الحلقة الثاني
بسم الله الرحمن الرحي
الحمد لله، والصلاة والسَّلام على رسولِ الله، وعلى آله وصحبهِ، ومن والاه
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وصلنا إلى الحلقةِ الثَّانية في تدبُّرنا لسُورةِ إبراهيم عليه السلام، وذكرنا فيما ذكرنا من مقاصد عظيمة لهذه السُّورة أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ أراد بهذا القُرآن، وفي هذه السُّورةِ تحديدًا أن يُقدِّم لنا نماذج من إخراجِ النَّاسِ من الظُّلماتِ إلى النُّورِ من خلالِ عرض قصصِ الأولين، من خلالِ عرضِ قصَّةِ الإنسان، من خلالِ الدَّفع بالإنسانِ نحو معرفة ذاته، وأعماق نفسه وهواجسه وخواطره. تلك الخواطر الَّتي يمكن أن تُوقِعَ الإنسان في كثيرٍ من الظُّلُماتِ، ظُلمة الجهل، ظُلمة العناد، ظُلمة الاستكبار، ظُلمة الغفلة، ظُلمة التَّبعيَّةِ العمياء، إذ تقف بنا هذه السُّورة العظيمة على نماذج وأطراف منها.
وصلنا في اللقاءِ السَّابق عند قول الله سبحانه وتعالى في تحديدِ أُولئِكَ الَّذين يكفرون بآياتهِ. وأعظم صفة تغلغلت في قلوبهم وفي نفوسِهم “الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3) “. وذكرنا أنَّ من أعظمِ أسبابِ الكُفرِ والعنادِ والإعراضِ عن نُورِ الرِّسالاتِ السَّماويَّة العظيمة، ونُور القُرآن، والنُّور الذي جاء به الأنبياء، ومنهم نبيُّنا محمد صلى الله عليه وسلم ذلك التَّعلُّق الشَّديد بالدُّنيا وذلك الإيثار للدُّنيا على الآخرة النَّاجم عن عدم معرفةِ الدُّنيا على حقيقتها، عدم إدراك أن هذه الدُّنيا مُتقلِّبة في أحوالِها، لا تدوم على شكلٍ واحد، ولا على نمطٍ واحد، الصِّحةُ فيها مُؤقَّتة، والتَّعبُ فيها مُؤقَّت، والفقرُ والغنى، أحوال يتقلَّبُ فيها الإنسان وفي تقلُّبِهِ في كُلِّ تلك الأحوالِ ممكن أن تعرضَ له ظُلُمات بعشراتِ الأشكالِ إذا كان بعيدًا عن نُورِ الكتابِ العظيم، ولذلك انتقلت الآية وبعدما انتهت عند قولهِ سبحانه ” أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ ” من الآية 3. لِتُبيِّنَ لنا أنَّ تلك الظُلُمات تُوقِعَ الإنسانَ في الضَّلال، في الغيِّ، في العَمَهِ بعيدًا عن الهدايةِ، هداية الإيمان والقُرآن.
جاءت السُّورة العظيمة بقصصِ الأنبياءِ، طرفٍ منها ولكن جاءت في بدايتها لتُقرِّر قاعدة، قال سبحانه: “وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ” من الآية 4. فرسالات الأنبياء جاءت لِتُبَيِّنَ، الإنسان حين يقع في الضَّلالِ وفي الغي وفي الظُّلماتِ يحتاج إلى ما يُبيِّنُ له، يحتاجُ إلى شيء يستوضِحُ به الأُمور والحقائق، وما كان لتلك الرِّسالاتِ إلَّا أن تكون ذلك النُّور إذ قالَ تعالى: “لِيُبَيِّنَ لَهُمْ” من الآية 4. ولكن ماذا بعد البيانِ العام، وتلك الهداية العامة التي أعطاها الله سبحانه وتعالى ومنحها لكُلِّ البشرِ
هناك هداية عامة وهداية خاصَّة. الهداية العامة على سبيلِ المثالِ أنَّ الله عزَّ وجلَّ أعطى لكُلِّ البشرِ وسائل الإدراك، تلك الوسائل التي ينبغي أن تقودَهُم إلى الهدايةِ وإلى النُّورِ وإلى الإيمانِ به سبحانه، ثُمَّ أعطى بعد ذلك هداية الرُّسل، فأرسل الرُّسُلَ بلسانِ أقوامِهم، وبما يفهمونه وحسب درجات وعيهم، واللُغة التي يمكن أن يفهموا ويدركوا بها، تلك الرِّسالة التي جاءت من الله سبحانه إلى الخلقِ، ثُمَّ أنزلَ الكُتُبَ مع تلك الهداية فكانت الهداية العامة التي تكفل للإنسانِ أن يصلَ إلى الحقِّ والحقيقةِ إذا ما فتح بصيرته، إذا ما كان قلبهُ أهلًا ومحلًّا لتلقي ذلك الخطاب وتلك الهداية
ولذلك جاء في نفسِ الآيةِ قوله عزَّ وجلَّ: “فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ” من الآية 4 والإضلال والهداية في هذا السِيَّاق لا تُفهم بعيدًا عن كُلِّ ما ذكرناه من الآياتِ الواردة في ذاتِ السِيَّاقِ والحديث عن الضَّلالِ والهدى، ربِّي عزَّ وجلَّ لا يستطيع أحد من الضَّالينَ أن يحتج عليه بأنَّهُ لو شاء الله لهدانا جميعًا، وقد احتجَّ كثير من الكُفَّارِ عبر العصور والأزمنة. فأرسلَ الرُّسُلَ “لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ۚ” من آية 165/ سورة النساء. وأنزلَ الكُتب ليُبيِّنَ لهم، ولكن اختيار طريق الضَّلالِ أو الهداية هذا أمرٌ تركه الله عزَّ وجلَّ لخلقهِ بمشيئتهِ، ربِّي سبحانه أذِنَ لهم أن يختاروا وتكون لهم حُريَّة الاختيار، تلك الحُريَّة التي قطعًا سيُسألونَ عنها فهي حُريَّة مسؤولة فيُضِلُّ الله من يشاء. والإنسان سواء ضلَّ في هذه الحياة أو هداه الله هو لا يخرج عن مشيئتهِ سبحانه، ولكن تلك المشيئة لا تعني أنَّه يسير نحو الضَّلالةِ مسلوب الإرادة مُجبرًا أو مُكرهًا كما يتصوَّر بعض الجهلة، أبدًا ولكن الله عزَّ وجلَّ لا يخرج شيءٌ عن مشيئتهِ في هذا الكون، ولا عن قُدرتِهِ سبحانه وتعالى ولكن أراد لعبادهِ الهداية، ولو لم يرد لهم الهداية لما أرسل الرُّسُل ولا أنزلَ الكُتُب. فلا يُحتجُّ على حُكمهِ ومشيئتهِ سبحانه، قال تعالى: “وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ” من الآية 4. خبيرٌ بعبادهِ، يعلم أنَّ من عبادهِ من يكون أهلًا لتلقِّي الرِّسالة التي تسيرُ به، وتقودهُ نحو الهدى، وأنَّ من عبادهِ من يُؤثِر الضَّلالةَ على الهُدى. ثُمَّ جاءت الآية العظيمة بأنموذج موسى عليه السلام: “وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5)”. أمره الله عزَّ وجلَّ: “أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ” من الآية 5. إذن مَهمَّة الأنبياء إخراج النَّاس من الظُّلماتِ إلى النُّورِ، وكذلك هي مهمة الكتاب التي ذكرت في بداية السورة “لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ” من الآية 1. إذن كانت المهمة الرئيسة لكل الأنبياء عبر العصور برسالاتهم، بالكتب التي أُنزِلَت عليهم هي إخراج النَّاس من الظُلماتِ إلى النُّور، ولكنه ليس إخراج إجبارٍ ولا إكراه، وإنَّما هو إخراج تبليغ وإيصال للرسالة. إذن هذه الآية العظيمة أعطتنا طرفًا مما كان يدور بين قوم فِرعون وموسى عليه السلام قبل الرِّسالة، قبل أن يقوم فيهم موسى عليه السلام نبيًّا مُبشرًا ونذيرًا
ومع الكلامِ عن الخروجِ من الظُلماتِ إلى النُّورِ قال تعالى: “وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ” من الآية 5. وأيَّام الله ممكن أن تكون كما جاء في كثيرٍ من التَّفاسيرِ والمعاني هي: عـلامات، بيّنات، ودلائل على الوقائع التي حصلت معهـم قبـل أن يأتي مـوســى عليه السلام برسالتهِ، ما حدث معهم تحت ضيم وسطوة وجبروت فِرعون. كل هذه الأشياء هي علامات ودلالات، قال تعالى: “وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ ” من الآية 5. والخطاب ليس لقومِ مُوسى فحسب، ما من شيء يُسهِمُ في إخراجِ الإنسانِ من الظُّلماتِ إلى النُّورِ، ظُلمة الغفلةِ والجهلِ والعنادِ والتَّكبُّرِ والإصرارِ والإعراضِ عن الله سبحانه، كالتَّذكُرِ، كالتَّفَكُرِ، كالتَّبَصُرِ والتَّأمُّلِ في أحوالِ ذاتهِ ومن حوله
من أعظمِ أسبابِ الهداية والخروج من ظُلمةِ الغفلةِ أن تجلس مع نفسك فتتذكَّر وتتفكَّر وتتبصَّر وتتأمَّل في كُلِّ ماضيك كما تتأمَّل في حاضرِك، تدرُس الأحوال وتغيُّر الشُّؤون وتصاريفِ الأقدارِ فيك، تدرسُهَا بعينِ الاعتبارِ، بعينِ الخُروجِ من ظُلمةِ الغفلةِ والجهلِ. وتصوَّر أنَّ كُلَّ شيء في هذه الدُّنيا يسير هكذا لا على هدًى، فالإنسان حين يقع في ظُلمةِ الغفلة يفتقِد الإحساس أو الشُّعور بكُلِّ ما حولَه؛ الأشياء، الأقدار، الأحداث الجاريَّة على نفسهِ وعلى غيرهِ لا يعُود لها نفس التَّأثير ولا نفس التَّفكُّر والتَّبصُّر الذي ينبغي أن يكون لها حين يقرأ ويتأمَّل الواقـع وحالتهِ هُو من خـــلالِ القــراءة في كتابِ الله عزَّ وجلَّ ، تلك القــراءة التي تُذَكِرُه، ولذلك أرســل الله سبحانه وتعالى الرُّسُلَ مُبشرينَ ومُنذرينَ مُذكِّرينَ للبشرِ حين يقعون في ظُلمةِ النِّسيانِ والغفلةِ
ثم قال تعالى: “إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ” من الآية 5. والآية العظيمة جمعت واختصرت رحلة الحياة الإنسانيَّة، ليس في قومِ موسى فحسب، بل في كُلِّ البشر أفرادًا، جماعاتٍ، دُولًا. الإنسانُ يتَقلَّبُ في حالهِ على هذهِ الأرض ما بين وضعٍ يقتضي منه الصَّبر وما بين وضعٍ يقتضي منه الشُّكر، وفي حالِ الصَّبرِ وفي حالِ الشُّكرِ هو لا يخرج عن أقدارِ الله سبحانه، والعاقل الذي خرجَ من ظُلمةِ الغفلة والبُعد عن الله سبحانه وتعالى يقرأ منظور الأحداث بتلك الفكرة العظيمة، بذلك التَّذكُّر والبصيرة المستنيرة بنُورِ الكتاب العظيم، وتطمئن نفسه وتسكُن وتهدأ روحه فلا يطيرُ جزعًا ولا سخطًا حين تأتي الأقدارُ بما لا يشتهيه وما لا يرتضي، ولا تذهب روحه كذلك فرحًا، فينسى ويغفل ويجهل حين تُقبِل عليه الدُّنيا بزينتِها وبأموالِها وبنعمِها، ففي تقلُّبِ تلك الأحوال لا يخرج ذلك عن قدرِ الله فيها أبدًا. والمؤمِن العاقل الذي ولَّدَ عنده ذلك التَّذكُّر الصبر والشُّكر والإيمان باللهِ سبحانه وتعالى والذي يجعل منه ذلك التَّذكُّر إنسانًا يعيشُ بين الحمدِ والشُّكرِ حتى وهو في حالةِ الابتلاءِ والصُّعوباتِ والمِحَنِ الشَّديدة، ولذا ذكَّرت الآيةُ التي بعدها بالنعم: “وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ” من الآية 6. وتدبَّروا معي في آيتينِ، الآية الأُولى قال تعالى: “وَذَكِّرْهُمْ” من الآية 5. والآية الثَّانية “اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ” من الآية 6. التَّذكُّر في هذا السِيَّاق هو تلك العمليَّة العقليَّة الكفيلة بإخراجِ الإنسان من الظُّلمةِ إلى النُّورِ
قوم موسى نموذج لبشر وقعوا تحت ظلِّ ظُروفٍ صعبةٍ شديدةٍ، محنةٍ شديدةٍ الاستعبادِ والعبوديَّة لـِفرعون، سطوتهِ وظُلمهِ وجبروتهِ وطغيانهِ، ولذلك قال تعالى: “إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ” من الآية 6. شدَّة، بلاء، امتحان شديد صعب، هذه المِحنَة وهذه الشّـِدَّة وموسى عليه السلام هنا يُذكِّرُهم بنعمةِ الله بالنَجاةِ. تدبَّروا معي في هذه المعاني، الإنسان لكي يستقيم حالهُ في الدُّنيا ويسير وفق منهج الله سبحانه عليه أن يتذكرَ دومًا ذلك التَّقلُّبِ في الأحوالِ ما بين الشِّدَّةِ والرَّخاءِ، ما بين المحنةِ والمنحةِ.
قوم موسى عليه السلام قبل الرِّسالة كانوا يُعانونَ مُعاناة حقيقيَّة والقُرآنُ يُذكِّرهُم في كُلِّ وقت ” يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ” من الآية 6. النساء للخدمةِ والاستعبادِ زيادة في الامتهانِ لقدرِهن ولمكانتِهن، ولشرفِهن، وإمعانًا في الإذلالِ والإهانة، وتقتيل الأبناء والذَّبح بطريقةٍ بشعةٍ شنيعةٍ، ابتلاء كبير أن يقفَ الإنسان أمام تلك المحنة عاجزًا لا يملك أن يُغيِّرَ شيئًا، ومع ذلك فإن ربِّي سبحانه وتعالى شاء أن يُقلب تلك الأقدار فانقلبَ ذلك الحال من العبوديَّةِ إلى الحُريَّة، ومن البؤسِ واليأسِ والشَّقاءِ إلى حالٍ آخر، حال النِّعمةِ والرَّاحةِ والحُريَّةِ، حال أن يُعطَوا النِّعم والطَّعام والشَّراب، ويصل إليهم في كُلِّ وقتٍ وفي كُلِّ حالٍ كما يشاؤون، حال التَّخلُّص من أسرِ فِرعون وجبروتهِ وظُلمهِ، إنَّهَا نعمة تستحق أن تُذكر في كُلِّ وقت
والقُرآنُ حين يقف بنا على هذا النَّموذج، نموذج قوم موسى وتقلُّب الأحوال فيهم والتَّذكير بالنِّعمة يريد أن يُعطينا ويُعلِّمُنَا هنا قاعدة عظيمة أن لا تجعل تغيُّر الأحوال فيك يُوقعُكَ في ظُلمةِ الغفلةِ عن اللهِ سبحانه، بمعنى آخر: حين يتقلب حالك من الشِّدَّةِ إلى الرَّخاءِ لا يكُن الرَّخاء مُلهيًا لكَ عن ذكرِ الله سبحانه وتعالى ونعمهِ، الرَّخاء امتحان شديد جدًا، صحيح أن الشِّدَّة والمرض والتَّعب والفقر والعُبوديَّة والظُلم والوقوعِ تحت كُلِّ هذه المحن صعب وشديد، ولكن ما هو أصعب منه أن يكون الإنسان في حالِ الرَّخاءِ، أن يكون في حالِ النَّعيم المادي، أن تُفتحَ وتُقبِلَ عليه الدُّنيا بزينتِها ومالِهَا وجاهِهَا وبِكُلِّ أعراضِهَا التي تُوحي للإنسانِ بقوَّتِهِ وهو ضعيف، تُوحي للإنسانِ بقُدرتهِ وهو عاجز فتكون تلك المنح محنة حقيقيَّة، في داخلِهَا وفي باطنِهَا محنة، أن يبقى الإنسان مُعلَّقَ القلبِ باللهِ سبحانه وتعالى رُغمَ كُلّ ما هو فيه من النَّعيمِ، مُستشعرًا لذُلِّهِ بين يديهِ رُغمَ كُلّ ما يتوهَّمـُه من أسبابِ العِزِّ، ومُوقِنًا بعجزهِ وفقرهِ وضعفهِ لخالقهِ سبحانه رُغمَ أنَّ الحالة قد تبدَّلَت ففِرعون ما عادَ فِرعونَ، ذلك الملك الذي كانوا يخشون، وذلك الملك الذي كانوا يهابون ما عادَ له وجود إذ رأوه رأي العينِ وهو ينهار أمام أعيُنِهم، رأوا مُعجزات حقيقيَّة حسِّيَّة وعاينوها، عاشوها فكانت تلك النِّعمَة تقتضى الشُّكر والذِّكر والإنابة والرُّجوع للخالقِ سبحانه والتَّمسُك بمنهجهِ، ولذلك الآية جاءت بإعجازٍ عظيم إذ قال تعالى: “وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ” من الآية 6.
البلاء لا يعود فقط على المحنة التي مرَّ بها قوم موسى “وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ”. من الآية 6. لا، البلاء كذلك في قولهِ تعالى: “إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ” من الآية 6. إذ إنَّ النَّجاة كذلك اختبار. فهي شيء صعب لأنَّه ليس كُلّ النَّاس يُدركون معنى ذلك الاختبار والابتلاء فيثبتون حال إقبال الدُّنيا والنِّعمة، كثير من النَّاسِ اليوم إذا أُصيبَ بمرضٍ أو بمحنةٍ تراه يرجع إلى الله سبحانه بالدُّعاءِ والاستغفارِ والإنابة والشُّعورِ بالتَّذلُّلِ والافتقارِ بين يديهِ فهذا شيء طبيعي. حتى إن القُرآن حكى لنا صُورًا ونماذج من أُولئِكَ الَّذين كانوا يُشرِكون بالله فلما جاءهم البأس وذاقوه، وعصفت بهم العواصف والمحن تراهم يرجعـون إليه فقـالوا: “لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ” من الآية 22 / سورة يونس.
ولكن أن يثبُت الإنسان ساعة المنحة، ساعة العطاء وأن تُفتح عليه الدُّنيا ويتخلَّص من كُلِّ ما يسوؤه فذلكُم الابتلاء، ولذا جاءت الآية العظيمة: “وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ” من الآية 7. الشُّكر الذي ليس مُجرَّد كلمة تُقال باللسانِ والجوارح بينما العقل والقلب خاليان من الشُّعورِ بها والتَّفاعل معها، صحيح جانب من الشُّكرِ أن أقول بلساني: الحمد لله، وأن أتذكَّر النِّعمة، ولكن الجَّوانب العظيمة في الشُّكرِ ما يتولَّدُ عن ذلك الحمد من الطَّاعةِ، من تفعيلِ منهج الله في حياتِك، في سلوكِك وواقعك، فعلى سبيلِ المثال: قوم موسى كانوا تحت ظلِّ فِرعون لا يستطيعون أن يعبدوا الله، كما أنَّ المسلمينَ في مكَّةَ كانوا مستضعفين ونحن ذكرنا أنَّ سُورةَ إبراهيم نزلت بعد أكثر من عشرة أعوام في مكَّةَ (نهايات الفترة المكِّيَّة) فما كان المسلمون يستطيعون أن يُجاهروا بعبادتِهم وصلاتِهم ودُعائهم وتلاوتِهم لكتابِ الله في المراحلِ الأُولى المبكِّرة في مكَّةَ. فهذا نُوع من أنواعِ الابتلاءِ، فماذا حين يُعطيك الله سبحانه وتعالى فضاءً واسعًا تستطيع من خلالهِ أن تُنفِّذَ منهجَه، وتسير في طاعتهِ سبحانه وتعالى، كيف سيكون حالك؟ هذه نعمة تقتضي الشُّكر، نعمة الحُريَّة وأن يفُكَ الله سبحانه وتعالى أسرَ الإنسان فردًا أو جماعة من الظُلمِ والمحنِ إلى فضاءِ الحُريَّةِ والعدلِ بِكُلِّ ما فيه من نعمٍ عظيمةٍ وهذا يقتضي المقابلة بالشُّكرِ والطَّاعةِ والزِّيادةِ في الإيمانِ، وزيادة الحرص على تنفيذِ أوامرِ الله سبحانه وتعالى في حياتِنَا
قال سبحانه: “لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ ” من الآية 7. والكُفر هنا كُفر النِّعم، وليس الكُفرَ الاعتقادي -والعياذُ بالله- بل كُفر وجحود النِّعم، استعمال النِّعم في غيرِ ما يُرضي الله في معصيَّةِ الله، هب أنَّ الله سبحانه وتعالى أعطاك مالًا، أو جاهًا أو منصبًا وعزَّةً وقُوَّةً في الجسدِ وقُدرةً على تنفيذِ ما تريد، السُؤال الذي يبقى مطروحًا، ما الذي تفعله بهذه النعم؟ فليس الإشكاليَّة أن يكون لك كُل هذا أبدًا لأنَّ هذه هي أحوال تتقلَّب وتتبدَّل، ولكن الإشكاليَّة الأخطر أن تستعمل كل ما وهبك الله سبحانه وتعالى وما أعطاكَ في معصيتهِ، في الصَّدِّ عن سبيلِ الله سبحانه، في الكُفرِ فذلك صريح الكُفرِ، ولذلك كثير من النَّاسِ اليوم يغفل عن هذه الحقيقة. ربّي عزَّ وجلَّ يُعــطيهِ نعمـــة ويقـــول باللسانِ: (الحمد لله) ولكن هو يسيرُ بتلك النِّعمةِ من معصيةٍ إلى أُخرى، ومن ظُلمٍ إلى آخر فيقع في أعراضِ النَّاسِ، والنيل من حقوقِهم، وفى مُصادرةِ أموالِهم و..و.. وعشرات الممارسات، فأين القيمة الحقيقيَّة للحمدِ؟ حمد الله على النعمةِ؟ إن لم تُحقِق في واقعِك وفي سُلوكِك شُكرًا وطاعةً وانقيادًا لمنهج الله سبحانه في الحياةِ وسيرًا بهِ بين النَّاسِ، ولذلك الآية العظيمة قالت: “وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ” من الآية 7. استعمال الأفراد والأُمم والشُّعوب لنعمِ الله سبحانه وتعالى فيما يُغضبُه ويجلب سخطه، في الاعتداءِ على حقوقِ الآخرينَ كما هو حاصِل في عالمنا المعاصر اليوم في كثيرٍ من الأماكن يعرِّضهم لعذاب الله تعالى. الإنسان حين يُعطى القُوَّة في جسم، في علم، في أي شيء من أنواعِ القُوَّة فهذا ابتلاء
ويبقى السُّؤال مطروحًا: كيف يستعمل تلك القُوَّة؟ فِرعون نموذج لإنسان طاغية، ربِّي عزَّ وجلَّ أعطاهُ مُلكًا، قُوَّة، مالًا، فتح عليه الدُّنيا فماذا فعل بِكُلِّ هذا؟ عاثَ في الأرضِ فسادًا، يقتِّلُ هذا ويسفكُ دم ذاك، ويستحيي النِّساءَ، ويُذبِّح ويُشرِّد، ويُصادِر ويأخذ من هنا وهناك ويسير في الأرضِ فسادًا، إذن هل أصبحت في حقِّ مثل هذا البشر وهذا الإنسان، هل بات المال والقُوَّة والعِزَّة والجاه والمنصب نعمةً أم نقمة؟ ولذلك جاء الوعيد “إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ” من الآية 7.
من أعظمِ أسبابِ تبدُّلِ النِّعَم، تبدُّل الرَّخاء إلى شِدَّة، تبدُّل حال الغنى إلى الفقرِ، المحن الاقتصاديَّة، الانتكاسات، الابتلاءات الجماعيَّة التي تضرِب الأُممَ والمجتمعات لم تجِئ هكذا بدونِ سببٍ، القُرآن يُعلِّمُني كيف أقرأ تلك الأحداث، فحين قال: “وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ” من الآية 7. القوم لم يكونوا يكفرون باللهِ، ولكن الكُفر كان بالنِّعَمِ. الجحودُ بالنِّعمِ وتوظيف كُلّ تلك النِّعم والأسباب فيما يُغضبه سبحانه، وفيما يُخالِفَ منهجه. لماذا أعطاك ربِّي سبحانه وتعالى قُوَّةً في البدنِ، زيادةً في المالِ لأجلِ أن تسيرَ في الأرضِ بالحقِّ، بالعدلِ، بالسَّلامِ، أن تنشُرَ الخير بين النَّاسِ، لا أن تُظهرَ في الأرضِ الفساد، ولذا جاءت الآية: “وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) “. فماذا لو أنَّ كُلَّ النَّاس كفروا، ولم يسيروا وفق منهج الله في الأرضِ؟ هذا لا يُنقص من مُلكهِ سبحانه شيئًا فهو الغنيُّ الحميد، ولكن ماذا يا تُرى ستكون النتيجة؟ البلاء، الشَّقاء، زيادة في البؤسِ، زيادة في الكوارثِ الطَّبيعيَّةِ والكوارث الإنسانيَّة والبشريَّة، زيادة في شقاءِ الإنسان
هذه الآيات العظيمة مُنذ بدايات هذه السُّورة الكريمة سُورة إبراهيم تُخرج النَّاسَ من الظُلماتِ إلى النُّورِ، ظُلمة قراءة الأحداث بطريقةٍ سطحيَّة، بعض الأشخاص حتى حين يقرأ الكوارث أو يسمع في الأخبار الكوارث التي تُصيب البشر طبيعيَّة أو غير طبيعيَّة لا يعرف كيف يقرؤها. ما الذي يجعلني أعرف كيف أقرأ الأحداث؟ هذا الكتاب العظيم الذي يُبيّن للناسِ ما أُنزِلَ إليهم، يُبيِّن لهم أنَّ أحوال الدُّنيا وتقلُّب الأحوال لا ينبغي أن يدعوك إلى اليأسِ ولا إلى الإحباطِ. وقد ضربَ لنا مثلًا في قومِ موسى، فالإنسان مهما بلغ به من ضعفٍ أو عجزٍ أو وقوع تحت الظُّلمِ فلا ينبغي أن يتسلَّلَ الإحباط ولا اليأسَ إلى نفسهِ وإلى قلبهِ
فمن أين يأتيهِ الأمل؟ الأمل يأتي من الإيمان بالله عزَّ وجلَّ أنَّ كل هذه الأحوال لا يمكن أن تدومَ على حال “وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ” من آية 140/سورة آل عمران. الأيام تتبدَّل والأحوال تتغيَّر، وها هُم قوم موسى بالأمسِ كانوا مُستضعفين تحت ظُلمِ وجبروتِ فِرعون، ثُمَّ أراد الله لهم أن يُصبحوا ملوكًا، وأن يمُنَّ على الَّذين اُستضعِفُوا في الأرضِ وأن يجعلَ منهم أئِمَّة، ولكن ليست الإشكاليَّة المنَّ وتغيُّرَ حال المستضعَف من الضعفٍ إلى القُوَّةٍ أو من الفقرِ إلى الغنى. الإشكاليَّة أين القلب والإيمان والعلاقة مع الله في حالِ الشِّدَّةِ والرَّخاءِ، الثَّباتِ والصَّبرِ الذي لا يمكن أن يتحققَّ إلَّا إذا خرج الإنسان من ظُلماتِ الجهلِ والعنادِ والغفلةِ إلى نُورِ الإيمانِ والهُدى والكتابِ المبين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركات