تدبر سورة الرحمن: الحلقة الثامنة

الحلقة الثامنة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمد الشاكرين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وصلنا في تدبرنا في سورة الرحمن المباركة عند تلك العاقبة التي تنتظر المجرمين،العاقبة والمصير الذي توعد الله به سبحانه أولئك الذين طغوا في الميزان.وذكرنا فيما ذكرنا فيما ذكرنا أن المجرمين في كتاب الله (جل شأنه) لهم صفات وسمات وأعمال،تلك المواصفات والسمات التي في واقع الأمر تبين إن جمعت ووضعت في سياق الأيات التي جاءت فيها والسور التي ذكرت فيها تقدم لنا منهجًا متكاملًا في التعامل مع الإجرام والمجرمين،منهجًا يحاصر الجريمة والإجرام،منهجًا بحق يستحق أن يوصف بما جاءت به الأية العظيمة في سورة الأنعام{وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ}تلك الاستبانة التي لا تدع مجالًا لالتباس الشك باليقين،ولا الحق بالباطل،توضح الأمور، وتبين الحقائق،وتكشف ما يحاول المجرم أن يستره ويداريه عن أعين البشر. وذكرنا فيما ذكرنا أن القرآن العظيم حين جاء بهذا المصيرمتضمنًا في سورة الرحمن التي فيها تجليات الرحمة،هذا نوع من أنواع العلاج، العلاج لأولئك المتكبرين المتجبرين المتسلطين على رقاب العباد.وقلنا فيما قلنا ونحن نتدبرفي بقية الأيات التي جاء ذكر المجرمين فيها، ومحاولة الوقوف على صورة متكاملة لمفهوم الإجرام في كتاب الله (جل شأنه) الذي لاينحصر عند قيام بفعل أو جريمة جنائية كما اعتاد الناس أن يتداولوا هذه الكلمات والألفاظ،ولكن مفهوم الإجرام في القرآن أكبر وأوسع. وذكرنا فيما ذكرنا أن هؤلاء من المجرمين وأكابر المجرمين هم أولئك الذين يسوقون مجتمعاتهم وشعوبهم إلى الهلاك والدمار،إلى الانحسار بعد التحضر والتميز والتقدم،هم أولئك الذين يأخذون برقاب العباد إلى الفساد،يلوون أعناق النصوص،يحاولون أن يموِّهوا الحقائق، يحاولون دومًا وأبدًا أن يظهروا بمظهر ذلك الإنسان صاحب الحق،مناصر الحق والمدافع عنه،في حين أن القرآن ذكر كما ذكرنا في المرات السابقة أن هؤلاء يكرهوا ظهور الحق،ولكن الله سبحانه أبى إلا أن يحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون. وذكرنا أن هؤلاء الأصناف من المجرمين يكرهون ظهور الحق،وبالتالي يتسلطون على رقاب العباد بالإذلال،والإهانة،والمكر،والكيد، والظلم،والبغي،والعدوان.ولنا أن نتساءل عن أوجه الربط بين ذكر المجرمين في سورة الرحمن التى جاء المقصد الأساس فيها لبناء علاقة بين العبد وربه تقوم على الرحمة،لماذا جاء ذكر المجرمين في سورة الرحمن؟ربي (جل شأنه) في بدايات السورة قال:{أَلَّا تَطۡغَوۡاْ فِي ٱلۡمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُواْ ٱلۡوَزۡنَ بِٱلۡقِسۡطِ وَلَا تُخۡسِرُواْ ٱلۡمِيزَانَ (9)} الوصية الخالدة،التكليف السامق الذي لو صار عليه البشر حقيقة في حياتهم لفتحت عليهم وإليهم أبواب الرزق من السماء والأرض.هؤلاء البشر الذين يتخبطون اليوم في متاهات ودروب الحياة بحثًا عن نجاة،بحثًا عن قوارب وسبل للنجاة من الكوارث والمجاعات والحروب والأوبئة والدمار،كيف استشرى ذلك الفساد؟هذا فعل المجرمين، إذن الإجرام وذكر الإجرام في سورة الرحمن إنما جاء من قبيل أنه صنف من أصناف وأشكال الطغيان في الميزان،ذاك أنك لا يمكن أبدًا أن تجد مجرمًا إلا وقد طغى في الميزان،أرادها فوضى،ودمارًا،وتخريبًا،وسلبًا للحقوق،ونهبًا للأموال،ودمارًا للبلاد،وإهانةً للبشر، ودوسًا على كرامتهم وأعناقهم،فإن لم يكن ذلك الإجرام هو شكل بل أعظم أشكال الطغيان في الميزان فماذا يكون الطغيان في الميزان؟ إذن ربي (جل شأنه)في سورة الرحمن حين جاء بذكر وعاقبة المجرمين جاء ليقدم للبشر المتدبر المتلقي لهذا الكتاب أنك يا بشر،يا إنسان إذا حصل منك أي شكل من أشكال الطغيان في الميزان فعليك أن تفهم أن عاقبة الطغيان أن يتحكم في مصائر شعوبك ومجتمعاتك ثلة من المجرمين،هؤلاء الذين لا يمكن أبدًا أن يوقفهم لا محاكم دولية،ولا عقوبات،ولا وصم بجرائم حرب،ولا جرائم ضد الإنسانية،لا يقف في وجوههم شيء،قال:{الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11)فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13)}(66) تدبروا معي في ترابط الأيات العظيمة في كتاب الله.من هنا تواصل الأيات العظيمة بعد قوله (جل شأنه):{ فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40)}قدرته،إحاطته بخلقه،قدرته سبحانه وحكمته (جل شأنه) في عقاب هؤلاء من المفسدين في الأرض،أولئك الذين يفلتون في الدنيا من كل أنواع العقاب،لا حساب،ولا كتاب،ولا محاكم يمكن أن تقف في وجوههم،بل كما ذكرنا على العكس، الكثير منهم من باب التباس الحق بالباطل يظهر المجرم وقد انتشى بفساده وطغيانه وقوته الموهومة متباهيًا متبخترًا متكبرًا وتلك سمتهم كما جاء في كتاب الله،استكبروا،هؤلاء يمشون في الأرض وكأنهم أبطال،وكأنهم دعاة حق،وكأنهم أناس يناهضون الباطل والفساد، وكأنهم لا يريدون إلا الإصلاح،وذلك دأبهم منذ عصر فرعون وما قبل فرعون وما بعده،وإذا بالقرآن العظيم يأتي بقوله (جل شأنه):{فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(40)}من عجائب قدرته،وعظيم صنعه،وعدله،ولطفه بعباده أنه لا يدع المجرم ينفذ بجريمته إطلاقًا،إن نفذ من محاكم الدنيا وهذا حاصل كثير في واقع الحياة فإنه لن ينفذ أبدًا من العقوبة،قال:{يُعۡرَفُ ٱلۡمُجۡرِمُونَ بِسِيمَٰهُمۡ فَيُؤۡخَذُ بِٱلنَّوَٰصِي وَٱلۡأَقۡدَامِ (41)} وقلنا في المرة السابقة أن ذلك نوع وشكل من أشكال الاهانة لهؤلاء يوم القيامة،لماذا؟ لأن الجزاء من جنس العمل،عاشوا حياتهم يهينون الخلق ويدوسون على كرامتهم ويحرقونها،ما عرفوا لإنسان كرامة،ولا صانوا كرامة إنسان،ولا حافظوا على إنسانية الإنسان،وذكرنا فيما ذكرنا أن البعض من هؤلاء المجرمين سلطوا على بني جنسهم،وعلى بني قومهم، وعلى أناس من جلدتهم،أناس يعرفونهم ولربما حتى كانوا من أقاربهم،ولكن هؤلاء لا يراقبون ولا يرقبون في مؤمن إلًّا ولا ذمة. قال:{هَٰذِهِۦ جَهَنَّمُ ٱلَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا ٱلۡمُجۡرِمُونَ (43)} وتدبروا معي كيف جاء بهذه التي هي اسم إشارة للقريب؟ وذكرنا فيما ذكرنا في المرة السابقة أن التكذيب في واقع الأمر حين يأتي في كتاب الله (جل شأنه) يأتي بمعنى شامل،واسع،لايكون فقط التكذيب باللسان، فلربما من الناس ومن المجرمين من يدَّعي بأنه يصدق بكتاب الله،باليوم الأخر،بأن هناك جنة وهناك نار،تنظر إليه وتراه وهو يتحدث، وإذا به يعجبك قوله و{وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ(204) وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)}(67) هذه صفاتهم،إذن التكذيب ليس بالضرورة أن يكون تكذيبًا باللسان،ممكن أن يكون تكذيب بالقلب،فاللسان يشهد بأن هناك يوم أخر ولكن ليس ثمة مايشير في حياة ذلك الإنسان المجرم،ولا في سلوكه،ولا في تصرفاته، ولا في أحكامه،ولا في أقضيته التي يجريها على عباد الله ما يؤكد أنه يؤمن باليوم الأخر أبدًا،دمار،إفساد،نهب،سلب،قتل،كل ذلك هل يمكن أن يكون دليلًا على أن هذا الإنسان بالفعل يؤمن باليوم الأخر؟ قال:{يُكَذِّبُ بِهَا ٱلۡمُجۡرِمُونَ} كذبوا بها،لذلك صفة الإجرام قد تتلبس بإنسان يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله،حتى نفهم،حتى نستوعب،حتى لا نأخذ الأمور هكذا بدون أن يبين لنالأن القرآن فيه منهج،وذكرنا في المرةالسابقةكيف أن القرآن قدم ونص على قوله (جل شأنه):{وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ } هذا السبيل لابد لك أن تتبينه،وتعرف ملامحه،وتتأكد من معالمه،وتقف على سمات أصحابه وأوصافهم،حتى لا تختلط الأمور،لماذا؟ لأن من أعظم أشكال الفتن وخاصة الفتن التي نعيش فيها في حياتنا المعاصرة التباس الأمور،التباس الحق بالباطل،اختلاط الأوراق الأسود بالأبيض،والحق بالعدل،يريدونها فوضى خلاَّقة،خلقوها وصنعوها بأيديهم ليضلوا الناس بغير علم،وأبى الله (سبحانه وتعالى) إلا أن يحق الحق بكلماته.من هنا قال (جل شأنه) متوعدًا أولئك المجرمين:{هَٰذِهِۦ جَهَنَّمُ ٱلَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا ٱلۡمُجۡرِمُونَ (43)}فأين الكذب؟ وأين الافتراء؟وأين الظلم؟ وأين البغي؟{هَٰذِهِۦ جَهَنَّمُ ٱلَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا ٱلۡمُجۡرِمُونَ (43)} تدبروا في قدرة الله (جل شأنه)،تدبروا في ذلك الإيقاع القوي الشديد في سورة الرحمن كيف يأتي بالأية لتهز القلوب،توقظ تلك النفوس التي نامت ورقدت طويلًا حتى أضناها الرقاد،تلك النفوس التي تحتاج إلى ذلك الصوت القوي المدوي الذي يصدح بالحق في أعماقها وفي نفسها. قال:{يَطُوفُونَ بَيۡنَهَا وَبَيۡنَ حَمِيمٍ ءَانٍ (44)} تدبروا معي في دقة المفردة،هذه ليست فقط مفردة،هذا ليس وصف للعذاب،وليس مجرد وعيد،وليس مجرد تهديد،ولكن صورة محملة بالمعاني،صورة محملة بالأحاسيس،هذا ليس فقط عذاب يقع على الجسد،هذا عذاب نفسي،عذاب روحي،عذاب يحمل معه من ضمن ما يحمل ليس فقط الإيلام الذي يقع على الأجساد والأبدان،ولكنه الإيلام الذي يقع على النفوس إهانةً وإذلالًا.وذكرناونذكر أن قضية الإذلال هنا مقصودة،لماذا؟ الجزاء من جنس العمل.من أعظم سمات المجرمين وسيرتهم في الخلق،وسيرتهم في العمل،وسيرتهم في التسلط على رقاب الناس أنهم يستهزئون،من الذين أمنوا يضحكون، ويسخرون،ويتغامزون،ويخوضون مع الخائضين،لا صلاة،ولا إطعام للمساكين،ولاشعور ولا إحساس بهم،على العكس إذلال للبشر. وذكرنا فيما ذكرنا إذا نريد فعلًا أن نفهم معاني هذه الأيات العظيمة،ولماذا يأتي القرآن العظيم على ذكر العذاب ضمن الحديث عن الرحمن والرحمة،علينا أن نفهم ونستوعب الواقع الذي نعيش فيه،الواقع الذي أصبح مليئًا محملًا بصور وامتهانات لحقوق الإنسان وكرامته،أنت حين تقلِّب أحيانًا في بعض القنوات أو في بعض الصحف وما قد تنقله ترى عجبًا،ترى بشرًا يحرقون من الناس الأخرين الأبرياء لمجرد أنهم يخالفونهم في دين أو فكر أو رأي،لمجرد أنهم يتوهمون أنهم يريدون أن ينتزعوا منهم ملكًا أو جاهًا أو منصبًا أوماشابه، هذا ماذا تسميه؟ أهواء النفوس،تلك الأهواء التي طاشت بالعقول فماعادت العقول هي التي تحرك تلك الأيدي ولا تلك الأقدام حين تمشي،بطشت،تجبرت،تكبرت،سفكت،أهانت،أذلت،فأين تذهب بعد ذلك؟ ملأوا الدنيا بطولها وعرضها وشرقها وغربها دماءًا، أشعلوها حروبًا وفتنًا ودمارًا،هجروا الأبرياء،الأطفال،النساء،الرجال،الشيوخ،الكبار،الصغار،داسوا على الأعراض،لا يعرفون حرمةً لإنسان لا في ماله،ولا في عرضه،ولا في دمه،ولا في أرضه،ولا في قوله،ولا في نفسه،يتعمدون إذلال البشر بل تصل بهم الجريمة في بعض الأحيان إلى الحد الذي يمكن أن يقتل ويسفك ويعتدي على الأعراض أمام الأبناء والأزواج والأقارب والأهل ليكون أشد إيلامًا وإهانةً لغيرهم،وذهبوا مع كل ذلك بجرائمهم كأنهم ما فعلوا شيئًا،ذاك أن الناس ما عرفوا كيف يقيموا الوزن بالقسط،فلا موازين،ولا قسط،ولا عدل،والله يأمر بإقامة العدل{وَأَقِيمُواْ ٱلۡوَزۡنَ بِٱلۡقِسۡطِ وَلَا تُخۡسِرُواْ ٱلۡمِيزَانَ (9)} لأجل كل ذلك الله سبحانه قال:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} تلك الموازين التي لا تحابي أحدًا أبدًا،ولا تجامل،ولا تعرف إلا الحق بل إنها أمرت بالقسط الذي هو شكل من أعظم أشكال إحقاق الحق الذي قامت به السموات والأرض،وبه نزلت الرسالات،وبه أرسل الرسل والأنبياء،من هنا قال:{يَطُوفُونَ بَيۡنَهَا وَبَيۡنَ حَمِيمٍ ءَانٍ (44)} وتدبر في دقة المفردة (يَطُوفُونَ)،لماذا القرآن يختار هذه المفردات؟ تتناسب مع السياق، تتناسب مع المقام،تتناسب مع حال هؤلاء في الدنيا،كانوا يطوفون شرقًا وغربًا،شمالًا وجنوبًا لأي شيء؟ ألإحقاق حق؟ بل لإبطال الحق،لإعلاء صوت الباطل،لإكراه الناس،ولنشر الفساد والحقد والكره،وتجَّار الحروب وصنَّاع الفتن،صنَّاع الموت والدمار والهلاك والفساد وسفك الدماء يتفننون في إذلال البشر،قال:{ يَطُوفُونَ بَيۡنَهَا} أي بين جهنم{وَبَيۡنَ حَمِيمٍ ءَانٍ} منصهر،مستمر،يغلي عليهم غليًافي البطون وفي الأجسادوفي العقول وفي الأرواح وفي النفوس. قال:{فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45)}نحن ذكرنا في كل مرة ذكرت فيها الأية العظيمة تبني فيَّ شيء،يا ترى ماذا تبني؟ هي منذ الأيات الأوُّل تكلمت عن العاقبة،بدأت ببناء خشية الله (سبحانه وتعالى) في النفوس التي هي أجل مقامات الصالحين،الخشية التي لا تبنى هكذا،الخشية التي تبنى بناءًا وتكرَّس وتعزز بأيات الكتاب العظيم وتطبيقها وإعمالها في السلوك.قال:{فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45)} تكذب بأي شيء؟ تكذب بقدرة الله (سبحانه وتعالى) على هؤلاء المجرمين باقتداره وإحاطته وعلمه بهم،وجرائمهم التي نساها البشر،ولكن الله (جل شأنه) كتبها في كتاب {لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى}(68).إذن هذه المعاني العظيمة جاءت سورة الرحمن لتكرسها في القلوب،وتدبروا معي في الأيات التي جاءت بعدها.انتقلت الأيات فبدأت بعقاب المجرمين ثم إذا بها تنتقل لأولئك الذين يقابلون المجرمين،على النقيض تمامًا من هؤلاء،وحتى نفهم ونستوعب الصورة تمامًا بتناسباتها،وترابط أياتها،وارتباطها بمقصود السورة الأعظم، قال:{وَلِمَنۡ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِۦ جَنَّتَانِ (46)} مادخل الخوف هنا؟ تدبروا معي،نحن قلنا منذ البداية أن رأس الأمر محبة الله سبحانه والعبودية له،وأن العبودية لكي تتأسس تأسسًا وتأسيسًا صحيحًا في قلب المؤمن لابد أن تبنى على علاقة سوية بين العبد وخالقه، علاقة يستشعر فيها العبد رحمة الله (جل شأنه) فيتعرف على صفاته سبحانه كما عرَّفها في كتابه العظيم،يتعرف على تجليات رحمته الظاهرة الباطنة في كل شيء،أنت تتنفس بتجليات هذه الرحمة،أنت تعيش بتجليات هذه الرحمة العظيمة فكيف لا تحبه؟ فإذا ما بنيت هذه العلاقة احتاجت إلى جناحين لتحلق في الفضاءات الإيمانية الرائعة،تلك الفضاءات التي ليست ضاربة في المثالية والبعد عن الواقع مطلقًا،بل هي مرتبطة أشد الارتباط بالواقع الذي أنت تعيش فيه،الجناح الأول الرجاء وجاءت له الأيات الأُوَّل في السورة مستذكرًا ومعددًا للألآء والنعم العظيمة الظاهرة والباطنة التي أعطى الله لعباده كي يقوموا ويقيموا الوزن بالقسط ولا يخسروا الميزان. ثم إذا بالجناح الثاني،جناح الخوف،ذاك أن الطائر لا يستطيع أن يطير إلا بجناحين،رجاء وخوف،ولابد من إحداث التوازن بينهما حتى يعتدل في طيرانه،حتى لا يهوى في مكانٍ سحيق،ولا يحلق في مكان بعيد،ولكن يبقى متزنًا في طيرانه ومسيرته،والإنسان يحتاج إلى الخوف وإلى الرجاء،كيف تأسس الخوف؟ الأيات التي سبقت هذه الأية العظيمة،الأيات التي تكلمت عن عجز الإنس والجن عن النفاذ من أقطار السموات والأرض،الأيات التي تكلمت عن الحقيقة الغائبة عن أعين كثير من البشر {كُلُّ مَنۡ عَلَيۡهَا فَانٍ (26) وَيَبۡقَىٰ وَجۡهُ رَبِّكَ ذُو ٱلۡجَلَٰلِ وَٱلۡإِكۡرَامِ (27)} الأيات التي تكلمت عن مصير المجرمين الذين يفلتون من عقوبات الدنيا ومحاكمها ولكن أنى لهم أن يفلتوا من عقوبات الأخرة.كل هذه المعاني والأيات مجتمعة بنت مقام الخوف من الله (سبحانه وتعالى) تدبروا معي في الكلمة،قال:{وَلِمَنۡ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِۦ جَنَّتَانِ (46)} وهنا لنا أن نتساءل لماذا الخوف؟ الخوف من أكبر المحركات في القلب كما قال ابن تيمية (رحمة الله عليه) التى تدفع بالقلب وتدعو النفوس إلى فعل المأمورات واجتناب المنهيَّات،بمعنى أخر:كيف تقيم الوزن بالقسط؟ الله (سبحانه وتعالى) حين قال في مفتتح السورة:{أَلَّا تَطۡغَوۡاْ فِي ٱلۡمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُواْ ٱلۡوَزۡنَ بِٱلۡقِسۡطِ وَلَا تُخۡسِرُواْ ٱلۡمِيزَانَ (9)} ما الذي يدعو العباد إلى إقامة الوزن بالقسط؟ ما الذي يجعل القوي لا يطغى بقوته؟ من الذي يجعل الغني مشفقًا عطوفًا رحيمًا بالفقراء من حوله؟ من الذي يكسر شوكة تلك القوة فلا يجعلها قوة طاغية،ولا متجبرة،ولا متكبرة،ولا مفسدة،الخوف من الله (سبحانه وتعالى)،فالقوي يدرك ويستحضر تمامًا إذا خاف الله (جل شأنه) أن هناك من هو أقوى منه،ويدرك الغني أن غناه من الله (سبحانه وتعالى) ليس إلا،وأنه مفتقر إلى غنى الله (عز وجل)،وأن قوته إلى ضعف،وأن شبابه إلى شيخوخة وكهولة،وأن صحته واعتدال نفسه مصيره الزوال،المرض،التعب،التغير،ذاك هو حال الدنيا،فالخوف من الله يستلزم من الإنسان فعل الحسنات واجتناب السيئات،ولذلك من أعظم مقامات القلوب وأعمال القلوب الخوف من الله (سبحانه وتعالى)،ذاك الخوف،وهناك فرق وقد ذكرنا في أكثر من مرة بين الخوف،هذا الخوف في بداية الدرجات إلى أن يصل بالمؤمن ويترقى به لمقام الخشية من الله (سبحانه وتعالى)،توقير، رغبة فيما عند الله (سبحانه وتعالى)،خوف،إجلال،ولذلك ما جاءت هذه الكلمات والمفردات المركبة في سورة الرحمن العظيمة {تَبَٰرَكَ ٱسۡمُ رَبِّكَ ذِي ٱلۡجَلَٰلِ وَٱلۡإِكۡرَامِ (78)} هكذا،هذا الشعور بصفات الإجلال والإكرام لله سبحانه،هذا مقام الخوف،هذا مقام المعرفة، ولا يمكن أبدًا أن يخاف الإنسان ربه (جل شأنه) إلا إذا عرف من هذا الرب سبحانه،لذلك هذا الطاغية فرعون ما كان يعرف ربًا، فماذا فعل؟ طغى،قال:{وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ}(69) الذي لا يعرف الله سبحانه حق معرفته أنى له أن يخافه؟أنى له أن يخشاه؟ {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ۗ }(70)،ولذلك ترى أن العبد في واحدة من اثنين:إذا غاب خوفه من الله (سبحانه وتعالى) سكن خوفه من خلقه في قلبه وذاك هو الرعب،قال سبحانه:{سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا ۖ}(71) تدبروا معي في هذه المعاني، أنه الشرك الذي لا يعرف لله قدرًا،الذي يسقط الإنسان حين يقع في فخه،يسقط مقام الله سبحانه (جل شأنه) من نفس ذلك الإنسان وحساباته،ولذلك أنت ترى الظلمة،وترى المجرمين يعملون ألف حساب وحساب لذباب الأرض،وهوام الأرض،ولا يعملون حسابًا لرب العباد سبحانه (جل شأنه)،هذا من جرَّاء أي شيء؟ لا يعرفون الله (سبحانه وتعالى) فألقى الله في قلوبهم الرعب بما أشركوا،بما قطعوا الصلات {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ(42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ(43)}(72) لا يعرفون علاقة بينهم وبين الله سبحانه، فإذا ما قطع العبد صلته بخالقه تقطعت به كل الأسباب وكل الصلات،طوب الأرض التي يمشي عليها أصبح ينبذه،أصبح يكرهه، تدبروا معي في هذه المعاني العظيمة التي تؤسسها هذه السورة المباركة سورة الرحمن.ولذلك النفس البشرية بطبيعتها إذا لم تخف الله (سبحانه وتعالى) وقعت في الخوف من المخلوقين،فإذا خافت من المخلوقين وقعت في البغي والظلم والعدوان،أخرست وأسكتت كل صوت تظن أنه يريد لها بأسًا أوكرهًا أو شيئًا،حاولت أن تشعل كل أشكال الفتن والحروب،كل أشكال الدمار،تخاف،تخاف حتى من الأطفال الصغار،وانظروا إلى ما يحصل في بعض بقاع الأرض،ترى أن بعض الأمم وبعض الشعوب من المعتدين والمفسدين في الأرض مِن مَن ذكر الله في كتابه العزيز يخافون من أطفال صغار يمسكون بالحجارة،وممكن أن يكون هو مدرَّع ومدجَّج بكل أشكال الأسلحة ولكنه يرى طفلًا صغيرًا يمسك بحجارة فيقف متسمرًا في مكانه،وكأن ذاك الطفل يمتلك من أسلحة القوة ما هو أقوى وأعظم مما هو في يده.المسألة ليست سلاح،المسألة ما توعد الله (جل شأنه) به عباده حين قال:{سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} إذن العبد إن لم يخف الله (سبحانه وتعالى) خاف غيره من الخلق،وإذا خاف غيره من الخلق ظهر البغي،وظهر العدوان،وظهر الظلم،وظهر التشاحن،وظهر القتل،وظهر كل شيء،لماذا؟ يخاف من كل أحد{يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ۚ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ ۚ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ۖ }(73)كلما ذكر أحد شيئًا يحسبون أنه يهدد ملكهم،يهدد عروشهم،يهدد قوتهم،يريد سلبهم أموالهم،يخافون حتى من أقرب الناس إليهم،حياة المجرمين حياة شقاء،ضنك،مأساة،لماذا؟ سكن الخوف في قلوبهم حين غاب الخوف من الله (سبحانه وتعالى)،بينما المؤمن كلما اشتد وقوي داعي الخوف من الله في قلبه زاد أمنًا،وأمانًا،واستشعر معنى وطعم الحرية وذاقها،الحرية من الخوف من البشر،يرى ويدرك تمامًا أن الناس جميعًا لو اجتمعوا على أن يوصلوا له نفعًا ما أراد الله له أن يصل لن ينجحوا في ذلك،ولو أرادوا أن يمتد وتمتد أيديهم بإيذاء له أو بأذًى،بأي شكل من أشكال الأذى،والله سبحانه لم يكتب ذلك عليه،لا يمكن أبدًا أن يصلوا إليه.هذه المعاني العظيمة الجليلة التي لا تستقر إلا حين يعظم الخوف من الله (سبحانه وتعالى) في قلبك،بمعنى أخر:إذا كنت تبحث عن الأمان فعليك بالخوف من الرحمن،تدبر معي في هذا المعنى،إذا أردت الأمان فعليك بالخوف من الرحمن،هذه هي الحقيقة التي غابت عن عقول البشرية اليوم،لذلك تراهم وهم في كل التقدم،كل التطور،كل الرخاء والرفاهية التي تعيشها وما توصلت إليه،لكنها في واقع الأمر تعيش في خوف،تعيش في رعب،من أين جاء ذلك الرعب؟ المادة لا تحقق أمنًا، الأموال المكدسة،والحسابات في البنوك،والعيشة المرفهة،وكل الأشكال المختلفة المادية لا تحقق الأمن النفسي للإنسان.هذه الحقيقة وهذه المعادلة البسيطة والمعقدة في ذات الوقت لم تدركها البشرية بعد القرآن جاء بها،ولذلك ربي (سبحانه وتعالى) يمتن على المؤمنين بالأمن قال:{لَهُمُ الْأَمْنُ}(74) كما في سورة الأنعام،الأمن منحة تأتي مع الإيمان،تأتي مع الخوف من الله (سبحانه وتعالى)،فالخوف من الله يدفع بالإنسان إلى أن يعطي الناس حقوقهم،إلى أن يقتص من نفسه للأخرين،إلى أن يقف حاكمًا وقاضيًا على نفسه التي بين جنبيه، يقيم العدل ولو كان ذا قربى،قال:{وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ ۖ وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ۚ }(75) هذه ليست تعاليم ولا تشريعات ضاربة في المثالية،هذه تعاليم وتشريعات طُبِقت في حياة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)،طُبِقَت وقت تنزُّل هذا القرآن المبارك حين كان القرآن لا يتلى فقط هكذا بالألسن،ولا يقال فقط هكذا شفاهًا، يحفظ في الصدور التي أحبته،وتفاعلت معه،وتلقته بالقبول،وفي الواقع الإنساني بالفعل والعمل والتطبيق،هذه المعاني العظيمة، لأن كما ذكرنا طبائع النفوس أنها إذا لم تخشَ الله سبحانه،ولم تخف الله (عز وجل) ممكن أن تخاف البشر،إذا خافت البشر وقعت في الظلم وفي العدوان،ولذلك ابن تيميه له كلمة جميلة يقول:”الخوف من الله أشبه بالزواجر والسياط للنفوس الجاهلة الظالمة،رادع للبشر عن الاسترسال في الأهواء والانسياق مع الشهوات،ولذلك الله (سبحانه وتعالى) يقول في أية أخرى أيضًا في سياق الحديث عن {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ (40)}(76) تدبروا معي في هذه المعاني العظيمة،ذاك الترابط والتلازم بين الخوف من الله ونهي النفس عن الهوى،لاشيء يعالج أهواء النفوس كالخوف من الله (سبحانه وتعالى).أرأيت حين تحيق بك الأهواء،وتتنازعك الصراعات، والأفكار،والملذات،والهواجس،وتضرب وتعصف بك الشهوات استذكر مقام الله (جل شأنه)،ولذلك هذه المفردة (مَقَامَ رَبِّهِ) واحدة من معانيها العظيمة أن العبد يستحضر قيامه بين يدي ربه (جل شأنه)،كيف تستحضر قيامك بين يدي الله سبحانه؟ هذا القرآن العظيم،استحضارك أن الله سيسألك:يا عبدي عملت كذا في يوم كذا في ساعة كذا كما جاء في الحديث الصحيح،هذا الاستشعار لمقام الله (سبحانه وتعالى)،هذا الخوف والخشية من الله (سبحانه وتعالى)،الإجلال،التوقير،المهابة التي لا تنفك أبدًا عن استشعارك برحمته (جل شأنه)،ومحبتك له سبحانه. قال:{وَلِمَنۡ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِۦ جَنَّتَانِ (46)} وذهب العلماء والمفسرون قديمًا وحديثًا فيها مذاهب،قالوا:جنة للإنس وجنة للجن على اعتبار أن الحديث للجن والإنس،ولكن واضح من السياقات أن من خاف مقام ربه من الجن أو الإنس له جنتان.وتدبر معي في الواقع،وفي الفواصل القرآنية في السورة المباركة أنه من الممكن أن تكون جنة داخلية وجنة خارجية أي بستان،ولكن بدأ بمن؟ بدأ بأعلى الناس رتبةً،وقد يقول قائل:وهل الناس يتفاوتون في الخوف من الله؟ بكل تأكيد،فهناك من يخاف من الله (سبحانه وتعالى) بنسبة عالية،تراه إذا ذكر الله سبحانه (جل شأنه) ارتعدت فرائصه،خشع قلبه،سكنت روحه،دمعت عينه،هذه فقط السمات الظاهرة ونراهافيما بيننا ربما،أما القلب فحدث عنه ولاحرج،القلب يخشع،ولذلك ربي (جل شأنه) في سورة البقرة قال:{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم} واعتبر أن قسوة القلب من العقوبات الضاربة للبشر{فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ۚ وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۗ}(77) تدبروا معي في المعنى،هناك قلوب إذا ذكر الله (سبحانه وتعالى) هبطت من خشية الله خوفًا وإجلالًا وتعظيمًا له سبحانه (جل شأنه)،الناس تتفاوت بكل تأكيد تتفاوت في ذلك تفاوتًا بيِّنًا. فالذي غلب عليه ذلك الخوف حتى دفع به إلى إقامة الوزن بالقسط فلا يطففون حتى في حبة شعير،الورع،الزهد،والغنى عن الناس، والشعور بالرغبة في إحقاق الحق والدفع به نحو أعظم المراتب،لا يقبل إلاالحق،لايقبل إلا أن يكون خادمًا ومؤيِّدًا وحاملًا لذلك الحق، أعلى وأسمى المراتب. قال:{وَلِمَنۡ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِۦ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47)}،وهنا جاء بـــالأية (فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا) لماذا؟ استحضار الجزاء لأولئك الذين يخافون الله (سبحانه وتعالى)،قال:{مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ ۖ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ ۗ }(78) أنت في الدنيا حين تخاف المخلوقين ماذا سيعطوك؟ماذا سيمنحوك؟ماذا في أيديهم؟ يملكون حياةً؟ يملكون نشورًا؟يملكون روحًا يعيدونها إلى جسدك إن كتب الله عليك الفراق؟ يملكون لك شفاءًا إن كتب الله عليك المرض؟ يملكون لك غنًى إن كتب الله عليك الفقر والشقاء؟ ماذا يملكون لك حتى تخاف كل هذا الخوف؟ بعض الناس يرتجف من فلان من الناس صاحب المنصب الفلاني وغيره،هوِّن عليك،هذا عبد من عبيد الله من أمثالك أسبغ الله عليه نعمة من نعمه ابتلاء يبتليه به،الخلق كلهم عبيد لله،كلهم مفتقرون إلى عدله ورحمته،لا تحسب أن أحدًا منهم غني أو يملك لك شيئًا لم يكتبه الله لك،جدد إيمانك،جدد توحيدك. تدبروا معي في هذه المعاني العظيمة،قال:{وَلِمَنۡ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِۦ جَنَّتَانِ (46)} حتى تفهم،فإن الحال كذلك مع من خاف مقام ربه فماذا يكون لمن خاف غير ربه؟ ليس له إلا الخسران.ثم بدأ في ذلك الوصف الدقيق،الوصف الحسيّ العميق لتلك المنزلة فقال:{ ذَوَاتَآ أَفۡنَانٍ(48)} والأفنان جمع فن الذي هو النوع والمقصود هنا أنها منوعة من كل شيء.قال:{فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47)} وهنا بدأ الآن في تغليب الرجاء بعد الحديث عن الخوف،بدأ بذكر الجزاء،جزاء المؤمنين فقال:{وَلِمَنۡ خَافَ مَقَامَ} فجاء هنا الجناح الأخر،جناح الرجاء،يقوي الجناح الرجاء،تدبروا معي في التوازن وإحقاق الحق،تدبروا معي كيف القرآن يقدم لنا نموذجًا لإقامة الوزن بالقسط،قال:{ذَوَاتَآ أَفۡنَانٍ(48) فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49)} تسترسل الأيات كأنك تنظر إلى تلك الجنتين،كأنك تهيم روحًا وعقلًا وفكرًا وجسدًا بين كل تلك الأفنان المنوعة. قال:{فِيهِمَا عَيۡنَانِ تَجۡرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51)} وكل أية من هذه الأيات تعلق قلبك شيئًا فشيئًا،أكثر فأكثر، تعلق الحبيب بلقاء حبيبه،تعلق قلبك بتلك الجنة،تعلق قلبك بالرب الذي يعطيك الجنة الذي تخافه أكثر فأكثر،الرب الذي سبحانه (جل شأنه) يحكم بالعدل بين عباده.أنت اليوم في الدنيا خفت الله (سبحانه وتعالى) فلن يجري عليك أبدًا خوفين،أمَّنك في الأخرة، أمَّنك في الدنيا وأنت تشعر بتلك الطمأنينة والأمن النفسي في داخلك حتى ولو كل ما كان حولك يشي بالخوف والرعب، ولكن الأمن في داخلك تستشعره،تدرك تمامًا أن لك ربًا لا يمكن أبدًا أن يسلمك إلى ما لايحب،الله (سبحانه وتعالى) رحمن رحيم فاطمئن الله ربك.وتدبر معي قال:{خَافَ مَقَامَ رَبِّهِۦ} العلاقة بيننا وبين الله (سبحانه وتعالى) علاقة الربوبية التي تحمل فيما تحمل معاني التربية، الخوف يربيك،الخوف الذي نحن نتربى به،والعبد الذي لا يخاف ربه فقل لي بالله عليك من ذا الذي يربيه؟ لا تربية،ولذلك إذا أردت أن تربي جيلًا،أو تربي ولدًا أو بنتًا فازرع مخافة الله في قلب من تربيه،تدبروا في هذا المعنى.تسألني لماذا في بعض الأحيان بعض المربين، وبعض الأباء والأمهات وأولياء الأمور يقول لك:لا أدري كيف هذا الجيل هكذا؟ والحديث هنا عن قضية التربية،ذلك أنه لم يستزرع فيه مخافة الله (سبحانه وتعالى)،فازرع فيهم الخوف من الله،ازرع فيهم محبة الله،ازرع فيهم الرجاء بالله،ازرع فيهم اليقين بالله (سبحانه وتعالى) ترى عجبًا،ترى أخلاقًا سامقة،ترى برًا،ترى صلاحًا،ترى خيرًا،ترى عدلًا،أما ما نراه مما نراه من ممارسات وسلوكيات سلوكات مختلفة مردها إلى أي شيء؟ إلى زرعك الذي زرعت،أين مخافة الله (سبحانه وتعالى) التي زرعت؟ بعض الأباء والأمهات يخوفون أبناءهم من العفاريت والشياطين وبعض منها خرافات،ومن الظلام،ومن الضرب والعنف،من أشياء مختلفة ولكنهم لا يعرفون كيف يزرعون في قلوب أبناءهم مخافة الله (جل شأنه). قال:{فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِن كُلِّ فَٰكِهَةٍ زَوۡجَانِ(52)} دون ذكر أزواج الفاكهة ولا أنواعها.وهنا قد يقول قائل متسائلًا: لما كل هذا السرد التفصيلي في الجزاء الحسي؟ تدبروا معي في الربط مع الأية {وَأَقِيمُواْ ٱلۡوَزۡنَ بِٱلۡقِسۡطِ وَلَا تُخۡسِرُواْ ٱلۡمِيزَانَ (9)} ونحن خُلِقنا ولنا تشوفات وتشوقات مادية وحسية،هذه حقيقة،والقرآن ذكرها،ولذلك ذكر الجزاء الحسي في الجنة.نحن لا نريد أن نكون مثاليين ونقول لماذالايحتفي فقط القرآن بالجزاء المعنوي كما في قوله{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ(22)}(79) وقوله{ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ (39)}(80) تترقب،وليس هذا فحسب،الجوانب الحسية كذلك مذكورة في القرآن،هذا جانب من إقامة الوزن بالقسط،إقامة التوازن في حياتنا بين الحسي المادي وبين الروحي المعنوي،حتى لا نرجح كفة على كفة،فلا نغرق في الروحانيات والمثاليات ونبتعد عن الحسيات والعالم الذي نعيش فيه،وفي المقابل كذلك لا نكون غرقى،كما هو حاصل في المادية المعاصرة،في الماديات والحسيات وننسى الأخرة وما فيها،وننسى الروح أن نزكيها لا،قال:{قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا(9)وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا(10)}(81) وعليه عليك أن تقيم الوزن بالقسط، وتدبروا معي في كيف يقدم القرآن نموذجًا من خلال الجزاء،جزاء حسي ولا ضير في ذلك أبدًا، القرآن ليس له أي شكل من أشكال الانفصام أو الحجز أو العداوة مع الأشياء الحسية إطلاقًا،ولكنه يهذب النفوس لتحصيلها ولا يجعلها في الدنيا غاية تسعى إليها النفوس،وتقيم لأجلها الحروب،وتداعى بينها بل وبين الشعوب الأخرى بالفتن والحروب لأجل أن تحصل عليها لا، ولكن جزاء،جزاء العدل،جزاء الخير،جزاء الإنصاف. قال:{فِيهِمَا مِن كُلِّ فَٰكِهَةٍ زَوۡجَانِ(52) فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53)} تدبروا كيف تبني الأيات العظيمة التعلق لأنك بحاجة إلى ذلك البناء في علاقتك مع الله سبحانه،أن تبني علاقة الرجاء،علاقة اليقين،علاقة الثقة بالجزاء،الثقة بأن الله سيعطيك،بأن الله سيجزيك خيرًا،بأنك إن لم تجد جزاءًا في الدنيا على خيرك وإحسانك لن تعدمه ولن ينفك عنك في الأخرة. قال:{مُتَّكِ‍ِٔينَ عَلَىٰ فُرُشِۢ بَطَآئِنُهَا مِنۡ إِسۡتَبۡرَقٍۚ وَجَنَى ٱلۡجَنَّتَيۡنِ دَانٍ (54)}تدبروا في وقع الفواصل القرآنية العظيمة،في اللفظة والدلالة والوصف،قال:(مُتَّكِ‍ِٔينَ) والاتكاء عادةً دليل على الرفاهية،والراحة،والرخاء،والطمأنينة،والتمكين.قال:{مُتَّكِ‍ِٔينَ عَلَىٰ فُرُشِۢ بَطَآئِنُهَا مِنۡ إِسۡتَبۡرَقٍۚ} فإذا كانت البطائن من الإستبرق،ومن الحرير،ومن الديباج فكيف بالظواهر؟ تدبروا معي في هذا،هو فقط ذكر فقال:{ بَطَآئِنُهَا مِنۡ إِسۡتَبۡرَقٍۚ وَجَنَى ٱلۡجَنَّتَيۡنِ دَانٍ } ياله من وصف يجعلك تحلِّق في السماء،يجعلك تعيش في حياة لا تمت إلى هذه الحياة بصلة، ونحن نذكر وذكرنا في أكثر من مرة أن القرآن العظيم يؤكد ضرورة التخيُّل،التخيُّل له دور كبير في حياة الإنسان. ليس معنى أنك تتخيَّل أنك تعيش في الأحلام ولكن جزء من طموحك،جزء من مشاريعك،جزء من أعمالك أنك تتخيَّل،أن تعلِّم أبناءك كذلك أن يتخيَّلوا،وصحيح أن الغيب لا يعلمه إلا الله ولكن تخيَّل نفسك بعد عشر سنوات كيف ستكون؟ تخيَّل حين تجلس كما في الأية الكريمة متكئًا على فرشٍ بطائنها من إستبرق وجنى الجنتين دانٍ،قال:{فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55)} تخيَّل حين يكون جارك النبيّ (صلى الله عليه وسلم)،تخيَّل حين تكون هناك في حياة لا فيها نصب،ولا تعب،ولا هم،ولا غم.تخيَّل حين تتحول كل تلك التضحيات التي قدمتها في الدنيا إلى درجات راقية سامقة يتنافس فيها المتنافسون يوم القيامة،تخيَّل حين تفتح لك أبواب الجنان،تخيَّل حين تكون من وفد الرحمن فتفتح لك الأبواب وتستقبلك الملائكة تقول:{سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ(24)}(82) كل هذه بشارة للمؤمن،وطالما كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يفعلها مع أصحابه،فهي تجدد الإيمان،تشوق القلب والعقل والروح للسعي والركض والجري والتنافس في تلك الدرجات العلى،فالجنة درجات،لماذا هذا التفاوت؟ سيأتي علينا ذكر التفاوت في الجنان في حينه،وهذه هي المراتب الأعلى،كيف حصلَّها الإنسان؟ بالمراتب الأعلى في الخوف من الله (سبحانه وتعالى).أنت كلما ازددت خوفًا من الله (جل شأنه) كلما تمسكت أكثر بفعل ما أمر،واجتنبت ووقفت عند ما نهى عنه،خوفك من الله يحجزك عن محارم الله سبحانه، يجعلك تفكر في الكلمة قبل أن تقولها،بل حتى في النية وما تسر بداخلك قبل أن تفكر وتخطر على بالك،قبل أن تمتد يدك بالظلم لأحد تفكر الف مرة لا خوفًا من الناس ولكن خوفًا من رب الناس،هذا الخوف إذا ترقيت فيه وصلت إلى هذه المرتبة العظيمة فتخيَّل. قال:{فِيهِنَّ قَٰصِرَٰتُ ٱلطَّرۡفِ لَمۡ يَطۡمِثۡهُنَّ إِنسٌ قَبۡلَهُمۡ وَلَا جَآنٌّ(56) فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57)} ولنا أن نتساءل:القرآن يذكر لنا حتى قاصرات الطرف من النساء والحور العين اللاواتي لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان لماذا؟ لأنه كما نعلم أن هذه الأيات لابد أن تقرأ في سياقات أيات أخرى،في النهي والتحريم،فنهى عن الزنا،وامتدح النفوس التي تقف عند الحرام،ويتضح ذلك في قوله أنه من السبعة الذين يظلهم الله تحت ظل عرشه شاب دعته امرأة ذات منصب وجمال لكن ماذا فعل؟وقف عند الحدود،ما تجاوز حد الله (سبحانه وتعالى) وكان لسان حاله قول:)إِنِّي أَخَافُ اللَّه) تدبر معي في هذا الربط،كيف يكون الجزاء؟ ربي (سبحانه وتعالى) ما أغلق بابًا عن عباده من الحرام إلا وفتح بابًا في الحلال،ليس هذا فقط ولكن كذلك فتح باب الجزاء العظيم لأولئك الذين يعرفون كيف يقولون لأنفسهم لا في الوقت المناسب،بالشكل المناسب،في المكان المناسب. تدبروا في القرآن حين يرتقي بتلك النفوس فلا يجعلها نفوس بهيمية لا تفكر في مآلات أفعالها،تقع على كل ما أعجبها،لا تعرف حلالًا،ولا خطًا أحمر ولا أسود ولا أخضر،استوت عندها الأمور،المؤمن ليس هكذا بل هو إنسان ربي (جل شأنه) حين جعل وغرس في قلبه مخافة مقام ربه ترقَّت روحه ونفسه،وطاب فكره،وانتشت روحه وعقله،فإذا بالعقل يحكم تلك النفس إذا أرادت أن تحيد عن الصح،وعن الخط،عن حدود الله (سبحانه وتعالى) فلا تتجاوز الحد أبدًا،هي وقَّافة عند حدود الله سبحانه،تعرف كيف تقول لا(كما سبق وأوضحنا)،تعرف كيف لا يتحكم الحرام فيها،وأن يكون لها من القوة والشجاعة والبسالة ما يمكن أن يردعها عن الحرام،هذه ليست نفوس ضعيفة،الضعيف هو العبد الذي يستسلم لشهوة عابرة ولا يدرك كيف ستكون عاقبتها غابرة،لا يمكن أن يكون هذا كهذا،قال:{فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57)} هذا للتعلق وحتى يفهم،وعليه هذا نداء لكل الشباب اليوم الذين لا يجدون ما يوفر لهم سبل الحلال والمباح بالزواج والعلاقة السوية التي أباحها الشرع.انظر إلى هذه الأيات العظيمة بما فيها من الدعوة للعفة،والطهر، والصبر،منع النفس عن الوقوع فيما حرم الله (جل شأنه)،هذه كيف تصبر وكيف تتصبر؟بمطالعة هذه الأيات مطالعة تجعلك فعلًا تستشعر هذه المعاني. قال:{فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57)} تسترسل الأيات في وصف هؤلاء النساء فقال:{كَأَنَّهُنَّ ٱلۡيَاقُوتُ وَٱلۡمَرۡجَانُ(58)} حتى نعرف ونفهم أن القرآن يؤسس للجمال،الجمال في القرآن مبدأ أصيل،ولكن أي جمال؟ هو ليس الجمال المبتذل أو الجمال الذي يؤتى من الحرام وسلوك الحرام،تدبروا معي في القرآن كيف يصف.راقٍ سامقٍ في وصفه وعباراته،تدبروا معي في العبارة{كَأَنَّهُنَّ ٱلۡيَاقُوتُ وَٱلۡمَرۡجَانُ(58)} هذا وصف حسي،ولكن يا له من أدب،حتى يتعلم الناس الذين يتكلمون عن الأدب،ويتكلمون عن الوصف،كيف يصفون من هذا الكتاب العظيم المليء الزاخر بمعاني الوصف،ولكن ياله من حسن زاد الوصف والحسن حسنًا وجمالًا على جماله بزينة ألفاظه،وحسن مبانيها ومعانيها،تدبروا معي. قال:{فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59)} تدبروا كيف يبني ويعلق القرآن القلب الرجاء برحمة الله سبحانه،وكل هذه الأيات تبني التعلق بهذه الدرجات السامقة حتى يطمح المؤمن لها،قال:{وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}(83) الجنة درجات وليست درجة واحدة، والناس في الجنة يتفاوتون في منازلها،فإذا ما تعرفت على أعلى الدرجات تاقت روحك،واشتاقت نفسك أن ترحل إلى تلك الدرجات العلى.نحن في زماننا وفي حياتنا حتى في مؤسساتنا التعليمية حين يحصل الطالب على درجة أقل من زملاءه وهو بالفعل من الناجحين ولكنه ليس كنجاح الامتياز،فهذا لا يستوي مع هذا،لا يستويان،فإذا كنت أنت هكذا يحز في نفسك حين ترى من هو أعلى منك فلماذا لا تتوق نفسك إلى التنافس في درجات الأخرة؟ وعجبًا لأولئك البشر الذين يصطرعون على دنيا فانية ولا يتنافسون على أخرة باقية،عجبًا لأولئك الذين يقيمون الحروب،ويوقدون الفتن،ويشعلون المجاعات،والنزاعات،والخلافات،والصراعات لأجل دنيا فانية يتنافسون على درجاتها،وقصورها،ومنازلها،وربي (جل شأنه) قال عنها:{وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا(8)}(84) ولا يتنافسون على أخرة باقية،قصورها،فرشها،جنانها،أفنانها،نساؤها،بيوتها،كيف لا تتوق النفوس إليها؟تدبروا معي في المقصد من وراء ذكر هذه الأيات العظيمة،حتى يتعلق قلبك بها،وإذا تعلق قلبك بها علمت أنها لن تنال إلا بدرجة الإحسان،قال:{هَلۡ جَزَآءُ ٱلۡإِحۡسَٰنِ إِلَّا ٱلۡإِحۡسَٰنُ (60)} تدبروا معي في الربط،هذه منازل المحسنين،هذه جنة المحسنين،وقد يقول قائل:لكن نحن نعرف ونقول أن الإنسان، حتى الأنبياء لا يدخلون الجنة بعملهم،فكيف تقول الأية العظيمة:{هَلۡ جَزَآءُ ٱلۡإِحۡسَٰنِ إِلَّا ٱلۡإِحۡسَٰنُ (60)} نعم،هذا صحيح أننا ندخل الجنة برحمة الله (سبحانه وتعالى) ولكننا أمرنا بالإحسان،ليس لأن الإحسان سيكافيء ما يعطيه ربك،ربك ذو الفضل العظيم، ولكن لأنك أمرت بذلك الإحسان،واحدة من أكبر الإشكاليات التي أسست للفساد في مجتمعاتنا أننا لا نكافيء المحسن،وأن المحسن يرى المسيء وهو يكافأ بينما هو يحسن فلا يكافأ،فإذا كنت في مؤسسة وأردت أن تنشر الفساد كافيء المسيء وغض الطرف عن المحسن وانظر ماذا ستأتي به الأيام،إشكالية خطيرة. انظر إلى القرآن الذي يعلمك أن جزاء إحسانك الإحسان،هذه مراتب المحسنين،وتدبروا معي في الربط بين الإحسان وقوله (جل شأنه):{وَلِمَنۡ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِۦ جَنَّتَانِ (46)} خوف واحسان،وما الإحسان؟ الإحسان هو أن تعبد الله كأنك تراه،فإن لم تكن تراه فإنه يراك.فما الذي يولده؟ إنه الخوف من الله (سبحانه وتعالى)،تدبروا معي في الترابط بين الخوف والإحسان،خوفك منه سيولد إحسانًا فيك،وإحسانًا لك،وإحسانًا منك إلى الخلق،تدبروا في هذه المعاني،الخوف والإحسان متلازمان،لابد أن نفهم أن هذا الخوف ليس مجرد خوف لا،بعض الناس يقول:أنا أخاف من الله،حسنًا دلني على علامة خوفك منه،عليك أن تقف فلا تظلم،أن تمسك بالكلمة التي بها ممكن أن تسيء إلى الأخرين فتلجم نفسك فلا تقولها ولا تنطق بها. هذا الخوف الذي له ثمرات في الواقع،الخوف الذي يجعلك تحجم عن المعاصي والوقوع فيما حرم الله،هذا الخوف الذي يقود ويسوق إلى الإحسان.والشيء العجيب الذي يلفت النظر،ونحن دومًا نقول أن من أعظم قواعد التدبر أن نقرأ الأيات التي تذكرهذه المفردة، أو هذه الخاصية،أو هذه السمة،أو هذه الصفة،فإذا ما قرأت عن الإحسان في كتاب الله،وقد ذكر كثيرًا،ستجد أن ثمة ربط بين التقوى والإحسان،على سبيل المثال ربي (جل شأنه) في سورة المائدة يقول:{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوا وَّآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوا وَّآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوا وَّأَحْسَنُوا ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ(93)} تدبر في التقوى والإحسان،وما هي التقوى سوى أنك تخاف الله (سبحانه وتعالى) كأنك تمشي في حقل مليء بالأشواك من حولك فتتهجس وتعمل ألف حساب لئلا تدوس على شوكة تدخل في قدمك فتؤذيه،والمتقي يتوجس من كل عمل،وصغيرة،وكبيرة،وقولة،وفعلة،وسريرة،ونية خشية أن تدخل على إيمانه فتفسد العلاقة بينه وبين الله سبحانه،يخشى أن يفسد سريرته بنية سيئة،أو بقول غير حسن،أو بفعل لا يليق،فإذا به يترقى حتى يصل إلى مرحلة الإحسان.تدبروا معي كذلك في أيات أُخرمثل ما ورد في سورة الأعراف في الترابط بين الخوف والإحسان،الخوف الذي يولد التقوى،قال:{وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ۚ إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ(56)} أيات كثيرة جدًا في كتاب الله (جل شأنه).في سورة يوسف (عليه السلام) كلها حديث عن الإحسان،يوسف نفسه نموذج المحسن وقد ورد في الأية الكريمة عن التقوى والإحسان والتلازم بينهما،قال:{قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ ۖ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَٰذَا أَخِي ۖ قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا ۖ إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ(90)} حتى نعرف كيف ينبني الإحسان،حتى نعرف كيف نكون من المحسنين حتى نتعرض لرحمة الله (سبحانه وتعالى) ولهذه الجنة،هذه جنة السابقين،هذه جنة المقربين،هذه جنة المحسنين وهذا وصفها فشمِّر عن ساعدك،وشمِّر عن قلبك بالطاعة والإحسان،زيّنها بالإيمان،وبالتقوى والإحسان،الطاعة،حتى الصلاة،حتى الصيام،حتى تلاوة القرآن،هناك تفاوت ليس فقط في الهيئات ولكن التفاوت الحقيقي إنما هو في لب هذه الأعمال وتلك الطاعات. وفي سورة الزمر أيات أُخر وفيها قال:{أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ(57)أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58)}تدبروا في الربط بين المتقين والمحسنين،يالها من أيات عظيمة،وكثير من الأيات في كتاب الله سبحانه تربط ما بين الإحسان وما بين التقوى. قال:{فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61)} هذا الإحسان الذي ينبني،هذا الإحسان الذي لا يمكن أبدًا أن يكون بعيدًا عن خوف الله (سبحانه وتعالى)،الخوف والإحسان،وبناء الإحسان لا يحدث في يوم وليلة،الإحسان من أعظم وأرقى مراتبه أن تكون محسنًاولو كنت في وسط من المسيئين محيطين بك،أن تحسن القول ولو أحاطت بك أقوال سيئة،أن تحسن في الفعل والعمل ولو أحاط بك المسيئون في أعمالهم،أن تحسن ولو لم تجد من يكافئك على الإحسان في الدنيا،أن تحسن ولو كوفيء أمامك المسيئون وبقيت أنت على إحسانك فيكفيك أنك فزت بالإحسان يكافئك به الله (سبحانه وتعالى).بعض النفوس حين ترى في زماننا وقد استشرى الفساد، وضاع المحسنون في خضم هذه الصراعات المختلقة من البشر نتيجة لخسران الميزان،نتيجة لعدم إقامة الوزن بالقسط ضاعت عبادة الإحسان،فيغلب على نفسه أحيانًا الضعف،واليأس،يقول:لما أنا أُحسن وكل الناس من حولي يسيئون؟ إياك أن تحدث نفسك بشيء من هذا بل قل:حمدًا لله أن بلَّغني مقام المحسنين،وأرادني أن أكون من المحسنين في زمن عزَّ فيه المحسنون،وقلَّ فيه المحسنين ،ولكن ما عند الله خير وأبقى،لا تأسف على نفسك أن كنت محسنًا بل إئسف على نفسك إن كنت من المسيئين،الإحسان لا يؤسف عليه، الإتقان لا يؤسف عليه،الإخلاص في العمل لا يؤسف عليه،لا تذهب نفسك حسرات وراء زخارف القول ولبس وإلتباس الحق بالباطل،إقرأ في كتاب ربك لتعلم ماذا أعد الله للمحسنين،نسأل الله (سبحانه وتعالى) أن يجعلنا وإياكم منهم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *