تدبر سورة الرحمن: الحلقة الثالثة

الحلقة الثالثة
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله حمد الشاكرين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ما زلنا في تدبرنا في بدايات سورة الرحمن المباركة،السورة العظيمة التي نزلت على الحبيب (صلى الله عليه وآله وسلم) في مكة قبل أن يصدع بما يؤمر. السورة التي جاءت تبين عجائب صنع الله سبحانه،فعاله العجيبة التي وصفت وجاءت بمفردة الألآء التي تأكدت في السورة في أكثر من ثلاثين موضعًا.السورة التي جاءت تبين عجيب صنعه،ورحمته،وقدرته،ولطفه سبحانه،جاءت توقظ العقول،توقظ القلوب،توقظ النفوس،تحرك وسائل الإدراك التي منَّ الله بها على خلقه،ثم بعد ذلك جاءت ومنذ بدايتها،ومنذ مفتتحها وأياتها الأُوَّل لتوقظ الأفهام، والعقول،والبصائر أن أعظم منَّة على البشرية وعلى الثقلين هذا القرآن العظيم. قال:{ٱلرَّحۡمَٰنُ (1) عَلَّمَ ٱلۡقُرۡءَانَ (2) خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ (3) عَلَّمَهُ ٱلۡبَيَانَ (4)}ثم تنتقل بعد ذلك الأيات العظيمة في السورة لتنقل البصر والبصيرة ما بين مناظر الكون والطبيعة،تلك المناظر التي قد يعتاد عليها الإنسان بمرور الزمن ويألفها،وإذا ما اعتاد الإنسان عليها وألفها أصبحت لا تحرك فيه ساكنًا،يرى كل شيء يحدث كل يوم بذات الاتساق،وبذات النظام،وبذات الاتزان،فإذا ما أصبح شيئًا عاديًا باتت تلك النظرات والتأملات في السماء وخلق السماء والأرض،وتعاقب الليل والنهار شيئًا معتادًا،والقرآن يوقظ العقول والبصائر والأبصار والهمم لأجل أن تتحرك فلا تصبح تلك المناظر التي يراها الإنسان ويعتاد على رؤيتها مجرد مناظر عادية،مجرد صور معتادة لا تحرك فيه إيمانًا،ولا تقوي فيه اعتقادًا،ولا توصل وتفتح له أبوابًا يصل بها هذا القلب بخالقه (جل شأنه)،من هنا جاء القرآن يؤكد في السورة المباركة نقطة معينة مهمة جدًا ذاك الاتزان الفريد،ذاك التوازن والعدل الواضح في خلق السموات والأرض، قال:{ٱلشَّمۡسُ وَٱلۡقَمَرُ بِحُسۡبَانٍ (5)} ذاك الحسبان الذي يجعل من دورة وحركة ومسارات الشمس والقمر ومختلف الكواكب التي كشف العلم الحديث عن جوانب منها،وبعض منها لم يكتشفه،ومازال الإنسان يقف عاجزًا كلما ظهرت له بعض هذه الكشوفات مسلمًا بأن ما لا يعرفه أكثر بكثير مماقد توصل إليه وفتح الله به عليه،إذن الشمس والقمر في مسارهما،وخلقهما،وحركتهما بحسبان، دقة متناهية،عجيبة،هذه الدقة اللامتناهية تؤكد للإنسان هذه الحقيقة أن كل مايدور حولك،وما يدور في داخلك وجسدك {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)}(20) فيه توازن،محسوب،ولذلك تجد أن بعض العلماء اليوم يقولون لنا بأن حركة الشمس إذا تقدمت أو تأخرت بجزء من الدقيقة الضوئيةحصل كذا بل ربماحصلت كارثة،هذا يدل على أي شيء؟يدل على هذه الكلمة المعجزة،هذه المفردة القرآنية الدقيقة في لفظتها،الدقيقة في المعاني التي تحملها (بِحُسۡبَانٍ) وليس بمجرد حساب عادي،بل فيه دقة،دقة يعجز البشر عن أن يصلوا إليها،فإذا هم عجزوا عن الوصول إليها ومازالوا يدورون فقط في الكشف عن صورها،أشكالها،أرقامها،حساباتها،أفليس هم أعجز عن الإحاطة بكنهها ومعرفتها،سبحان الخلاق العظيم {هَٰذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ ۚ}(21) وإذا بالأيات تنتقل إلى شيء آخر،قال:{وَٱلنَّجۡمُ وَٱلشَّجَرُ يَسۡجُدَانِ (6)} كل هذه المخلوقات العظيمة من حولنا هي في حالة سجود،وليس المقصود بالسجود هنا سجود الإنسان،وأن يضع جبهته على الأرض لا،بل هو سجود الخضوع والانقياد لأمر الله،سجود الامتثال لما أمر الله، سجود الامتثال التام والخضوع الكامل لذلك النظام البديع المتزن الذي أفصح لنا في هذه الأيات المباركة القرآن الكريم العظيم عن جوانبه،قال:{وَٱلسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ ٱلۡمِيزَانَ (7)} نقَّل البصر،ونقَّل القلب والعقل ما بين شمس وقمر بحسبان،وما بين نجم وشجريسجدان،ثم انتقل البصر إلى السماء،انظر إلى السماء التي تُظِلَّك،وفي أيات أُخر:{رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ۖ}(22) إذن هذه السماء ذات الحبك والتي سبك خلقها وصناعتها فجاءت لا شقوق ولا فطور فيها كما جاء في سورة الملك العظيمة لما أن قال: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ} ارجع البصر مرة ومرتين {هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ} قال:{ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4)} إذن هذه السماء التي ربي (جل شأنه) صنعها بهذه الدقة،ورفعها،وكيف رفعها؟وبأي شيء رفعها؟وبعض العلماء يكشفون اليوم ويقولون أن هناك في الغلاف الجوي كذا،وحسابات وكتلة وإلى آخره،بقطع النظر رفعها (جل شأنه)،من الذي يستطيع رفعها إن لم يرفعها الخالق الذي خلق سبحانه؟من؟ من الذي يستطيع رفعها؟ وتدبروا معي في تجليات الرحمة واللطف بعباده،ماذا لو أن هذه السماء كان لابد من التثبيت والرفع والتأكد من الضبط في عملية الرفع لها؟كم تستحيل الحياة على هذه الأرض؟ نحن نتكلم عن السماء الدنيا،السماء التي ننظر إليها ونراها،تستحيل الحياة،الأرض لو لم تكن ممهدة بهذه الدقة ومعها قانون الجاذبية المنضبط بذلك الاتساق الفريد،تستحيل الحياة البشرية على الأرض،ولكن صنع الله الذي أتقن وأحسن كل شيء خلقه.إذن ربي سبحانه في هذه الأيات العظيمة قال:{وَٱلسَّمَآءَ رَفَعَهَا} حتى يبين لنا،ويؤكد ويوقظ تلك الأبصار والعقول الغافلة التي ما عاد شيء يوقظ الإيمان فيها،الإنسان في كثير من الأحيان حين تصل به مرحلة ومستوى البلادة في الحس،وفي العقل،وفي القلب إلى مستويات مرتفعة لا شيء يحركه،كل شيء ينظر إليه هكذا كأنه عادي أن يكون كذلك،حتى أنك اليوم لو تخاطب أحد المسلمين تقول له:يا فلان انظر إلى السماء،ينظر لك ثم يقول:نعم؟ ماذا؟ وكأنه لم يرى شيئًا،وفي نفس الوقت لو عرضت أمامه لوحًا من خشب مصبغ ومزين بألوان ومزركش الذي يطلقون عليه الفنون التشكيلية وكذا مع خالص التقدير لهذه الجهود،تراه يقف أمامها منبهرًا،متعجبًا، مستغربًا، مندهشًا كيف استطاع ذلك الفنان العبقري أن يأتي بريشته هكذا على كل هذه الألوان،ويقدم هذه الصورة المختلفة وينقلها للعالم. أتقف منبهرًا أمام صنع البشر وما خطت يده وريشته ولا تقف عاجزًا وتخر ساجدًا أمام خلق السماء؟ هذا التناقض الغريب العجيب يدل على أي شيء؟ يدل على بلادة الحس،وكثافة الموانع والحجب والحواجز التي باتت تحول بين الإنسان وبين الإيمان بالله سبحانه وتجدد الإيمان،أنت حتى لو كنت مؤمنًا أنت بحاجة إلى أن تجدد ذلك الإيمان،الإيمان يتجدد بتقليب النظر في السماء والأرض {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ}. قال:{وَٱلسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ ٱلۡمِيزَانَ (7)} وما أحد يستطيع أن يرفعها،ولا يجادل عاقل من البشر ولا حتى هو مستعد أن يدعي أنه يستطيع أن يرفع شيء منها،السماء رفعها الرب سبحانه الذي خلق فــــ {السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ۖ } وإذا بالأية العظيمة تلفت النظر إلى المعنى الذي جاءت الأيات التي بعدها تقدمه وهو قضية الميزان،قضية النظام،قضية القسط،القضية الكبرى التي لأجلها ربي سبحانه علم القرآن،ولأجلها خلق الإنسان،ولغاية تحقيقها أرسل الرسل،وأنزل الكتب،قال:{وَٱلسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ ٱلۡمِيزَانَ (7)} أي ميزان؟ نحن نعرف في اللغة أن الميزان أداة ووسيلة للقياس،قياس الأوزان،قياس الكتلة،آلة للقياس،فكيف القرآن العظيم في هذه الأية المباركة يقول:{وَوَضَعَ ٱلۡمِيزَانَ} ثم في مواضع متعددة متتالية في سورة الرحمن المباركة يأتي على ذكر الميزان؟ دعونا ابتداءًا نبدء مع واحدة من أعظم قواعد التدبر أنك لأجل أن تفهم المفردة القرآنية تحتاج أن تقف على هذه المفردة في مواضعها،تطلبها من مضامينها في السور التي ذكرت،سور أخرى مختلفة،على سبيل المثال يقول ربي (جل شأنه) في سورة الأنعام:{وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ۖ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ۖ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۖ وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ ۖ وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152)}سورة الأنعام،السورة المكية،ربي (جل شأنه) يقول فيها:{وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ} الميزان هنا ليس أداة للوزن أو القياس للحنطة أو الشعير ووزنهم،لا بل هو أعمق وأشمل من ذلك.ثم أردف الميزان بالقسط،وسنأتي على مفردة القسط،هذه الوصية،قال:{ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}وفرَّق بين الميزان والقسط والعدل،قال:{وَإِذَاقُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} والقرآن العظيم كما ذكرنا في مرات عديدة حين يأتي بالمفردة يأتي بها مقصودة لتحقيق غاية معينة،قال:{وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ۖ } إيفاء بالميزان،نظام متكامل،وهنا لما أن يأتي الكلام والحديث عن الميزان،عن المقادير،نحن نتكلم عن مقادير محسوسة، ولذلك لما أن جاء في الأية في سورة الرحمن قال:{وَٱلسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ ٱلۡمِيزَانَ (7)} ما العلاقة بين السماء وبين الميزان؟ أراد أن يلفت الانتباه أن عملية رفع السماء هذا خلق كونيّ،قضية كونية،هذه جاءت بمقادير ودقة لا يستطيع الإنسان أن يحيط بها ولا حتى بعقله فهي بميزان،بمقادير محسوبة،ممكن تكون هذه المقادير المحسوبة فيما يتعلق بالغلاف الجوي،ممكن تتعلق بالغازات،ممكن تتعلق بالهواء،بالأكسچين،بنسب هذه الغازات،بقطع النظر ولكن القرآن يحدثني عن نظام كونيٍّ متزن ومقادير في غاية الدقة لا يستطيع الإنسان أن يحصيها،ولن يقف عليها،ما زال الإنسان يبحث بكل ما أوتيَّ من وسائل التقدم العلميّ،ويدرس،ويكتشف،وينقِّب،ويتعلم علَّه يصل إلى طرف الخيط الذي يكشف عن طريقة للعمل والصنع وليس كيف يصنع فهو لا يحلم بها،ولا حتى في أفلام الخيال العلميّ،عجز الإنسان أن يحيط بها أو يحلم بها،وهو أعجز عن الوصول إلى كنهها،والقرآن يأتي فيقول لك:{وَٱلسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ ٱلۡمِيزَانَ (7)}.نأتي إلى سورة أخرى وهي سورة الأعراف،يقول (جل شأنه) في الحديث عن قصة قوم ليبين بأنه قد أرسل رسولًا ونبيًا (عليه السلام) لأجل هذه القضية الأساسية قضية الميزان،قضية التحقق من وجود ميزان،والميزان على فكرة كما في سياقات القرآن، وسنأتي عليها الآن بالمفردة القرآنية هو ليس مجرد آلة أو أداة لقياس الأشياء المادية المحسوسة كتلة وحرارة،إلى أخره لا،القضية ليست قضية مادية فقط،القضية في المعنويات،وهنا تأتي الصعوبة،وهنا مايؤكده القرآن ويأتي على ذكره:{وَٱلسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ ٱلۡمِيزَانَ (7)} في ميزان لأجل أن ترفع السماء بهذه الدقة،وبهذا الارتفاع،وبهذا المستوى،فلو كانت عملية الرفع والمستوى ما بين رفع السماء وما بين وجودنا على الأرض أقل أو أكثر بقليل،أو أدنى بقليل،أو الشمس اقتربت منا بمقدار شعرة انتهت الحياة البشرية،من هنا جاء ذكر الميزان،تدبروا في الترابط،الكلام عن الميزان الكونيّ هنا،لماذا؟ حتى يبين لك أن هذا الخلق الذي أنت تعيش فيه،وهذه الأرض التي تسير عليها ومهدها الخالق،وهذه السماء التي تستظل بها،هذه كلها وفق ميزان ما جاءت هكذا اعتباطًا،ولا جاءت بطريقة عفوية ولا عشوائية،ولاجاءت هكذا بدون ميزان وضبط دقيق يلفت الأنظار والعقول إلى أهمية الضبط في حياتنا،أهمية الدقة، أهمية الانضباط،أهمية تحري العدل،ولقياس العدل في حياتنا. دعونا نلتفت إلى أية أخرى في سور القرآن العظيم ذكر فيها الميزان لعلنا نتبين طرفًا من هذا المفهوم العظيم القرآني لهذه المفردة المباركة،قال سبحانه في سورة الأعراف:{وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا ۗ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ ۖ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ}(23) تدبروا في الربط مرة ثانية {فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ} تدبروا في الاجتماع بين المفردتين:(كيل،ميزان) ولما أن جمع بينهما القرآن إذن ميَّز وفرَّق بينهما في المعنى،قال:{فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ}رسالة نبي لأجل الوفاء بالكيل والميزان؟ المسألة هنا أبلغ وأدق من مكيال حنطة وكيلة شعير،المسألة تتحدث عن عدالة،ومن لم يكن منصفًا وقائمًا بالقسط في الوفاء بكيلة حنطة أو شعير هو أكثر عجزًا عن الوفاء بحقوق أكبر وأعظم،فقد أرسل إلى قوم مدين شعيب نبي (عليه السلام) بهذه الرسالة العظيمة،تدبروا في بقية الأية:{وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ(85)} رسالة واضحة،عدم الوفاء بالكيل والميزان،وعدم وجود نظام دقيق في المحاسبة،وفي التعامل الاقتصادي سيؤدي إلى الوقوع في بخس الناس أشياءهم،فجاء النهي قال:{وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ۚ}واعتبر أن ذلك التطفيف،وقد خصَّ سورة كاملة،سورة المطففين للتعامل مع هذه الإشكالية الخطرة (التطفيف)،الذي هو كما ذكرنا أعم وأشمل من تطفيف مكيال حنطة وشعير،ولكن هذه الأشياء الصغيرة التي يعطيها القرآن العظيم حيزًا كبيرًا من الاهتمام لبيان قضية مهمة أن هذه الأشياء الصغيرة لابد لك أن تقوم بعملية المتابعة لها،ولذلك في الإسلام والشرع الإسلامي هناك نظام يسمى نظام الحسبة الذي فيه مراقبة على العمليات التجارية وهو شيء أقرب إلى ما يعرف في زماننا بشئون وحماية المستهلك وحقوقه وإلى أخره،هذا يندرج تحت قيمة من قيم التوحيد،لماذا القرآن يحتفي بهذه القضية؟ القضية في غاية الأهمية أنك حين تحاسب وتتأكد من العدل،وعدم البخس،وعدم التطفيف في هذه الأشياء،أنت ستقيم نظامًا اقتصاديًا حرًا عادلًا تتحقق فيه العدالة وليس فقط كلام ولا شعارات تطلق أبدًا لا بل هناك نظام محاسبة على التأكد من تحقق هذه العدالة. العدالة إذا كانت مجرد كلام وخطب ونصوص تقال،مجرد قوانين وتشريعات دون وجود أليات لتتبعها والتأكد من تحققها تحولت إلى شعارات،والشعارات لا تغني عن الحق شيئًا،ولا تحقق عدلًا حقيقيًا في واقع الحياة الإنسانية،ولا تنصف مظلومًا،ولا توقف أو تردع ظالمًا،ولا تعيد الحقوق لأصحابها،ولا ترد المظالم لأهلها وهذا ما لايقبل به الإسلام.تدبروا في العلاقة ما بين الميزان والعدل،لأن الميزان ليس هو العدل،تدبروا في هذه المعاني العظيمة،وهذه المفردات القرآنية الزاخرة التي تأتيك بمفاهيم وقيم ومُثُل ومبادىء عليها تقيم مجتمعك،عليها تقيم أسرتك،عليها تقيم مؤسساتك،حتى لا تقع في الظلم وعدم الإنصاف،ومما لا شك فيه أن الظلم واحد من أعظم أسباب خراب الأمم والمجتمعات،فساد الأمم،تدبروا في الربط في الأية،قال:{وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ۚ} قد يقول قائل وهو يتدبر في هذه الأية في سورة الأعراف:عدم الوفاء بالكيل والميزان يؤدي إلى فساد في الأرض؟ نعم،فهذه الأشياء التراكمات التي قد يسميها البعض أنها صغيرة وليست بصغيرة،هذه ليست صغائر،تدبروا في هذه الدقة،ما يتعلق بحقوق الناس ليس بصغائر،هذه قاعدة فخذها كذلك،ونحن لا نتكلم هنا عن مفهوم الصغيرة والكبيرة في المفهوم المحدود الفقهي والأصولي والتشريعي والاصطلاحي، نحن نتكلم عن المفهوم البنائي القرآني الشمولي،كل ما يتعلق بحقوق الناس ليس بصغيرة ولأجل ذلك نزلت سورة المطففين،لماذا؟لأن هذه حقيقة،كما سبق وذكرنا فالمسألة ليست مسألة كيلة شعير وقمح لا،بل أعمق،أوسع،قال:{وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ۚ} بخس الناس،وكما ذكرنا في مرات سابقة وفي تدبر سورة الأعراف لا يقف فقط عند الحقوق المادية،الحقوق الفكرية،الحقوق المعنوية،هناك عشرات بل مئات من المسلمين حتى على المواقع التي تعرف بأنها دينية،أو مواقع تريد أن تنشر الخير أو الصلاح بخس لحقوق الناس،قد يأخذ على سبيل المثال صورة أو خاطرة أو كلام أو شيء فينسبه إلى نفسه أو يلغي اسم قائل المقالة.تدبروا في دقة القرآن حين يعالج النفس في أغوارها،ويؤسس للتقوى في أعماق روحك وقلبك،تدبروا معي في هذا المعنى،قال:{وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ۚ}أين إصلاح الأرض؟ الأرض خلقت في أصلها صالحة ما الذي أفسدها؟ أفسدها الإنسان،كيف؟ كما ستأتي عليه في سورة الرحمن باختلال الميزان وتحقق الميزان في حياة الناس أفسدها،الفساد أُس الفساد وأصل الفساد يأتي من الاختلال في تحقيق هذا الميزان،في إقامة هذا الميزان،في القيام بالقسط الذي أمر به ربي،تدبروا في المعاني،القسط عدل ظاهر بيّن له مقاييس ومن أعظم مقاييسه الميزان،تدبروا في الترابط،سنأتي عليها.وانظر إلى إعجاز القرآن في كل ذلك،إلى عظمة القرآن الذي يعلمك،ولذلك حُقَّ أن تكون أعظم نعمة يفتتح وتفتتح بها هذه السورة المباركة {عَلَّمَ ٱلۡقُرۡءَانَ (2)} القرآن كتاب يعلمك كيف تعيش،كيف تحمي اقتصادك من الفساد،كيف تحمي أمتك،أمم،شعوب،مصائر،حضارات من الفساد،لأن قوم مدين أهل حضارة،كيف أراد أن يحميهم هذا النبي برسالته (عليه السلام) من الانحدار؟{وَلَاتُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ} خير لكم في حياتكم التي تعيشون،وخير لكم في أخرتكم عند الله (جل شأنه)،وأنا وأنت لو نظرنا إلى العالم الذي نعيش فيه لأدركنا حتمًا-كل إنسان منصف- أن ما يهدد البشرية اليوم من مخاطر ليس مجرد وباء،وليس مرض،وليس جراثيم وڤيروسات وميكروبات،هذه في جوانب محددة معينة نعم،ولكن العدو اللدود للبشرية الفساد،لأن الأرض خلقت صالحة،ولكن لأجل الحفاظ على صلاحها وإصلاحها لابد أن تقيم الميزان الذي وضعه الله (جل شأنه)،تدبروا في الترابط،أي خلل سيؤدى للفساد،فساد سيؤدى إلى كوارث،كوارث بيئية،وكوارث إنسانية،وكوارث تشريعية،وكوارث أخلاقية،سمي ما تشاء حين تفهم السبب وراء تلك الأمراض والإشكاليات الخطيرة التي تعاني منها البشرية. ننتقل إلى أية أخرى تتحدث عن الميزان في سورة هود،مرة أخرى قال:{وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا ۚ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ وَلَا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ ۚ }هذه المرة قال:{وَلَا تَنقُصُوا} المرة الأولى قال:{فَأَوْفُوا} فيها الأمر،في سورة هود النهي {وَلَا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ ۚ } أي نوع من أنواع الإنقاص فيه إشكالية. قال:{إِنِّي أَرَاكُم بِخَيْرٍ} أنا أراكم وأنظر إليكم وإلى ما أنتم فيه من حال حسنة،أنتم في عيشة هنية اقتصاديًا،وأمان،واستقرار،وأمن غذائي{إِنِّي أَرَاكُم بِخَيْرٍ} كلمة جامعة،تدبروا،يالها من كلمة،انظروا إلى هذا المعنى،انظروا إلى هذا النبي المعلم المداوي الطبيب،الأنبياء ما جاءوا فقط لأجل أن يأتوا برسالة ويقولوا كلمتين ويذهبوا هكذا،جاءوا يعالجوا،جاءوا يداووا،جاءوا يصلحوا ما أفسده الخلق من المفسدين،ولذلك المعلم،والمربي،والداعية،والإنسان الذي يعلم الناس الخير،والخطيب،كل هؤلاء عليهم أن يدركوا حجم المسئولية الملقاة على عاتقهم،أنت تداوى،أنت أعظم فعلًا من الطبيب،الطبيب يداوى أمراض جسدية ظاهرة أو غير ظاهرة،وهو عمل عظيم دون شك أن يساهم في إحياء والحفاظ على حياة الجسد،ولكن المربي،والمعلم،والداعية،والمصلح الاجتماعي هذا إنسان يعالج الروح، والفكر،والعقل،والإنسان لا يعيش بجسد فحسب،الإنسان يعيش حقيقة بعقله،بفكره،بروحه،بقلبه.لك أن تتخيل هؤلاء الأنبياء صفوة الخلق يداوون،يعالجون النفوس،قال:{إِنِّي أَرَاكُم بِخَيْرٍ}راجع نفسك،راجع حياتك،إذا رأيت في حياتك استقرارًا وأمنًا غذائيًّا، واجتماعيًا،وسياسيًا،واقتصاديًا،وأسريًا اعلم أنك بخير{إِنِّي أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ} تدبروا في الربط.لنا أن نتساءل ما العلاقة بين {وَلَا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ ۚ إِنِّي أَرَاكُم بِخَيْرٍ} بمعنى أخر:أن من أكثر ما يمكن أن يهدد أمنكم واستقراركم -أمنكم الغذائي والاقتصادي والاجتماعي والأسري- النقص في المكيال والميزان،لماذا الإنقاص في المكيال والميزان وعدم الإيفاء بهما؟لماذا يؤدى إلى هذا؟ هذا أُس الفساد عالجه،بادر بمعالجته.كثير من دول العالم اليوم تقيم مشاريع،وتؤسس كذا،وتفعل كذا،وتأتي على كذا وهذا جميل ولكن في ذات الوقت عليك أولًا أن تنتبه إلى الفساد الموجود،تصلح مايأكل ما أنت تبنيه،وإلا قل لي بالله عليك ماقيمة أنك تبني وغيرك يهدم من الأسس،أنت تبني وترفع بالطوابق العالية،وغيرك من الأساس يأتي ويهدم ما تبنيه سينهار كل شيء انتبه،انتبه لهذه الأمراض والأوجاع والأسقام النفسية الفكرية والانحرافات الأخلاقية وغيرها والاقتصادية.تدبروا في دقة القرآن العظيم،يالها من دقة،القرآن يريد الناس أن يحاسبوا حتى على حبة الحنطة والشعير؟ هو الميزان ما هو؟ ألة وأداة دقيقة للقياس،لأجل أي شيء؟ لأجل أن تسهم في القيام بالقسط،عدل محكوم بموازين وليس بدون ضبط،بدون حساب،بدون كتاب. أنت حين تشهد لأحدهم بأنه عادل فكيف عرفت أنه كذلك؟ لابد من أشياء محسوبة ظاهرية بيِّنة واضحة قابلة للقياس كي تتمكن من أن تحكم بها على هذه القضايا،مثلًا في جودة التعليم ومايرتبط بها من جودة المقررات وإلى أخره تحتاج إلى أدوات قياس منضبطة حتى تقيس مخرجات التعلم وما تعلمه الطالب بدقة،والأسئلة ووضع الأسئلة والاختبارات،كلها لأجل أن تكون منضبطة في القياس فكيف لا تكون الحياة الإنسانية على هذه الأرض منضبطة بموازين كم أن السماء رفعها ووضع الميزان؟ وفي نفس السورة،سورة هود يقول (جل شأنه):{وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ۖ } تدبروا اللفظة{وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85)} وفي سورة الشورى قال:{اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ}(24) تدبروا (حق وميزان) لماذا ميزان مع الحق؟لأن الحق هو أعظم ما قامت به السموات والأرض التي خلقها بالحق،قال:{مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ}(25) وأنزل الكتب والشرائع بالحق،والأنبياء أرسلهم بالحق،الحق في كتاب الله (جل شأنه) غاية،وأيضًا لأن الميزان يحمي الحق،الميزان من أعظم الأدوات والوسائل التي تحمي الحق،لابد حق وميزان،لماذا؟ حتى يحق الحق ويبطل الباطل،لا شيء يحق الحق كالميزان،ولا شيء يبطل الباطل كالموازين،الميزان الحق. قال:{وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ}(26) ما دخل الساعة؟ لماذا يذكرني القرآن بالساعة؟ لأن الساعة ربي (جل شأنه) في أية أخرى يقول:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ}(27) ولذلك أقم ميزانك بالقسط قبل أن توزن عليك أعمالك،تدبروا في هذا المعنى. أنت كلما ازددت إنصافًا وعدلًا وقيامًا بالقسط الذي أمر به،وتحقيقًا للموازين العدل في حياتك،في اقتصادك،في إدارتك،في تعليمك، في تربيتك،في أسرتك كلما كنت مطمئن الضمير،مرتاح البال،هادىء النفس،واعلم أن الساعة قريبة،مادخل الساعة؟لأنه من عدل في الدنيا وأقام العدل وحققه في ذاته ونفسه وأسرته ومجتمعه وساهم في نشرذلك العدل أمنه الله يوم القيامة،تدبروا الربط مع الحديث الصحيح:”الإمام العادل” لماذا الحكم بالعدل؟هذه القيمة العظيمة التي جاء الإسلام،وجاء القرآن،وجاء التوحيد لحمايتها والحث عليها والعمل بها وحض الناس عليها. تدبروا معي في سورة الحديد قال:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ}(28) تدبروا في الأيات،تدبروا كيف أيات القرآن تفسر ما قد تحتاج إلى بيانه وتفسيره في أيات وسور أُخر،القرآن يفسر بعضه بعضًا،هذه أعظم درجات في القرآن والتفسير والتدبر أن تنظر في المفردة في أيات القرآن في السور،قال:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} هل البينات تكفي لوحدها؟ استكمل فقال: {وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ} كتاب وميزان،تدبروا معي،لما الحاجة للميزان؟ للتأكد من مدى قياس وتحقق ما جاء في الكتاب الذي حوى البينات في واقع الحياة الإنسانية،تدبروا معي في هذا الربط،كثير من المسلمين اليوم المنظِّرين حين يتكلم لك عن النظام الاقتصادي على سبيل المثال في الإسلام يقول لك:ليس هناك أروع ولا أعظم من الإسلام في نظامه الاقتصادي،صحيح. تكلم لي عن التطبيق،تكلم عن ضبط التطبيق والذي هو ما بدأ به المسلمون في عصورهم الذهبية حين كان العلم لا يكون علمًا حقيقيًا إلا بتطبيقه في واقع الحياة الإنسانية،ماذا فعل المسلمون؟ نظام الحسبة،بمعنى أن يكون قابل للقياس للمحاسبة،بمعنى:أنى لك هذا؟أين ذهبت بهذا؟كيف فعلت بهذا؟لماذا أخذت هذا؟( أنى ) هذا مبدأ القرآن يؤسسه. قال:{وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ} يارب لماذا؟ قال:{لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ } تدبروا في الربط،وسنأتي الآن على مفهوم القسط، قال:{قَائِمًا بِالْقِسْطِ ۚ}(29) و{لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ } لماذا يقوم الناس بالقسط؟ لأن هذا نصيب واضح بيِّن،القسط هذا العدل الظاهر البيِّن المحسوب القابل للقياس،القابل للمحاكمة أوالحوكمة كما تعرف اليوم في مصطلحاتنا،نظام متكامل.أنت لأجل أن يقوم الناس بالقسط فأنت بحاجة بل ولابد من تأسيس نظام،نظام أسسه القرآن في أية واحدة في سورة الحديد:(بينات،كتاب،وميزان) الناتج {لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ }.انظر إلى الحياة التي نعيشها اليوم،لماذا لا يقوم الناس بالقسط؟ لماذا اختلط الحابل بالنابل؟ البينات رُكِنَت على جنب واُتهِمَت بأنها ليست ببينات،فكثير من المسلمين اليوم يقول لك:القرآن كتاب غير مفهوم،لبئس ما يقولون ،وقد سماه الخالق (جل شأنه) وعرَّفَه بأنه كتاب مبين،على أي أساس تقول أنت هذا الكلام؟ من أين لك هذه الادعاءات الخطيرة؟ هذا التشوية لهذا الكتاب وعظمته،ومرة أخرى (بينات،كتاب،ميزان) كتاب فيه كل القيم والمبادىء والأسس،والميزان الألة للقياس،للتأكد،النتيجة قيام بالقسط،العدل الظاهر البيِّن القابل للمراجعة والحوكمة والمحاسبة والقياس،يالها من معادلة عظيمة.تدبروا في بقية الأية في سورة الحديد،قال:{وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} مادخل الحديد في القضية؟ القوة المادية،الترسانة المادية،تكلمت عن العدل،تكلمت عن القسط،تكلمت عن الكتاب،تكلمت عن ميزان أنت بحاجة إلى تصنيع،كيف يكون التصنيع؟ قال:{وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ}يلفت انتباه المسلمين ومن يقرأ القرآن {فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ}يلفت الانتباه لأي شيء؟ للتصنيع،الإفادة من هذه الخامة العظيمة التي سمى القرآن سورة بأكملها باسمها،الحديد،لأجل أي شيء؟ لأجل أن تكون قويًا قوة حقيقية.قال:{وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}تدبر في نهاية الأية (قَوِيٌّ عَزِيزٌ) الخالق الذي أنت تعبده قويٌ عزيز،بمعنى أي شيء؟ بمعنى أنت يا مؤمن-هذا خطاب للمؤمنين-لابد أن تكون قويًا عزيزًا،تدبروا في الربط،وأعطاك مبادىء القوة والعزة في أية واحدة،المؤمن لا يمكن إلا أن يكون قويًا عزيزًا،ولكن ماذا عن المؤمن الضعيف؟ المؤمن الضعيف هو لابد أن يتقوى يعني يجاهد نفسه لأجل أن يصبح قويًا،وهذه جوانب الخيرية التي اُمتدح بها المؤمن في الحديث عن المؤمن الضعيف والمؤمن القوي،المؤمن الضعيف وما قد فهم هو من الفهم المنقوص الذي فهمه بعض المسلمون والذي لابد يصحح في فهم الأحاديث.حين تقرأ الأحاديث قراءة عضين منفصلة عن الأيات،عن الأحاديث الصحيحة الأخرى،عن السنة العملية الفعلية للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) تخرج بفهم ناقص،فهم أعوج لا يستقيم مع أيات الكتاب العظيم وسنة الحبيب (صلى الله عليه وآله وسلم) ولكن كيف نفهم المقصود بالمؤمن الضعيف؟ النبيّ (عليه الصلاة والسلام) هنا لا يتكلم عن قدر لا يمكن دفعه،أنت فيك عناصر في الضعف سواء في البدن،أو في المال،أو في العلم،في أي شيء،ولكن هل المطلوب منك أن تبقى طوال عمرك تعيش ضعيفًا؟لا،تجاهد ضعفك حتى تترقى في درجة الإيمان،ولذلك قال:المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف، بمعنى يا ضعيف جاهد نفسك حتى تصبح قوي وهذا دليل إيمانك أن تجاهد ضعفك بقوة إيمانك، جاهد فقرك بقوة إيمانك بأن الله هو الرزاق ذو القوة،وخذ بالحلال والمباح من الأسباب،واسعَ في الأرض،وانظر إلى أيات القرآن وهي تأمرك بالسعي،السعي للعمل الصالح والمشي في الأرض لأجل أن تعمرها وتبنيها،حتى تتقوى،حتى تصبح لديك مصادر دخل فردية وجماعية قوية.وأنت تؤمن بأن الله قويٌ عزيز،فأنى لأمة الإسلام التي تؤمن بالقوي العزيز أن تكون من أضعف الأمم وأكثر الأمم مذلة ومهانة؟ تدبروا في الربط،اٌربط لأن القرآن كله ترابط وتناسب في هذه الأيات والسياقات،لماذا نتدبر في القرآن؟ أليس لأجل أن نربط بواقعنا ونقرأه قراءةً صحيحة؟ أنى لأمةٍ ربها القوي العزيز وربها يناديها ويقول لها:{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}(30) وتصبح بين عشية وضحاها وبين ليلة وأخرى أذل الأمم وأكثرها مهانة وأكثر عدد للاجئين والمهجرين والفقراء والأميين فيها،كيف يستقيم الحال؟ ماذا حصل؟ اختل الميزان،ليس هناك ميزان،تدبروا في الربط مع هذه الأية المباركة:{وَٱلسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ ٱلۡمِيزَانَ (7)} ميزان كونيّ. ثم انتقل بعد الميزان الكونيّ في سورة في سورة الرحمن قال:{وَلَا تُخۡسِرُواْ ٱلۡمِيزَانَ} أي ميزان؟ ليس نفس الميزان الذي قامت به السموات والأرض لا،هو لفت انتباهك إلى الميزان الكونيّ الذي يحكم حركة ومسار الكون لأجل أي شيء؟ لأجل أن يكون ميزانك الإنساني دقيقًا،صحيح لن يبلغ دقة الميزان الكونيّ الذي وضعه الخالق (جل شأنه) ولكن على الأقل أن تجاهد نفسك لأجل أن تتعلم الدقة والانضباط والرقيّ فيه وفي تحقيق العدالة والقيام بالقسط كماوضع الله (جل شأنه) هذا الميزان الكونيّ في رفع السماء، ولله المثل الأعلى،تدبروا في الترابط،قال:{وَٱلسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ ٱلۡمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطۡغَوۡاْ فِي ٱلۡمِيزَانِ(8)} أي ميزان؟ ميزان حياتك، ميزان عمرك،هو قال:{أَلَّا تَطۡغَوۡاْ فِي ٱلۡمِيزَانِ(8)} أول ما بدأ بالنهي فتدبروا في هذه المعاني العظيمة،وذكرنا أن كل شيء له ميزان، حتى في الشعر في ميزان،ولذلك هناك علم العروض،ميزان،قواعد منظمة تزن الشعر،مقادير،حتى لا يكون منكسرًا،فيا أمة تزن أبيات شعرها الذي تتلفظ به ولا تزن حياتها؟ولا تزن اقتصادها؟ولا تزن مجتمعاتها؟ولا تزن الأسرة؟ ولا تزن التعليم؟ العرب عرفوا بالفصاحة والشعر،وعشقوا ذلك،ووضعوا القواعد والإيقاعات والموازين لأجل الشعر،هذا عظيم،لا تضع الموازين لأجل أن تقيم حياتك؟ تضع الموازين لأجل أن تقيم أبيات الشعر والقوافي ولا تضع الموازين لأجل أن تقيم أبيات حياتك ومجتمعاتك؟ تدبروا معي،قال:{أَلَّا تَطۡغَوۡاْ فِي ٱلۡمِيزَانِ(8)} لماذا الطغيان؟ وما معنى الطغيان؟ القرآن ذكر كثيرًا مصطلح الطغيان وهو مجاوزة الحد بشكل عام،حتى لا يكون في تجاوز،وليس ذلك فقط ولكن أربط مع بدايات الأيات،بمعنى أخر بعد كل هذه الأيات ومنذ مفتتح سورة الرحمن المباركة جاءك بالغاية،جاءك بالرسالة التي لأجلها رفع السماء،والتي لأجلها خلق الشمس والقمر بحسبان،والتي لأجلها علم القرآن،والتي لأجلها علم الإنسان البيان،والتي لأجلها خلق الخلق،تدبروا في الربط{أَلَّا تَطۡغَوۡاْ فِي ٱلۡمِيزَانِ(8)} يالها من كلمة ووصية خالدة. اربط الآن أن هذه السورة المباركة من أوائل السور التي نزلت على الحبيب (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى نفهم أن قضية العدل والتشريعات هذه ليست فقط كما يقول البعض من العلماء أن التشريعات نزلت كلها في السور المدنية،السور المكية لا تنفصم عن السور المدنية،ليس هناك فصل ولا انفصام،القرآن يكمل بعضه بعضًا،كيف؟ السور المكية أسست وأقامت الأسس والمبادىء والقيم التي تقوم عليها كل التشريعات،التشريعات القرآنية في الأسرة،والميراث،والاقتصاد،والبيع،والشراء،والمعاملات،كل شيء،ماجاءت هكذا تطير في الهواء لا،جاءت مبنية على أسس،السورالمكية بنت الأسس فيها،تدبروافي الربط،هذه السورة من أوائل مانزل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والوصية فيها{أَلَّا تَطۡغَوۡاْ فِي ٱلۡمِيزَانِ(8)} تدبروا في السور التي ذكرناها (الأنعام،الأعراف،هود) هذه السور المباركة نزلت في مكة وجاءت بإقامة الميزان،في تلك المرحلة المبكرة ويتكلم عن الميزان؟ نعم،ويربط الميزان بالإيمان،لماذا؟ إيمانك لابد كذلك أن يوزن،أن يكون قائمًا على أسس ومعايير تضبط قوة الإيمان وزيادته.ربما البعض منكم يفكر ويستغرب ويستعجب يقول:كيف؟ وهل الإيمان يوزن؟ ليس المقصود أنك تزن الإيمان كما توزن الأشياء المادية وتحضر ميزان وتزن وتقول:اليوم عندي كيلو إيمان،ثم يأتي الغد فتزن وتقول:اليوم عندي نصف كيلو إيمان،لا فليس هذا المثال على سبيل الفكاهة والتندر،هو قطعًا ليس هكذا،ولكن تدبر واربط مع حديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتقرير النبي أن الإيمان يزيد وينقص،وعليه منطقيًّا هو كيف يزيد وينقص إذا لم يكن قابلًا للقياس؟ ولذلك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان دومًا يلفت الأنظار،أنظار أصحابه لأجل أي شيء؟لأجل أن يتأكدوا ما علامة يقينك؟ ما علامة إيمانك؟ علامة ودلالة الإيمان كذا،قال:”من كان يؤمن بالله واليوم الأخر فليقل خيرًا أو ليصمت،فليكرم ضيفه” لماذا هذا الربط بالأعمال الحسية؟ لأن الإيمان يفترض أن يكون قابلًا للقياس،لماذا إذن نحن لا نقيس؟ كثير من المؤمنين اليوم إذا سألته أو قلت له: كم درجة اليوم إيمانك؟ يضحك،ولربما ممكن حتى يسخر،لم يلتفتوا لهذه المعاني،المسألة طبعًا ليست بمثل ما سبق القول في المثال السابق أن تأتي وتقول:أنا اليوم إيماني مئة في المئة،أو تسعين في المئة،ثمانين في المئة وهكذا،ليس هذا،هذا بينك وبين ذاتك،أنت تحاسب نفسك،كيف تحاسب نفسك إذا كان الإيمان غير قابل للقياس؟ واحدة من المعايير والأدوات والوسائل التي يقاس بها الإيمان إقبالك على الطاعة، حضور القلب في الصلاة والخشوع،تلاوة القرآن وجمع القلب عليه وأنت تقرأ،تأملك في السماء والأرض وفي الخلق من حولك، التأمل،التدبر،المساعدة والمعاونة للناس،مساعدة الأخرين،الشعور بآلام الأخرين وأحزانهم،هذا من علامات الإيمان، من المقاييس التي بها يقاس الإيمان،ما معنى علامات الإيمان؟ مقاييس تستطيع من خلالها أن تدرك أن إيمانك في ازدياد أو في نقصان، إقبالك على الأخرة،عدم تعلق القلب بالدنيا والركون إليها،الركون للدنيا من المقاييس التي تدل على ضعف الإيمان،الانشغال بالدنيا وماذا قالوا وماذا فعلوا،وفلان أعطاني،وفلان منعني،من مقاييس ضعف الإيمان في القلب،ضعف اليقين من علامات ضعف الإيمان، نفورك عند ذكر الأخرة والموت دلالة خطيرة،علامة خطيرة فانتبه لنفسك،عدم شعورك بألام ومعاناة الأخرين وأنانية الإنسان،هذه من العلامات الخطيرة الكارثية التي لا يلتفت إليها كثير من الناس.انظر إلى حال الناس اليوم ومما يؤسف له أن بعض الدورات التدريبية وما شابه والنفسية تكرس هذه المشاعر الأنانية،تقول لك:لا دخل لك بغيرك،لماذا؟ يقول لك:لأنه يفسد مزاجك،هذا يناقض ما جاء في كتاب الله،لابد أن يكون لديك إحساس بالأخرين،لابد أن تكون إنسانًا،لابد أن تتعلم كيف تعيش للأخرين،كيف تخفف من جراحهم وتضمدها،كيف تخفف من آلامهم وأحزانهم ومعاناتهم،وإلا قل لي بالله عليك لماذا صلاة الجنازة لها هذا الأجر العظيم؟ لماذا؟ فيها شعور بالأخرين،فيها دعاء،فيها بذل،دعاء لإنسان ربما أنت لا تعرفه،ولكنك لأنك صليت الجنازة عليه تدعو له بالخير،وتدعو لأهله بالصبر،بمعنى أخر:شعورك بأنك إنسان،المسألة ليست فقط أن تساعد الناس بأموالك،لأن بعض المسلمين يقول لك:لا مال لدي،لا أستطيع،صراحة كل شيء على القدّ،أي قدّ؟ ويستطرد قائلًا:فقط دعني أوفر ما يكفي أسرتي،ولكن هل المطلوب فقط منك لكي تكون إنسانًا أن توفر مالًا؟ أبدًا،مطلوب منك أن توفر بالًا،بالًا ينشغل بأحزان الأخرين،ويتألم لآلامهم،ويحزن لأحزانهم،ويسعد ويفرح لأفراحهم،شعور الإنسان العظيم،القضية في غاية الأهمية،التفت إليها،انتبه إليها لأنها ضاعت من حساباتنا،وهذا مما يؤسف له. تريد أن تعرف إيمانك يزداد أو ينقص؟ راجع كل ما ذكرناه من أليَّات.تدبروا معي في هذه المعاني العظيمة.قال:{أَلَّا تَطۡغَوۡاْ فِي ٱلۡمِيزَانِ (8)} أي:مجاوزة الحد،الطغيان،ولكن إذا لم يكون هناك حد كيف تعرف أنك تجاوزت أم لم تتجاوز؟ الميزان هو الذي يحدد الحد، تدبروا في الربط{أَلَّا تَطۡغَوۡاْ فِي ٱلۡمِيزَانِ(8)} بمعنى أن هناك خطوط في الميزان،والميزان كما ذكرنا مثل ما هو ألة تقاس بها الأشياء الحسية هو ألة تقاس بها الأشياء المعنوية،الأفكار،العقائد،الأخلاق،كيف يكون هناك ميزان؟خطوط حتى لا يصير هناك انحرافات، حتى تعرف حين يزيد ويتجاوز وحين ينزل،فإذا لم يكن هناك ميزان أو خط كيف ستعرف أنه لا يطغو في الميزان؟ وتدبروا إلى الفوضى العارمة التي غلبت على الحياة المعاصرة،ليس هناك ميزان في جوانب الاعتقاد والإيمانيات،ليس هناك موازين في الأخلاق،ويأتيك من يقول لك:الأخلاق تختلف من مجتمع إلى مجتمع،البشرية اليوم تئن من هذه الويلات،ويلات الحروب،وويلات التهجير،ويلات المجاعات،وويلات الأوبئة بسبب أي شيء؟ هذه الفوضى العارمة،ما عاد فيها ميزان،ليس لها ميزان تحتكم إليه لا في اقتصادها،ولا في اجتماعها،ولا في نظام الأسرة،ضاعت الموازين،والأدهى والأمر أن المجتمعات المسلمة التي وضع الله لها الميزان وأنزله لها كما نص عليه بما قال:{ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ }،ورغم كل ذلك ضيَّعت الميزان العدل،وذهبت تستجدي موازين بشرية وضعية اصطنعها البشر،ضاع ميزان الأسرة فلما أن ضاع أصبحت الفوضى عارمة في الأسرة،نسب الطلاق المتزايدة،على نسب العنوسة المتزايدة،على نسب البطالة،على نسب العنف الأسري،عشرات بل مئات من الممارسات بسبب أي شيء؟ ضاع الميزان،ليس لدينا ميزان في الأسرة،والقرآن ينبِّه بقوله:{أَلَّا تَطۡغَوۡاْ فِي ٱلۡمِيزَانِ(8)} إذن كان هناك ميزان،يا ربي أين الميزان؟ لماذا علمك القرآن؟ ولماذا علمك البيان إن لم تعرف الميزان؟ تدبروا في الربط،لأن الأيات مترابطة في رسالة واضحة،أول شيء في الرسالة{أَلَّا تَطۡغَوۡاْ فِي ٱلۡمِيزَانِ(8)} وهذا أول أمر إلهي وليس قبله شيء في سورة الرحمن المباركة التي هي من أوائل السور نزولًا على الحبيب (صلى الله عليه وآله وسلم)،ويالها من أية فيها أول نهي وردت فيها،ويالها من سورة عظيمة. قال:{أَلَّا تَطۡغَوۡاْ فِي ٱلۡمِيزَانِ(8)} ولذلك كان الميزان الذي نصت عليه السورة المباركة من أعظم ألاء الله،ونحن قلنا وذكرنا وسنذكر ونقف أن الألآء الفعال العجيبة،فالذي وضع الميزان في خلق السماء والأرض أنزل لك الكتاب والميزان لأجل أن يتحقق الاتزان والاعتدال في حياتك،حياتك الإنسانية على هذه الأرض،تدبروا معي في الأية التي قبلها في سورة الحديد التي ذكرنا{وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ}وتدبروا في هذا المعنى العظيم،هذا المعنى الذي يجعل قضية الميزان قضية أساسية في الفرد،في المجتمع،في الأسرة.ألا يكون للإنسان ميزان فهذه إشكالية خطيرة،كيف لا يكون للإنسان ميزان يحتكم إليه؟ أنت لو نظرت الآن في حال أسرنا ومجتمعاتنا لرأيت عجبًا يصل حتى إلى الأفكار،أنت حين ترى سلسلة من الأفكار المتطرفة والبعيدة عن كتاب الله (جل شأنه) وسنة حبيبه (صلى الله عليه وآله وسلم) واحدة من أعظم الأسباب غياب التفاصيل الدقيقة المتعلقة بالميزان،الميزان موجود،ولذلك ربي (جل شأنه) نص عليها في كتابه في سورة الحديد فقال:{وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ}ليس بشيء خفيّ،إذن لماذا غاب عن الناس؟ القرآن يجمع،القرآن يؤلف، القرآن لا يشتت،لا يجعل الناس يختلفون فيما بينهم،ولا يتضاربون أو يتصارعون،ولا يتنافرون،ولا يكفر بعضهم بعضًا،إذن لماذا يحصل ما يحصل؟ تدبروا في الربط مع بداية السورة قال: {ٱلرَّحۡمَٰنُ (1) عَلَّمَ ٱلۡقُرۡءَانَ (2) خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ (3) عَلَّمَهُ ٱلۡبَيَانَ (4)} وجاء الكلام عن الميزان،إذن أين الإشكالية في غياب الميزان في حياتنا؟ لأن في الحقيقة أن مفردة الميزان في كل المواضع التي ذكرت فيها،وهي بخصوص الحديث عن الدنيا،جاءت بالمفرد وليس بالجمع،بمعنى أن الميزان واحد ليس هناك موازين متعددة،ليس أنا لدي ميزان،وأنت لديك ميزان،وهذا لديه ميزان،وكل واحد وميزانه،لا هذا عبث،من هنا تأتي وتتولد الفوضى،الميزان واحد.لما أن يأتي في الحديث عن يوم القيامة يقول:{مَوَازِينُهُ} التي وردت في أكثر من موضع،وأيضًا:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ} القضية مختلفة وسنأتي عليها في مواضعها،ولكن واحدة من معانيها أن الموازين يوم القيامة بمعنى أن الله (سبحانه وتعالى) لا يحاسب كل إنسان بنفس الطريقة والميزان الذي يحاسب به غيره،فهناك تفاوت بين الناس،فليس الفقير كالغني،فالله (سبحانه وتعالى) يحاسبك على ما أعطاك،فإذا كان كل الميزان واحد،من لديه مئة،ومن لديه ألف،ومن لديه مليون،ومليار وهكذا يحاسب بنفس الميزان؟ هذا لا يكون ولا يتحقق معنى للعدل،إذن يوجد موازين. وذكر بعض العلماء أن الموازين مقصود بها موزونات الأعمال التي توزن،وبقطع النظر سنأتي عليها في سياقاتها،ولكن الشاهد أن الميزان حين يذكر في الحياة الدنيا واحد بصيغة المفرد،تدبروا في دقة القرآن في كل الأيات في التسعة مواضع التي ذكر فيها الميزان في كتاب الله (جل شأنه) مفردًا.لماذا كان مفردًا ولماذا هو واحد؟ حتى لا تختلف البشرية إلى أن يصل الاختلاف إلى حد التناحر والصراع والتنازع والحروب والويلات،وأنت يأتي اليوم بعض البشر ويقول لك:ميزانك يختلف عن ميزاني وعليك أن تحترم ميزاني وميزانك،ويقال هذا في الأسرة،فالزواج على سبيل المثال لم يعد في بعض المجتمعات المنحرفة زواج بين ذكر وأنثى،ورجل وامرأة والتي هي {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ}(31) ولكن أصبح بميزان فلان ممكن أن يكون بين رجلين وامرأتين،ماهذا العبث؟ هذا ماذا تسميه؟ هذا تسميه لا ميزان،ضاع الميزان،ماالذي سيحدث عندما يضيع الميزان؟ فوضى عارمة،حروب طاحنة،سحق للبشرية ودمار. من هنا يظهر لنا الهدف والمقصد،أول وصية {أَلَّا تَطۡغَوۡاْ فِي ٱلۡمِيزَانِ(8)} في سورة الرحمن،أي لا تخالفوا الميزان،ميزان الفطرة،الميزان الذي وضعه وهو متسق تمام الاتساق مع الفطرة الإنسانية،{خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ}(32) وقس على هذا في بقية الأشياء. وأنا وأنت لو تأملنا تأملًا دقيقًا فيما يصيب البشرية اليوم من كوارث ومجاعات ومآسي لوجدت أن السبب يكاد ينحصر في كلمتين: لا ميزان،ضاع الميزان،البشرية ما عاد لها ميزان تحتكم إليه،أرادت في مراحل معينة أن تحتكم إلى ميزان،ومواثيق،وميثاق الأمم المتحدة وغيرها من مواثيق ولكنها لا تلتزم به،حتى هذا الذي اتفقوا وتواضعوا عليه لما فيه من بعض معاني العدالة وتحققها ما عاد البشر يحتكمون إليه،ضاعت الموازين،وأصبح المنطق الوحيد الذي يفهمه البعض هو القوة والسلطة والأنانية والفردية وتكريس هذه المعاني والقيم الفاسدة التي جرت على البشرية الويلات وما تزال،وتدبروامعي في الأية التي تليها،ماقبلها كان نهي{أَلَّاتَطۡغَوۡاْ فِي ٱلۡمِيزَانِ(8)} بعدها أمر:{وَأَقِيمُواْ ٱلۡوَزۡنَ بِٱلۡقِسۡطِ وَلَا تُخۡسِرُواْ ٱلۡمِيزَان )9)} تدبروا معي في دقة المفردة،قال:{وَأَقِيمُواْ ٱلۡوَزۡنَ بِٱلۡقِسۡطِ} والوزن هذا يأتي مع ذات المنظومة التي أسسها القرآن في الأية حول الميزان:ميزان،وزن،موزون في أيات أُخر،يزن،وزنة،يالها من منظومة. كل هذا والقرآن يؤسس لما يمكن يعرف أو يصطلح عليه البشر وهو”التقييس” هذا ليس فتحًا جديدًا من البشر،من بعض المجتمعات أو المؤسسات في الغرب وغيرها تقول لك:هم الذين أسسوا علم التقييس والقياس والتقويم.انظر لدلالات القرآن،لكن الإشكالية التي غيبت هذه المفاهيم القرآنية أن المسلمين في عصور حتى سابقة قطعوا الصلة بكتاب الله سبحانه وتعلمه وتحويل هذه الأسس في كتاب الله،والقيم،والمبادىء إلى واقع معاش،واقع يعيشه الناس يتعارفون عليه،واقع يعيشه البشر،واقع ينظرون إليه ويدركون أن هذه الأيات في كتاب الله لم تجىء لتنظِّر بل جاءت لتطبق وتنفذ في الواقع الإنساني.أعظم كتاب يعلمك مبادىء القياس والتقويم هو هذا القرآن المصطلحات الثرية الزاخرة المحملة بالمعاني الدقيقة،قال:{وَأَقِيمُواْ ٱلۡوَزۡنَ بِٱلۡقِسۡطِ} تدبروا في المفردة (أَقِيمُواْ ٱلۡوَزۡنَ) والقيام في القرآن حين تأتي كلمة قيام ليست أداء،القرآن فيه مفردة وفعل يؤدي وأدى وأدوا،وفيه كلمة أقيموا التي هي أعمق وأشمل وأكمل وأضخم وأدق وأكثر غزارة في المعاني و القيم التي تحملها (أَقِيمُواْ) ما معناه؟ أن تؤدي الشيء مكمل الأركان والأسس والمبادىء وكل ما يمكن أن يحيط به،ولذلك ربي (جل شأنه) ذكر:{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ۚ }(33) وصف ذاته (جل شأنه)،القائم الموفي بالأركان وكل ما يقتضيه القسط،تدبروا في المعاني،وهنا قال:{وَأَقِيمُواْ ٱلۡوَزۡنَ} ما معنى أنك تقيم؟ لذلك الصلاة ربي (جل شأنه) يقول:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} لأنك تؤديها بأركانها وواجباتها وشروطها وأسسها كاملة،هذه هي الإقامة.قال: {وَأَقِيمُواْ ٱلۡوَزۡنَ بِٱلۡقِسۡطِ} القسط الذي ذكر وورد في كتاب الله نحو سبعة وعشرين موضعًا،مقترنًا بأي شيء؟ غالبًا يكون مقترنًا بالباء {بِالْقِسْطِ ۚ} لماذا؟ لأن يكون متعديًا لأن القسط هو عبارة عن العدل الظاهر،العدل القابل للقياس،الحظ،النصيب،الجزء.قال:{ وَأَقِيمُواْ ٱلۡوَزۡنَ بِٱلۡقِسۡطِ} وماذا جاء أيضًا؟ قال:{وَلَا تُخۡسِرُواْ ٱلۡمِيزَان} تخسروا ليست بمعنى تنقصوا،تدبروا القرآن يذكر تنقصوا،يذكر أوفوا،ويذكر تخسروا التي هنا هي أي جزء من أجزاء الانتقاص من الشيء،ولا تنقص ولا بذرة الميزان{وَلَا تُخۡسِرُواْ ٱلۡمِيزَان} والقرآن يستعمل كذلك هذه المفردة العظيمة (تُخۡسِرُواْ) في الماديات وفي المعنويات،وهي غالبًا في اللغة تطلق على المقتنيات الخارجة، ولكن القرآن يستعملهافي المقتنيات النفسية من مثل قوله في سورة الزمر:{خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ}و{ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}(34) ونحن تحدثنا في مرة حين تدبرنا في سورة من سور القرآن عن معنى الخسارة والخسران الحقيقي في القرآن،ليست الخسارة أن تخسر مالًا أومقتنيات خارجية،هذه خسارة يمكن أن تعوض،ولكن الخسارة الحقيقية التي إن ما استطعت أن تستدركها لن تعوضها وهي خسارة الدين، خسارة الأهل،خسارة العمر،خسارة الزمن،خسارة الوقت والأيام التي تمضي هكذا مهدورة،خسارة الأهل {خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ} ليس المسألة أنك تخسر مالًا،هذه يمكن أن تعوضه وتجبره،ولكن إذا خسرت نفسك فماذا كسبت وماذا ربحت؟ تدبروا في القرآن {وَلَا تُخۡسِرُواْ ٱلۡمِيزَان} ولم يقل ولا تنقصوا،والأمر في قوله أقيم الوزن بالقسط بمعنى أنك تراعي كل شيء فيه أن يتحقق العدل والوفاء بالحقوق وإعطاءها لأصحابها في كل شيء من اقتصاد،أسرة،عمل،تعليم،كل نواحي الحياة فردية وجماعية، حتى لا يتوهم أحد ويظن أن الميزان يختص فقط بالمؤسسات والجماعات والمحاكم والدنيا،لا بل يتعلق بك أنت كفرد فأقم الوزن بالقسط في حياتك،أقم الوزن في أسرتك،أقم الوزن في إيمانك،أقم الوزن بالقسط في علاقتك مع الله،أقم الوزن بالقسط فيما تعطي، أقم الوزن بالقسط فيما تقول،حتى الألفاظ التي نتلفظ بها،أقم الوزن بالقسط في نيتك،أقم الوزن بالقسط في سريرتك فيما تسره وتخفيه،أقم الوزن بالقسط ولا تخسر الميزان في نيتك،ولا تخسر الميزان في عملك،ولا في قولك حين تتحدث عن الأخرين،ولا تخسر الميزان في أي شيء في حياتك،زِن ما تقول،ما تفعل،ونواياك،حتى النوايا لابد أن توزن،بل هي من أهم ما ينبغي أن تبدأ به فتزنه {وَأَقِيمُواْ ٱلۡوَزۡنَ} هذا مبدأ بل مبادىء وقيم،هذه القيم التي يؤسسها القرآن في بدايات سورة الرحمن.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *