تدبر سورة الأنعام – 3
د. رقية العلواني
تفريغ الأخت الفاضلة نوال جزاها الله خيرًا لموقع إسلاميات حصريًا
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الأمن الداخلي، الأمن النفسي، الأمن على أشكال، وليس شكلاً واحداً، ويمكن من الممكن فعلاً من أكثر ما تفتقر إليه المجتمعات اليوم الأمن، واللافت للنظر: كل بلد من بلدان العالم فيها جهاز يختص بالأمن جهاز الأمن، ولكن القرآن يعلمنا أن القضية ليست قضية إنشاء أجهزة ولا مؤسسات ولا وزارات، بقدر ما هي: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ﴾[الأنعام:82].
تصلح علاقتك مع الله سبحانه وتعالى فيتحقق لك الأمن، لأن الأمن منحة من الله سبحانه وتعالى.
الأمن على أشكال كما ذكرنا: الأمن الغذائي على سبيل المثال اليوم العالم يعاني من قضيته لا أمن غذائي يخاف الناس على أقواتهم ومصادر رزقهم ما الذي يحقق لك الأمن؟ إيمانك بالله سبحانه، ليس ذلك الإيمان الذي يتوهم الإيمان الإنسان أنه آمنت بالله إذاً أجلس في بيتي والله يرزقني، هذا ليس هو الإيمان التي في سورة الأنعام.
إذاً الإيمان الذي يدفع بك لأن تصبح إنساناً في واقعك إنساناً مجتهداً إنساناً مغيراً، إنساناً فاعلاً، إنساناً مؤملاً للحياة وللكون، مستفيداً من ثرواتها، عادلاً في طريقة توزيعها، لا تعرف الغش ولا تعرف الاحتيال، ولا التدليس، هذه معاني مع الإيمان تماماً تتولد وتدبروا في ذاك التلازم بين الأمن والإيمان، والأمانة، ثلاثية عجيبة لا تنفك عن بعضها البعض، إيمان أمانة، أمن، على قدر إيمانك تكون أمانتك، الأمانة التي تكلمت عنها سورة النساء وسورة المائدة، وكل سور القرآن الأمانة: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾[النساء:58].
ولذلك لا إيمان لمن لا أمانة له، إيمانك الذي يدفعك إلى أداء الأمانات، إيمانك الذي يدفعك إلى النظر إلى الكون وقلنا فيه: على أنه أمانة ينبغي الحفاظ عليها والسعي في حمايتها، وكذلك كل المقدرات الإنسان، كل الإمكانيات البشرية أرواح البشر أعراضهم أمانة لا ينبغي أن يعتدى عليهم، أموالهم أمانة، فتدبر معي! إيمانك يدفعك إلى النظر إلى أن والإيمان والاعتقاد أن أموال الناس وأعراض وأرواح الناس أمانات، أليس هذا هو الأمان، ما الذي يمكن أن يتحقق من خلال الأمان سوى أن يأمن الناس على أنفسهم وعلى أعراضهم، وعلى أموالهم وديارهم وبيوتهم، وهذا لا يتحقق في مجتمع فيه مجموعة من الخونة، مجموعة ممن لا يجدون ولا يراعون في المؤمنين لا نفساً ولا عرضاً ولا مالاً، وهذا لا يتحقق إلا من خلال تلك المنظومة الإيمانية الإيمان الذي تبنيه سورة الأنعام في هذا الموضع العظيم، إيمان يحقق الأمان للمجتمع بأسره، وذكرنا ونذكر أن الأمن ليس على شكل واحد، نحن اليوم في مجتمعاتنا نتكلم عن الأمن الغذائي، نتكلم عن الأمن الفكري، نتكلم عن أشكال من الأمن، الأمن الغذائي على سبيل المثال لا يتحقق بدون وجود من يراعون الأمانات، من يرون أن مقدرات الكون وأن ما في هذا الكون من ثروات إنما هي محظ أمانات، أمانات في الحفاظ عليها، أمانات في الحصول عليها وكسبها، أمانات في كيفية توزيعها عدالة التوزيع، أمانات في توظيفها وإيصالها لمستحقيها، أمانات سلسلة من الأمانات، ولو تحققت هذه الأمانات، وقام كل فرد بدوره في تحقيقها لتحقق فعلاً الأمن الغذائي، الأمن الغذائي ليس كما يدعي البعض نتيجة لقلة الموارد أو المصادر والثروات الطبيعية، حقيقة إشكالية الأمن الغذائي إشكالية تعود في جذورها الأساسية، إلى قلة أو ندرة الأمانة في الكسب في التوزيع في أشياء متعددة متنوعة في الفساد ما يطلق عليه اليوم معدلات الفساد المرتفعة المخيفة في المجتمعات اليوم، هذه لا تتحقق أبداً بدون وجود هذه الأمانة، بدون الانتهاء من إشكالية الفساد والقضاء عليه، ومحاصرة المفسدين، ولا يكون ذلك إلا من خلال الأمانة.
فيصبح الإيمان عاملاً مولداً للإمانة، وبالتالي مولد للأمن، الأمن الفكري على سبيل المثال كيف يتحقق الأمن الفكري؟ الأمن الفكري بمعنى: أن يكون الناس في مأمن من الأفكار المنحرفة، من الأفكار الضالة، من التيارات الفاسدة، من الأفكار التي يمكن أن تولد العنف على سبيل المثال أو التطرف أو الإرهاب، أو ما شابه، ما يجري الحديث عنه في مختلف وسائل الإعلام، وفي حياة بشكل عام، ولكن هذا الأمن كيف يتحقق؟ إن لم يكن لديك مصادر تعزز وتكرس شأن قضية الأمن في حياة الإنسان في حياة البشر، وأين هذا المصدر سوى ذلك المنهج العظيم في كتاب الله سبحانه، الكتاب الذي لا يحابي أحد من البشر على حساب أحد آخر، الكتاب الذي ينظر على الناس على أنهم سواء في خلقتهم الإنسان سواء أمام الله سبحانه، المنهج الوحيد الذي يخاطب البشرية على أنهم بشر، لا وفق أعراضهم ولا أجناسهم ولا لحسابات أخرى، وهنا يتحقق الأمن.
إذاً القرآن في هذه الآية العظيمة في سورة الأنعام يؤكد لنا على أهمية غائبة عن كثير من المجتمعات بقضية الإيمان، كل المجتمعات اليوم بدون استثناء تبحث عن الأمن، الغرب منها والشرق، الذي يؤمن والذي لا يؤمن، ولنا أن نتساءل كأفراد كمنظرين كصناع قرار كتربويين لماذا غاب الأمن على حياتنا، لماذا على الرغم من اتساع وتعدد وتنوع وكثرة وسائل المراقبة على سبيل المثال وما شابه، لماذا لا يزال الإنسان العاصر يشكل من هذه القضية في الأمن؟ لماذا لم يعد الناس يشعرون بالأمن والأمان، لماذا عادوا يركبون عشرات الكامرات للمراقبة؟ لماذا؟ هل لاتساع العالم، هل لكثرة الناس؟ ربما تكون عوامل كثيرة متعددة لا ينبغي أن أحصرها في عامل واحد، ولكن في سورة الأنعام القرآن يعالج هذه المشاكل: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ﴾[الأنعام:82] الظلم بكل أشكاله، التوحيد الذي يدفع بالإنسان إلى العمل الصالح، التوحيد الذي يدفع بالإنسان إلى الحفاظ على الآخرين، التوحيد الذي يمنع الفرد من الاعتداء على حقوق الآخرين، ليس كأي توحيد، الإيمان الذي تبنيه هذه السورة العظيمة وتدعو الناس إليه عبر عشرات الوسائل المختلفة التي تعرضها الآيات توافق الفطرة تتكلم عن الوجدان، تخاطب العقل تخاطب وسائل متنوعة، لماذا؟ لأن قضية الإيمان قضية محورية في حياة الفرد والمجتمع والعالم، المجتمع الإنسان، الأسرة الإنسانية، ولذلك جاء الحديث عنها قضية الأمن.
وإبراهيم عليه السلام كأنموذج كل الأمم التي تؤمن بالشرائع السماوية تؤمن بإبراهيم، إبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء، إبراهيم عليه السلام أنموذج لفرد عايش معنى الأمن، أمن من الصراع الداخلي الذي كان موجوداً في وسط ذلك الصراع هو كان موجود في وسط ذلك الصراع بين قومه، ولكنه كان يعيش في أمن، ثم الأمن الذي حتم وجود مصادر الخوف والقلق، ما سلم منه، الأمن الذي تحقق به وهو في النار، ألقى به قومه في النار، ولكنهم حتى وإن ألقوا به في النار لم يتمكنوا من سلبه من الشعور بالأمن، لماذا؟ لأن الإيمان كان متكرساً في قلبه، يقين لا يخاف ما أشركوا بالله سبحانه وتعالى، لا يخاف شيء أدرك آمن تيقن، وصل إلى هذه المرحلة من الأمن، ثم الأمن الذي شعر به كذلك حين هاجر من وطنه ومن بلده، والأمن الذي شعر به حين ترك زوجته هاجر، وابنه إسماعيل في وسط الصحراء، الأمن هنا ليس بمعنى: أن الإيمان يدفع بالإنسان إلى التواكل وعدم الأخذ بالأسباب، ولكن تلك القوة الداخلية التي يحدثها الإيمان نتيجة لذلك الشعور بالسلام الذي يستشعر به المؤمن، المؤمن يشعر بسلام داخل، سلام نتج نتيجة طبيعية جداً لعلاقته الوثيقة بالله سبحانه وتعالى التي لا تغير الأحوال ولا تبدلها الابتلاءات والامتحانات، ثم تأتي الآيات بالحديث عن كل الأنبياء، الأنبياء الذين ساروا على نفس سيرة إبراهيم عليه السلام، تدبروا في الآية قال: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيم﴾[الأنعام:83].
رفعه بالإيمان الرفعة الحقيقة هي بالإيمان، وليست كما يتوهمها بعض الناس، بعض الناس يعتقد أن الرفعة بالمال أو الجاه أو المنصب أو ما شابه ذلك، كل هذه الأعراض المختلفة كلها أمانات، تكاليف، لتصب في قضية الامتحان، ولكن الرفعة الحقيقية التي ينعم بها الإنسان رفعة الإيمان، الإيمان هو الذي يرفعك وعدم الإيمان أو الكفر والجحود والعياذ بالله هو الذي ينزل بالإنسان إلى درجة الانحطاط الحقيقي الذي لا يليق بإنسانيته.
قال: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ﴾[الأنعام:84] تدبروا معي! لم يذكر من النعم هنا ابتدأ بأول نعمة نعمة الهداية قبل كل النعم، لأن الهداية هي أعظم نعمة ينعم بها الإنسان، ولذلك كان المطلب الأسمى الذي يطلبه المؤمن صباح مساء في كل ركعة: ﴿اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيم﴾[الفاتحة:6] في سورة الفاتحة، نحن لا ندعو بشيء سوى: ﴿اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيم﴾[الفاتحة:6] * ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّين﴾[الفاتحة:7].
لماذا؟ لأن الهداية هي مطلب المؤمن الحقيقي، إذا هداه الله أتاه كل شيء، كل شيء يأتيه، والهداية هنا الهداية الخاصة التي اختص الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين بها.
وتدبروا معي! قال أولاً: ﴿ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِين﴾[الأنعام:84].
تدبروا! قلنا: إن الهداية منحة من الله سبحانه وتعالى عطاء بدليل قال: ﴿ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِين﴾[الأنعام:84] جازاهم على إحسانهم بالهداية، نعمة من نعم الله سبحانه وتعالى أعظم مطلب لأنه إن لم يهده الله سبحانه وتعالى إليه فماذا يغني عنه كل ما حصله من مكاسب دنيوية ماذا ينفع بدون هداية: ﴿ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِين﴾[الأنعام:84].
ولذلك لكي نتحصل ونتعرض لهداية الله سبحانه وتعالى هذه الهداية التي يكلمنا عنها هداية الله عز وجل لأنبيائه نحتاج أن نتخلق بالخلق الحسن بقدر ما نحسن إلى أنفسنا، والإحسان في حقيقته: هو إحسانك لنفسك، فأنت حين تحسن في عبادتك على سبيل المثال في صلاتك: إنما تحسن لنفسك، يحسن في عطائه، يحسن في صدقته، يحسن في عمله، يحسن في علاقاته الأسرية، يحسن في صلة الرحم، يحسن في علاقاته مع الجيران، في كل أشكال الإحسان المختلفة، نتعرض ونطلب الهداية من الله عز وجل بالإحسان أن نكون من المحسنين، الله سبحانه وتعالى يحب المحسنين، ولا يتحصل الإحسان ولا مرتبة الإحسان دون مراقبة الله عز وجل، وتصدر الإحسان أعمال الأنبياء: ﴿ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِين﴾[الأنعام:84] كلهم أحسنوا كل هؤلاء في حياتهم نماذج في الإحسان، يعقوب على سبيل المثال عليه السلام أحسن في صبره، أحسن في عفوه، أحسن في تعامله مع أبنائه، أحسن كان من المحسن.
نوح عليه السلام نفس الشيء، داود عليه السلام وسليمان أحسنا في أي شيء؟ أحسن في الحكم، أحسنا في الاستخلاف، أحسنا في كل شيء، أيوب، ويوسف عليه السلام ذكر الله عز وجل عنه في السور إنه كان من المحسنين رجل من المحسنين أحسن في صبره أحسن في الامتحان الذي تعرض له في أكثر من موضع أحسن في عطائه أحسن في عمله، أحسن في إداراته أحسن في نصحه الإحسان، الإحسان عبادة الأنبياء، فإذا أردت أن يهديك الله سبحانه وتعالى هداية خاصة تتعرض لها بإحسانك إحسانك في كل شيء، إحسانك في العطاء، فالإحسان فضيلة لابد للإنسان لكي يحصل عليها وينعم بها ويترقى إليها أن يتخلص الأناني، هي من نفس الكلمة إحسان: ﴿وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾[القصص:77].
فنحتاج إلى إحياء فضيلة الإحسان في حياتنا، ألا يكون جانب من جوانب الإحسان على سبيل المثال ألا يكون تعاملنا مع الآخرين بالمثل، أحسن أُحسن إليه، لم يحسن إليّ لا أُحسن إليه، إذاً فأين الإحسان، إن أنت إذا أحسنت إلى الآخرين بناءً على إحسانهم إليك أنت لست متفضل بهم، ولكن أن تقابل الإساءة بالإحسان هنا يبدأ الترقي.
قال: ﴿وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِين﴾[الأنعام:85].
الإحسان يولد الصلاح، ويولد الإصلاح الذي أمر الله سبحانه وتعالى به وأقام به الدنيا، وأنزل الكتب من أجله، نهى عن الفساد عن ما يضاده ويناقضه، ويقابل الفساد الإصلاح: (ومن آبائهم وذرياتهم).
ثم جاء الكلام كذلك عن التفضيل في الآية التي قبل: ﴿ وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِين﴾[الأنعام:86] كيف يتفاضل الناس فيما بينهم؟ تدبروا في الموازين التي يضعها القرآن لنا، عند الناس الناس يتفاضلون بناءً على المراتب التي اخترعها بنو البشر، مال، جاه، منصب، كما ذكرنا، ولكن التفاضل عند رب العالمين سبحانه وتعالى قال: ﴿وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِين﴾[الأنعام:86] فضلهم بأي شيء؟ بالإحسان بالصلاح بالهداية بالنبوة، فإذا كانت النبوة هي مرتبة اصطفاء يصطفي سبحانه وتعالى من يشاء من عباده، ولكن الإحسان والصلاح الذي يمكن أن نتفاضل به نحن كبشر، هذا أمر في مقدورنا، هذا هو ما اختبرنا فيه، وهذا هو ما أمرنا به: أن نحسن، إذاً وسيلة التفاضل ومراتب التفاضل فيما بيننا كبشر: إنما في إحساننا في زيادة وفي كثرة إحساننا وصلاحنا وعطائنا، هذه المعايير التي يبنيها القرآن العظيم، ولذلك جاء الحديث هنا مرة أخرى على الهداية قال: ﴿ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم﴾[الأنعام:87] * ﴿ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ ﴾[الأنعام:88].
الكلام عن الهداية، ثم الآيات التي بعد ذلك: ﴿أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾[الأنعام:90].
تدبروا معي! إذاً هو الهدى الإيمان حقق الهدى، والمطلوب في حياتي أن يكون لي هدى، لأن بدون هداية، وتأملوا في الربط، نحن قلنا في بداية سورة الأنعام، وفي آيات عديدة في السور تكلمت عن الظلمات والنور، الظلمات نتيجة للظلام، شيء طبيعي للظلام، النور: نتيجة للهداية، فربي سبحانه وتعالى حين يعطي المؤمن الهداية إنما هو في واقع الأمر يهديه ويوصله ويرشده إلى النور، والنور يحقق له الهداية في نفس الوقت: ﴿ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِين﴾[الأنعام:90].
قضية في غاية الأهمية، الرسالات والقيم والمبادئ والأخلاق العظيمة هذه الدعوى دعوة الناس إليها، ونشأها والحفاظ عليها، هذا لا يمكن أن يسأل أو يطلب عليه أجر، لأن عملية استعمال الإنسان في نشر هذه القيم والمبادئ العظيمة في حد ذاته تشريف، هذه منزلة شريفة، منزلة عظيمة أن يجعلك الله سبحانه وتعالى ويقيمك في مجال نشر هذه الأخلاق والفضائل هذه منزلة عظيمة لا يداني ولا يساويها أي أجر، ولا أي نفع مادي من أجور الدنيا، فكيف يسألكم عليها من أجر، أجر على من؟ ﴿إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ﴾ وحين يقع الإنسان أجره على الله فحدث عن ذلك الأجر ولا حرج، وقع أجره على الله.
تدبروا معي هذه المعاني العظيمة، إذاً المسألة ما هي؟ ﴿ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِين﴾[الأنعام:90]، هذه عظمة القرآن والرسالة، ولذلك جاءت الآيات التي بعد ذلك من جديد تحاور، ولكن تحاور في أي شيء الآن؟ تحاور في قضية الكتاب: ﴿وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾[الأنعام:91] كيف؟ ﴿إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ﴾ كيف ربي سبحانه وتعالى وهو العادل الرحمن الرحيم يخلق البشر، ولا ينزل وينزل عليهم منهجاً يحكم حياتهم، ويبين لهم ويوضح لهم ويشرع لهم كيف؟ هذا لا يمكن لا يستقيم الرب سبحانه وتعالى الذي أعطى كل شيء خلقه وسائل التعليم، كيف يمكن أن يترك الإنسان بدون هذه الوسائل بدون منهج يتخبط هكذا في الحياة، ﴿قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ﴾ وتدبروا في وصف القرآن للكتب السابقة، القرآن رسالة عالمية جاءت تستوعب هذه الرسالات التي كانت قبل: ﴿نوراً وهدى للناس﴾ ولكنه في ذات الوقت عاب على أولئك القوم الذين يبدون ويخفون شيئاً، لأن الكتاب حين ينزل على القوم وعلى البشرية لابد أن يكون اتباع كامل لهم، وليس أخذ جزء منه وترك جزء آخر، وهذا الكلام في سياق الحديث عن أي أمة تؤمن بهذا الكتاب العظيم أمة القرآن، آمنت بالكتاب إذاً: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾[البقرة:85] لا يصح تؤمن به تأخذه كله، (كل) لا يتجزأ (كل) في الاقتصاد في الأسرة، في الحياة، في كل شيء، تدبروا في الآية، هنا جاء الحديث عن القرآن: ﴿وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ﴾ تدبروا في وصف القرآن: ﴿مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ وصف القرآن ما هو هذا القرآن؟ ما هو هذا الكتاب؟ قال: ﴿مبارك﴾ كتاب كثير البركة، والبركة التي يحدثنا عنها القرآن بركة حسية وبركة معنوية، كلمة (بركة) مأخوذة من معاني الزيادة والنماء، زيادة والنماء حسياً أو معنوياً، ما من إنسان وما من عبدٍ يقترب من هذا الكتاب بنية فعلاً أن يهتدي به إلا ووجد البركة في حياته بركة في الرزق، بركة في العلم، بركة في الوقت، بركة في النفس في الصحة، بركة في العيال، بركة في كل شيء، كتاب ربي عز وجل وصفه بأنه مبارك، فكلما اقتربت من كتاب الله وجدت البركة في حياتك، ولكن للأسف أكثر الناس لا يعلمون، نحن نبحث طبيعة الإنسان يبحث عن النماء والزيادة، في الأشياء المحببة إلى نفسه بطبيعة الحال، هذه البركة موجودة في هذا الكتاب، ولكن فقط بمعنى أن يتلى ولا يطبق، طبق في حياتك، سر على المنهج في حياتك وستجد بركة القرآن.
المال الحلال مال مبارك أمر الله سبحانه وتعالى في كتابه بكسبه، وتزكيته، كل هذه الأشياء تولد البركة، ونحن في زماننا كثيراً من قلة البركة، قلة البركة في الرزق، قلة البركة في الأوقات، قلة البركة في أشياء كثيرة، أين نجد هذه البركة؟ أين نستطيع أن نولد البركة في حياتنا من جديد، أجدادنا في السابق آباؤنا في الماضي كان القليل من المال يكفيهم، لماذا أصبح في حاضرنا الكثير من المال لا يكفي؟
الأسباب متعددة ليس فقط قضية التضخم والكلام الذي نقول: جانب رئيس: هي قضية محق البركة قضية خطيرة جداً، ومحق البركة لها أسباب عديدة منها الكسب المشبوه، الكسب المحرم أشكال متنوعة ومتعددة، ربما نقف عليها في آيات أخر، ولكن ما نريد أن نقول هنا: أن القرآن العظيم كتاب يولد البركة في حياتنا فاحرص عليه، اجعل لك حظاً من تلك البركة اقترب من القرآن، ائتي إلى القرآن بقلب سليم، قلب حريص على الهداية، وتحقق معاني الهداية، قال: ﴿وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ ولكن له دور عظيم: ﴿وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا﴾[الأنعام:92] فيه إنذار: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُون﴾.
تدبروا في الآيات! الإيمان بالقرآن لابد أن ينعكس على العبادة والسلوك، ولابد أن يولد في الإنسان كذلك إيماناً بالبعث وبالآخرة، ولذلك جاءت الآية: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا﴾[الأنعام:93] هنا تأتي بشاعة هذه الجريمة الافتراء والكذب على الله سبحانه وتعالى بأي شيء على هذا الكتاب، الافتراء يأخذ أشكال متعددة منها ما ذكره القرآن قال: ﴿أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ﴾ وإدخال أشياء مختلفة عن الكتاب تقوُّل على الكتاب ا التأويل الفاسد على سبيل المثال شكل من أشكال الافتراء على الله عز وجل، شكل من أشكال الافتراء على الله كذباً، التأويل الفاسد، الإتيان إلى القرآن للاستشهاد به على ما تهواه النفوس، ائتي إلى القرآن وأنا لدي أشياء أجندة معينة، وأريد أن أستشهد من القرآن عليها، أعزز هذه الأجندة بطريقة أو بأخرى، افتراء على الله بالكذب، كل هذه الأشكال والأصناف تدبروا في هذه الآية قال: ﴿تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُون﴾ الجزاء يوم القيامة عذاب الهون لماذا؟ بسبب هذا الافتراء، لأن هذا القرآن أريد له أن يصل إلى قلوب الناس، أن تصل رسالته إلى الناس، للأسف بعض الأشخاص من خلال تأويلاتهم الفاسدة، وطرق تعاملهم المريضة مع كتاب الله عز وجل حالوا بين الناس وبين القرآن، حالوا بين الناس وبين وصول رسالة القرآن، قضية خطيرة جداً، ولذلك قال: ﴿تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ﴾ يتأول يفسد على الناس دينهم من خلال تلك التأويلات الفاسدة، والتبرير لأخطائه ونزواته ومشاريعه، وأهواء نفسه ومصالحه، اقتطاع الآيات من سياقاتها من مواضعها، طرق متنوعة تعددت الأشكال والنهج واحد، نهج الافتراء على الله سبحانه وتعالى، وهنا ربي عز وجل يهز المشاعر الإنسانية بالحديث عن الآخرة: ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ تدبروا في الآية وهي تحدثنا عن شيء حاصل يوم القيامة: ﴿ جِئْتُمُونَا فُرَادَى﴾ قضية مهمة جداً الحديث عنها، لماذا؟ القرآن في سورة الأنعام في هذا الموضع بالذات يعزز مبدأ المسؤولية الفردية، أنتم لن تأتوا كجماعات وطوائف وفرق حتى وإن أنتم في الدنيا قسمتم أنفسكم بناءً على تيارات أو جماعات أو طوائف، هذا ما أنتم توصلتم إليه، ولكن الحقيقة والواقع أنكم تأتون فرادى كما خلقناكم أول مرة، كل إنسان مسؤول عن نفسه، مسؤول عن اختياره، مسؤول عن عمله، مسؤول عن عقيدته، مسؤول عن إيمانه، ولذلك القرآن يعيب كثيراً على الكفار ما صاروا عليه بناءً على اعتقادهم بعقيدة الآباء والأجداد: ﴿قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُون﴾[الشعراء:74] من قال لك أن تفعل ما فعله غيرك من أب أو من جد أو من قريب أو من غير ذلك؟ من قال: أنت المطلوب منك أن تسير على هذا النهج العظيم.
تدبروا في الآية وقال هنا: ﴿ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ﴾[الأنعام:94] إنسان في انتماءاته المختلفة في الدنيا يريد أحد يقترب في الدنيا يشفع له يقربه من هنا يتوسط له، ولكن يوم القيامة عليه دائماً أن يتذكر أنه لن يجد هؤلاء من حوله: ﴿تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُون﴾[الأنعام:94].
تقطع بينكم تلك الأواصر المبنية على الباطل تقطعت يوم القيامة، تقطعت بهم الأسباب، لماذا؟ ما كان لله وفي الله دام، وما كان لغيره انقطع وانفصل في الدنيا وفي الآخرة، وتوجيه رائع في بناء العلاقات داخل المجتمع علاقات الولاء والشفاعات وما شابه، لابد أن يكون لها مقياس ومعيار واضح في حياتنا، ما هو المعيار؟ الإيمان، العلاقات تبنى على هذا الجانب الرائع، ولا تبنى على قضية المصالحة الفردية أو المصالحة الخاصة التي سرعان ما تتقلب، وهو ملاحظ في زماننا تماماً، وتدبروا كيف تنتقل الآيات هذا الانتقال الرائع لتبين أن العلاقة الحقيقة والإيمان لابد أن يتوجه للخالق وحده: ﴿إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى﴾ وتدبروا في الوصف: ﴿يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُون﴾[الأنعام:95].
أعطى مثل واضح حسي: ﴿فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى﴾ الحب والنوى شيء حي وشيء ميت، فالذي أراك هذه القدرة في الحب وفي النوى، هو سبحانه الذي يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي، لأن كفار قريش في أزمنة متعددة يجادلون في قضية البعث وقدرة الله سبحانه وتعالى على البعث والإحياء بعد الموت، في حين أنها صورة واقعة حاصلة أمام أعينكم في قضية الحب والنوى، فهو سبحانه وتعالى فالق الحب والنوى، فكيف تجادلون بعد ذلك في قدرته على الإحياء والإماتة.
وتدبروا في نص الكلمة: ﴿فالق الحب والنوى﴾ والتي بعدها في الآية قال: ﴿فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيم﴾[الأنعام:96].
تدبروا في تلك الصور المتتابعة صور كونية حسية مرئية مشاهدة ليعزز هذا المعنى العقلي.
﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾[الأنعام:97]، فالذي جعل النجوم علامات وهدايات يهتدي بها المسافر في ظلمات البر والبحر ألا يجعل لكم كتاباً تهتدون به في ظلمات الحياة، وفي طريق الدنيا التي تسيرون فيها: ﴿وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ وتدبروا في نهايات الكلمات، الآية ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا﴾ قال في ختامها: ﴿قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُون﴾[الأنعام:97].
والآية التي بعدها: ﴿وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ختمها بقوله: ﴿قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُون﴾[الأنعام:98].
والآية التي بعدها التي قال فيها سبحانه: ﴿وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ أنهاها بقوله: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُون﴾[الأنعام:99] علم، فقه، إيمان، الإيمان لا يتولد هكذا فجأة، أوصلك إلى الطرق والخطوات:
أولاً: علم، معرفة، معرفة متولدة من استعمالك لوسائل الإدراك التي زودك بها الخالق سبحانه، فأنت تنظر وترى في السماء نجوم، وتدرك أن لها غائب، وأن تستعمل قضية النجوم حين تسير فتعرف الاتجاه من هنا أو من هنا، فكيف تقبل أنك تهتدي وتحتاج إلى النجوم لكي تهتدي بها يوصلك لقضية الإيمان، يستدل من تلك الدلائل المبثوثة في الكون الدالة على قدرته عز وجل على القضية الرئيسية محور السورة الإيمان.
بعد العلم يأتي الفقه الذي هو معرفة دقيقة تحتاج إلى خطوات أعمق: ﴿وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ كلام عن السماء، كلام عن الماء، كلام عن الثمار: ﴿انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ﴾ انظروا تدبروا في الأمر بالنظر، أعظم وسيلة من وسائل تعزيز وبناء الإيمان والاعتقاد الصحيح إدامة النظر في الكون: ﴿انظُرُواْ﴾ أمر، ولذلك قلنا في بدايات اللقاء أن قضية التلقين في الإيمان لا تولد ذلك الإيمان الذي تريد بناءه سورة الأنعام الإيمان القوي، الإيمان الفاعل الإيمان الذي يحرك الإنسان نحو الإحسان والصلاح، والإصلاح والفاعلية في حياته في نفسه في مجتمعه، في العالم، هذا الإيمان.
وهنا تبدو قضية الشرك كأبشع ما يكون، بعد كل هذه الآيات العظيمة المبثوثة في الكون: ﴿وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ﴾ كيف؟ لا يستقيم لا يمكن شركاء من الجن: ﴿وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُون﴾[الأنعام:100] قدم لكل هذه الآيات العظيمة المبثوثة في الكون مرئية مسموعة محسوسة مشاهدة ليل نهار، لا يقدر عليها إلا الله سبحانه وتعالى أبعد ذلك يمكن أن يشرك به؟ لا يمكن، ولذلك قال: ﴿سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُون﴾[الأنعام:100] ينقي التوحيد، ويناقش في قضية ادعاء اتخاذ الولد، والقضية هنا تلفت النظر لماذا يسوق القرآن أقاويل ومزاعم الكفار والملحدين؟ تدبروا معي في الآية: ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم﴾[الأنعام:101].
لماذا يسوق أقاويل هؤلاء؟ لماذا يسوق أقاويلهم ومزاعمهم الكاذبة وافتراءاتهم؟ القرآن كتاب يعلمنا أن نتحاور مع من نختلف، وأن هنا خاص فيما يتعلق بالإيمان والاعتقاد ناقش حاور، ائتي بكل تلك المزاعم والأباطيل، وقم بتفنيدها على طاولة الحوار: ﴿أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ﴾ قضية منطقية؟ ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ﴾ هو الذي أبدع وخلق على غير مثال، وعلى غير سابقة، فكيف يكون له ولد، ولماذا يكون له ولد، لماذا يريد الناس لهم الولد؟ امتداد لهم امتداد لذكرهم لشعورهم شعور الإنسان بالنقص، وأنه غير دائم، شعور بشري محض، ولكن الخالق جل وعلا ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ﴾[الأنعام:101]. ﴿ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ﴾[الأنعام:102] هنا تأتي كلمة (الشهادة) ﴿لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيل﴾[الأنعام:102] هنا تأتي كلمات الإيمان لتقع في النفس بعد أن زال عنها غبش الشركيات والمزاعم، لأن الإيمان ونور الإيمان لا يدخل على قلب المؤمن النور بطبيعته حين يدخل يبدد الظلمات، كذلك الإيمان حين يدخل ويستقر في القلب تخرج الظلمات الأخرى ظلمات الشركيات وشوائب الشرك: ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير﴾[الأنعام:103].
﴿قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ﴾[الأنعام:104] تدبر في استعمال الكلمات، قلنا: سورة الأنعام ابتدأت بالحديث عن الظلمات والنور، لأن الإيمان نور، والجهل كفر والشرك والجحود والإلحاد ظلمات، وهذا القرآن هو البصائر يفتح على الإنسان، هناك فرق بين بصر وبصيرة بصائر جمع: بصيرة، ما يراه العقل والقلب والبصر وسيلة للنظر إلى الأشياء في الإبصار بالعين، ولكن البصائر تدرك بالقلوب، هذه هي التي يحدثنا عنها القرآن: ﴿فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظ﴾[الأنعام:104].
قرار الإبصار وقرار البقاء في العمى، قرار شخصي فردي يتخذه الإنسان لنفسه: ﴿وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظ﴾[الأنعام:104] البصائر موجودة هذا الكتاب قد أنزل إلينا، وهو في حد وصفه هو في ذاته بصائر، هو في ذاته نور، آياته تنير الطريق، آياته تبدد الظلمات، ولكن القرار بيدك أنت، تريد أن تبصر لنفسك، اختار العمى فعليها فقط، ولذلك جاءت الآيات بعد ذلك: ﴿اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِين﴾[الأنعام:106].
اتباع لا يكفي أنك تحمل النور في يدك أنت الآن إذا أردت تمشي في طريق مظلم وفي يدك مصباح لا يكفي فقط أن تنظر إليه أن تحتاج أن تحمل المصباح وتسير في الطريق لينير لك الطريق ولله المثل الأعلى، القرآن لا يكفي أن تقرأه فقط وتنظر إليه، فيحقق لك هذا النور وانتهينا، لا، لابد أن يكون هناك اتباع: ﴿اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ﴾[الأنعام:106] احمله باتباعك له، احمله بتطبيقك لمنهجه وأوامره وتشريعاته.
وتدبروا معي في الآيات بعد ذلك قال: ﴿وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيل﴾[الأنعام:107].
وهنا كثير من الناس يقع في لغط في سوء فهم، مشيئة الله عز وجل أن أعطى للإنسان حرية الاختيار قرار الإيمان قرار اختياري، إيمانك بالله قرار اختياري، هو أعطاك هذه الحرية للاختيار: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾، ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾[هود:118] ولكن أعطاهم حرية الاختيار ليختاروا ويكونوا بالفعل بعد ذلك يكونون مسؤولين كذلك عن ذلك الاختيار، تختار ولكن أنت مسؤول عن ما تختار، وهذا أمر مفهوم جداً ومعقول جداً في حياتنا نحن مساءلين، ومسؤولون كذلك عن اختياراتنا نختار ولكن الإنسان مسؤول عن اختياره.
وتدبروا معي في الآيات التي قلنا قبل فترة قلنا قليل: أن القرآن كتاب يكرس احترام قيمة الدين كدين قال: ﴿وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ﴾[الأنعام:108] لابد أن يكون هناك حيز ومساحة لاحترام المعتقد الديني: ﴿وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾[الأنعام:108] أنت حين تسب أديان الآخرين سيسبوا دينك كذلك، وهذا ما لا يريده الله سبحانه وتعالى، ما المطلوب إذاً؟ المطلوب أن تكون هناك مساحة محترمة تحترم في الأديان والمعتقدات بناءً على أي شيء؟ على احترام اختيار وحق الإنسان في اختيار معتقده، وهذا لا يمنع أبداً من أن يكون هناك محاججة ومناظرة وبيان للأدلة وكلام ونقاش كما كان في سورة الأنعام، هذا لا يمنع أبداً من توضيح الأشياء والأدلة أبداً، ولكن لابد أن يكون هناك مساحة للاحترام حتى لا يصبح هناك تطاول على الأديان كما هو حاصل في زماننا، لا يليق بعالم البشرية ولا بعالم الإنسانية، ولذلك قال بعدها: ﴿ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُون﴾[الأنعام:108] * ﴿وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللّهِ﴾[الأنعام:109] يريدون مرة أخرى قضية الآيات، ولكن في واقع الأمر وحقيقة الأمر: أن القضية واضحة كما هي: الآيات موجودة، تؤمن بها خذها كما هي وعليك بالإيمان، ولكن لا مزيد نم الآيات والمعجزات الحسية ليست كثرة وعدد الآيات هو الذي يقربنا إلى الله سبحانه وتعالى أو يجعلنا أكثر إيمان، وإنما القضية متعلقة بالقلب محل الإيمان، ولذا قال: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾[الأنعام:110] لماذا؟ لأن محل الإيمان هو ذلك القلب الذي على الإنسان أن يتوجه به تماماً، وتستمر السورة العظيمة في الحديث عن قضية الآيات، الآيات التي كان يطالب بها هؤلاء، والتي لن تزيد هؤلاء إيمان، ولن كذلك تزرع الإيمان في قلوبهم، والكلام واضح جداً رسالة قوية الإيمان يتجدد ويجدد في قلب الإنسان حين يفتح هذا الإنسان وسائل ومسامع الإدراك في قلبه التي أعطاه الله سبحانه وتعالى، ويقوم بعملية شحنها من جديد، وتقليبها واستعمالها لأجل أن تقوم بإيصاله لخالقه سبحانه، هكذا الإيمان في سورة الأنعام.