوا أن يجمعوا له من كلّ القبائل ويهدروا دمه الشريف صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فنجَّاه الله عزَّ وجلَّ منهم ومن مكرهم. فهو سبحانه وتعالى يعلم ما تكسب كلّ نفس، ولمن العاقبة في نهاية الأمر ﴿وَسَيَعۡلَمُ ٱلۡكُفَّٰرُ لِمَنۡ عُقۡبَى ٱلدَّارِ

     ﴿وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَسۡتَ مُرۡسَلًاۚ ﴾من الآية 43 تلك الكلمة كانت تؤثر في قلبه الشريف صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ، فمن الصعب جدًّا على الإنسان وهو على الحقِّ أن يتَّهم بالباطل، من الصعب على الإنسان وهو يقول الصدق أن يتهم بالافتراء والكذب، فيقول الله جلَّ وعلا: ﴿وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَسۡتَ مُرۡسَلًاۚ قُلۡ كَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيدَۢا بَيۡنِي وَبَيۡنَكُمۡ وَمَنۡ عِندَهُۥ عِلۡمُ ٱلۡكِتَٰبِ الآية 43 الله جلَّ وعلا هو شاهد عليكم ويالها من شهادة عظيمة ﴿قُلۡ كَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيدَۢا بَيۡنِي وَبَيۡنَكُمۡ ﴾ من الآية 43 الذي يشهد ويفصل فيما بيننا هو الله عزَّ وجلَّ ومن عنده علم الكتاب. 

      تدبَّروا معي كيف ختمت السورة العظيمة وكيف جاءت في بداياتها، في بداياتها قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿الٓمٓرۚ تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱلۡكِتَٰبِۗ وَٱلَّذِيٓ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن ربِّك ٱلۡحَقُّ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يُؤۡمِنُونَ﴾الآية 1 وآخر آية في السورة الكريمة ﴿قُلۡ كَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيدَۢا بَيۡنِي وَبَيۡنَكُمۡ وَمَنۡ عِندَهُۥ عِلۡمُ ٱلۡكِتَٰبِ﴾ من الآية 43  إن ما أُنزل إليك هو الحق، وهم يكذبون به وأكثر الناس لا يؤمنون به ولكن لا يهم فالشهيد هو الله سبحانه وتعالى، وكفى بالله شهيدًا، وكفى بالله نصيرًا، وكفى بالله وليًّا. 

ولنا أن نتساءل، وقد تعلمنا الربط في تدبُّرنا لأيِّ سورة من سور القرآن العظيم، يا ترى ما علاقة الآية الأخيرة بالمحور الأساس والمقصد من السورة ﴿قُلۡ كَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيدَۢا بَيۡنِي وَبَيۡنَكُمۡ وَمَنۡ عِندَهُۥ عِلمُ ٱلۡكِتَٰبِ ﴾ من الآية 43 ما علاقتها بطريق الإصلاح والتغيير؟ الطريق الذي تعترض الإنسان فيه الكثير من العقبات والتحديات التي تكون من أولئك الذين لا يرغبون في التغيير، وقريش وكفارها كانوا لا يريدون تغيير دين الآباء والأجداد، كانوا يريدون أن يبقوا الأمر على ما هو عليه. ولكن ربِّي عز وجل حين جاء بهذه الآية الكريمة ﴿ كَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيدَۢا بَيۡنِي وَبَيۡنَكُمۡ ليس المهم من يشهد لك بالحقِّ، تدبَّروا معي في هذا المعنى، ليس المهم أن يشهد لك هؤلاء بهذا الحقِّ أو لم يشهدوا، افتروا عليك أم لم يفتروا، كفى بالله شهيدًا بيني وبينكم، شهيدًا على أنك أنت على الحق، وأنهم على الباطل والضلال، تدبَّروا معي كيف جاءت الشهادة هنا. شهادة الله عزَّ وجلَّ على أنه على الحق، وأنه مرسل من عند ربه أمام كلّ ذلك التكذيب﴿ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يُؤۡمِنُونَ﴾ من الآية 1 تدبَّروا معي كيف يُسقط الله عزَّ وجلَّ من نفوس أنبيائه، ومن نفوس البشر والمصلحين والمجدِّدين، كيف يسقط من نفوسهم منزلة الخلق، والنظر إلى ما يقوله الآخرون حتى وإن كثروا.  قد يكثر من يقول عنك الافتراء والكذب، ولكن تدبَّر كيف يسقط القرآن العظيم في سورة الرعد الكريمة منزلة ما يقول هؤلاء جميعًا من خلال استشعارك واستحضارك أن الله سبحانه وتعالى هو الشهيد بينك وبين الآخرين، وكفى بالله شهيدًا، نسأل الله جلَّ جلاله أن يغفر لنا، وأن يرينا الحق حقًّا، وأن يرزقنا اتِّباعه، وأن يريَنا الباطل باطلًا، وأن يرزقنا اجتنابه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *