الحلقة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمد الشاكرين والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وقفنا في لقاءنا السابق في تدبر سورة الرحمن عند بعض من أوجه التناسبات بين مفتتح السورة وخواتيمها،بين خواتيم سورة القمر ومفتتح سورة الرحمن،وخواتيم سورة الرحمن ومفتتح سورة الواقعة،فسورة الرحمن العظيمة بين سورة القمر وسورة الواقعة توسطًا في المصحف كما هو بين أيدينا اليوم.وذكرنا فيما ذكرنا أن هذه السورة المباركة من أوائل سور القرآن نزولًا على الحبيب (صلى الله عليه وآله وسلم) في مكة،وأنها كانت قبيل الصدع بالدعوة والجهر بها أمام قريش،فكما جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كما ذكرت أسماء بنت أبي بكر (رضي الله عنها) سمعته وهو يتلو بهذه الأيات:{فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} يصلي نحو الركن قبل أن يصدع بما يؤمر،وكان المشركون يسمعون لهذه الأية العظيمة. هذه السورة المباركة التي جاءت تكرس الإيمان بألاء الله (سبحانه وتعالى)،استحضار تلك الآلاء والتي جمَّعَت هذه الآلاء تجليات الرحمة له (سبحانه وتعالى)،تجليات الرحمة في كل شيء،وذكرنا فيما ذكرنا وسنذكر أن الآلاء هي الفعال العجيبة البديعة،بديع صنع الله (سبحانه وتعالى)،بديع رحمته،بديع حكمته وقدرته وبطشه وملكه وجبروته وجلاله،ولذلك في هذه السورة المباركة ذكر قوله (جل شأنه):{ذِي ٱلۡجَلَٰلِ وَٱلۡإِكۡرَامِ} ذاك أن هذه الأية التي تحدثت وأكدت في أكثر من ثلاثين موضعًا في السورة،الاستحضار والاستيقان بألاء الله (جل شأنه) في سياق الاستنكار على من يكذب بها من الجن والإنس،جاءت لتجعل هذه المعاني حاضرة،تجعل الإنسان متبصر ليس فقط في النعم،فالآلاء تختلف عن النعم،ولكن في صنيع الله (سبحانه وتعالى جل شأنه) في الأمم،والشعوب،والتاريخ الذي يشهد بهذه المصائر للأمم والشعوب خاصةً وأن كلمة ومفردة (ألاء) القرآنية ذكرت في سورة الأعراف،وفي سورة النجم،وفي هذه السورة المباركة كان لها النصيب الأوفر.هذه المعاني العظيمة حين نستحضرها ونحن نتدبر في بدايات السورة نفهم أي نوع من أنواع الآلاء سيبدأ الرحمن بذكرها،أعظم الآلاء قال:{ٱلرَّحۡمَٰنُ (1) عَلَّمَ ٱلۡقُرۡءَان (2)}تعليم القرآن،وتدبروا معي،هو لم يقل أنزل، القرآن دقيق في اختيار المفردات،كل مفردة تؤدي مقصد معين،كل مفردة تخدم ذلك المقصد والمحور الذي جاءت السورة العظيمة لتأسيسه. قال:{عَلَّمَ ٱلۡقُرۡءَان (2)}لأن من سياقات الرحمة هو تعليم القرآن وليس مجرد الإنزال،حتى تكتمل النعمة،ففي أيات أخر ربي (جل شأنه) يقول:{هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ}(8) وأيضًا{نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ}(9) ولكن في سياق الرحمة،وفي سياق هذه السورة المباركة قال:{عَلَّمَ ٱلۡقُرۡءَان (2)} التعليم أشمل لأن التعليم هو ليس مجرد أن يكون بين يديك الكتاب،هذا الكتاب العظيم،التعليم واحدة من جوانب شموليته أن الله (جل شأنه) قد وهب الإنسان من وسائل الإدراك والفهم والقدرة على التعلم ما سيتمكن من خلال توظيفه واستعماله الوصول لمرحلة تعلم القرآن،الإنسان لا يستطيع أن يتعلم القرآن على سبيل المثال وهو لا يسمع،ولا يرى،ولا يبصر، وسائل الإدراك المختلفة،صحيح الإنسان هذه الوسائل لديه إذا تعطلت بسبب مرض أو لعجز أو ما شابه كابتلاء فالله (سبحانه وتعالى) قدَّر ومكَّن وفتح من أبواب العلم والتعلم والتقدم ما يتمكن من خلاله الإنسان أن يصل إلى بعض الوسائل في التعلم،صحيح ولكن الأصل في الإنسان،والأصل في الأشياء أن الله قد مكَّن وخلق ذلك الإنسان وزوَّده بوسائل التعلم والإدراك، فأعظم الوسائل متوفرة في الإنسان وليس في الأجهزة،ولا في البيئة،لأن بعض الناس اليوم يقول لك:هو لا يتعلم،والعلم بالتعلم،فإذا ما سألت:يا فلان لماذا لا تتعلم؟ يقول لك ظروفي لا تسمح،أو:لا يوجد عندي مال مسئولياتي كثيرة،المدارس بعيدة،الجامعات تتطلب أموالًا كثيرة، المسألة ليست هذه،أنت تستطيع أن تعدد عشرات الحجج الواهية،ولكن هذا لن يغني من الحقيقة،ولن يغني عن الحق شيئًا أن الله (جل شأنه) قد زوَّد الإنسان بما يمكن أن يتعلم من خلال استعماله وتوظيفه استعمالًا جيدًا ما يستطيع أن يحقق من خلاله التعلم، فليست المسألة الظروف ولكن المسألة هي مسألة الرغبة والإقبال والقدرة والإيمان،لأن أفضل ما يمكن أن يقتنيه الإنسان هو العلم والتعلم.وذكرنا كثيرًا في تدبرنا لسور القرآن أن القرآن يعطي مفهومًا للعلم أشمل وأعمق وأوسع،ويجعل العلم الحقيقي هو ذلك العلم المرتبط بالغاية،الغاية التي تحقق للإنسان الاستقراروالسعادة والرضا،وليس فقط قاصرة في الحياة الدنيا وإنمافيما بعد الحياة أي الأخرة، بمعنى أخر:أن العلم النافع الحقيقي هو الذي ينفع صاحبه،كيف؟يصلح عليه دنياه وأخرته،هذا العلم لن تجده في كتب كمياء وفيزياء وعلوم تطبيقية وعلوم صرفة فقط،أنت تحتاج إلى هذا الكتاب العظيم،لأجل أي شيء؟ لأجل أن يوضح ويبصرك بالغايات من العلوم المختلفة،حتى العلوم الصرفة والتطبيقية أنت تحتاج أن تفهمها،وتتعلمها،وتستوعبها في ضوء القرآن العظيم وليس بعيدًا عن القرآن، ولذلك في سورة الجاثية ربي (جل شأنه) يقول:{هَٰذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ}(10) كل الناس،لا يمكن أن تجد البصائر بعيدًا عن القرآن،فكان من أعظم تجليات الرحمة رحمة الله بعباده أن علَّم القرآن،تدبروا،بعض الناس كما ذكرنا في مرات سابقة حين يريد أن يعدد نعم الله عليه ولن يحصيها عددًا،يبدأ يعدد المال والأولاد والرزق والمنصب وكذا وإلى أخره،هذا شيء جيد لا بأس به،ولكن الأجود والأحسن والأعظم أن تبدأ بما بدأ به الله سبحانه (جل شأنه):{عَلَّمَ ٱلۡقُرۡءَان (2)} من أعظم النعم أن يفتح الله سبحانه (جل شأنه) للعبد بابًا يتعلم من خلاله القرآن.أنت إذا تعلمت القرآن تعلمت كل شيء،ففي القرآن تبيان لكل شيء،أنت إذا تعلمت القرآن نلت خيريّ الدنياوالأخرة،ولكنك إذا تعلمت علمًا معينًا من العلوم التي لم تتمكن من خلال تعلمها أن تربطها مع تعلم القرآن بات ذاك العلم منقوصًا،قد ينفعك في الدنيا،وانظر إلى الحضارة المادية المعاصرة نفعت نفسها بالتقدم التقني في مجالات المدنية وما شابه ولكن علم ناقص،وحتى هذا العلم في مجالات المدنية والحضارة،وفي واقع الأمر لو نظرت إليه نظرةً جادة متعمقة لوجدت أنه لم يأتِ للبشرية بالسعادة والرضا والطمأنينة والأمن الذي تبحث عنه،في عالمنا الذي نعيش فيه هناك نقص في الأمن الغذائي،هناك نقص في الأمن الأخلاقي،هناك نقص في كل أشكال وضروب الأمن المختلفة،من أين جاء هذا النقص؟ من أين أصيب الناس بالخوف وهم يرفلون في التقنيات والوسائل الحديثة،وسائل العلم الحديثة،لأن هذه الوسائل وسائل ليست بوحدها كافية لأن تحقق مجالات الأمن،الأمن بشموليته وعمقه يحتاج إلى هذا الكتاب لأجل أن يتحقق بكل صوره ومدارجه ومسالكه،إذن حاجتك إلى تعلم القرآن حاجة ضرورية ماسة لايمكن أن يسدها أي شكل من أشكال العلوم المختلفة،العلم الحقيقي الذي يقدمه لك القرآن،القرآن حين يقول لك:{عَلَّمَ ٱلۡقُرۡءَان (2)} لايريد بها فقط العلوم الشرعية كما فصَّل وقسَّم ووزَّع البعض من العلماء في فترات تاريخية معينة من الزمن أبدًا،القرآن لا يفصل بين العلوم.كل علم يخدم الإنسان ويخدم البشرية ويحقق النفع هذا ستجد أصوله وقواعده في هذا الكتاب العظيم،القرآن كتاب ليس مجرد كتاب علوم معينة،ولاهو كتاب للأحكام الشرعية فحسب،ولاهو كتاب في الجغرافيا فحسب،ولاهو في الفلك فحسب،ولافي الطب فحسب بل إنه كتاب حياة،وليس هو كتاب للأخرة فقط،هو كتاب للدنيا والأخرة،لأنك لن تصل إلى الرضا والسعادة في الأخرة كما يقدمها لك القرآن ويفهمك،وأنت إن لم تتعلم وتعرف كيف يعلمك القرآن أن تحيا حياة طيبة على هذه الأرض،وتعيش بهذا القرآن،وليس بعيدًا عن القرآن،فكيف وبماذا تعيش وتحيا؟ قال:{عَلَّمَ ٱلۡقُرۡءَان (2)} تدبروا معي،قبل أن يقول عن خلق الإنسان،وهذه أيضًا فيها شيء من أشياء التناسب،وبديع التناسب والترابط بين أيات القرآن والإعجاز {عَلَّمَ ٱلۡقُرۡءَانَ (2) خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ (3)} بمعنى أخر:أن هذا القرآن بما حوى من منهج وأوامر وتكاليف وعلوم،الحاجة إليه كانت ماسة فكان قبل أن يكون خلق الإنسان.ممكن يكون في اللوح المحفوظ وارد،وممكن يكون من باب ذكر أن حاجة الإنسان للمنهج عظيمة،فالله (جل شأنه) خلق الإنسان بعد أن علم القرآن،لماذا؟لأن البدء بالأولويات،الأولى والأعلى مرتبة ومنزلة،الأعظم أهمية وضرورة قبل ما هو أقل. {خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ (3)} والقرآن في أيات أُخر قال:{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ(4)}(11) كيف يكون الخلق في أحسن تقويم؟ بالشكل الذي يمكنك أن تعيش حياة كريمة على الأرض،تدبروا معي في المعاني،لأن هناك كثير من الأمور انقلبت فيها الموازين في حياتنا المعاصرة،والسبب في قلب هذه القيم والموازين شيءواحد أن الإنسان لم يتعلم من القرآن،أن علم القرآن في حياتنا أصبح ضعيفًا،مغيّبًا،غائبًا عن مدارسنا ومؤسساتنا ومعاهدنا وثقافتنا وصحافتنا وعلومنا المختلفة،فلما أن غاب نور القرآن،ونور العلم الذي يعلمنا إياه القرآن انقلبت الموازين،حتى في أشكال ومعايير الجمال أصبح التركيز في خلقة الإنسان،على الشكل الظاهري،وأنا وأنت نعلم جيدًا أن كل شيء حتى ما نصنع في حياتنا ينبغي أن يكون في تحقيق الجودة له معايير،واحدة من أعظم المعايير أن الشيء الذي يصنعه الإنسان ينبغي أن يؤدي الوظيفة التي لأجلها صنع وليس فقط أن يكون له شكل جميل.على سبيل المثال هذا الكرسي شكله جميل وبديع،ومصنوع من أنفس وأجود خامات ولكنه لا يحقق المهمة التي لأجلها صنع،لا يستطيع الإنسان أن يجلس عليه جلسة مريحة،وبالمثل وفي ذات السياق إذا كان ما لأجله قد صنع لا يستطيع أن يحققه فما قيمة كل شيء أخر،ما قيمة الجمال في الشكل؟ ما قيمة الجمال في المظهر؟ ما قيمة أن يكون من أنفس الخامات ولكن لا يحقق الغرض؟ كيف سيستفيد منه هذا الإنسان؟ في واقع الأمر سيصبح بشكل أو بأخر عبئًا على الذي صنعه لأنه لا يستفيد منه.تدبروا معي حين تنسحب هذه المفاهيم والقيم على غيرها من أشياء في واقع حياتنا الإنسانية.كثير من الناس اليوم اشتغلوا بجمال المظهر،اشتغلوا بتحسين هذا،وتصغير وتكبير وفعل وكذا وإلى أخره،ثم ماذا؟ أين جوهر الإنسان؟ الله (جل شأنه) خلق الإنسان ولكن في سور أخرى أوضح قال:{فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} على أي أساس أنت تقدم هذه المعايير بأحسن تقويم؟ بمعنى أنه ذلك الخلق وتلك الخلقة التي تؤهله للقيام بمهمته على هذه الأرض ألا وهي مهمة الخلافة{إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ ًخَلِيفَةۖ} فكل مالديك من وسائل الإدراك والسمع والبصر واليد والقدم،كل ما فيك خلق بطريقة معينة أرادها الله أن تحقق ماقدأمرت وكلفت به من الخلافة على الأرض،ولذلك على سبيل المثال ليس جسد الإنسان كجسد البقرة، ولا جسد غيره من المخلوقات والحيوانات وهي أضخم وأكبر،لماذا؟لأن ليس هذا هو المطلوب،ليس هذا ما سيجعلك أفضل في قيامك بمهمة الخلافة على الأرض ولكن هو ما ذكرنا،هو ما خلقك الله عليه،خلق الإنسان في أحسن تقويم وأحسن صورة. قال:{عَلَّمَهُ ٱلۡبَيَانَ (4)} تدبروا في الربط،قال:{خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ (3) عَلَّمَهُ ٱلۡبَيَانَ (4)} مباشرة بعد الخلقة قبل أن يبدأ بتعداد الآلاء، قبل أن يبدأ بالامتنان عليه فيما أعطاه ووهبه،{عَلَّمَهُ ٱلۡبَيَانَ (4)}ونسب العلم لذاته (جل شأنه)،لكن لماذا قال{عَلَّمَهُ ٱلۡبَيَانَ (4)}؟ لماذا امتن على الإنسان بأنه{عَلَّمَهُ ٱلۡبَيَانَ}؟حتى يذكرك دومًا وأبدًا ألا تقع في فخ،ولا في شباك الاغترار بنفسك وقدراتك وقوتك، والبيان كلمة جامعة،مفهوم جامع يحتوى كل ما يمكِّن الإنسان أن يكشف به عن الشيء،ولذلك البيان أعم من النطق،ومن الكتابة، أعم من الإشارة،البيان يشمل كل شيء،لماذا؟ مرتبط بغايته التي هي الكشف عن الشيء،اسم جامع لكل شيء،فكل شيء يكشف لك عنه فهو بيان،ولذلك هذه المفردة لها خصوصية واضحة في كتاب الله (جل شأنه)،الله (سبحانه وتعالى) وصف هذا الكتاب بأنه كتاب مبين،وصف أيات الكتاب قال:{آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ}وفي مواضع أخرى{آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ}ذكرعن مهمة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال:{لِتُبَيِّنَ لَهُمُ}(12) و{لِيُبَيِّنَ لَهُمُ}(13) و{مُّبِينًا}(14) إذن لماذا القرآن يحتفي بالبيان؟ القرآن هو كتاب البيان،ما معنى هذا الكلام؟ بمعنى أن هذا الكتاب العظيم واحدة من أعظم أهداف ومقاصد نزوله أنك به ومعه ومن خلاله تتبين لك حقائق الأشياء ويكشف لك عن معانيها، معنى الحياة،معنى الدنيا،معنى الأخرة،معنى الدين،معنى الأسرة،معنى العلم،معنى التعلم،معنى الحياة والإنسان،غاية الحياة،جميع القضايا المختلفة،ولذلك القرآن يصف نفسه،والله (جل شأنه) وصف هذا القرآن العظيم بأن فيه تبيان لكل شيء.كل هذه الأصول والمصادر والصيغ التي جاءت تدور حول مفردة البيان (مبين،بيَّن،تبيانًا،يبيِّن) كلها جاءت تدور حول البيان،المفهوم الجامع.لماذا هذا الاحتفاء؟ لأن من أعظم مقاصد القرآن،وإنزال القرآن،أن بهذا القرآن الذي هو بصائر،وفيه أيات بينات،وهو كتاب مبين تتضح وتتبين لك الأشياء،والبيان أجلى وأعم وأشمل وأدق وأعمق من الإيضاح،أنت حين تبين الشيء لا تترك فيه أي مجال لخفاءٍ في المعنى أو لأي شكل من أشكال الغموض.هل نحن في مسيرتنا على هذه الأرض وفي قيامنا بمهمة الخلافة هل نحن بحاجة إلى هذا البيان؟ بكل تأكيد.الإنسان حين يكون ويقع في خضم الغموض والخفاء تضطرب حياته،ما يعد يرى الأشياء على ما هي عليه،ونحن ذكرنا في أكثر من مرة وفي تدبرنا لقوله (جل شأنه):{هَٰذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ} قلنا أن ما تشهده اليوم البشرية من ضبابية الرؤية والاضطراب في القرارات،القرارات المصيرية،والاضطراب الذي يقود إلى التناقض والتضاد والتضارب في قراراتها،في رؤيتها،في علاقاتها،في أخذها،في سلمها،في حربها،في منعها،هذا الاضطراب من أين جاء؟ جاء من التخبط،من أين جاء؟ ليس لديها ما تتبصر به وتحتكم إليه لأجل أن يذهب عنها ذلك الخفاء في الأشياء.أنت على سبيل المثال إذا كنت في حجرة مظلمة تمتد يدك إلى زر الكهرباء لكي يضيء لك ماقد خفيَّ عنك لكي ترى الأشياء في مواضعها وبالتالي لا تصطدم في حركتك في هذه الحجرة التي هي حيّز محدود جدًا،فلا تصطدم رأسك بحائط مثلًا أو تقع وتتعثر،هذا في حيّز محدود فما بالك اليوم حين تسير البشرية بكاملها في مجموعها على وجه العموم دون أن يكون لها بصيرة،دون أن يكون لها مصباح من نور ترى به الأشياء في مواضعها فلا تتخبط،ولا تصطدم بها،ولا تضطرب في مسيرتها، الآن نفهم لماذا البشرية تقع في حالة الاضطراب والفوضى التي تعيشها اليوم،ابتعدت عن البصائر،ليس هناك بصائر في حياتها، لابصائر في اقتصادها،ولا في تعليمها،ولا في الأسرة،ولا في الزواج،ولا في الطلاق،ولا في الأخذ،ولا في المنع،ولا في الإغلاق،ولا في الفتح،انظر إلى اضطرابها في الفتح والإغلاق،في التعامل مع جائحة ومع وباء،فما بالك في التعامل مع عشرات بل مئات الأشياء عبر تاريخها الإنساني ومسيرتها البشرية؟ هذه الحقائق القرآن العظيم خصَّها وذكرها في كلمة واحدة،إذن البيان لا ينحصر فقط في كشف الإنسان عمايدور بخلده أو نطقه بما في ضميره،لا البيان أوسع من هذا كله،كلمة جامعة لكل شيء تكشف لك عن المعاني،عرفها الجاحظ وسمى له كتابًا باسم (البيان والتبيين) وغيره من العلماء،ولكن المفردة القرآنية المحملة بكل هذه المعاني حين تقوم بعملية النظر كذلك بما جاءت به من مصطلحات أخرى تأخذك إلى أبعد من هذا،شيء شامل{عَلَّمَهُ ٱلۡبَيَانَ}ليس فقط القدرة على أن يبين هذا الإنسان ما في نفسه وضميره بالنطق،بالكلام،بالحديث،بالقدرة على الكتابة،بالإشارة،لا ليس هذا فقط،ولذلك هناك سورة سماها سورة القلم،وقال القرآن العظيم،وامتن على الإنسان:{خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2)}(15) وأيضًا امتن على الإنسان بالقلم حين أقسم بالقلم {ن ۚ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1)}(16) وأيضًا{اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3)الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ(4)}(17) الكلام عن وسائل التعلم،ولكن هنا جاءت أشمل وأوسع وأعم.قال:{عَلَّمَهُ ٱلۡبَيَانَ}لماذا نسب التعليم له (جل شأنه)؟ حتى يفهم الإنسان ويبصره ألا يقع في فخ الاغترار بعلمه،ونحن ذكرنا فيما ذكرنا أن من رحمة الله (جل شأنه) أن ينتشل العباد من داء الغرور،ومن أعظم ما أصيبت به البشرية في الزمن الذي نعيش فيه الاغترار بفتنة العلم،الاغترار بفتنة المدنية،الاغترار بفتنة التحضر والتقدم والعلم،فتنة عظيمة،كيف النجاة منها؟ أن تفهم البشرية أن الإنسان حين يتعلم لا يتعلم بذاته ونفسه،ولكن الرب سبحانه (جل شأنه) هو الذي يعلم.صحيح الإنسان ممكن أن يكون ذكيًّا، ممكن أن يكون فطنًا،يبذل جهد،يتعلم،يقرأ،يكتب،يبحث،صح ولكن من وهبك كل هذه الأدوات والوسائل لأجل أن تبحث وتتعلم؟رد الفضل لصاحبه (جل شأنه)،استشعربنعمة الله عليك. البشرية حين لم تستشعر بذلك،وغاب عنها تمامًا في فوضى ماهي فيه،واغترار ما توصلت إليه وقعت في إشكاليات خطيرة جدًا،من جرَّاء أي شيء؟ نسيان هذه الحقيقة ولذلك علمه البيان،ولذلك ابتدأ بقوله (جل شأنه):{عَلَّمَ ٱلۡقُرۡءَان(2)} وتدبروا معي في الترابط:{عَلَّمَ ٱلۡقُرۡءَانَ (2)خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ(3)عَلَّمَهُ ٱلۡبَيَانَ (4)} لأن البيان لن يكون شموليًا،واضحًا،كافيًا،شافيًا بعيدًا عن القرآن ولا عن علم القرآن،ولذلك الكلام سميَّ بيانًا لماذا؟ لأنه على سبيل المثال يكشف عن المعنى الذي في داخل الإنسان ويريد أن يظهره،المعنى المقصود الذي تريد أن توصله إلى من يستمع إليك فسميَّ الكلام بيانًا.وأعظم الكلام،وأعظم البيان هذا البيان الذي في القرآن،بيان القرآن،تدبروا في الربط{عَلَّمَ ٱلۡقُرۡءَانَ (2)خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ(3)عَلَّمَهُ ٱلۡبَيَانَ (4)} إذا كنت تريد أن تستبين سبيل الحياة،والتعليم، والاقتصاد،وشئون حياتك المختلفة،وأخرتك لن يكون ذلك بعيدًا عن علم القرآن،وليس المقصود بعلم القرآن كما ذكرنا علوم القرآن التي ينص عليها وباتت تعرف بذلك العلم الذي له الخصوصية المعينة”علوم القرآن” لا،بالمفهوم القرآني الذي يحدثنا القرآن عنه{عَلَّمَ ٱلۡقُرۡءَانَ (2)} الذي يبصرك بكل شيء،وبكل ما تحتاج إليه، والذي ستعجز البشرية عن الإحاطة بعلومه،البشرية من أولها حتى أخرها،لن يحيط بعلمه أحد،ولكن البشرية تحاول بما يؤهلها الله من وسائل التعلم والمعرفة،هذه المعاني العظيمة،قال:{عَلَّمَهُ ٱلۡبَيَانَ (4)} شيء أخر كذلك من أوجه تعلم البيان أنك حين تتعلم القرآن تصبح أكثر قدرةً وبيانًا وفصاحةً وجزالةً،وهاهم العرب أول من نزل عليهم القرآن،أهل الفصاحة والبلاغة،ولكن النقلة البيانية النوعية التي أحدثها القرآن ما حصلت أبدًا إلا من خلاله، القرآن أعطى للغة العربية مالايمكن أبدًا أن يحققه أحد ولا تحققه ولا المعلقات،ولا شعر قديم ولا حديث ولا أي شيء،فعلم القرآن لا يدخل في شيء من العلوم والمعارف،ولا في ميدان من ميادين العلوم والمعرفة،ولا ميادين الحياة إلا زادها بيانًا،حتى بات يعرف علم البيان المعروف كعلم مستقل بذاته.القرآن الذي أنت كلما يمكنك الله أن يكون لك طرف منه كلما أضاء وأشرق النور والبيان في حياتك.فكل بيان بعيد عن القرآن خفاء وغموض،وكل بيان وعلم وخفاء اقترب من القرآن وعلم القرآن ذهب عنه الخفاء والغموض وبات في نور البيان،ولذلك القرآن يصف أياته بأنها مبيِّنات وبيِّنات. تدبروا في هذا الوصل وهذا الربط العظيم الذي لا تجده بعيدًا عن القرآن أبدًا.أنت حين يداهمك أمر من الأمور وتريد أن تتبين فيه الحقائق بصدق وبيقين وإخلاص عليك بالقرآن.بعض المسلمين بسذاجة لما أن يريد أن يقرر أو يتخذ قرارًا مصيريًا في حياته يأتي إلى المصحف فيفتحه ويغلقه عشوائيًا وينظر أي سورة وأي أية وهكذاوهذا كلام وفعل لا قيمة له،ما هكذا يفعل بكتاب الله العزيز العظيم،ولكنك أن تأتي بضعفك،وعجزك، فقرك،وقلة حيلتك، وضآلة علمك،وعجزك عن الإحاطة بالأشياء،وتجلس بين يدي أيات الكتاب العظيم لتتعلم منها،وتتبصر بها،وتستبين من خلال أياتها وحروفها وكلماتها ومعانيها ما يجعلك ترى الأشياء على حقيقتها بدون رتوش،بدون خفاء،بدون غموض،بدون ضبابية،بدون اختلاط بين الأشياء يذهب عنك وعليك نور الأشياء على حقيقتها كما هي في الواقع. من الأشياء التي تفتقر إليها البشرية اليوم هذا الوضوح في الرؤية،هذا البيان الحق في الرؤية،من أين يأتي للبشرية البيان؟ كيف تستبين البشرية سبيل النجاة؟ سبيل السير في هذه الحياة ؟كيف تستبين وهي قد أعرضت عن هذا القرآن أيما إعراض؟ تدبروا في الربط، ولذلك ابتدأ بالرحمن،الاسم العظيم من أسماء الله الحسنى،لأن من رحمة الله بعباده أن بيَّن لهم ما قد خفيَّ عنهم،أنا وأنت في كثير من المواقف في حياتنا تخفى علينا،ويصير لدينا غموض في كثير من الأشياء في حياتنا،كيف تستجلى ذلك الغموض؟ كيف تتبين الأشياء على حقيقتها؟ كيف تذهب بالخفاء من الأشياء حتى تظهر لك؟لأنه العكس للخفاء هو الظهور،الوضوح،البيان،كيف؟كيف تتخلص مما أنت فيه؟كيف تتخلص من الأشياء الغامضة التي قد خفيت عليك بحكم إنسانيتك؟ هناك الكثير من الأشياء التي تخفى علينا، على سبيل المثال نحن لا نعلم ما يحصل غدًا أو بعد غد،الإنسان لا يعلم الغيب،علمه محدود،والقرآن يبصرك كيف تتعامل مع ما قد خفيَّ عنك،كيف تزن الأشياء،كيف ترى الأمور بنظرة أوسع وأعمق وأدق وأوضح وأظهر،من هنا نفهم معنى العلم النافع والعلم الحقيقي الذي يؤهلك القرآن للوصول إليه،لأن العلم الذي يتعلمه البشر محدود،منقوص،ولكن الذي يعلمه القرآن أوسع، أشمل، أعظم،أوضح،أدق،أعمق،تدبروا معي في هذه المعاني. ثم إذا بالأيات تنتقل إلى الكون كعادة القرآن،القرآن في كثير من المواضع ينتقل من الإنسان إلى الكون،لماذا ذاك الوصل بين الإنسان والكون؟ كلاهما من خلق الله،كلاهما أية من أيات الله العظيمة،أنت مخلوق،والكون مخلوق،أنت خلقك الله (جل شأنه) لغاية،وهذا الكون خلقه وسخره لك لغاية،تدبروا معي في الترابط. قال:{ٱلشَّمۡسُ وَٱلۡقَمَرُ بِحُسۡبَان (5)} من البيان وخلق الإنسان إلى الشمس والقمر بحسبان،لماذا القرآن يأتي بكلمة الحسبان؟ الحسبان كلمة شاملة تدل على الدقة،مفهوم،مفردة قرآنية محملة بمعاني الفهم،والدقة،والتوازن،وإقامة العدل،والقياس الدقيق. قال:{ٱلشَّمۡسُ وَٱلۡقَمَرُ بِحُسۡبَان (5)} الشمس في حركتها،والقمر في حركته،والشمس والقمر بحسبان في حركتهما،في خلقهما،في مدارهما،في مساراتهما التي يدوران فيها،كل شيء فيهما بحسبان،وفي أيات أُخر قال:{لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ۚ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)}(18) في دقة،في توازن يعجز الإنسان عن اكتشافه وتفسيره،الإنسان مازال إلى اليوم بكل ما أوتيَّ من وسائل العلم والتقدم عاجز عن الكشف عن هذا الحسبان،وعن حركة الشمس والقمر،فكيف لا يعجز عن فهمها؟ وهو أعجز عن فهمها والتبصر بها،لماذا القرآن يأتيني بهذه الكلمة؟ حتى يأتيك بالغاية والتكليف الذي سيطلبه منك بعد قليل. قال:{ٱلشَّمۡسُ وَٱلۡقَمَرُ بِحُسۡبَان (5)} تأمل،تبصر،ينقل الإنسان مباشرة بما أن القرآن وأن الله (جل شأنه) علم الإنسان البيان الذي هو مفهوم شامل جامع كماذكرنا،لاينحصر فقط في إظهار ما يدور في خلد الإنسان وضميره والتعبير عنه بكلمات أو إشارات أو ما شابه،هو أعظم في كل شيء،شامل العلم والتعلم والنطق،كل البيان،فواحدة من أعظم ما يمكن أن تستعمل ذلك البيان في أنك تتأمل وتتبصر في الشمس والقمر،ستجد أن حركتهما والخلق الذي فيها،وكل ما يتعلق بها من حركتها ومساراتها وأهدافها التي خلقت لأجلها،في ألية حركتهما في الدوران حول الأرض وحول الشمس كلها تؤدي أغراض معينة،أهداف،ليست دورة عشوائية،ليس هناك شيء في الحياة والكون والطبيعة خلق أو يدور بطريقة عشوائية أو بلا هدف،كل شيء له هدف (بِحُسۡبَان). قال:{وَٱلنَّجۡمُ وَٱلشَّجَرُ يَسۡجُدَانِ (6)} ومعظم العلماء والمفسرين قالوا أن النجم هو النبات الذي لا ساق له،لأن الكلام من الشمس والقمر والأكوان إلى الأرض {وَٱلنَّجۡمُ وَٱلشَّجَرُ يَسۡجُدَانِ (6)} ممكن،وسواء أكان النجم الذي في السماء عطفًا على الشمس والقمر،أو الشجر والنبات،قال:{ٱلشَّمۡسُ وَٱلۡقَمَرُ بِحُسۡبَان (5) وَٱلنَّجۡمُ وَٱلشَّجَرُ يَسۡجُدَانِ (6)} بما مكَّن وجعل الله فيهما من قوى جعل السجود ممكن أن يكون واحدة من علاماته وأشكاله وصوره أن تسير هذه الأفلاك والمخلوقات لأمر الله ووفق ما أمر (سبحانه وتعالى) كيف؟ الله (سبحانه وتعالى) خلقها،وما جعل لها ولم يمكَّن فيها ولم يركب فيها القدرة على أن تقول لا أو نعم،هي تقول نعم فقط،هي تمشي بدون اختيار وفق ما أمر الله سبحانه،وهذا سجودها،خضوعها لأمر الله (سبحانه وتعالى)،هذا الخضوع لتكاليف وأمر الله أنها تسير وفق ما أمر الله (جل شأنه)،واليوم أنت مهما بلغت من قوة،ومهما بلغت من علم وتقدم وتحضر هل تستطيع أن تقول للشمس اليوم أعطيناكِ أجازة تعالي غدًا أو حتى للقمر؟ لا تستطيع،أنت لا تملك شيئًا،لا تغتر بما علمك الله سبحانه،انظر إلى ما أنت فيه،لا شيء في الكون يتحرك وفق ماأنت تريد،لا شمس،ولا رياح،ولا قمر،ولا أرض،ولا سماء،ولا ماء، لاشيء،فبأي شيء تغتر؟ كل ما تحتاج إليه من حركة الأشياء لا تتحرك بأمرك،تتحرك بأمر الله،بل حتى ما خلق الله فيك فلا يد،ولا قدم،ولا قلب،ولا رئة،ولا سمع ولا أي شيء فيك يتحرك وفق أوامرك بل يتحرك وفق ما أمر الله (جل شأنه)،وأنت فقط في حركتك هذه على سبيل التجوّز الإرادية لا تتحرك إلا بإذن الله لك أن تتحرك،هذه المعاني العظيمة{ٱلشَّمۡسُ وَٱلۡقَمَرُ بِحُسۡبَان (5) وَٱلنَّجۡمُ وَٱلشَّجَرُ يَسۡجُدَانِ (6)} حتى يلفت الأنظار تمامًا إلى ما خلق الله (جل شأنه) في الكون،في الطبيعة،ومن البيان أنك تنظر إلى هذه الطبيعة،من البيان أنك تتأمل وتتبصر وتنظر وتدرس وتبحث وتسعى وتكشف عن السنن في الخلق وفي الطبيعة والكون،وتصل إلى هذه الأشياء التي يريدك الله أن تترقى فيها،تدبروا في هذه المعاني،ويعطيك وسائل للبيان،ويربط لك ذلك البيان الذي هو كشف عن حقائق الأشياء وظواهرها بالوسائل،لذلك القرآن سبق كل العلوم،وكل البشرية بأن أسس للأسس النظرية التجريبية،أسس العلم التجريبي،قواعد العلوم التجريبية،التأمل والنظر،الشمس والقمر،كيف ستدرك حركة الشمس والقمر دون بصر،دون تبصر،دون تأمل،دون تدبر،دون بحث ودراسة لأبجدياتها،وعلومها،وخصائصها،ومساراتها،وحركة أفلاكها؟ القرآن هنا يعطيك زخم من العلوم، مفاتيح العلوم المختلفة،من الفلك،على الشمس،على القمر،على الطبيعة،على الخلق،على كل هذا. قال:{وَٱلسَّمَآءَ رَفَعَهَا} تدبروا معي،بعد الحديث عن هذه المقالة:{وَٱلسَّمَآءَ رَفَعَهَا} لماذا جاء بذكر السماء في كل هذا؟ لماذا هذه الانتقالات السريعة التي تحرك البصر والسمع والفكر والعقل؟ حتى يصح البيان،حتى يكون البيان مبنيًا على الأسس القويمة والقواعد العلمية.تدبروا في القرآن حين نقول أنه أعظم كتاب يعلم الإنسان العلم،قال:{عَلَّمَ ٱلۡقُرۡءَانَ (2)} و{عَلَّمَهُ ٱلۡبَيَانَ (4)} هذه شواهده،لا كتاب على وجه الحقيقة يعلم الإنسان كيف يفكر،كيف يخطط،كيف يبحث،كيف يبرمج،كيف ينتقل من المقدمات إلى النتائج،وعليه فالقرآن من أعظم الكتب التي تُعلِّم الإنسان التفكير المنطقي دون غيره،هو يُعلِّمُكَ كيف تركِّب الأشياء على بعضها البعض،كيف تصل الحقائق ببعضها البعض،كيف تربط ما بين المقدمة والنتيجة،كيف تربط بين الأسباب والمسببات،تربط،تشكِّل الأشياء،هذا التفكير التركيبي الذي هو في الحقيقة درجة أكثر تعقيدًا وأعلى من التفكير البسيط الذي لا يعرف كيف يربط الأشياء، لذلك نحن نعلم أن الطفل الصغير يمسك بالأشياء فقط،مسكة عابرة،ممكن حتى فقط النظر،ولكن في مراحل تطوره العلمي تدريجيًّا تتولد لديه القدرة على التركيب بالألعاب من مثل:الميكانو والبازل والمكعبات،فيتعلم الطفل في مرحلة متقدمة قليلًا كيف يركب الأشياء على بعضها البعض ويصنع منها أشياء ذات مفهوم وذات معنى،مثل:سيارة،بيت،كرسي،وإلى أخره.هذه القدرة العقلية المتقدمة والمتطورة القرآن يعلمك إياها. قال:{وَٱلسَّمَآءَ رَفَعَهَا}ولفَت الأنظار هنا والعقول إلى شيء أخر ليس فقط خلق السماء وإنما الفهم بأن هذه السماء رفعها كما أوضحتها وبينتها أيات أُخر فقال:{بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ۖ }(19) لأن أنت عندما ترفع الشيء تحتاج إلى أعمدة،هذا الإنسان يحتاج إلى الأعمدة،ولكن الخالق حين يرفع سماءًا يرفعها بلا عمد،تدبروا هذا المعنى العظيم،فمن الطبيعي حين يرفع الإنسان الذي هو من الخلق شيئًا يحتاج إلى رافعة حتى يرفع الشيء إلى الأعلى،والخالق (جل شأنه) له المثل الأعلى رفع سماءًا بلا عمد،قال:{وَٱلسَّمَآءَ رَفَعَهَا} لماذا؟ حتى يلفت الأنظار والقلوب والعقول يوقظها من غفلتها،يشعرها برحمته (جل شأنه)،يشعرها بتجليات عظمته وقدرته،تدبروا معي في الربط الذي سيأتي بعد قليل،قال:{فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) 13)} لماذا؟لأن الآلاء هي الفعال العجيبة البديعة،بديع صنع الله (جل شأنه)،أليس رفع السماء بلا عمد واحدة من الأشياء البديعة؟ بطبيعة الحال،من هنا قال:{وَٱلسَّمَآءَ رَفَعَهَا}. قال:{وَوَضَعَ ٱلۡمِيزَانَ} هنا بدأت الأيات العظيمة،بعد الكلام عن هذه المقدمات الواضحة التي لا يمكن لعاقل صاحب بصر وبصيرة أن ينكرها،هل يستطيع الكافر أن ينكر وجود السماء؟لأن كثير من الكفار خاصة في الزمن الذي نعيش فيه،وبعض الناس الملحدين ينكر وجود الله فلا يؤمن بوجوده،وسؤال:تنكر وجود السماء؟ الله لا تؤمن به فهل تنكر وجود السماء؟ تنكر أن السماء قد رفعت هكذا،تنكر الشجر؟تنكر الماء؟تنكر الأرض؟ ماذا تنكر حتى تنكر وجود الله؟ قال:{وَٱلسَّمَآءَ رَفَعَهَاوَوَضَعَ ٱلۡمِيزَانَ (7)}هذه المعاني العظيمة في بدايات سورة الرحمن التي توقظ الإنسان من غفلته،تشعره بتجليات رحمة الخالق (جل شأنه)،وعظمته،وقدرته التي لا تخرج مطلقًا عن محض رحمته (سبحانه وتعالى).
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته