الحلقة الخامسة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمد الشاكرين والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وقفنا في تدبرنا في سورة الرحمن المباركة عند تلك الأيات العظيمة التي جاءت تبين علامة ودلالة قدرة الله (سبحانه وتعالى)في المشارق والمغارب ،ولفت انتباه الإنسان العاقل المتبصر على أية الزمن من تعاقب الليل والنهار،والفصول وتغيرها،وأثر كل ذلك في حياته ورحلته على هذه الأرض، فكلما أشرقت شمس أو غربت لابد أن يكون للإنسان العاقل فيه أية ووقفة،هذه الوقفة التي تجعل من حياة الإنسان على الأرض لها ذوق وطعم خاص يتعلق بمهمته على هذه الأرض.ثم إذا بالأيات المباركة تنتقل إلى البحار فتقول:{مَرَجَ ٱلۡبَحۡرَيۡنِ يَلۡتَقِيَانِ ) 19) بَيۡنَهُمَا بَرۡزَخٌ لَّا يَبۡغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(21)} وينبغي ونحن نتدبر في هذه الأيات المباركة أن نتفطن دومًا إلى صلة هذه الأيات بمفتتح السورة منذ بداياتها بقوله (جل شأنه):{وَٱلسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ ٱلۡمِيزَانَ(7)أَلَّا تَطۡغَوۡاْ فِي ٱلۡمِيزَانِ(8)وَأَقِيمُواْ ٱلۡوَزۡنَ بِٱلۡقِسۡطِ وَلَا تُخۡسِرُواْ ٱلۡمِيزَانَ (9)} هذا التكليف الرباني الذي لأجله رفعت السماء،ووضع الله الأرض للأنام،ثم إن كل الأيات التي جاءت تليها في السورة لا ينبغي أن تنفك عن هذا التكليف الرباني الذي أُفتتحت به السورة،والذي لا تقرأ منفصلة عنه هذه الأية المباركة:{مَرَجَ ٱلۡبَحۡرَيۡنِ يَلۡتَقِيَانِ ) 19) بَيۡنَهُمَا بَرۡزَخٌ لَّا يَبۡغِيَانِ (20)}وهنا القرآن يحدثنا عن وجود مياة عذبة حلوة،ومياة مالحة،وفي أية أخرى من سورة الفرقان ذكر وقال:{وَهَٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ}(40) هذه الأيات تقرأ مجتمعة مع بعضها البعض.ويلاحظ أن لفظة البحر استعملها القرآن وأطلق على النهر الذي هو مصدر المياة العذبة بحر،والبحر لفظة للشيء الكثير،وممكن أن يكون هذا مسمى النهر والدليل كما ورد في الأية في قوله:{مَرَجَ ٱلۡبَحۡرَيۡنِ يَلۡتَقِيَانِ ) 19)}. ثم أن القرآن يقول لنا:{بَيۡنَهُمَا بَرۡزَخٌ لَّا يَبۡغِيَانِ (20)} وليس بالضرورة أن يكون البرزخ حاحز،فإذا كان كذلك،سواء كان حاجز مرئي أو غير مرئي،ممكن أن يكون قوانين،قوانين وضعها الخالق (جل شأنه) في خلقة هذه البحار والأنهار،ولكن لأجل أي شيء؟ كما ذكر القرآن في الأية الكريمة {مَرَجَ ٱلۡبَحۡرَيۡنِ يَلۡتَقِيَانِ ) 19)} يلتقيان ولكنهما لا يبغيان،وتدبروا في دقة المفردة (لَّا يَبۡغِيَانِ) والتي تقرأ ضمن الأية التي ذكرناها في بداية السورة{أَلَّا تَطۡغَوۡاْ فِي ٱلۡمِيزَانِ(8)} حين يقدم القرآن لهذه الأية العظيمة في البحار فليس المطلوب مني الغوص في أعماق النظريات الحديثة التي كشف عنها العلم لأدلل بعد ذلك وأعود إلى القرآن فأستشهد به في أسبقية كشفه عن هذه المعجزة قبل مئات السنين لا،ولكن المطلوب مني أن أفهم أن ثمة قوانين خلق الله (جل شأنه) بها الماء العذب والماء المالح،وأن هذا الكون المتزن بسماءه،وأرضه،وماءه،وأنهاره،وبحاره كل شيء فيه وفق حساب ونظام موزون دقيق (لَّا يَبۡغِيَانِ) على الرغم من أنهما يلتقيان كما سبق القول،ونحن نعلم أن الأنهار تصب في البحار دون أن تختلط مع بعضها البعض (قانون البرزخ) إذا صح المسمى،فلا يطغى هذا على ذاك ولا ينقص أحدهما من الأخر،ولكل منهما صفات ونسب، البحر له حياة بيئية مختلفة وأحياء تعيش فيه مختلفة تمامًا عن الأنهار العذبة،سواء كان فيما يتعلق بالأسماك،أو فيما يتعلق بالنباتات،أو فيما يتعلق بما سيذكره القرآن لاحقًا في قوله:{يَخۡرُجُ مِنۡهُمَا ٱللُّؤۡلُؤُ وَٱلۡمَرۡجَانُ (22)} والسؤال هنا:لماذا يلفت القرآن انتباه البشر في هذه الأيات المتتالية لكل هذا ويذكر لي عن قضية البحار والأحياء البحرية؟ ويذكر لي عن قضية الجوار المنشأت في البحر كالأعلام؟ القرآن في سورة الرحمن المباركة وفي هذا السياق كما ذكرنا في سياق الأيات التي تحدثت عن الفاكهة والحب ذو العصف والريحان،يؤكد حقيقة اهتمام الناس بالحياة البحرية وحياة الكائنات،اهتمام الناس بالملاحة البحرية،وفي عصرنا الذي نعيش فيه نعلم ونرى ونشاهد كيف أصبح ثمة نزاعات مختلفة بين الدول على البحار والمحيطات والأنهار،وعلى ما يكتشف في أعماقها من ثروات نفطية وغازية وماشابه،فكان لابد من قوانين للبحار والمحيطات أنشأت وشكلت الأمم المتحدة ضمن قوانينها هذه النوعية من القوانين لحسم مادة الخلاف والنزاع بين الدول حول قضية الحدود البحرية وما يتعلق بالثروات القابعة في أعماق البحار والمحيطات،القرآن في هذه القضايا يريدك أن تقرأ ذلك كله ضمن سياق الميزان،بمعنى أخر:أن الرب سبحانه حين خلق هذه البحار وتلك المساحات المائية التي تغطي حوالي 70% من سطح الكرة الأرضية مياة،بهذه الدقة وهذه القوانين،نظَّمها وأتاحها وسخَّرها للبشر كما جاء في أيات أخر لأجل أن ينتفعوا به،لأجل أن تستقيم الحياة الإنسانية على هذه الأرض.كل هذا لابد أن يقرأ ضمن إطار {وَأَقِيمُواْ ٱلۡوَزۡنَ بِٱلۡقِسۡطِ وَلَا تُخۡسِرُواْ ٱلۡمِيزَانَ (9)}حتى لا تصبح هذه الثروة المائية بحرية أو نهرية مادة للصراعات والنزاعات والاقتتال بين البشر. و انظروا إلى ما يحصل اليوم في بعض دول العالم من نزاعات،وهذه مؤشرات خطيرة لصراعات شديدة عميقة بين البشر،على أي شيء؟ على منابع الأنهار،وعلى الإفادة من الأنهار وإقامة السدود عليها،وعلى الإفادة من المياة وما فيها،فالقرآن حين يعطيك هذا القانون،القانون الكوني الواضح يريد من خلال قراءتك ضمن أطر الميزان أن تضع كذلك لحياتك،ولمياهك،ولبحارك قوانين وتشريعات لا تخرج أبدًا عن الميزان الذي أراد الله له أن يكون بين البشر فــقال:{أَلَّا تَطۡغَوۡاْ فِي ٱلۡمِيزَانِ(8)} ولا تتجاوزوا الحدود سواء ما كان يتعلق بقضايا الملاحة البحرية ووسائل النقل وتسيير الناقلات،أو ما كان يتعلق بالإفادة من موارد هذه المياة والبحار،أو ما يتعلق بالثروة السمكية والصيد.إن كثير من النزاعات التي تحصل بين الدول اليوم تحصل نتيجة قضية الخلاف على قضايا متعلقة بالصيد،صيد الأسماك والمخلوقات الأخرى المختلفة،والكشف والتنقيب عن ثروات الأنهار والبحار،وحين يأتي القرآن بهذه الأيات يريد منك أن تلتفت إلى إقامة الوزن بالقسط،يريدك أن تلتفت إلى إقامة النظم الكفيلة بحسم مادة الصراع والنزاع بين البشر وإقامة نظم وعلاقات جوار قائمة على احترام حقوق الأخرين،هذا الاحترام الذي يؤدي إلى التعايش والتعاون،لا الصراع والتنازع والخصام والاقتتال،ولذلك جاءت الأيات العظيمة بعدها بقوله (جل شأنه):{فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(23)} ونحن ذكرنا فيما ذكرنا أن في كل مرة ذكرت فيها هذه الأية العظيمة مقصد ومعنى يتسق تمامًا مع الأيات التي جاءت قبلها،فحين يقول ربي (جل شأنه):{مَرَجَ ٱلۡبَحۡرَيۡنِ يَلۡتَقِيَانِ ) 19)} ورغم أنهما يلتقيان لا يبغيان،يريد منك أيها الإنسان أن تتعلم من هذه الأية العجيبة،من هذه العلامة الدالة على قدرة الله (سبحانه وتعالى) وحكمته،وحسن صنعه وتدبيره لشئون الكون،أن يكون في حياتك أنت نظام يجعل هناك ثمة أوجه للالتقاء دون البغي وتجاوز الحدود،بمعنى أخر،وهذه حقيقة جغرافية معروفة،أن هناك دول تشترك في مواقعها المائية،فهي لا تستطيع أن تغير من موقعها الجغرافي،ولا من تضاريسها،ولا حتى من جوار هذا أو ذاك إذا لم تكن تريد هذا الجوار لا،فأنت شئت أو أبيت أنت جار لهذه الدولة وغيرها، والمطلوب منك (يلتقيان لا يبغيان) أن تتعلم من هذا النظام الكوني العميق الدقيق،أن تكون هناك ثمةة نقاط للالتقاء دون بغي،دون طغيان،هذا كله يندرج تحت معاني الميزان وإقامة الوزن بالقسط،بمعنى أخر:العلاقة بين القسط والبغي والطغيان والخسران،فذلك القسط الذي يقسم بين الدول المختلفة أنصبتها وحقوقها المائية سواء كان في المياة الإقليمية أو في غيرها،أو في الثروات بما يضمن حسم مادة الصراع والنزاع بين البشر، لماذا؟ لأن الصراع لا يمكن أن يحدث في إقامة العدل بل يحدث عند غياب العدل،عند قيام البغي،عند حدوث طغيان أوخسران،ونحن قلنا الأمر يتعلق بكفتي الميزان،فعندما يحدث طغيان في مكان قطعًا سيحدث خسران في مكان أخر وكفة أخرى،والبغي حتى لا يحصل لابد أن يكون ثمة ضبط للنسب،فلا طغيان ولا خسران. قال:{يَخۡرُجُ مِنۡهُمَا ٱللُّؤۡلُؤُ وَٱلۡمَرۡجَانُ (22)} وتدبروا معي في عمق الاتصال والتناسب بين الأيات في كتاب الله (جل شأنه)،هذا بيان أن هذه البحار فيها لؤلؤ ومرجان،هذا جزء من الثروات الموجودة فيها،هذا نموذج يقدمه لنا القرآن.ولنا أن نتوقف هنا قليلًا عند هذه الثروات التي نعلم جيدًا أن اللؤلؤ كانت ومازالت لسنوات طويلة حتى اليوم قامت على أساسها حضارات أمم،فالغوص في البحار والخلجان المختلفة لاستخراج الؤلؤ،وصناعة وتجارة الؤلؤ والمرجان قامت عليها أمم ودول،وعاشت عليها أجيال.إذن القرآن حين يلفت الأنظار إلى اللؤلؤ والمرجان يقرر حقيقة أن هذه المياة العذبة والمالحة فيها ثروات من جملتها اللؤلؤ والمرجان،هذه الثروات التي أنعم الله بها على البشر كما أنعم عليهم بثروات أخرى على سطح الأرض اليابسة،والمطلوب منك أن تجعل من هذه المواد وهذه الثروات عناصر قوة لأجل أن تكون مادة للتعاون والعيش الكريم بين الناس على الأرض،مادة سخرها لك لأجل أن تقيم المنهج وفق ما أراد،وفق الميزان الذي أمر بإقامته،وفق العدل الذي أمرك بحمايته،وفق التكليف الذي كلفك به في البداية،قال:{أَلَّا تَطۡغَوۡاْ فِي ٱلۡمِيزَانِ(8)وَأَقِيمُواْ ٱلۡوَزۡنَ بِٱلۡقِسۡطِ وَلَا تُخۡسِرُواْ ٱلۡمِيزَانَ (9)} وعليه إذا ما طبقت هذه التكليفات فلن تكون هناك نزاعات وصراعات بين الدول على هذه الثروات من اللؤلؤ والمرجان والاكتشافات النفطية والغازية،وإنما تكون مادة للتعاون وإقامة منهج الله الحق على هذه الأرض،وكل هذا مرتبط بالحقيقة الأولى التي وردت في الأية الكريمة قال:{وَٱلسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ ٱلۡمِيزَانَ) 7)} وأيضًا قال:{وَٱلۡأَرۡضَ وَضَعَهَا لِلۡأَنَامِ) 10)} أن هذه الثروات لست أنت من أوجدتها،كما سيأتي عليه في الأيات التي بعدها،هذه لست أنت الذي صنعتها،وحتى لو كنت أنت بما يعرف الآن بزراعة اللؤلؤ،واللؤلؤ الصناعي وما شابه،الإنسان يحاول أن يستكشف ويستنبط ويستنتج ويتعلم ويستحدث من التقنيات ما تعلم جزء بسيط من قوانين الكون والخلق والطبيعة،الله (سبحانه وتعالى) الذي سخر وأعطى سخر لكم البحر،والأيات التي تكلمت عن تسخير البحار والأنهار للإنسان في كتاب الله كثيرة ومتعددة،هي أيات عظيمة تقرأ في مجموعها ضمن الحديث عن الميزان{وَأَقِيمُواْ ٱلۡوَزۡنَ بِٱلۡقِسۡطِ وَلَا تُخۡسِرُواْ ٱلۡمِيزَانَ (9)} لا في تقسيم ثرواتكم،ولا في تقسيم الحقول التي تكتشف،ولا في المياة الإقليمية وترسيم الحدود،ولا في أي شيء.وعلى الرغم من أن هيئات الأمم المتحدة وغيرها حاولت أن تقلل من نقاط النزاع والخصام والصراع بين الدول إلا أنها مازالت تقف عاجزة أمام الكثير من هذه الملفات العالقة الشائكة.ولنا أن نتساءل من أين جاءت كل هذه الملفات العالقة؟ من أين جاءت كل هذه الصراعات والنزاعات؟ من خسرات الميزان والطغيان فيه،الميزان الذي أراد القرآن أن يحتكم البشر فيه إلى ضمائرهم،ونفوسهم، وقلوبهم،وعقولهم التي أنارها القرآن وعلمهم إياها،وذلك قبل أن يحتكموا إلى قوانين وتشريعات يضعونها لأنفسهم،فالعلاقات بين الأفراد، والعلاقات بين المجتمعات وبين الدول لا يمكن أبدًا أن تنظمها فقط التشريعات والقوانين أبدًا،فما الذي يمكن أن ينظمها؟ هذا الميزان الذي تكلم عنه القرآن في أكثر من موضع في كتاب الله وخاصة في هذه السورة المباركة،هذه السورة التي يجب أن تقرأ ضمن هذه السياقات،نحن حين نرى ونقرأ اليوم أن الحديث عن سورة الرحمن بات حديثًا فقط عن النعم،وغالب النعم هي النعم الظاهرة وانتهى الموضوع عند هذا الحد،هذا وحتى الأية العظيمة التي ذكرها القرآن في نيف وثلاثين موضعًا اعتبرت أنها مكررة ويكفينا منها فقط أن نقول:لا نكذِّب ربنا بشيء من نعمك ربنا فلك الحمد،هذا فحسب وانتهى الموضوع،ولكن أين البناء الذي تبنيه في نفسك؟ سورة الرحمن تقيم العلاقة مع الله (سبحانه وتعالى) على أساس الرحمة،تؤسس العبودية وتقويها على أساس تجليات الرحمة،تلك الرحمة التي لا تنفصل عن التراحم بين العباد فــــ” الراحمون يرحمهم الله،ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء” أنت حين تنظر في تلك التجليات،تجليات رحمة الله وأثار رحمته،كيف أعطى؟وكيف سخر؟ وكيف مرج؟ وكيف جعل البرزخ؟ وكيف صنع القوانين؟ وكيف أعطى لكل شيء موازين؟ من خلالها تستخلص كيف تحقق مبادىء العدل والرحمة في حياتك.وتدبروا معي في التناسب بين مسألة الرحمة والرحمن التي افتتحت بها السورة، وبين الإفادة من كل هذه النعم والمسخرات،البشرية اليوم واحدة من أعظم الإشكاليات التي تسود فيها الصراعات فقدان عنصر الرحمة،التراحم بين البشر،وإلا قل لي ماذا تسمي حين تستولي دولة من الدول تشترك مع جاراتها في نهر من الأنهار،وعلى هذا النهر،وعلى تلك المياة،تقيم عليه السدود،وتفعل،وتعمل،وتسوي المشاريع لأجل نهضتها هي وتترك الأخرين يعانون ما يعانون من الجدب والقحط والجفاف وما شابه،فهذا ماذا تسميه؟ عدل؟ رحمة؟ ميزان؟ قطعًا لا،أبعد ما يكون عن هذا،فربي (جل شأنه) حين يذكرنا فيقول:{فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(23)} يريد من البشر أن يقيم شرائعه،وتشريعاته،وقوانينه،وتنظيماته على أساس العدل والميزان،وتحقيق الوزن بالقسط،أن يتعلم مما يراه في الطبيعة،أن يتعلم كيف أن الخالق (جل شأنه) وضع تلك القوانين لأجل ألا يحدث هناك أي شكل من أشكال الاختلال بالتوازن،فيتعلم من ذلك التوازن أن يحدث كذلك تشريعات وعلاقات قائمة على إقامة الوزن بالقسط،من هنا قال:{يَخۡرُجُ مِنۡهُمَا ٱللُّؤۡلُؤُ وَٱلۡمَرۡجَانُ (22)} فقط اللؤلؤ والمرجان؟ القرآن يؤكد فيما يؤكد من خلال سياق هذه الأيات منظومة الجمال التي تحدثنا عنها،من أدوات زينة،وليس فقط هي أدوات زينة بل أصبحت ثروات اقتصادية،دخل اقتصادي للدول،وهذه نماذج فقط ذكرها لنا،فالبحار يخرج منها أيضًا كما أشرنا إليه من قبل من الغاز والنفط وما شابه. ثم إذا بالأيات تنتقل إلى شيء لا يمكن للعاقل إلاأن ينظر إليه في البحار-ونحن مازلنا مع البحار-قال:{وَلَهُ ٱلۡجَوَارِ ٱلۡمُنشََٔاتُ فِي ٱلۡبَحۡرِكَٱلۡأَعۡلَٰمِ (24)} هذه البحار،وهذه المياه من جملة ما سخَّر وخلق وهدى الخالق فيها أن جعل الإنسان يتعلم من خلال النظر فيها،والسيرفيها،والبحث والتنقيب، أن يكشف عن نظم تسيير وسائل النقل والملاحة وخطوط الملاحة البحرية،وكلنا يعلم اليوم أن خطوط الملاحة البحرية لا تقل أبدًا أهمية إن لم تتفوق على خطوط الملاحة البرية والجوية،والإنسان كلما ازداد رقيًا وتطورًا وتقدمًا زادت حاجته إلى خطوط الملاحة البحرية.في الزمن القديم لم يكن هناك خطوط ملاحة جوية،وكان الإنسان يركز على خطوط الملاحة البرية،وكنموذج ومثل كانت قريش التي امتن ربي (سبحانه وتعالى) عليها برحلة الشتاء والصيف (خطوط الملاحة البرية)،ومع تطور الإنسان وكشف العلم عن جوانب الملاحة البحرية،وعن صناعة السفن،وعن قضية النقل،بدأت البشرية شيئًا فشيئًا تتحول نحو استعمال خطوط الملاحة البحرية،والقرآن في الأية الكريمة{وَلَهُ ٱلۡجَوَارِ ٱلۡمُنشََٔاتُ فِي ٱلۡبَحۡرِكَٱلۡأَعۡلَٰمِ (24)}لا يحدثك فقط عن قدرته (جل شأنه) وعظيم صنعه،وعجائب قدرته وحكمته وتدبيره في هداية الإنسان إلى صناعة الفلك والسفن أبدًا،ولا إلى عظيم منته وفضله (جل شأنه) وهي عظيمة في قوانين تسيير الفلك في البحار،ومن الملاحظ أنه استعمل مفردة ولفظة (ٱلۡجَوَارِ) وليس الفلك،ولكن عامة هو استعمل بالإضافة إلى هذه المفردة واللفظة لفظة السفن،ولفظة الفلك،وألواح،هي مفردات مختلفة جاء بها. وفي أيات وسور أخرى قال:{وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ(32)}(41)وفي سياق سورة الرحمن استخدم نفس المفردة {وَلَهُ ٱلۡجَوَارِ ٱلۡمُنشََٔاتُ فِي ٱلۡبَحۡرِكَٱلۡأَعۡلَٰمِ (24)} دلالة على أي شيء؟ السياق سياق امتنان وتجليات الرحمة،فمن جملة تجليات رحمته (جل شأنه) أن جعل هذه السفن الضخمة التي شبهها بأنها كالأعلام والجبال الضخمة الشاهقة،الآن السفن مدن عائمة على البحار (كَالْأَعْلَامِ)،فمن عظيم تجليات رحمته سبحانه أنه أجراها،وأنه جعل هذه المياه،ونسبة الملوحة فيها،والقوانين المختلفة وقوانين الطفو وما شابه،تحمل هذه الحمولات الهائلة الضخمة على سطح البحر والمياه،الماء يحملها ويحركها ويجريها ولكن في واقع الأمر الماء لم يجرِها من تلقاء نفسه بل الذي أجراها هو الرب (سبحانه وتعالى) حين سخر البحر للإنسان،فلا تنسى هذه الحقيقة.وتبينوا وتدبروا معي في دقة المفردة في قوله:{وَلَهُ} وليس لك،وقد يقول قائل أن (ٱلۡجَوَارِ ٱلۡمُنشََٔاتُ) هذه السفن الضخمة تملكها دول،هذه أصبحت تكلفة بناءها،وصناعتها،وصيانتها،وتشغيلها،وإرساءها في الموانيء تحتاج ميزانية دول ضخمة، والقرآن العظيم في سياق الأية ينفي عن الإنسان امتلاكه لهذه الجوارِ،وأن المالك الحقيقي هو سبحانه،وبالرغم من أن الإنسان قد صنعها ولكن مما صنعها؟ تبقى مواد وأصول وخامات صناعتها من عند الله ومما خلق،فالخشب ربي (جل شأنه) هو الذي أعطاه،والحديد أنزله الخالق (جل شأنه) وجعل فيه بأس شديد،من القوانين التي علمه إيَّاها،من كل المواد الخام التي لا يمكن لعاقل أن يدَّعي أنه هو الذي قد خلقها وصنعها،أنت عليك فقط مجرد أن تكتشف وتعمل وتربط وتصنع وتفعل،ولكن من الذي أعطاك كل هذه المواد الخام التي جعل الإنسان منها كذلك مادة للصراع والنزاع؟ تدبروا في القرآن حين يعالج أمراض البشرية في كلمة واحدة حين قال:{وَلَهُ ٱلۡجَوَارِ ٱلۡمُنشََٔاتُ فِي ٱلۡبَحۡرِكَٱلۡأَعۡلَٰمِ (24)} وبمعنى أخر:أن يا إنسان لا تنسى وأنت في عظمة وقمة افتتانك بما تقدمت،وما تطورت فيه من العلوم وصناعة السفن والفلك العملاقة في البحار من مثل عابرات المحيطات والناقلات،أن الذي صنع وعلمك ويمتلك الملك الحقيقي لهذه الجوارِ هو الذي خلق سبحانه فهو له وليس لك أنت،ما الفارق بين الأمرين؟ وتدبروا معي في قراءة هذه الأية ضمن ما ذكرنا،قال:{وَأَقِيمُواْ ٱلۡوَزۡنَ بِٱلۡقِسۡطِ وَلَا تُخۡسِرُواْ ٱلۡمِيزَانَ (9)} من جملة إقامتك للوزن القسط أنك تستذكر هذه الحقيقة،فإذا استحضرت أنك لست بالمالك الحقيقي خضعت بين يدي الخالق الذي خلق،وإذا لم تستذكر ماذا يحصل وماذا ستفعل بل بالفعل تفعل؟ إن أمم الأرض الآن والدول والقوى العظمى في العالم أصبحت تطلق من هذه السفن (ٱلۡجَوَارِ) قذائف وصواريخ وطائرات تدمر،وتسفك،وتقتل،وتشتت،وتهجِّر،والواقع أن هذه الجوارِ ليست لك بل لله وحده،وهذه حقيقة لما غابت عن البشرية أحالت البحار إلى نيران كما أشعلت الأرض حروبًا مستعرة بين البشر،بأي شيء؟ بالطغيان في الميزان والبغي،بتجاوز الحدود التي وضعها الله للبشر،ولكن الجوارِ له وليست لك،فلا تغتر وتفتتن بالعلم الذي علمك الله وكشف لك.واربط مع الأية في البداية،في مفتتح السورة،قال:{عَلَّمَ ٱلۡقُرۡءَان (2)خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ (3)عَلَّمَهُ ٱلۡبَيَانَ (4)}ونحن قلنا عن مفهوم ومعنىى البيان أنه مفهوم واسع شامل لا ينحصر في النطق،ولا في الكتابة، ولا في اللغات،ولا في أدوات التواصل والتفاهم بين البشر،هو بيان شامل لكل شيء ولمختلف العلوم،فالذي علمك هذا البيان،وعلمك القوانين التي من خلالها تمكنت من صناعة الفلك،هذه السفن العملاقة التي تشابه المدن العائمة على سطح مياه البحار والمحيطات في العالم،أما آن الأوان لك أن تفهم أن الذي أجراها هو الله ولست أنت؟أما آن لك أن تفهم فتخضع لأمره وتقيم الميزان في حياتك؟ ويكفينا أن ننظر نظرة بسيطة للعالم ونرى كيف أن البشر من خلال الطغيان في الميزان لوثوا البحار،كل يوم تطالعنا الصحف ووسائل الإعلام المختلفة بأخبار متنوعة عن نفوق الحيوانات البحرية،بل وقرب انقراض أنواع منها،هذا إن لم يكن بالفعل هناك أنواع قد انقرضت،من ضمن هذه المخلوقات البحرية التي تتأثر بالتلوث البيئي حيتان على أسماك على أنواع أخرى لا تحصى،أحيانًا بسبب ما تلقيه هذه الحاملات من نفط ومواد سامة في قاع المحيطات والبحار،ومن دفن النفايات النووية في قيعانها،كل هذا يهدد الكائنات في هذه البحار والمحيطات.من الذي أباح للإنسان أن يفعل ما فعل؟من؟وكيف للإنسان أن يفعل ذلك؟ هو فعله وهو في حالة غيبوبة عن الميزان،فلا ميزان يحكمه،والشيء الوحيد الذي بات يفهمه هو منطق القوة،ولسان حاله يقول:أنا أقدر إذن أنا موجود،أنا قوي إذن أنا موجود،وطالما أنا موجود فلا موجود سواي على هذه الأرض،هذا المنطق الذي بات يحتكم إليه الكثيرون من بني البشر اليوم.من هنا ذكَّر الخالق بهذه الحقيقة في قوله:{وَلَهُ} تدبروا معي في دقة المفردة (وَلَهُ) حصرًا وقصرًا{ٱلۡجَوَارِ ٱلۡمُنشََٔاتُ فِي ٱلۡبَحۡرِكَٱلۡأَعۡلَٰمِ}.ثم تدبروا معي في قمة الدقة في المفردة القرآنية التي تشبِّه السفن بالأعلام التي هي الجبال الشاهقة،والتي في واقع الأمر أن بعض هذه السفن في عبوتها وحمولتها قد تصل فعلًا إلى ميزان الجبال الشاهقة. ويبقى السؤال:يا ترى من الذي قدر لهذه الحمولات المهولة بحمل الجبال الشاهقة ووزنها أن تسير على المياة وجعل هذه الجبال الشاهقة راسيات ثابتة على هذه الأرض لا تتحرك؟ من الذي أجرى هذه وأسكن تلك؟ تدبروا معي في هذا التناسب والتقابل والتشابه العجيب،يتشابهان في الضخامة ممكن،بل حتى ممكن أن يتشابهان في الشكل،حتى أنك ترى أن بعض الرسومات حين ترسم السفن ترسمها بشكل الجبل،لأن ما يطفو منها على السطح شكله كأنه هكذا جبل،حتى في الشكل البسيط،يا ترى من الذي جعل كل هذا؟ من الذي صنعه؟ من الذي خلقه؟ من الذي أعطى هذه القوانين محلها ومكانها في الكون؟ هذه تجري في البحار،وهذه تسكن على الأرض،على الرغم من التشابه بينهما في الشكل،في الوزن، في الحجم،في أشياء مختلفة،فمن الذي جعل؟ قال:{فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(25)} الحكمة في التدبير،عظيم صنعه وأياته ودلائل قدرته سبحانه،وتدبيره،ولطفه،ورحمته (جل شأنه)،ولذلك أنت تعرف تمامًا،ونحن نعرف ونسمع أن السفن حين ترتطم بالجبال الجليدية يكون المصير النهاية بالغرق،وقد حدث ويحدث هذا في عالمنا،تصطدم بجبل جليدي قريب من القطب أو بجواره،ومع ظواهر الاحتباس الحراري وما شابه تذوب هذه الكثبان والجبال الجليدية،فلما تنطمس وتنغمر في قاع المحيطات أو تحت السطح إذا اصطدمت بها هذه السفن كانت النتيجة هي الغرق. هذه القوانين العظيمة {فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(25)} على أي أساس؟ في سياق التنبيه والتحذير أن يا بشر عليكم أن تفهموا هذه القوانين التي تسيِّر الجوارِ المنشأت،عليكم أن تقيموا الميزان في حياتكم قبل فوات الأوان،وعليكم كذلك أن تلتفتوا إلى هذه البحار التي أفسدتموها،لوثتم المياه فيها،أفسدتم قيعانها،عليكم أن تستوعبوا حجم الكوارث التي يمكن أن تأتي عليكم جرَّاء أي شيء؟ الأهواء،الطغيان،الطمع،الجشع. أنت لو بحثت عن كل سبب وراء الفساد لوجدت سبب واحد وهو أهواء النفوس،أطماع البشر التي ماعادت الكرة الأرضية تحتمل المزيد من أثارها ونتائجها وعواقبها الوخيمة.قال:{فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(25)} وتدبروا معي في التناسب بينها وبين الأية التي جاءت بعدها قال:{ كُلُّ مَنۡ عَلَيۡهَا فَانٍ (26)وَيَبۡقَىٰ وَجۡهُ رَبِّكَ ذُو ٱلۡجَلَٰلِ وَٱلۡإِكۡرَامِ (27)} لماذا هذه الأية العظيمة في هذا السياق وفي هذا الموضع؟ نحن قلنا سابقًا أن كل أية،وكل موضع،وكل مرة تذكر فيها{فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} هناك مقصد للأية يُبنى في نفس الإنسان المتلقي المتدبر،فربي(جل شأنه) حين يُذكِّر الإنسان بهذه الحقيقة أن {كُلُّ مَنۡ عَلَيۡهَا فَانٍ (26)} ولنا هنا وقفة عن اللفظة،لماذا جاء بهذه اللفظة (فَانٍ)؟يحقق مقصدًا وهو كسرحدة أطماع وأهواء وجشع النفوس البشرية الطامعة الطاغية التي طغت في الأرض،وفي البحر،وفي السماء،أفسدت حتى في الجو،ما تركت شيء إلا وأفسدته،فلا يكسرها إلا الموت الذي هو الحقيقة الحاضرة الغائبة.قال:{كُلُّ مَنۡ عَلَيۡهَا فَانٍ (26)}لفظة الفناء تشمل الأحياء والموجودات المادية والحسية.وتدبر معي في الترابط بينها وبين قول الله (جل شأنه):{وَلَهُ ٱلۡجَوَارِ ٱلۡمُنشََٔاتُ فِي ٱلۡبَحۡرِكَٱلۡأَعۡلَٰمِ (24)} كيف يكون هناك ترابط بينها؟ هنا وكأنه يقول:يا بشر،يا من تغترون بما قد صنعتم،وما طورتم،وما أحدثتم من سفن عملاقة وبواخر تمشي في البحر وتسير عليه من ضخامتها كأنها الجبال،ومن حبكة صنعتها أنها عملاقة فعلًا،وترون أنفسكم قد فعلتم الأعاجيب،استيقظوا وأفيقوا من غفلتكم فأنتم في واقع الأمر المواد الخام لكل هذا ما صنعتم ولا حتى مسمار فيها،الرب هو الذي أعطى ووهب،أنتم غفلتم عن هذه الحقيقة،إليكم هذه الحقيقة {كُلُّ مَنۡ عَلَيۡهَا فَانٍ (26)} سينتهي وجودكم على الأرض،وسينتهي ما أنشأتم على الأرض،تدبروا معي في الربط،أنه حتى (ٱلۡجَوَارِ ٱلۡمُنشََٔاتُ) سينتهي وجودها،سينتهي كل هذا الذي نراه،سينتهي ما فعله الإنسان،سينتهي ما عمَّره،وما صنعه،وما شيَّده،وما بناه،وما أفسده،وما أصلحه. قد يقول قائل:إذا كان كل شيء سينتهي لماذا أمرنا الخالق (جل شأنه) أن نبني ونعمِّر ونزرع ونغرس؟ قبل أيات وفي الحلقة السابقة بيَّنا كيف حض القرآن على الزرع والغرس،وحض على الاهتمام بالبحار والملاحة والتجارة والصناعة والزراعة،نعم أمرك أن تعمر،ولكن عليك أن تفهم وأنت تعمر أنه ما أمرك أن تعمر لأجل أن تعمر في دار الفناء،بل أن تعمر في دار الفناء لأجل تعمر هناك في دار البقاء،تدبروا في هذا المعنى العميق،العمران في هذه الدار لأنها ميدان العمل،ميدان الخلافة على الأرض،ولكن ليس لأجل أن تخلد فيها فهي دار فناء،وإنما تعمرها لأجل أن تعمر هناك في دار البقاء،فما أقمته،وما عمرته هنا في دار الفناء سيكون عمرانًا لك في دار البقاء،وما أفسده الإنسان هنا في هذه الأرض،في هذه الدار(دار الفناء) سيلقى جزاءه هناك في دار البقاء،تدبروا في الربط والتناسب،فإذا أفسد الإنسان في دار الفناء لن يلاقي أبدًا الصلاح في دار البقاء،أما إذا عمَّر وشيَّد وبنى وزرع وغرس الخير في دار الفناء يلقاه عمارًا في دار البقاء. هذه الحقيقة التي غابت عن كثير من البشر اليوم فأحالوا الدنيا صراعات ونزاعات وحروب مشتعلة بين البشر،قتلوا وسفكوا وأراقوا الدماء لأجل أي شيء؟ لأجل هذه الأطماع التي غفلت عن هذه الحقيقة {كُلُّ مَنۡ عَلَيۡهَا فَانٍ (26)وَيَبۡقَىٰ وَجۡهُ رَبِّكَ ذُو ٱلۡجَلَٰلِ وَٱلۡإِكۡرَامِ (27)} تدبروا في هذه المعاني.ولنا أن نتساءل لماذا يقدم لي القرآن هذه الحقيقة؟ لكسر شهوة الأطماع،لأن الإنسان يغتر بما أعطاه الله،كل بشر حين يفتح الله عليه من النعم التي إما أن تكون في صالحه إذا استعملها فيما يرضي الله وأقام الوزن بالقسط،وإما أن تنقلب نقمة عليه إذا لم يعرف كيف يقيم الوزن بالقسط.والمطلوب منك أن تقيم الوزن بالقسط،ولن تقيم الوزن بالقسط إلا إذا استقرت هذه الحقيقة في نفسك {كُلُّ مَنۡ عَلَيۡهَا فَانٍ (26) وَيَبۡقَىٰ وَجۡهُ رَبِّكَ ذُو ٱلۡجَلَٰلِ وَٱلۡإِكۡرَامِ (27)} ستفنى ويفنى ما شيَّدت وعمَّرت،وما أقمت،وما زخرفت،وما زينت،وما دفعت لأجله الملايين وربما أكثر،وما أغرقت،وما لوثت،وما أفسدت،وما جوعت،سيفنى كل شيء لأن هذا هو القانون الذي يحكم الأرض {كُلُّ مَنۡ عَلَيۡهَا فَانٍ (26)} ولكن ما الذي سيبقى؟{وَيَبۡقَىٰ وَجۡهُ رَبِّكَ ذُو ٱلۡجَلَٰلِ وَٱلۡإِكۡرَامِ (27)}. وتدبروا معي في أيات أخرى قال:{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ }(42) لا يبقى إلا وجه الله (سبحانه وتعالى) ذو الجلال والإكرام،فإذا كان هو الذي سيبقى،وهو الباقي سبحانه (جل شأنه) فأنت تعمل لأي شيء ولمن؟ تعمل للباقي أم للفاني؟ هذه الأية العظيمة لوحدها من دلائل وعظيم قدرة الله ورحمته سبحانه بالبشر،هذه الأية تخلِّص النفس البشرية من أطماعها،تخلِّصها من الرياء،تخلِّصها من السمعة،تخلِّصها من الجري واللهث وراء إرضاء الناس والبشر،انظر إلى الحياة الدنيا،انظر إلى البشر فيما بينهم ماذا يفعلون لأجل أن يرضوا فلان وعلان من البشر،والذين في نهاية الأمر إلى فناء،أنت ترضي من؟ترضي الفاني أم ترضي الباقي؟ تجري وراء ما يفنى أم تجري وراء ما يبقى؟ تدبروا معي في هذه المعاني،الذي عند الله (سبحانه وتعالى) خير وأبقى،فاعمل لما يبقى،وادفع كل ما يفنى لأجل ما يبقى،ابذل لأن كل ما بين يديك سيفنى،ولكن لمن تبذله؟لمن يفنى؟ بل ابذله لمن يبقى ولن يبقى إلا وجه ربك ذو الجلال والإكرام. هذه المعاني العظيمة التي تكرسها سورة الرحمن {فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28)}التي هنا جاءت تعزز الإخلاص في قلب الإنسان المؤمن. واحدة من أعظم دعائم العبودية لله هي الإخلاص،إخلاص العمل لله،وهي مرحلة كيف يصل لها الإنسان؟ كيف تخلص أعمالك الصالحة من شوائب الرياء والجري وراء رضاء الناس ومدحهم وثناءهم؟حين يستقر في قلبك أن كل البشر إلى فناء،وأن الباقي وحده سبحانه (جل شأنه) ذو الجلال والإكرام لا يبقى إلا هو،كل شيء هالك إلا وجه الله سبحانه. إذن هذه المعاني،وهذه الأية {فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28)}في هذا الموضع جاءت لتبني في نفس الإنسان معنى جديد في العلاقة بينه وبين خالقه (جل شأنه)،علاقة العبودية تبني فيها الإخلاص،لأن لا يمكن أن يكون هناك عبودية حقة بدون الإخلاص،بدون تخليص القلب والعقل عن كل ما سوى الله (سبحانه وتعالى)،اعمل،ابذل،ابنِ،شيِّد،إزرع،عمِّر،إعلي البناء،ولكن وأنت تباشر كل هذه الأعمال العمرانية عليك أن تفهم أن كل شيء سيفنى ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام،ولذلك تدبروا معي في نهاية سورة الكهف العظيمة بعد الحديث عن السد،عما شيَّده ذو القرنين،ذلك التشييد العظيم في سورة الكهف،وذو القرنين هو هذا الإنسان الحاكم الذي أقام الميزان،وأقام الوزن بالقسط،وما طغى ولا خسر في الميزان،ماذا فعل؟ حين جاء وبنى وشيَّد السد ما اغتر بما صنعه،وحين قال:{قَالَ انفُخُوا حَتَّىٰ إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا}(43) القرآن يقول ويشهد له ولبناءه ولمنشأته التي شيَّدها،قال:{فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا(97)}(44) بناء محكم متين عظيم بوصف القرآن. وانظروا إلى قول ذي القرنين:{قَالَ هَٰذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي ۖ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ ۖ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا(98)}(45) لماذا ذو القرنين يقول هذا الكلام في عز أوج انتصاره وقوته ومنعته؟ لماذا لم يقل أي كلمة أخرى يظهر فيها غروره بما قد وصل إليه من قوة ومنعة وتقدم وتطور في الصناعة والعمران والتشييد؟ لماذا لم يقل انظروا إلى ما فعلت؟ انظروا إلى هذا الصرح الذي شيَّدت؟الذي يقيم الميزان لا يمكن أن يقول هذه الكلمة،الذي يقيم الميزان يقول:{هَٰذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي} وتدبروا معي في الربط مع أية سورة الرحمن {كُلُّ مَنۡ عَلَيۡهَا فَانٍ (26) وَيَبۡقَىٰ وَجۡهُ رَبِّكَ ذُو ٱلۡجَلَٰلِ وَٱلۡإِكۡرَامِ (27)} نموذج ذو القرنين نموذج لإنسان قوي،متقدم،متطور في كل العلوم والإنشاء والتصنيع بمختلف أأشكاله وميادينه،في نفس الوقت استحضر هذه الحقيقة التي إذا استحضرها البشر عم الخير،وانتشر السلام،وغاب الطمع،وراحت الصراعات،وانطفأت نيران الفتن والحروب التي مازال البشر يعانون منها أشد الويلات.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته