بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله حمد الشاكرين والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الملاحظ في هذا العصر الذي نعيش فيه الذي سبق أن ذكرناهأنه قد طغت عليه المادية المفرطة، في هذا العصر أصبح البعض منا يعيش في فقر وهو ليس بفقير يعيش في قلق من الفقر. ليست الإشكالية الكبيرة في أن يكون هناك فعلًا حاجة حقيقية، حاجة مادية واقعة ولكن الإشكالية الأخطر أن لا يكون هناك حاجة ومع ذلك يعيش الإنسان في الخوف من الفقر في فقر، ويعيش لشدة خشيته من الحاجة والرغبة الشديدة في تأمين مستقبله ومستقبل أولاده يعيش في فقر حاضر. والقرآن يطلق على هذه المشاعر”وعود الشيطان” فالشيطان هو الذي يعد الإنسان بالفقر ويجعل الإنسان يعيش في خوف من الفقر حتى وإن لم يكن هناك فقر ولا حاجة (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴿٢٦٨﴾ البقرة). والملفت للنظر أن هذه الآيات جاءت بعد الحديث عن آيات الإنفاق في سورة البقرة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ (267)) هذا التوجيه الرباني هذا الوعد الإلهي أن الصدقة والإنفاق ومساعدة الآخرين لا يمكن أن تُنقص من المال في شيءولكن الشيطان بطبيعة تعامله مع الإنسان يدق على ذلك الوتر فيجعل الإنسان يتوهم أن المال ينقص بالصدقة. وتأملوا في الحديث الصحيح الذي يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم عن سعيد الطائي أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ثلاثة أقسم عليهن وأحدّثكم حديثًا فاحفظوه، ثم قال: ما نقص مال عبد من صدقة ولا ظُلِم عبدٌ مظلمة فصبر عليها إلا زاده الله عزًا ولا فتح عبدٌ باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر. إذن المال لا ينقص بالصدقة، ربما ينقص حساب البنك في الأرقام ولكن هذا لا يعني أن هناك نقصًا حقيقيًا في المال، ثمة أشياء غير مرئية تدخل مع الصدقة من أهمهاالبركة. المال وإنفاق المال والحاجة إلى المال لا ينحصر فقط في أرقام الأموال والحسابات، لا ينحصر بالنظرة المادية البحتة التي طغت على عالمنا المعاصر فأصبحنا بالفعل أكثر مادية أكثر من أي وقت مضى، المال ليس هكذا يُحسب، ثمة أشياء أخرى تدخل إلى المال فتزيد هذا المال وتبارك فيه، البركة شيء غير محسوس، البركة شيء غير ملموس، البركة شيء لا يمكن أن يستفاد من الأرقام وأرقام الحسابات في البنوك، البركة تأتي مع العمل الصالح، البركة تأتي مع الإنفاق، البركة تأتي مع ثقة المؤمن بالله أن الله سيخلف عليه بخير وأنه ما من شيء ينفقه في سبيل الله محتسبًا له في ذلك إلا وأعطاه الله وأغناه وأبدله خيرًا من ذلك الذي أنفق. ثم إن المؤمن قبل ذلك وبعده يدرك تمامًا أن المال أمانة بين يديه أنه مستخلف في المال أن المال في واقع الأمر هو مال الله عز وجل وأنه قد خرج إلى هذه الدنيا لا يملك لباسًا ولا درهمًا ودينارا فمن ذا الذي أغناه؟ ومن ذا الذي أعطاه؟ومن ذا الذي كساه؟ ومن ذا الذي ألبسه؟ ومن ذا الذي أغدق الحنان عليه من قِبَل والديه؟ من سوى الله سبحانه وتعالى؟ وهو الرب عز وجل الذي يأمر عباده بالإنفاق والصدقات، الرب الذي يأمر أن يتحول المال من غاية إلى وسيلة. فالبعض منا في هذا العصر ومع تقلب الأحوال المادية وزيادة الحاجات في العالم تحول بمرور الوقت إلى جابي أو جامع للمال! تحول إلى بنك بكل ما تعني الكلمة، يجمع الأموال ولا يفكر كيف جمع تلك الأموال ولا في أي شيء سينفقها! أصبح تجميع الأموال ورصد الحسابات هو المحور الأساس في حياتي. هذه النظرة لا تتوافق أبدًأ مع ما يؤسسه القرآن في حياتي، مع ما يدعو إليه القرآن العظيم في حياتي، أن يصبح المال فعلاً في وضعه الصح الطبيعي، أن يصبح المال مجرد وسيلة لأجل أن أعيش إنسانًا حرًا كريمًا وأن أفيض بذلك المال والعطاء على من حولي أن أبدأ بأسرتي أن أبدأ بأقاربي أن أبدأ بجيراني، بأصحابي، بقرابتي، ثم بالمجتمع ككل حتى يصبح ذلك المال الذي وهبني الله عز وجل نعمة لا ينحصر عطاؤها فقط في يدي أنا، لا ينحصر خيرها في يدي أنا وفي حياتي بل أغدق بها وأنشر بها على الآخرين، أنشر ذلك المال، أنشر ذلك المال عن طيب نفس، أنشر ذلك المال وأنا أرى تماماً أن لكل محتاج في ذلك المال حق ونصيب (وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ﴿١٩﴾ الذاريات). النظرة المادية التي جاءت بها مخلفات هذا العصر الذي نعيش فيه وأزماته المادية القاسية بدأت تحاصر هذه المشاعر الرقيقة الصادقة في قلوبنا وفي حياتنا أصبحنا في كثير من الأحيان نفكر قبل أن ننفق ونساعد بالال الآخرين والمحتاجين، نفكر ألف مرة! بل العجيب حين ننفق الدينار والدينارين في صدقة أو في إحسان نفكر وكأن ذلك الدينار سيصنع فرقًا في حياتنا، في ذات الوقت الصورة المناقضة لذلك كله ذلك البذخ والإسراف في إنفاق الأموال في تلك الوجوه التي تخصنا نحن والتي تتعلق بحاجياتنا الشخصية وفي معظم الأحيان ليس بما نحتاج إليه بقدر ما يحتاجه المظهر الخارجي لنا، الكماليات التي بمرور الوقت أصبحنا أسرى لها، هذه النظرة تحتاج إلى تغيير في واقعنا، تحتاج إعادة النظر وإعادة المواظين إلى نصابنا تجديد النظرة إلى المال: هل جئنا إلى هذه الحياة لنجمع الأموال أم لننفق تلك الأموال في أوجه البذل والعطاء؟! حتى تغلب علينا تلك النظرة الإنسانية الحقيقية التي تجعل منا حقًا بشرًا يشعرون بآلآم الآخرين ومعاناتهم.
(تفريغ صفحة إسلاميات حصريًا)