تدبر سورة الرحمن: الحلقة السابعة

الحلقة السابعة
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله حمد الشاكرين والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وقفنا في تدبرنا في سورة الرحمن المباركة عند تلك الأيات العظيمة التي جاءت تبين جانبًا من عظيم قدرته سبحانه على خلقه،وحكمته،وتدبيره، ولطفه،وقدرته المطلقة،وحكمه في خلقه،تلك الأية العظيمة التي جاءت تتوعد أولئك الذين لا يقيمون الوزن بالقسط،يطغون في الميزان،ويخسرون الميزان،ويحيلون ما أمر الله به (سبحانه وتعالى)من إقامة العدل في الأرض إلى فوضى ودمار وفساد،أولئك الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، أولئك الذين يقتلون ويسرقون وينهبون،من هنا جاء الوعيد.ولنا أن نتساءل ونقف ونتخيل كيف هذه السورة المباركة التي اُفتتحت باسمه الأعظم الرحمن قد حوت من ألوان وأشكال الوعيد ما قد حوت،كما سنأتي عليه بعد قليل في الحديث عن مصائر المجرمين،كيف والسورة كلها منذ بداياتها إلى خواتيمها فيها تجليات الرحمة والعناية الإلهية بالعباد.السؤال في الحقيقة يحتاج إلى تدبر وتأمل،من رحمة الله بعباده أن يحيط بالمجرمين المفسدين في الأرض،أن يتوعدهم بالبطش،وبالقدرة عليهم،أولئك الذين يغترون من أمثال فرعون وقارون،والتاريخ والحاضروحتى المستقبل فيه الكثير من هذه النماذج،نماذج الطغاة،نماذج أولئك الذين يطغون في الميزان،نماذج أولئك الذين يتسلطون على عباد الله. القرآن يريد من الناس أن يقيموا الوزن بالقسط ولا يخسروا الميزان،فإذا لم يكن هناك من يتوعد هؤلاء،ويبين لهم بالزجر والوعيد والأدلة الثابتة الدامغة أنه محيط بهم قادر على الإطاحة برؤوسهم،قادر عليهم،أنى للعدل أن يرى بصيص أمل أو نور في هذه الأرض؟ هؤلاء من المفسدين الذين يظنون ويتوهمون أنهم أقوياء،وأن قوتهم لا مثيل لها،وأن لا أحد من الخلق يستطيع أن يسقطهم أو يطيح برؤوسهم،طغوا،تجبروا في البلاد،أكثروا فيها الفساد كما جاء في سور أخرى.هؤلاء بحاجة إلى هذا الشكل من الوعيد والزجر لأجل أن يتوقفوا عن ما هم فيه.لعل بعض من هؤلاء يرجع إلى نفسه فيصلح ما قد أفسد،ولذلك جاءت هذه الأيات العظيمة بهذه القوة وذاك الوعيد{يَٰمَعۡشَرَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِ إِنِ ٱسۡتَطَعۡتُمۡ أَن تَنفُذُواْ مِنۡ أَقۡطَارِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ فَٱنفُذُواْۚ} وقلنا أن اختيار مفردة ولفظة النفاذ فيها إعجاز،القرآن لم يأتِ بكلمة خروج بل بالنفاذ الذي هو أقل بكثير من الخروج،أدق،أعمق،حتى ولو منفذ بسيط تستطيعون منه أن تنفذوا من حكم الله وأمره وقضاءه فيكم،قال:{فَٱنفُذُواْۚ لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلۡطَٰنٍ} سلطان أقوى من ذلك السلطان،سلطان الله (سبحانه وتعالى) على خلقه لا يدانيه سلطان،وقدرته على خلقه لا يدانيها أحد،ولا يضاهيها شيء في الكون،من هنا جاءت بعد ذلك،وبعد هذا الوعيد قوله (جل شأنه):{يُرۡسَلُ عَلَيۡكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٍ فَلَا تَنتَصِرَانِ (35)} القدرة المطلقة المحيطة بعباده،يرسل عليكم اللهب،والدخان بلا لهب،وبدون نار،ونحاس مما تعرفون،مواد وفلزات ومعادن تعرفونها،بل وأنتم تطوعونها وتصنعون منها الأشياء المختلفة،وربي (جل شأنه) أوجدها في الأرض،ولكن قدرة الله (سبحانه وتعالى) على أن يجعل من هذه المواد التي تعرفون وتصنعون منها مختلف الحاجيات وتتعاملون معها،الله (سبحانه وتعالى) قادر على أن يجعل من هذه المواد الخام مصادر لإيقاع العذاب الشديد بأولئك المفسدين في الأرض.وذكرنا ونذكر دومًا أن البعض قد يتساءل:لما كل هذا الوعيد مع المفسدين في الأرض؟ انظر إلى حال الخلق ألاف،ملايين من البشر لا يجدون لهم مأوى،ولا مسكن،ولا مايأكلون لهم ولصغارهم،هجروا،عذبوا،سجنوا،قتلوا تقتيلا،من لهؤلاء أمام سطوة هؤلاء من المتكبرين الأقوياء المتجبرين؟ لا محاكم دولية،ولا مؤسسات،ولا أمم متحدة،ولا أحد يقف في وجههم،ولا في وجه طغيانهم المحموم المسموم،ولا في وجه تكبرهم وتجبرهم،فكان لابد لهذا الوعيد أن يكون،حتى يرسل الله (سبحانه وتعالى) رسالة للخلق أنك يا من تتوهم أنك قوي الله أقوى منك، يا من تتجبر وتتكبر على عباد الله وتتسلط علي رقابهم الله قادر عليك،هذه الرسائل،هذه المعاني العظيمة. من هنا جاء في السورة المباركة موقف الحساب كأنه حاضر،نحن في الدنيا،وقبلها بأيات ربي (جل شأنه) يقول:{وَلَهُ ٱلۡجَوَارِ ٱلۡمُنشَ‍َٔاتُ فِي ٱلۡبَحۡرِ كَٱلۡأَعۡلَٰمِ (24)} ويحدثنا عن الليل والنهار،والمشرق والمغرب،فما بال الأيات أخذتنا هذه الأخذة السريعة إلى يوم القيامة،وبين لك أن الدنيا وأيام الدنيا مهما طالت فهي قصيرة،وأنك يا إنسان مهما رحلت هنا أو هناك الله قادر عليك.من هنا جاءت الأية العظيمة التي بعدها تبين جانبًا من جوانب قدرته (جل شأنه) في ذلك اليوم العصيب،وذاك الموقف الشديد،قال:{فَإِذَا ٱنشَقَّتِ ٱلسَّمَآءُ فَكَانَتۡ وَرۡدَةً كَٱلدِّهَانِ (37)فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38)} السماء اعتادتم عليها،سماء الدنيا التي اعتادنا أن نراها،وربي (جل شأنه) ذكرها في بداية السورة،قال:{وَٱلسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ ٱلۡمِيزَانَ (7)} اعتادتم وألفتم أن ترونها هكذا بهذا الحبك،وبهذه الخلقة،وبهذه الصنعة،لا شقوق ولا تفطر فيها،ولذلك في سورة الملك قال:{فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ(3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ(4)}هذا ما ألفتموه في حياتكم ولكن الأمور ستتغير يوم القيامة بقدرته (جل شأنه)،قال:{ٱنشَقَّتِ ٱلسَّمَآءُ} ثم هذا الوصف الدقيق {فَكَانَتۡ وَرۡدَةً كَٱلدِّهَانِ} في لونها،في احمرارها،في شكلها،الأمر الذي حمل بعض المفسرين المعاصرين أو مِن مَن يبحثون عن أوجه الإعجاز العلمي في القرآن أن يقولوا بأن ثمة صور التقطت للأرض تبين كيف أن السماء بعد إنفجارات معينة من الأجرام والكواكب المختلفة تظهر وكأنها وردة كالدهان فالأمر يؤكد هذه الحقيقة،لسنا بحاجة لتأكيد هذه الحقيقة،المؤمن الذي يستيقن بأيات وكلمات هذه الحقائق التي جاءت في كتاب الله ليس بحاجة إلى المزيد من الكشوف العلمية حتى تبين له أن هناك إمكانية أن تصبح السماء وردة كالدهان.أما وأن الخالق (جل شأنه) قالها في محكم كتابه العزيز فهي كائنة،حاصلة،لا غبار على ذلك. قال:{فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38)} وذكرنا أن هذه الأية العظيمة في كل مرة تذكر فيها تبين وتبني فيَّ معنى جديد،ما المعنى الذي تريده في هذه الأية؟ المعنى متصل بما قبلها،معنى بناء الخوف والرهبة من الله (سبحانه وتعالى).وقلنا وذكرنا فيما سبق أن هذه الصلة التي تبنى في سورة الرحمن بين العبد وربه لا تبنى فقط بناءًا على تجليات الرحمة والإيمان برحمته سبحانه،والرجاء،ولكن لابد للطائر لكي يطير من جناح أخر ألا وهو جناح الخوف.هذا الجناح لا يبنى إلا من خلال تعرف العبد على صفاته (سبحانه وتعالى)،وشيء من جوانب قدرته وإحاطته بخلقه،فجاءت الأية العظيمة تبين ذلك وتبنيه في نفس الإنسان.أما وأنك علمت أن الذي خلق السماء ورفعها بلا عمد قادر على أن يشقها شقًّا،ويجعلها وردةً كالدهان،فإذا استيقنت واستقرت هذه الحقيقة في نفسك،هذا بناء يبنى بالأية في قلب الإنسان المؤمن لأن من أعظم المقامات التي تبنى فيصل إليها الصالح من عباد الله مقام خشية الله،والخشية من الله (سبحانه وتعالى) لا تتولد بين ساعة وأختها،تتولد بالأيات التي تقرأ،تبنى بالأيات التي يتدبر فيها العبد ويتفطن،ويقف عندها مليًّا،وتنعكس على أخلاقه وسلوكه والواقع الذي يعيش فيه. قال:{فَيَوۡمَئِذٍ لَّا يُسۡ‍َٔلُ عَن ذَنۢبِهِۦٓ إِنسٌ وَلَا جَآنٌّ (39)}في ذلك اليوم العصيب لا أحد يسئل،وأيات أُخر في كتاب الله (جل شأنه) تقول:{ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ(24)}(51) وأحاديث صحيحة تبين أن لا تزول قدم عبد يوم القيامة حتى يسئل عن كل شيء،عن عمره،وعن ماله،وعن حياته،وعن شبابه،ووقته،عن كل صغيرة وكبيرة،وربي (جل شأنه) في سورة الكهف يقول:{وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ۚ}(52) إذن فكيف نجمع بين هذه الأية العظيمة التي تقول:{لَّا يُسۡ‍َٔلُ عَن ذَنۢبِهِۦٓ إِنسٌ وَلَا جَآنٌّ} وبين أيات أُخر كلها تؤكد الحساب؟ هذا موقف،القيامة مواقف،ليس موقفًا واحدًا،يوم القيامة فيه محطات كثيرة،تنتهي من محطة فتأتيك المحطة التي تليها،هذه المحطة التي يحدثني القرآن عنها في سورة الرحمن انتهى فيها السؤال فـــ {لَّا يُسۡ‍َٔلُ عَن ذَنۢبِهِۦٓ إِنسٌ وَلَا جَآنٌّ}في تلك المرحلة،ثم إن الله (جل شأنه) محيط بعباده،عالم عليم خبير بذنوبهم وأعمالهم،فالأية فيها المزيد بعد من التهديد والوعيد أن الله (جل شأنه) لا حاجة به إلى سؤال إنس أو جان عن ذنوبهم،أحاط بها علمًا،وأحصاها عددًا،وكتبها الملائكة المقربون كتابة في الكتب،ولذلك الأيات وهذه الأية تقرأ في مجموع الأيات الأُخر،قال:{فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ۚ} الكتاب موجود،كأن القرآن العظيم في هذا السياق يقول لك:لا حاجة لسؤال أحد،كل شيء مكتوب،ونحن نقول في بعض الأحيان حتى في سياق كلامنا وأحاديثنا حين يكون المتحدث الذي يحاكم ويسأل الطرف الأخر واثق ممالديه من معلومات ووثائق وأدلة وبراهين فيقول له:لا حاجة لي بسؤالك، أنا أعرف كل شيء.سياق التهديد والوعيد،وأنه له المثل الأعلى قد أحاط بذنوب عباده،ولذلك ربي (جل شأنه) لا يسأل هؤلاء فقد أحاط بهم وأحصى كل شيء علمًا،زيادة ودلالة على التهديد وبناء في ذات الوقت للتهديد للمسيئين،وبناء الإيمان والخشية والخوف من مقام الله الذي هو أعلى مقامات العبودية،بناءها في نفس المؤمن،بمعنى أخر:أن ياعبد يا مؤمن راقب الله (سبحانه وتعالى) في نيتك،في سرك،في قولك،في فعلك.هذا نوع من أنواع البناء والتكريس لمقام المراقبة لله في السر والعلن الذي هو من أعلى مقامات العبودية،هذا بناء إيمان حين يدرك العبد أن الله (سبحانه وتعالى) مطلع على ما يخفيه تزداد خشية الله في سره.كيف تبنى الخشية وهي من أعظم المقامات؟ قال:{إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ(12)وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ ۖ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(13)}(53) كيف تبنى؟ هذه الأيات العظيمة التي تؤكد لك أن في العلاقة مع الله (جل شأنه) لابد أن تفهم أن السر عنده كالعلانية،فإذا ما استقرت هذه الحقيقة في قلبك بات حرصك على أن تطهر وتنقي سرك الذي لا يطلع عليه إلا الله أعظم من الانتباه والالتفات إلى العلن الذي يطلع عليه الخلق،الخلق يطلعون على الظواهر،والله يعلم الظواهر والسرائر.قال:{فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40)} تدبروا في الربط مع الأية التي قبلها،والبناء الذي يؤسس في سورة الرحمن،وإذا بالأية العظيمة تنتقل إلى مرحلة جديدة،تلك المرحلة هي مرحلة الحساب لمن؟ للمجرم،للمسيء.ولابد أن نقف طويلًا عند هذه المفردة القرآنية التي احتفى بها القرآن،ذكرت في أكثر من ستين موضعًا في كتاب الله (جرم،أجرموا،مجرمون،مجرمين،مجرم) وهكذا،ونحن ذكرنا من قواعد التدبرونذكر دومًا أن الإجرام يختلف عن الظلم،يختلف عن الكفر،وعن الشرك.يوجد مفردات تتداخل في بعض المعاني وهذا صحيح، ولكنك حين تقرأ المفردة في السياق تفهم المعنى.المجرم بشكل عام لو تتبعنا هذه المفردة في أكثر من ستين موضعًا في كتاب الله التي ذكرت فيها، ذكرت كثيرًا في سورة الأنعام في أربعة مواضع،ذكرت في سورة هود،ذكرت في سورة القصص،في سورة المدثر،قال:{فِي جَنَّٰتٍ يَتَسَآءَلُونَ (40) عَنِ ٱلۡمُجۡرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمۡ فِي سَقَرَ(42)}وغيرها من السور،كل هذه المواضع تبين لنا حقيقة واحدة أن المجرم مع النظر في معنى هذه المفردة في اللغة هو ذاك الإنسان الذي قطع صلته بالله (سبحانه وتعالى)،ولذلك ربي سبحانه في سورة البقرة،وفي سورة الرعد يقول:{الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ۚ } تدبروا في دقة المفردة،الله أمرك بالوصل فإذا بذاك المجرم قطع، وسنأتي عليها في سياق الأيات التي تكلمت صريحًا عن المجرمين،ربي (جل شأنه) على سبيل المثال في سورة الصافات يقول:{إِنَّا كَذَٰلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ(35)}تدبروا في الكلمة،كلمة “لا إله إلا الله” رأس العلاقة بينك وبين الله (جل شأنه) قطعوها بالاستكبار، قطعوها بالإعراض،قطعوها بمناقضة أفعالهم لمحتوى وفحوى هذه الكلمة العظيمة.أيضًا في سورة المدثر:{قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ(43)} تدبروا معي،الصلاة صلة بينك وبين الله (جل شأنه) كلما أدمتها،وحافظت على أركانها،وشروطها،وخشوعها،وإقامتها في حياتك وقلبك كلما قويت تلك الصلة بينك وبين الله (جل شأنه)،فإذا لم يكن العبد من المصلين،تدبر في الربط حتى في الحروف (صلاة،صلة، مصلي) تدبر في هذه المعاني العظيمة،منظومة كاملة،الصلاة ليست مجرد حركات من قيام وركوع وسجود فحسب،الصلاة صلة بينك وبين الله (جل شأنه)،فإذا أضعفت وقطعت تلك الصلة سواء بتقطيعها من خلال عدم أداءها في أوقاتها أو من خلال أنك لا تحافظ على أركانها،تأتي بها حركات وروح الصلاة الخشوع،قطعت الصلة بينك وبين الله سبحانه،أضعفتها،جعلتها واهية،إذا حدث هذا بدأ الإنسان شيئًا فشيئًا يتعرض لأن يسلك في سبيل الإجرام والإجرام.السلك الإجرامي ليس كما يطلق أو تطلق هذه المفردة في السياقات التي نستعملها أن المجرم هو الذي يقوم بعمل جنائي من قتل أو سرقة،في القرآن أوسع،أشمل،أدق،أعمق.هذه البوابة التي يلج منها الإنسان إلى عالم الإجرام تبدأ بقطع الصلة مع الله (سبحانه وتعالى)، لذلك ربي (جل شأنه) يقول:{إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا}(54)كيف يأتي الإنسان ربه مجرمًا؟ قطع الصلة،واعلم أن كل ذنب يقوم به العبد وخاصةً تلك الذنوب التي تتعلق بحقوق العباد فيها قطع للصلة بينك وبين الله (جل شأنه)،كأن العبد كلما قطع عروة من عرى الخيط الذي يربط بينه وبين خالقه (جل شأنه) وله المثل الأعلى انفصم شيء،وكلما انفصمت عروة كلما أصبح ذلك الإنسان أكثر عرضة لأن يقع في الجريمة والإجرام،تدبروا في هذه المعاني.قوة صلتك بالله (سبحانه وتعالى) تقيك،تحصنك،تحميك،تجعلك بعيدًا عن أن تكون في مضني الإجرام، قال:{مَا سَلَكَكُمۡ فِي سَقَرَ(42)} ما الذي جعلكم تسلكون؟ تدبروا في دقة المفردة (سلك)،وكأن القضية تدخل في سياق حتى عدم الشعور بها،أن تدخل أو يسلك الإنسان شيء رقيق،شعرة رقيقة قد لا يلتفت إليها،قد لا يعيرها اهتمامًا أو انتباهًا،قال:{مَا سَلَكَكُمۡ فِي سَقَرَ(42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43)} أول وأعظم شيء.قال:{وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ(44)} تدبروا في الصلة بينك وبين الخلق،وأي خلق؟ المساكين الذين لا يؤبه لهم،كلما زادت وقويت صلتك بالخلق،ضعاف الخلق من الناس،عامل مسكين لا يجد قوت يومه،لا أحد يأبه له،لا أحد يشعر بآلامه ولا أحزانه،لا أحد يلتفت إليه إذا فرح،إذا وقع في شده أو مرض فلا أحد يزوره ويعوده،لا أحد يدعوه حين يدعا الكرام من القوم وكبارهم إلى الموائد العريضة، هؤلاء فيهم تجد تلك الصلة،من خلالهم تقوى صلتك بالله سبحانه،تدبروا في هذا المعنى العظيم:{وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ(44)} لماذا جاء في سياق إطعام المسكين؟ ذكرنا في أكثر من مرة أن أعظم ما يقوي صلتك بخالقك (جل شأنه) الحنوّ على خلق الله من الضعفاء والمساكين. كلما أصبحت إنسان أكثر إنسانية كلما كانت جوانب في قلبك،وذاتك،وحنانك،وشعورك،وآلامك وأحزانك لآلام الأخرين قويت صلتك بالله (سبحانه وتعالى)،ولذلك أقرب الناس إلى الله أنفعهم للخلق بالكلمة الطيبة،بالمداراة،بالإحسان إليهم،بإطعام المساكين،المسألة ليست مسألة لقمة تضعها في فم المسكين،المسألة أعمق،أخطر،أعظم،زرعًا للإنسانية بشكل أعمق في قلبك وفي نفسك،قال:{وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ(44)} لم نكن نشعر بآلام المساكين لا وقت ما يجوعون،ولا نشعر بشعورهم بالبرد،ولا بأحزانهم،وانظر إلى العالم الذي نعيش فيه اليوم،هناك أُناس من البشر لا يعرفون شيئًا اسمه الفقر،ولا الجوع،ولا البرد،ولا المرض،ولا التعب،ولا الألم،يعيشون في كوكب أخر غير الكوكب الذي نعيش فيه،وآلاف بل ملايين البشر لا يجدون ما يقتاتون عليه هم أو صغار لهم،هذا التفاوت العميق بين الطبقات،هذه الطبقية المحمومة المسمومة التي أفرزتها المادية المعاصرة في عالمنا،القرآن لايرضى ولا يقبل بها،لماذا؟ القرآن يريد منك أن تكون إنسانًا.وتدبر معي في الربط في سورة المدثر بين الصلاة وإطعام المسكين،صلاتك تنهاك عن الفحشاء والمنكر،صلاتك تجعلك إنسانًا أكثر إنسانيةً وحنانًا وعاطفةً وسخاءًا ورحمةً وعطفًا على الخلق،هذه ثمرات الصلاة التي إن لم تتنعم فيها وبها وتجدها في حياتك أثرًا إيجابيًا فعليك أن تراجع صلاتك،صلاتك فيها إشكالية،الصلاة ليست حركات أوتوماتيكية تقوم بها دون أن تحرك فيك عاطفة،أو تشعل فيك ألمًا،أو حزنًا ممدوحًا ينبغي أن يكون لتشعر بآلام الأخرين،وينعكس على سلوكك وأخلاقك وتصرفاتك عطاءًا وسخاءًا وكرمًا وجودًا وإحساسًا وبذلًا لمن يستحق ذلك البذل. قالوا:{وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45)}(55) حياتنا فوضى،حياتنا خوض سواء كانت في فحوى الموضوعات التي تهمنا،أو في ضحالة الأفكار التي تقلقنا،أو في ضحالة اهتماماتنا.كلمة الخوض في القرآن هذه تستحق أن يخصص لها رسائل جامعية،(الخوض) لماذا؟ لأنها واحدة من أكبر الإشكاليات التي يعيشها الإنسان المعاصر أفراد وجماعات (خوض)،نحن نعيش ثقافة الخوض،وحياة الخوض نهارًا وليلًا،حتى أصبح لدينا الفرد الخائض،والخائض كما ذكرنا حين تعرضنا لها الكلمة في اللغة مثل الإنسان الذي يخوض في الماء،يغطيه الماء إلى مستويات عالية في جسده ولا يعرف ماذا يفعل،خاض،فكيف يكون لك أن تخوض مع الخائضين؟ تدبروا في الترابط،وفي المحصلة النهائية لكل ذلك في قضية الإجرام:{ نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} ضحالة،وأنت اليوم لو تنظر في وسائل التواصل الاجتماعي،انظر إلى كم مهول من تلك الفيديوهات القصيرة،والمقاطع، والأصوات،والصور التي ينشرها شبابنا اليوم،ولا أقول فقط شباب اليوم،ولكن كهول اليوم ماذا ينشرون؟ماذا يقولون؟ماذا يصورون؟ ستفهم معنى ثقافة الخوض التي يخوض فيها الخائضون.قال:{وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45)} تدبروا في دقة المفردة (مَعَ الْخَائِضِينَ) بمعنى:أن يسيطر على المجتمع مجموعات الخائضين،الخائضين في كل شيء،وواحدة كذلك من الإشكاليات التي تفرزها ثقافة الخوض أن الإنسان يتكلم فيما لا يعنيه، وفيما لا يفهمه،ويفتي بما لا يعلمه،تدبروا في إطلالات وانعكاسات هذه الكلمة والثقافة العجيبة في كتاب الله سبحانه،النتيجة؟ تتوالى الأيات {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46)}التكذيب ليس بالضرورة أن يكون تكذيب عدم يقين أوعدم تصديق بوقوعٍ،ولكن أن يعيش الإنسان كأنه لا يعرف يوم الدين،ولا يعرف جزاء،ولا يعرف حساب.وانظر إلى سلسلة الإجرامات التي تحدث في العالم،جرائم،جرائم حرب،هل هذه الجرائم التي تقع ربما في بعض الأحيان حتى مِن مَن يقول ويشهد أن لا إله إلا الله،جرائم حرب،جرائم تدمير للإنسانية.هذه الجرائم المروعة حين تنظر إليها وإلى ضحاياها هل يمكن أن تتخيل أن من فعل هذه الجريمة يؤمن بيوم الدين؟ التكذيب كلمة ومفردة واسعة تشمل كل شيء،سواء كان ذلك التكذيب بالقلب أو باللسان أو بالفعل،حتى ولو افترى اللسان وقال أنه يصدق بيوم الدين،التصديق بيوم الدين ليس ادعاء ولا مجرد قول،ولكن أن تفعل في حياتك ما يعكس أنك تصدق بيوم الدين،وأنك من المصدقين.هؤلاء القوم الذين قطعوا صلتهم بالله سبحانه،ومازلنا في مفردة المجرمون،هذه المفردة التي جاءت في قوله في سورة الرحمن {يُعۡرَفُ ٱلۡمُجۡرِمُونَ بِسِيمَٰهُمۡ فَيُؤۡخَذُ بِٱلنَّوَٰصِي وَٱلۡأَقۡدَامِ (41)} عذاب يتسق مع طبيعة الجرم والفعل الفظيع الذي قام به هؤلاء،فمن هم المجرمون؟ ولذلك (جل شأنه) في سورة الأنعام العظيمة الذي محورها الأساس الحديث عن الأمن الفردي والمجتمعي،قال:{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ (82)} في ترابط بين الأمن والإيمان،الشاهد ذكرنا ذلك ووقفنا عنده طويلًا في سورة الأنعام في أربعة مواضع الحديث عن المجرمين،إليك بعض من هذه الأيات،قال:{فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ(147)}(56)وعيد،أية أخرى أيضًافي الأنعام،قال:{وَكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)}عليك أن تعرف سبيل وطريق المجرمين،سمات المجرمين وصفاتهم،وأحوالهم،كل ما يمكن أن يوصل الإنسان إلى المجرمين لأجل أن تتجنبه. لا يكفي فقط أنك تعرف سبيل المؤمنين،أنت بحاجة إلى أن تعرف سبيل المجرمين حتى لا تقع فيه.تدبروا في القرآن كيف يقدم منهجًا في مكافحة الإجرام،القرآن لا يكافح ويعالج أشياء شكلية وظاهرية والأساس من الداخل فاسد لم يعالج،القرآن يعالج معالجات جذرية،فمن جوانب معالجاته للإجرام من الناحية النفسية {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} حتى تطوق وتحاصر الجريمة من كل الأنحاء،حتى تفرض طوقًا على الجريمة فلا تنتشر بين أبناء المجتمع.قد يقول قائل:ولكن لماذا القرآن يقول (وَلِتَسْتَبِينَ)؟ تدبروا في دقة المفردة في سورة الأنعام،تطلب وتقوم بعمليات وإجراءات لكي تتبين سبيل المجرمين،قضية بحث جذري فكري،وعقدي،واجتماعي،وعملي،ونفسي،واقتصادي للبحث عن أسباب الجريمة وسبيل المجرمين.واحدة من أخطر الإشكاليات التي نتعرض لها في حياتنا التباس الأمور مع بعضها البعض،كثير من المجرمين اليوم الناس والإعلام يرونهم،ويعرضونهم وكأنهم أبطال وهم من المجرمين،مجرمي حرب،ارتكبوا جرائم ضد الإنسانية،ويطلقون عليهم ويعاملونهم ويستقبلونهم ويحتفون بهم حفاوة الأبطال،التبست الأمور.نحن أحوج ما نكون إلى الاستبانة،تدبروافي دقة المفردة القرآنية:{وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ}العالم اليوم بحاجة إلى أن يستبين سبيل المجرمين، لأجل أن يحاصر الجريمة،فمعدلات الجريمة في العالم مروعة،صحيح تتفاوت ما بين مكان ومكان،وبلد وأخر،ولكن على مستوى العالم ككل المستويات مروعة،مخيفة،{وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} حتى لا يلتبس الحق بالباطل،تدبروا معي في هذه المعاني العظيمة.في أية أخرى قال:{ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ }(57)الصغار:منتهى الذلة.لماذا الحديث في القرآن في سورة الأنعام كذلك عن الذلة؟ لأن واحدة من أعظم صفات وأعمال المجرمين إذلال الخلق من الناس،وتدبروا معي فيما يحدث في العالم حتى تعرف من هو المجرم حقًا، هل المجرم من تطلق عليه وسائل الإعلام أو بعض وسائل الإعلام أنه مجرم أو بريء؟ أم أن المجرم الحقيقي هو الذي يتسلط على رقاب العباد فيذلهم إذلالًا؟ يذلهم لأجل كسرة خبز،أو بقعة أرض يريدون أن يسكنوا عليها،يذلهم في أرزاقهم،في أقواتهم،في أعمالهم،بل يذلهم حتى في تحصيل المواد والأدوات الطبية،وإنقاذ الأرواح البشرية.هذا الإذلال الذي بات المجرمون على مستوى العالم يتفننون فيه،في إذلال البشر وإهانتهم،وهم يرحلون عن الدنيا بلا حساب،بل أن البعض منهم تقام لهم الاحتفالات،والتأبين لأعمالهم وما فعلوا وما صنعوا وكأنهم أبطال.يقول الله عنهم:{ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ} ممكن عند الناس يصيبهم تعظيم وتكبير،ولكن سيصيبهم عند الله ما ذكر وعلى التقريب وليس البعيد، بأي شيء؟ {بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ} ويحيطون بالمكر والكيد والتخطيط لإهانة الناس وإذلال الشعوب.وتدبروا معي فيما يحصل في كثير من بقع العالم اليوم،تدبروا معي في صور إذلال البشر والاعتداء عليهم،والاعتداء على أعراضهم،والدوس على كرامتهم بالأقدام. عشرات،مئات،آلاف،ملايين المعارض الآن على مستوى العالم تعرض صورًا من إذلال البشر للبشر،أحيانًا يكونون من ذات الجنس،وذات الدين،وينتمون إلى ذات الوطن ويشتركون في أرض واحدة،وأحيانًا ممكن أن يكونوا من أديان مختلفة ولكن لا الاختلاف في الدين،ولا في اللون، ولا في العرق،ولا في الجنس يبرر لإنسان لديه شعور بالإنسانية أن يذل إنسان أخر ويهينه،والشرع والقرآن لا يبيح إذلال البشر،تدبروا في هذه المعاني العظيمة والتي جاء بها ربي (جل شأنه) في كتابه واضحة،ولذلك يقول (سبحانه وتعالى) كذلك عن هؤلاء من المجرمين:{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12)}(58) في أية أخرى في سورة السجدة قال:{وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ}(59) تدبروا معي،لطالما ارتفعت رؤوس هؤلاء بالباطل،بالتكبر والتجبر والاستعلاء على الأخرين،ما كانوا يرون إلا أنفسهم،ولا كانوا يرون إلا أعناقهم،فإذا بهم يوم القيامة ناكسو رؤوسهم عند ربهم،واستكمالًا للأية قالوا:{رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} تدبروا في هذه الأمنية المستحيلة التي لن تحصل أبدًا،تدبروا في القرآن كيف يحاصر الإجرام،تدبروا في القرآن كيف يحيط بأولئك المجرمين الذين لا توقفهم محاكم الدول،ولا تثنيهم عن جرائمهم العقوبات المختلفة لا اقتصادية ولا غيرها،ما الذي يوقفهم عند حدهم وإجرامهم؟ ما سيجدونه عند الله (جل شأنه)،من هنا قال:{وَكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)}أيات مفصلة،القرآن يبين لك كل شيء.أية أخرى في سورة القمر يقول:{يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ}(60) تدبروا في معاني الإذلال والإهانة،لأن البعض لما أن يقرأ هذه الأيات يقول:القرآن كتاب رحمة،لماذا يتوعد هؤلاء بكل أشكال الإهانة والإذلال؟ الآن تفهم،أذلوا الخلق،أذلوا البشر،وإذا كنت لا تدري فاقرأ،اعلم ماذا يحصل في العالم،انظر إلى صور البشر كيف يهينون الأخرين، كيف يذلونهم،ما أبقوا للإنسان كرامة إلا أهانوها،تسلطوا على الناس بقوتهم وتكبرهم وجبروتهم،ماذا تريد؟ ولذلك القرآن يقول في سورة إبراهيم: {وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَىٰ وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50)} تدبروا في المعنى.هذه المعاني العظيمة،وشيء أخر تريد أن تعرفه عن سمات المجرمين في القرآن،وسيطول الكلام بنا ولذلك نقف كثيرًا أكثر مما قد وقفنا،كل أية تأتي في سياقاتها،واحدة من أخطر سمات المجرمين أنهم يضلون الأخرين،ولذلك القرآن العظيم يقول في سورة أخرى وهي سورة الشعراء قال:{وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ(99)} وفي سورة الرحمن قال:{هَٰذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43)} وفي سورة الفرقان قال:{وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ ۗ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31)} هذه الأيات العظيمة،قال:{ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَىٰ وَهَارُونَ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ(75)}(61) وأيضًا قال:{إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29)} (62) عشرات من الأيات كما ذكرنا تبين هذا،ومنها كذلك قوله:{أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ(36)}(63) إلى أخر ذلك من الأيات العظيمة.تدبروا معي في الأيات الأخرى في سورة التوبة،قال:{وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ۚ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65)لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ۚ إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ(66)} وفي أية أخرى يقول:{لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)}(64) من أعظم سمات المجرمين كراهيتهم للحق،وعشقهم للباطل،فالمجرم يكره إحقاق الحق،وأثقل كلمة على سمعه وقلبه وحياته هي الحق،وأكثر كلمة ممكن أن يستعملها على فكرة وتجري على لسانه هي كلمة الحق والعدل،ولكن كثرة استعمال الكلمة وجريانها على اللسان لا تعني أن الإنسان على حق،قال:{لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)}كراهية الحق،الخوض بالباطل،استخدام القوة في الصد عن سبيل الله والإغواء والتزيين بالباطل،قال:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا ۚ إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ (22)}(65) سورة السجدة،هذه الكلمات العظيمة،وربي (سبحانه وتعالى) قال في سورة الأنعام:{وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا}ليمكروا،ويفسدوا، ويعملوا.إذن هذه القيادات الفاسدة الضالة المضلة التي أذلت العباد، وتسلطت على البلاد،وأكثرت فيها الفساد،وأشاعت فيها الفاحشة والطغيان،وجعلت الفساد يستشري ويستفحل في كل مفصل من مفاصل الأرض،ولا تكاد تجد بقعة من بقاع الأرض إلا وقد نخر فيها الفساد، يتركون هكذا؟ قال:{يُعۡرَفُ ٱلۡمُجۡرِمُونَ بِسِيمَٰهُمۡ فَيُؤۡخَذُ بِٱلنَّوَٰصِي وَٱلۡأَقۡدَامِ (41)} قال بعض المفسرين:يعرفون بصفاتهم،سواد في الوجوه،زرقة في العيون،والقرآن ومعاني القرآن أعظم وأعمق وأوسع وأشمل من هذا،المسألة ليست مسألة سواد في الوجه،القرآن ذكر في أكثر من أية وسورة من سور القرآن:{نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ}و{ مُّقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ}و{سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ} إذن كل هذه الصفات نفسية ومعنوية،وممكن أن تكون كذلك على الجسد تكفي لأن يعرف هؤلاء.لماذا جاء بالسمة هنا في قوله:{بِسِيمَٰهُمۡ}؟هؤلاء كانوا يعرفون بالدنيا إذا مشوا في مكان قامت الدنيا لهم ولم تقعد احترامًا وإجلالًا وإكبارًا،تلك الدنيا التي انقلبت فيها الموازين،وبات المجرم يقوم الناس له ويصفق له تمجيدًا وتشريفًا،والمظلوم يعامل كأنه ظالم ومجرم،وأنت ترى في كثير من بقاع الأرض المظلوم بات مجرمًا،والمجرم بات وكأنه بطلًا.هذا الالتباس الذي غابت فيه منهجية{وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ}. قال:{يُعۡرَفُ ٱلۡمُجۡرِمُونَ بِسِيمَٰهُمۡ} وتدبروا في دقة العذاب،والعذاب من جنس العمل قال:{فَيُؤۡخَذُ بِٱلنَّوَٰصِي وَٱلۡأَقۡدَامِ} هذه الجباه المرتفعة التي لطالما تكبرت وتجبرت على عباد الله هي التي يجر منها هذا العبد،يؤخذ أخذًا،هذه الجبهة التي ما عرفت كيف تسجد لله،والجبهة التي لا تسجد لله السجود الحق لن تعرف إلا أن تتكبر على عباد الله،تدوس على جباههم بأقدامها،وظلمها،وجبروتها،وطغيانها،قال:{فَيُؤۡخَذُ بِٱلنَّوَٰصِي وَٱلۡأَقۡدَامِ} مزيد من التعبير بالمفردة وبالكلمة عن إذلال هؤلاء القوم من المجرمين،عن ما وقع لهم وسيقع لهم من إذلال،من هنا جاءت{فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42)} ردع،زجر،بناء مزيد من البناء للخوف من مقام الله (سبحانه وتعالى)،كيف يبنى الخوف من مقام الله؟ أنت بحاجة إلى أن تخاف الله (سبحانه وتعالى) حتى لا تقع في إخسار الميزان،أنت بحاجة إلى الخوف والخشية من الله حتى لا تطغى في الميزان،ما الذي يبني الخشية والخوف؟ هذا أسلوب من الأساليب التي جاءت في سورة الرحمن {فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42)}.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *