تفريغ الأخت الفاضلة نوال جزاها الله خيرًا لموقع إسلاميات حصريًا
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ونبدأ بحول الله وقوته بتدبر سورة الأنعام، هذه السورة المكية العظيمة السورة التي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم جملةً واحدة، مرة واحدة، آياتها تفوق على المائة وخمس وستين آية، ولكنها نزلت جملة واحدة. واللافت للنظر في ترتيب نزولها أنها نزلت بعد سورة الحجر، ولكن كما تعودنا في قواعد تدبر كتاب الله: أن نتعلم حين نقرأ عن نزول السورة نتعلم شيئاً من الأجواء التي نزلت فيها السورة، الأجواء التي كان يعايشها النبي صلى الله وعليه وآله وسلم في نزول السورة، وبعدها ننظر في موقع السورة وموضع السورة الآن كما هو ترتيب المصحف، ونرى أوجه التناسب والترابط فيما بينها، هذه المعاني من التناسب والترابط تكشف لنا شيئاً عن مقاصد السورة، تكشف لنا شيئاً عن الأهداف التي تريد هذه السورة العظيمة أن تبنيها في نفس المؤمن، سورة الأنعام نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مكة وكان يعايش المشركين من أهل مكة، كفار مكة، الذين كانوا يطالبونه مرة بعد مرة بأشكال من المعجزات والآيات لعل تلك الآيات والمعجزات الحسية خاصة تحرك شيئاً من دوافع ونوازع الإيمان في نفوسهم، ومع ذلك وكل هذا، وتميزت تلك المرحلة بظهور مكابرة المشركين في مكة يكابرون يجادلون في الله سبحانه وتعالى بغير حق، بدون منطق، بدون فكر، بدون حجة، بدون برهان، هذا شيء من الأجواء التي نزلت فيها سورة الأنعام.
ولو نظرنا اليوم في ترتيب هذه السورة في كتاب الله عز وجل لوجدنا أن سورة الأنعام في الترتيب جاءت بعد سورة المائدة، وسورة المائدة قلنا عنها: أنها من أواخر ما نزل على النبي عليه الصلاة والسلام، وسورة الأنعام تأتي بعدها. وتدبروا معي في نهاية سورة المائدة وبداية سورة الأنعام: سورة المائدة التي نزلت بعد فترة طويلة من الزمن، والآن في الترتيب هي قبل سورة الأنعام، وسورة المائدة قلنا إنها سورة المواثيق والعقود، سورة العهود، وأعظم ميثاق بين الإنسان هو ذاك الميثاق بينه وبين خالقه عز وجل، عقد الإيمان، عقد التوجه لله سبحانه وتعالى عقد الخضوع والاستسلام، وسورة الأنعام هي السورة التي تحدثنا عن كيفية تجديد ذلك الإيمان، تجديد العقد، وبناء العقد، السورة تتحدث عن الإيمان بالله، السورة تعرض وتدافع بقوة باستعمال وسائل عديدة متنوعة تارة تخاطب الوجدان، وتارة تخاطب العاطفة، وتارة تخاطب الفطرة، وتارة أخرى تخاطب العقل، لأي شيء؟ لأجل أن تستجيش نوازع الإيمان في نفس الإنسان.
في نفس الوقت وقد يقول قائل: هذا إذا كان الإنسان ليس لديه إيمان، ولكن ماذا لو أن الإنسان مؤمن مثل حال المسلمين اليوم؟ نحن نؤمن بالله سبحانه وتعالى نؤمن بوجوده إذاً فما هدف سورة الأنعام، وماذا تحقق هي سورة الأنعام حين أقرؤها، ماذا تحقق؟ سورة الأنعام تجدد فيك الإيمان، الإيمان وذكرنا هذا في مرة سابقة يخلق، ونحن تعودنا حتى في حياتنا اليومية على أن نجدد كثيرًا من الأشياء نجدد أحياناً حتى في المظهر أحياناً في الملبس، أحياناً في المشرب، أحياناً في البيت، أحياناً فيما نأكل، الإنسان يبحث أحياناً كثيرة عن التغيير، التغيير الإيجابي بطبيعة الحال، هذا التغيير يحدث لدى الإنسان نوعًا من أنواع التجدد يبعد عنه الملل، يبعد عنه السأم، يجدد، يحرك المياه حتى تعود المياه من جديد تجري بانسيابية – ولله المثل الأعلى – الإيمان في قلوبنا، والعلاقة بيننا وبين الله سبحانه وتعالى تحتاج إلى تجديد، التجديد في هذه السورة بكل الوسائل التي جاءت في السورة، بكل الآليات والمناهج العظيمة التي قدمتها سورة الأنعام، لتعلمنا جميعاً آباء، أمهات، مربين، معلمين، أساتذة يدرسون العقيدة والتوحيد ومباحث العقيدة، سورة الأنعام تعلمنا كيف ندرس الإيمان، كيف نعلم الإيمان، كيف نتعلم الإيمان أولاً في نفوسنا، وكيف نعلّم الإيمان لغيرنا، لأبنائنا، للصغار، للكبار، وهل الإيمان يُتعلم؟ أكيد. الإيمان ليس فقط مجرد إحساس أو شعور، ليس مجرد تصديق فقط لا، الإيمان تصديق وشعور إحساس، وعمل بالجوارح، وسلوك وأفعال، وتغيير وإصلاح، هذا الإيمان الذي تؤكده سورة الأنعام. سورة الأنعام توضح لنا كل معاني الإيمان كل مباحث الإيمان، معاني الإيمان الذي يريد الله سبحانه وتعالى أن يكون فينا.
سورة المائدة لاحظوا في أول آية فيها خاطبت المؤمنين فقالت: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ﴾[المائدة:1].
وسورة الأنعام تبني فينا كيف يكون الوفاء بالعقود، وأعظم عقد ذلك العقد بيننا وبين الله سبحانه وتعالى نقطة جديرة بالوقوف عندها، وتدبروا الآن في التناسق بين الآيات آخر آية في سورة المائدة يقول فيها الله عز وجل: ﴿لِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير﴾[المائدة:120].
وهي كما ذكرنا: تأخرت بسنوات عن نزول سورة الأنعام، الآن سورة الأنعام أول آية فيها تبدأ بالتحميد: ﴿الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ﴾[الأنعام:1].
تدبروا في الآية! آخر سورة المائدة: ﴿لِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ﴾[المائدة:120]، وأول الأنعام: ﴿الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ﴾[الأنعام:1].
إذاً ربي سبحانه وتعالى هو ليس فقط مالك متصرف في السماوات والأرض وما فيهن، ولكنه أوجد من العدم، خلق على غير مثال سبحانه! ﴿الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُون﴾[الأنعام:1].
منذ أول آية في السورة السورة تبين لي فظاعة الكفر، فظاعة ذنب الكفر: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ﴾[النساء:48] لماذا؟ لأن الشرك ظلمٌ عظيم، والآية منذ البداية قررت هذه القضية، قررت بشاعة الكفر: ﴿ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُون﴾[الأنعام:1] بشاعة الشرك والانحراف في عقيدة الإنسان وعلاقة الإنسان بربه. علاقة الإنسان بربه مبنية على التوحيد أساسها التوحيد، تريد أن تجدد إيمانك بالله سبحانه وتعالى اقرأ في هذه السورة العظيمة بتدبر، بتمعن، لتتجدد فيك معاني التوحيد، فإذا ما تجدد التوحيد تجدد كل شيء في حياتك، أصبح حتى العبادة لها طعم لها لذة خاصة، يستشعرها ذلك المؤمن الذي جدد الإيمان في القلب، ولذلك نحن مطالبون بالإكثار من “لا إله إلا الله محمد رسول الله” كلمة التوحيد الخالدة ليست مجرد كلمة.
وتدبروا معي في أول سورة الأنعام قال: ﴿الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُون﴾[الأنعام:1].
لماذا ذكر الظلمات هنا والنور؟ الظلمات كما نعلم وكذلك المنكر: حسي ومعنوي، هناك ظلمة حسية، الآن حين تطفأ الأضواء أو تطفأ الكهرباء وينقطع التيار الكهربائي يصبح الإنسان في ظلام حسي حقيقي، لا يبصر ولا يرى معه الأشياء من حوله ولا شيء، ولا يكاد يتبين الطريق الذي يمشي فيه. النور يتحقق حين يكون هناك إضاءة، وهذه قدرة العين التي وهبنا الله سبحانه وتعالى على إبصار الأشياء بهذه الطريقة تعمل.
وهناك الظلمات المعنوية، والظلمات هنا وذكر الظلمات في أول آية في سورة الأنعام ربي عز وجل يبين لنا فيها: أن الظلمات ظلمات الكفر والشرك بالله سبحانه وتعالى من أول الآيات السورة تتكلم عن التوحيد، والنور الذي تبنيه هذه السورة العظيمة في قلب المؤمن نور التوحيد نور الاستجابة لأمر سبحانه، نور الطاعة، وهل التوحيد له نور؟ أكيد، نور يكون في بصيرة الإنسان وفي قلبه، بل حتى في بصره، فتصبح الأشياء والآيات التي يمر عليها ستأتي سورة الأنعام مليئة بعشرات الآيات الحسية المعجزات التي نراها صباح مساء، ولكنها لا تحرك في قلب الكافر شيئا، ولذلك ستأتي الآيات: ﴿وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا﴾ لا يرى، هو فعلاً تقع عينه على الأشياء، تقع عينه على سماء وأرض، ماء وجبال، آيات تهز القلب والوجدان، وتحرك دواعي الفطرة للإيمان بالله سبحانه وتعالى، ولكنها مع ذلك لا تحدث أي أثر في نفس الكافر، لماذا؟ لأنه يعيش في ظلمات الكفر والشرك والنفاق والبُعد عن الله سبحانه، والجحود، هذه الظلمات تجعل الإنسان لا يرى شيئاً من حوله حتى وإن وقعت العين على الأشياء. أما نور التوحيد، فتصبح كل الأشياء لها معاني، كل الأحداث التي تجري من حول الإنسان لها معنى ولها مغزى يفكر فيها يتبصر يدرك يستنتج يحلل القرآن أعظم كتاب يحيي القدرات العقلية أعظم كتاب، وأعظم كتاب يحرك العقل البشري هو القرآن، وقد حركه، العقل البشري كان في سبات عند نزول القرآن، لم يكن يتحرك، ولذلك القرآن عاب على أولئك القوم الذين يسيرون وراء منهج الآباء والأجداد: ﴿أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُون﴾[البقرة:170]. فأعظم كتاب حرك العقل وأيقظ العقلي من سباته ونومه العميق: هو القرآن، وحرك معه كل أدوات الحس والإدراك، سمع وبصر، ولذلك سورة الأنعام سنأتي عليها، تحرك كل وسائل الإدراك: السمع والبصر والتعقل والتفكر والتدبر والتبصر لأي شيء؟ لأجل أن تستعمل كل تلك القدرات العقلية، وكل ذلك التجوال، في أجواء الكون والطبيعة، والإنسان في ذاته لأجل أن تصل به إلى الغاية العظيمة هي غاية الإيمان بالله سبحانه وتعالى وذاك هو النور نور التوحيد. ولماذا ربي سبحانه وتعالى جعل الظلمات وجعل النور؟ طبيعة الاختبار وطبيعة الابتلاء تقتضي أن تكون هناك أشياء يبتلى فيها الإنسان يبتلى فيها الفرد، والأعمى ليس كالبصير، والأصم ليس كالسميع، ولذلك عاب على الكفار فقال: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُون﴾[البقرة:171] وفي آية: ﴿فَهُمْ لاَ يَهْتَدُون﴾[النمل:24] لماذا؟ وسائل الإدراك طلب منا أن تحرك لأجل أن تقوم بعملية إيصالنا إلى الإيمان، فإذا هذه الوسائل لم تحرك في الإنسان دواعي الشوق للإيمان بالله سبحانه وتعالى لم تعد لها قيمة.
وتدبروا معي في التناسب بين أول آية في سورة الأنعام، وبين آخر آية في سورة الأنعام الآية (165) يقول الله عز وجل:﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيم﴾[الأنعام:165].
الآية الأولى: ﴿الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُون﴾[الأنعام:1].
والآية الأخيرة: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ﴾.
تدبروا معي في المناسبة: لماذا ربي سبحانه خلق السماوات والأرض، لماذا جعل الظلمات والنور؟ لماذا خلقنا، ما خلق السماوات والأرض إلا بالحق ما هو الحق؟ الحق أننا خلائف الأرض، الحق أنه سبحانه وتعالى أعطانا مهمة أعطانا شيء أوكل إلينا أمانة، خلائف الأرض، تدبروا معي في الآية آية عظيمة: ﴿وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ﴾ في الرزق في المال في الجاه في العلم في الشكل في أشياء مختلفة، درجات، تنوع، تميز، اختلاف، ولكن ليس لأجل أن يكون هناك صراع بيننا، بل لأجل أن يكون تكامل في الأدوار، وتعاون ﴿لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ﴾ ربي سبحانه وتعالى يختبر كل واحد فينا فيما آتاه، وليس فيما لم يؤته، فأنا لا أُسأل عن إمكانيات ليست بيدي، ما هو ليس بمقدوري أنا لا أُسأل عنه، ولكني أسأل عما هو في يدي، وما الذي هو في يدي؟ في يدي الكثير، وأعظم نعمة كما ستأتي علينا سورة الأنعام “وسائل الإدراك” هذه القدرات المهولة القدرات العقلية، ماذا نفعل بها؟ إلى أين توصلنا، وكيف يمكن أن تكون عوناً لنا في الوفاء بالعقد مع الله سبحانه وتعالى، وإخراجنا من ظلمات شتى، والحيرة والريبة، والتردد، وربما حتى الإلحاد والعياذ بالله كما هو واقع حتى في زماننا، اليوم العالم يعيش موجات من الإلحاد تنتشر وللأسف خاصة بين فئات الشباب لماذا؟ أكيد أسباب كثيرة، ولكن ربما يكون واحد من تلك الأسباب ونحن نحتاج في الحقيقة أن نعترف وأن نواجه أنفسنا القرآن كتاب يعلمني كيف أواجه نفسي، ليس من باب جلد الذات ولا تأنيب الضمير فقط، جلد الذات مرفوض! إذاً من باب الإصلاح، من باب الاستدراك، من باب أن أستدرك ما فاتني، من باب أن أتعلم من أخطائي أتعلم من الأشياء التي لم أحاول أن أستكملها في حياتي، قبل فوات الأوان، نحن نقول: أنه ربما يكون من أسباب كذلك موجات الإلحاد كذلك خاصة في بعض البلدان العربية والمسلمة، تلك الطريقة التي علمنا فيها أبناءنا الدين، نحن كآباء كأمهات معلمين في المدارس أساتذة، موجهين، تربويين، هناك طريقة استعملت واضح جداً أنها تختلف عن ما جاء في كتاب الله عز وجل عن ما جاء في سورة الأنعام، سورة الأنعام محور السورة الأساس تعليم وتجديد الإهمال، الإيمان إذا جدد تجددت معه الحياة الإنسانية، عادت الحياة الإنسانية إلى إشراقاتها، إشراقاتها في النفس نوراً، وفي المجتمع وفي الكون، أخلاقيات وحضارات وعمران، هذه المعاني العظيمة جاءت وسائل التعليم فيها في سورة الأنعام. للأسف الشديد اعتاد الكثير من المربيين من المعلمين ومن الأمهات الطفل حين يسأل وهو دليل على أن الفطرة بدأت تتحرك في نفسه، يسأل من خلقني؟ من أعطاني؟ من على كذا من جاء بكذا؟ فكثير من الأحيان نتهرب بعدم الإجابة أو لا تتكلم لا تسأل، يكفي أسئلة، قل فقط لا إله إلا الله محمد رسول الله، تلقين لقناهم الإيمان، لقناهم العقيدة، والإيمان الذي تبنيه سورة الأنعام إيمان لا يأتي عن طريق التلقين، إيمان يبنى، إيمان يتعلمه الإنسان، يتعلمه في محراب الكون الطبيعة التي أمامه المليئة بكل الدروس بكل المعجزات بكل الآيات، وسنرى سورة الأنعام مليئة بالأسئلة عشرات الأسئلة العقل البشري إن لم يسأل ويبحث ويستفسر كيف سيصل إلى الحقيقة؟! كيف يصل إلى ذلك الإيمان القوي، الذي تريد سورة الأنعام أن تبنيه وأن تجدده في نفس المؤمن، وفي نفوس المؤمنين جميعاً.
نبينا صلوات الله وسلامه عليه، ماذا كان يفعل في غار حراء؟ كانت تدور عينه هنا وهناك يسأل يتأمل، يبحث، هذا النوع من السؤال، وهذا النوع من التدرج في التفكير مهم جداً لبناء الإيمان والعقيدة، لابد أن يبنى بهذا الشكل الذي جاء في سورة الأنعام. تدبروا معي في الآيات، الآية التي تليها قال: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ﴾[الأنعام:2] تدبروا معي: من السماء إلى الأرض إلى أنفسنا، تدبروا كيف القرآن يصل بين الكون على سعته وبين ذلك المخلوق العجيب الإنسان، لماذا هذا الوصل؟ لا بد لذلك الوصل، نحن جزء من هذا الكون، الكون محكوم بقوانين بسنن وضعها الله سبحانه وتعالى الذي خلق ونحن كذلك: ﴿وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُون﴾[الذاريات:21].
﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُون﴾[الأنعام:2].
تدبروا معي في تلك الأسئلة الاستنكارية التي تحرك في الإنسان من الذي خلق، من الذي خلق من طين؟ أيمكن بعد ذلك أن يقع الإنسان في هذا الفعل ثم أنتم تمترون؟!.
وتدبروا في الآية التي تليها أول مقطع من سورة الأنعام الآيات لها وقع قوي حتى في السماع: ﴿وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُون﴾[الأنعام:3]. وتدبروا معي! بدأ بالسر، قال: ﴿ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ﴾ السر: الذي هو أخفى يخفى على الناس، ولكنه لا يخفى الله سبحانه. تدبروا معي! كيف يحرك هنا القرآن ويبعث الإيمان في النفوس، هذا الرب الذي خلق: ﴿وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُون﴾[الأنعام:3].
فمنذ الآيات الأُول في السورة تبدأ سورة الأنعام تحرك مجالات العاطفة لأن الإنسان لا يقع في ظلمة الكفر والجحود والبُعد عن الله عز وجل إلا حين تتحجر عواطفه، فالإنسان صاحب القلب الحي والعواطف الحية الجياشة لا يمكن إلا أن يذعن لله سبحانه الذي سجد له ما في السماوات وما في الأرض، فكيف لا يسجد له ذلك الإنسان الذي خلقه ربي عز وجل من طين؟!.
وتدبروا في الآية التي تليها انظروا في التناسق في كتاب الله قال: ﴿وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِين﴾[الأنعام:4]. إذاً الآيات تأتي، نعم كل شيء في حياتنا كل شيء في أنفسنا هو آية، اليد وهي تتحرك هي آية، العين السمع، كل شيء، والكون من حولنا في كل ذرة من ذراته آية، ولكن هؤلاء القوم الجاحدين ما كانت تنقصهم الآيات الحسية التي طالبوا بها النبي صلى الله عليه وسلم حتى يبدأ الإيمان يستيقظ في نفوسهم، لماذا؟ لأن هناك حائل بينهم وبين الإيمان، ما هو؟ الإعراض: ﴿إِلاَّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِين﴾ الآيات موجودة، كل الآيات موجودة، الإشكالية في نفس المتلقي نفس الإنسان كلنا نمر على الآيات المبثوثة في الكون، ولكن من البشر من يمر على الآية في خلق السماء في الغروب في الشروق في الصباح في المساء، فإذا به دموعه تنهمر عواطفه تتحرك لسانه يلهج بذكر الله عز وجل، جبهته تسجد للخالق الذي خلق. وإنسان آخر يمر على نفس المنظر تماماً، وربما أكثر من هذا المنظر، وكأنه لم ير شيئاً كل شيء عادي لماذا عادي؟ ما عادت تحرك ولا تتحرك فيه الوسائل التي يمكن أن توصله لله سبحانه وتعالى لما وجد في ذاته من الإعراض والصد، ولذلك الإنسان المؤمن بحاجة إلى التخلص من هذا الداء ألا يكون في قلبه إعراض عن الله سبحانه وتعالى. إنابة، مقابل ذلك الإنابة، والرجوع والإخبات حتى حين يصدر منه الخطأ أو الذنب، «كل ابن آدم خطأ» ولكن عليه أن يبادر بالتوبة، يبادر بالاستغفار يستعجل بها، ولا يقع في هذا الحكم.
ثم بعد ذلك جاءت الآيات كل آية هي في حد ذاتها أسلوب من أساليب إيقاظ بواعث الإيمان والتوحيد في قلب الإنسان، قال: ﴿أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ﴾ تدبروا معي الآن! السماوات والأرض، خلق الإنسان، ثم بعد ذلك في عمق التاريخ وقصص القرآن والقصص التاريخية ليست هكذا فقط ذكرت في كتاب الله عز وجل، ليس هناك شيء يذكر هكذا في كتاب الله عز وجل بدون مقصد أو غاية.
وتدبروا في اللفظة: ﴿أَلَمْ يَرَوْا﴾ يعني: يحتاج الإنسان أن يرى، والرؤية تختلف عن الإبصار، الرؤية فيها تعقل، فيها انفعال لحاسة البصر بما يراه الإنسان أمامه، فيستخلص شيئاً مما ينظر إليه، المسألة ليست مجرد أني أنا يقع نظري على شيء، ولكن ماذا حقق ذلك الفعل في نفسي؟ ما هي النتيجة المترتبة على ذلك؟ قال: ﴿أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِين﴾[الأنعام:6].
في عمق التاريخ انظر كم من قرن وكم من أمم وقعت فيها سنة الهلاك، وربي عز وجل أعطاها لتلك الأمم كما أعطاكم أنتم، كما يعطينا نحن، أنهار، ماء أشجار، شمس، ليل، نهار، أعطانا، ولكن ما الذي حدث؟ ﴿فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ﴾ الذنوب: البلاء والبلايا، والأوجاع، والأمراض، والكوارث الإنسانية والطبيعية وكل شيء يحصل بأي شيء؟ قانون ﴿فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ﴾ الذنوب ثقيلة، الذنوب هي التي تفسد علينا حياتنا، اليوم عدد من الناس عدد يشتكي من الهم ويشتكي من الحزن ويشتكي من الألم ويشتي من ضيق الصدر، وأحياناً بلا سبب محسوس ليس هناك سبب معين، الذنوب لها طعم مرير مذاق مرير، لها ألم، لها وخز في الصدر، لها يمكن أن ينجو الإنسان إلا بالتوبة منها والاستغفار، والرجوع إلى الخالق سبحانه الذي يغسل وينقي ويطهر القلب، وما من شيء يطهر القلب الذي أصيب بهذه الأدواء والأمراض من الذنوب مثل التوحيد، التوحيد لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله، ولكن ليست كأيّ لا إله إلا الله تلفظ باللسان، وعدّ بالمرات، هذا عمل جيد، ولكن العمل الذي له تأثير قوي وعظيم الذي ينقي ويغسل ويصفي القلوب هو ذاك الاستشعار والاستحضار لمعاني لا إله إلا الله، هل هناك في الكون إله غير الله؟ هل هناك إله في الكون غيره يخلق ويعطي ويمنع ويأخذ ويحيي ويميت، وقادر على كل شيء وغفور ورحيم؟ لا!
ثم قال: ﴿وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِين﴾[الأنعام:7] هم يريدون منك معجزات حسية، لماذا؟ المسألة ليست في الآيات الحسية، وإلا الآيات مبثوثة في كل مكان، المسألة في تلك القلوب المريضة، القلوب التي تحجرت، والمشاعر التي تصلبت، فما عادت تؤثر فيها مواعظ الآيات ولا القرآن: ﴿وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ﴾[الأنعام:8] أرادوا أن تنزل عليه الملائكة: ﴿وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُون﴾[الأنعام:8].
تدبروا معي! في تلك الحوارات: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُون﴾[الأنعام:9].
إذاً ما الحل؟ عليك أن تدرك يا محمد صلى الله عليه وسلم، وكل من يدرك معاني هذه الرسالة، ويريد أن يقوم بحمل أمانة إيصال الرسالة رسالة التوحيد: ﴿وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُون﴾[الأنعام:10] إشكالية خطيرة قضية الاستهزاء والسخرية بقيم الدين، بأشخاص الأنبياء، بالآيات، بالنذر، بالأديان، فماذا كانت النتيجة؟ ﴿فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُون﴾.
ولذلك نحن قلنا ونقول: من أخطر الأشياء يواجهها الإنسان المعاصر اليوم قضية الاستهزاء بالدين، قضية خطيرة جداً، والنتائج المترتبة عليها نتائج كارثية، الاستهزاء والسخرية بالدين، لأن الإنسان في قضية التصديق أو الإيمان هناك رسالة معروضة عليك: إما أن تؤمن بها، وإما لا تؤمن بها، ولكن أن تجعلها مادة للسخرية وللاستهزاء، فكأنك تقول: ما عاد القضية فيها نقاش أو جدال غير السخرية!! وهذا أبشع أنواع تعامل الإنسان مع الأفكار ومع الأقوال ومع ما يطرح أمامه! ما هو البديل؟ القرآن طرحه، المناقشة المحاججة أن تأخذ وتعطي بالكلام، أن يكون هناك تبادل للآراء، ولذلك القرآن العظيم في هذه السورة عشرات الأسئلة، عشرات الأسئلة في سياق الاستنكار حتى، عشرات الحجج بالمنطق، يحاكي ويقابل ويحدث العقل البشري العقل الإنساني، ولكن أي عقل، ليس العقل الذي يجعل من مادة الدين مادة سخرية، لأن هذا الذي يجعل من الدين مادة للسخرية والاستهزاء، هذا ليس معه حوار، ولا نقاش، لماذا؟ لأنه أبسط مبادئ النقاش والدخول في الحوار، احترام الطرف الآخر، هذه ليست قضية حرية رأي هنا، تدبروا معي في هذه المعاني العظيمة، حتى نفهم كيف نتعامل مع الناس، مع الآخر، كيف نتكلم مع العقلاء في العالم من مختلف الأديان، هذه قضايا تتعلق بالعقل وبالمنطق.
ثم مرة أخرى قال: ﴿قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِين﴾[الأنعام:11] تدبروا في كل كلمة: السير في الأرض، ثم قال: ثم انظروا، ليس انظروا عاقبة المكذبين، ولكن كيف كانت عاقبة المكذبين، “كيفية” ولذلك قلنا في البداية: أعظم كتاب يحرّك في الإنسان عبادة التفكير هو القرآن، والتفكير الإيجابي التفكير الذي يقود الإنسان لما فيه خيره وصلاحه في الدنيا والآخرة. الإنسان كائن مفكر، ولماذا له هذه القدرة على التفكير؟ لأنه هو الكائن الذي خلقه الله سبحانه وتعالى وأعطاه مهمة الخلافة، وأمره بأشياء ونهاه عن أشياء، وأعطاه أشياء ومنع عنه أشياء، لأجل أن يعيش على هذه الأرض، يبني ويعمّر ويؤسس ويُصلِح وينهى عن الفساد، هذه لا يمكن كلها أن تحدث بدون تفكير.
وبدأ التنوع بالأساليب في عرض قضية الإيمان وتجديده قضية السورة الأساس، ﴿قُلْ﴾ وكلمة (قل) في سورة الأنعام جاءت مرات عديدة تزيد على الأربعين (قل) دور النبي صلى الله عليه وسلم: البلاغ، أما كل القرآن هذا فهو ليس له فيه إلا البلاغ، فأنت دورك أن تقول: ﴿قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قل لله﴾ هذا حقيقة، من يدّعي ومن يتمكن ومن يستطيع أن يدعي أن له شيئا؟! ﴿قُل لِلّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ سبحانه! وتدبروا في الكلمة (كتب على نفسه الرحمة) مالك متصرف مقتدر وكتب على نفسه الرحمة! شيء عظيم، وسورة الأنعام مليئة بعشرات الصفات والأسماء لله سبحانه وتعالى قدرة ورحمة. كثير من الناس اليوم يعزون قضية الرحمة إلى الضعف، يتوهمون أن الرحمة تعني الضعف، أن الإنسان إذا كان قوي الشخصية مثلاً فيفترض أن يكون متماسكاً وغير عاطفي، ولا يظهر أمارات الرحمة، – ولله المثل الأعلى – قادر، ولكنه رحيم بعباده، مالك متصرف، ولكنه سبحانه وتعالى أرحم بعباده من الأم بولدها.
﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُون﴾[الأنعام:12].
الإيمان باليوم الآخر. (الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُون) تدبروا في الكلمات وفي وقع الكلمات قوية الإيقاع، وهل يمكن أن يخسر الإنسان نفسه؟ نعم، كيف؟ بعدم الإيمان ﴿الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُون﴾. أنت حين لا تؤمن بالله أنت تخسر، تخسر نفسك، ما قيمة أمتلك كل شيء في الدنيا، وأكون قد خسرت نفسي؟! ما قيمة الأشياء؟! نفسي هي أغلى شيء، فما قيمة أن أربح كل الأشياء، وأخسر نفسي؟!! ولاحظت في تدبر كثير من سور القرآن، أن مفهوم الربح والخسارة في كتاب الله عز وجل كمفهوم يختلف تماماً عن مفهومنا للربح والخسارة، نحن حتى في اللهجات العامية نقول: يا خسارة! إذا الإنسان خسر شيئاً من متاع الدنيا يا خسارة! لكن الخسارة التي يحدثنا القرآن عنها الخسارة الحقيقة أن يخسر الإنسان علاقته بالله سبحانه وتعالى، أعظم علاقة، أعظم عقد يخسره الإنسان هو ذاك العقد بينه وبين الله سبحانه. أحياناً كثيرة الإنسان تمر به لحظات ندم، أو حسرة على شيء قد فاته من عروض الدنيا، شراء شيء اعتبره أنه نوع من أنواع الصفقات أو الفرص التي لا تعوض، ولكن في الحقيقة كل شيء ممكن أن يعوّض طالما أنه متعلق بمتاع الدنيا، ولكن أن يخسر الإنسان علاقته بالله سبحانه وتعالى فهذا شيء لا يمكن أن يعوّض: ﴿الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُون﴾ فما الحل؟ تعالجه السورة آية بعد آية قلنا أن السورة تعالج قضية الإيمان تفي معاني الإيمان العظيمة في نفس الإنسان، وليس أيّ إيمان! المسألة ليست مجرد إيمان تصديق وشعور وكلمة، فعل، تطبيق، واقع، تنفيذ، استجابة لأمر الله، استجابة للتشريع في واقع الحياة.
﴿وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم﴾[الأنعام:13] جولات، تنقلات بين مختلف المظاهر والأشياء في حياة الإنسان وفي الطبيعة وفي الكون.
﴿قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا﴾ وهنا يأتي الحديث عن قضية الولاية، الإنسان في الدنيا وهذه أيضاً من المعاني المتعلقة بالتوحيد والإيمان والعلاقة بالله عز وجل، لا بد أنه يوالي أحدًا، يوالي شيئاً، يكن له ولاء لشيء ما، فأنت يا إنسان توالي من؟ وتتخذ ولياً يتولى شؤون حياتك وكل ما يتعلق بشؤونك من سوى الذي فطر السماوات والأرض؟!.
وتدبروا معي في الكلمات: ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَين﴾[الأنعام:14].
معاشي وحياتي وكل ما تقوم به السماوات والأرض إنما هو بأمره وبيده سبحانه، فمن ذاك الذي يستحق أن أتخذه ولياً غير الله سبحانه؟! تدبروا كيف تأخذ بالإنسان إلى الإيمان، هذه السور العظيمة بآياتها التي تقرع القلوب تقرع مسامع القلب، تحرك فيه الوجدان، تحرك فيه منابع ومكامل الحياة، والحياة لا تكون إلا بالإيمان، حياة القلوب بالإيمان، حياة القلوب بإيمانها بخالقها سبحانه وتعالى بلجوئها إليه، باستشعارها بتلك المعاني بأن لا مجال لها ولا سبيل ولا أحد إلا الله سبحانه ﴿قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيم﴾[الأنعام:15].
تدبروا في الآيات سورة الأنعام من الأشياء التي تميزها عن غيرها من سور القرآن: أنك حتى حين تتناول مقطع من الآيات مجموعة من الآيات تجد نفسك أنك بحاجة إلى أن تقف عند كل آية آية آية، لأن في كل آية هناك وسيلة وآلية تجدد الإيمان في قلبك. حدثنا هنا عن الولاية وقال ﴿ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ وقال:﴿وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ﴾ وتدبروا بعدها ﴿وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُير﴾[الأنعام:17]. تدبروا في الخطاب والنداء العاطفي الإنسان بطبيعته حين يمسه الضر يتوجه لله سبحانه وتعالى، يستشعر الضعف (وخلق الإنسان ضعيفاً) ولكن الإشكالية أنه يغترّ حين يكون صحيح البدن، معافى في بدنه قوي البنية لديه مال، لديه كل ما يحتاج إليه، يعتقد أن الأمر قد انتهى، وأن الأشياء قد ضمنت، ولكن ليست هذه هي الحياة، ربي سبحانه وتعالى جعلها تتقلب بنا، لماذا تتقلب بنا؟ لنرجع إليه، لندرك أنها حياة ودار ابتلاء، وليست دار بقاء، أنها إلى زوال وأن البقاء الحقيقي هو في تلك الدار، الدار الآخرة ﴿وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ﴾ إذا كان لا يكشف الضر إلا هو، ولا يعطى الخير إلا هو، فمن الذي يستحق التوحيد والتوجه إليه بالعبادة؟! من؟! الأولياء الذين يتخذونهم الناس من البشر ومن الحجر، من؟! وهذه حقيقة أقوياء الدنيا سلاطين الدنيا ملوك الدنيا كل من أوتي شيئاً من متاع الدنيا، واعتقد أنه على قوة، لو مسه الله سبحانه وتعالى بشيء من الضر ألم في الرأس، صداع، ألم في البطن أي شيء من الأشياء المختلفة بما يتعلق ببدنه أو بشيء آخر، كل ما يمتلكه وكل من حول هذا الإنسان لا يستطيعون أن يرفعوا شيئاً من الضر عنه، وتدبر معي حين يمتحن الله سبحانه وتعالى عباده بالمرض، المرض امتحان، أنت لا قدر الله قد تنظر إلى أمك أو إلى أبيك على فراش المرض يعاني من المرض، ولا تملك أن تفعل له شيئاً، وربما يكون قد وضعت عليه أجهزة، أجهزة إنعاش أجهزة التنفس أشياء مختلفة حسب الأمراض، نسأل الله الشفاء والعافية لكل مرضى المسلمين.
السؤال: أنت ابن أو ابنه أو زوج أو زوجة، أو قريب، أو حبيب، أو صديق، وتريد بالفعل إرادة حقيقية أن ترفع عنه البلاء أو المرض، ولكن هل تملك ذلك؟ لا، من الذي يملك؟ القاهر فوق عباده ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِير﴾[الأنعام:18]. قهر عباده بأشكال مختلفة سبحانه، قهرهم بالمرض، قهرهم بالابتلاء، قهرهم بالموت الذي لا بد أن يطرق باب كل حيّ، كل حيّ لا بد أن يطرق بابه الموت، قوي ضعيف صغير كبير، غني فقير، رجل امرأة، مريض صحيح، يطرق الأبواب ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾. وتدبروا معي ﴿وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِير﴾ تدبروا في التناسب في الأسماء والصفات في هذه السورة العظيمة، حكيم خبير بعباده في حال قهره أيضاً لهم، لماذا؟ لأننا نحتاج أحياناً كذلك القهر، ولأنه سبحانه حكيم وخبير بنا، قهر عباده بالابتلاء، لماذا؟ ليس من باب الانتقام الذي ينتقم هو الذي لا يقدر على فعل الشيء، وربي سبحانه على كل شيء قدير، إذاً لماذا؟ ليعالج نفوسهم ويعيدهم إليه، نحن عباد، هو سبحانه وتعالى من خلقنا، وهو يتولانا، ولذلك قال: ﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً﴾ تدبروا في وقع الآيات: ﴿قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ﴾ إذاً بمَ أشهد؟ أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، ﴿قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُون﴾[الأنعام:19].
هنا تأتي شهادة التوحيد، هنا تأتي الكلمة، هنا تأتي البراءة من كل الشركاء، هنا تأتي نقاوة وصفاوة التوحيد، تدبروا في الكلمة: قل لا أشهد أن مع الله آلهة أخرى، ولكني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، هنا تكون كلمة الشهادة هي فعلاً التي تثقل بها موازين العباد، كلمة الشهادة لا إله إلا الله محمد رسول الله، تثقل بها الموازين، تزيد بها الحسنات، تمحى بها السيئات، يعفى بها عن الخطايا، كيف؟ حين تخرج بهذا اليقين، لا أشهد أن هناك أحد مع الله سبحانه وتعالى، ومن ذا الذي يكون معه وهو الخالق القادر الذي يكشف عن عباده الضر، الذي يعطي الذي يأخذ سبحانه! حكيم خبير سميع عليم بصير قدير غفور رحيم، أنّى لي أن أقول أو أزعم أن معه آلهة أخرى؟!!.
تدبروا معي في وقع الآيات كيف توقظ الإيمان، كيف توقظ الفطرة التي نامت، الفطرة قد تنام، الفطرة قد يعلوها الصدأ، وغبار الآثام والبُعد عن الله عز وجل، سورة الأنعام تُخرج كل هذا. وهنا وبعد الحديث عن نقاوة التوحيد قال: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ﴾ كيف يكون موقفهم من الكتاب؟ ﴿يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ﴾ وتدبروا في الآية: ﴿الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُون﴾[الأنعام:20].
الآية التي قبل ذلك قال: ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُون﴾[الأنعام:12]. هنا جاء الحديث عن الخسارة، ومرة أخرى الحديث عن الخسارة في أي موضع؟ في موضع أولئك الذين يؤتَون الكتاب، ولكنهم لا يعرفونه! تدبروا في الكلمة: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ﴾[الأنعام:20] آتاهم الكتاب سواءٌ كانوا من أهل الكتاب، أو حتى نحن الكلام سياق الآيات والكلمات نحن أيضاً أتانا الله عز وجل وأعطانا كتاباً فهل فعلاً نحن نعرفه كما نعرف أبناءنا؟ ليست مجرد معرفة شكلية الإنسان يعرف ابنه معرفة حقيقية معرفة الخبير، معرفة المدرك، المتيقظ، الفطن، الذي تقوده تلك المعرفة إلى أن يدرك معاني الدنيا، ومعاني الآخرة، وبالتالي لن يخسر نفسه.
أما إذا لم يعرف فعلاً فهناك جاء الحديث عن الخسارة قال: ﴿الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُون﴾ لماذا؟ لأنهم عرفوا الكتاب وخالفوه، عرفوا الحق، وخالفوه، نظروا إليه، ولكنهم ما اعتبروا به، ساروا وراءه ونظروا في كيفية عاقبة المكذبين، ولكنهم ما اعتبروا! هنا يأتي الكلام عن الخسارة، خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون، أعظم خسارة عدم إيمانك بالله سبحانه وتعالى، ولذلك هنا قال: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُون﴾[الأنعام:21].
والتكذيب بالآيات ليس فقط أن يقول الإنسان: أن هذا الكتاب غير منزل أو ما شاء، التكذيب له أشكال، له أنواع، واحدة من أشكال التكذيب أن الإنسان ينظر إلى الآيات ويهز برأسه صح صح صح سبحان الله! ولكن كل تفاصيل حياته بعيدة ومناقضة كل البُعد لتلك الآيات، هذا نوع من أنواع التكذيب، ولذلك قال: ﴿لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُون﴾[الأنعام:21].
ثم قال: ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُون﴾[الأنعام:22].
سورة الأنعام من السور التي تجعل يوم القيامة قضية حاضرة في واقع الحياة، لماذا هذا التقريب الشديد ليوم القيامة، حتى يدرك الإنسان أن يوم القيامة ليس ببعيد، أبداً، قريب يرونه بعيداً ونراه قريباً، حاضر، الإنسان لا يعرف متى فعلاً تقوم قيامته، متى تنتهي أنفاس الحياة، فحينئذٍ أين شركاؤكم الذين تزعمون؟!!.
ثم تدبروا معي قال: ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِين﴾[الأنعام:23] ولكن الشرك والإيمان ليس مجرد ادعاء ولا كلمات باللسان: ﴿انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُون﴾[الأنعام:24] الإنسان يكذب على نفسه، يكذب على نفسه حين يتصور أنه مؤمن بمجرد قول كلمة، أو أنه غير مشرك، وهو في واقع حياته قد أشرك، كيف الإنسان يشرك وهو يقول: أنه غير مشرك؟! يتوجه بالولاء لغير الله سبحانه وتعالى، يظن ويتأكد ويقتنع ويتصور ويتوهم أن هناك من البشر من يملك له الضر أو النفع، وأن هناك من يستطيع أن يقدم له رزقاً من دون الله إذا رضي عنه، وإن سخط سيمنع عنه الرزق، مع البشر، هذه الأعمال القلبية أو الحسية، أعمال تناقض صفاوة التوحيد ونقاوته، لا يستقيم معها التوحيد، التوحيد الخالص الذي يخلص فيه القلب من النظر لأي أحدٍ إلا الله عز وجل نفعاً وضراً واستعانة وعطاءً واستغاثة وتوكلاً ورزقاً، هذه أعمال قلبية لا بد للإنسان أن يخلّصها من شوائب الشرك، والنظر إلى الخلق، الخلق لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، وربي عز وجل هو الذي يعطي ويمنع ويأخذ وما البشر إلا مجرد أسباب، والأسباب لا تعمل بذاتها، وإنما تعمل بأمر الله عز وجل، ولذلك قال: ﴿كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُون﴾[الأنعام:24] وأصعب شيء أن يكذب الإنسان على نفسه، أن يوهمها بشيء.
وتدبروا معي في بقية الآيات: ﴿وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ﴾ الآن بدأت السورة تفصل في الأمراض التي تحول بين الإنسان وبين نقاء التوحيد والوصول إليه. يستمع إليك فعلاً، إذاً ما الذي حدث؟ ﴿وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّى إِذَا جَآؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِين﴾[الأنعام:25]. لماذا؟ الكفر حاجز، حتى حين يستمع الإنسان إليك، يستمعون إليك في واقع الأمر هناك على القلوب أكنّة وأغطية تمنعه من الفهم تمنعه من الفقه المعرفة الدقيقة التي توصلهم إلى الإيمان، وفي الآذان التي فعلاً هم يستمعون الكلمات، ولكن هناك وقر، هذا الوقر الحاجز لا يجعل الأذن – وهي حاسة تلتقط الأصوات والكلمات تحولها إلى مفهومات – لا تحول إلى العقل، ليس هناك مفهومات.
وحتى حين يروا كل آية لا يؤمنوا بها، كما ذكرنا في بدايات السورة المؤمن والكافر، المؤمن ينظر إلى آية غروب شمس شروق شمس، فتراه يخرّ بين يدي ربه ساجداً، والكافر يمر على نفس المنظر، ولا تحرّك فيه شيء، ليس فقط الكافر طبعاً أحياناً الإنسان يتبلّد حسّه تتبلّد مشاعر الإدراك فيه، وهذه قضية خطيرة جداً؛ لأنه حين يتبلّد الإحساس كذلك يقسو القلب يتصلّب فيبدأ التوحيد يتبلّد كذلك يحتاج إلى تجديد، وهذا ما تقوم به هذه السورة العظيمة. ولذلك قال: ﴿وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ﴾ إعراض، هذا التصوير الدقيق ينهون عنه وينأون عنه، ولكنهم هم في واقع الأمر في إعراضهم ونهي غيرهم عن الاستماع لهذا الكتاب العظيم، هكذا كان يفعل كفار قريش، كانوا يحولون حتى بين من يأتي من القبائل الأخرى من خارج مكة، وبين أن يستمعوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يتلو القرآن، والقصص كثيرة جداً في هذا السياق: (لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه) لا تستمعوا ولكن هم في واقع الأمر ﴿وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ﴾ ولكن الإشكالية الخطيرة أنهم: ﴿وَمَا يَشْعُرُون﴾[الأنعام:26] كيف يُهلك الإنسان نفسه؟ يُهلكها بإبعادها عن خالقها، والله البُعد عن هذا الكتاب العظيم هلاك! البُعد عن كتاب الله سبحانه هلاك! هلاك حقيقي، البُعد عن آيات هذا الكتاب واستحضارها وتلاوتها والإيمان بها، وتنزيلها وقعاً في الحياة، هلاك، ولا يأتي إلا بالخسارة والهلاك للجنس البشري، وكل ما نعاني منه كل ما تعاني منه البشرية اليوم، بدون أي مبالغ، المرجع الأول له والسبب الرئيس فيه هذه الجفوة مع كتاب الله سبحانه وتعالى، جفوة، انقطاع، وما يهلكون إلا أنفسهم، لكن أين الإشكالية الخطيرة؟ ﴿وَمَا يَشْعُرُون﴾، هذه مشكلة أن الإنسان لا يشعر، هو مريض ولكنه لا يشعر بالمرض، القلوب تمرض، والإشكالية والخطورة في قضية مرض القلب أن الإنسان حين يمرض الجسد يشتكي صداع ألم حرارة فيذهب يسارع للطبيب ليعالجه، ولكن القلب حين يمرض قد لا يشعر الإنسان بمرضه، قد لا يشعر متى يشعر؟ حين يديم عرض ذلك القلب مع كتاب الله يديم التواصل مع كتاب الله عز وجل، فإذا حصل أي أمارة أو أي عارض من عوارض المرض استشعر بها، وإلا لا يشعر إلى أن: ﴿وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ﴾[الأنعام:27] ما شعروا بأنهم يسيرون في طريق تهلكهم وتفسد عليهم حياتهم ودنياهم وأخراهم، إلى أن وقفوا على النار، فماذا قالوا؟ ﴿يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِين﴾[الأنعام:27] إذاً؛ التكذيب بآيات الله عز وجل مفتاح الهلاك في الدنيا وفي الآخرة.
تدبروا ﴿بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُون﴾[الأنعام:28] لو رجعوا إلى الدنيا لرجعوا إلى كفرهم، ربي خبير بهم، خبير بعباده، ونحن قلنا في بدايات الربط بسورة المائدة: أن سورة المائدة كانت تتكلم على العقود وأن أكبر عقد هو عقد الإيمان بين الإنسان وربه، نحن في حياتنا، نحن كمسلمين في مرات كثيرة تعرض لنا أوقات ضعف، أوقات مرض فنقول في أنفسنا نقرر إن شافاني الله سبحانه وتعالى من هذا المرض سأفعل سأفعل سأغير حياتي سأفعل كذا! يشاء الله عز وجل ويعطيني ما أردت، يعطيني فرصة، لكن السؤال: كم منا يتعلم من ذاك الموقف، ويأخذ الفرصة فعلًا؟ كم منا حين يعطيه الله سبحانه وتعالى بعد مرض، يصبح أحسن مما كان من قبل ذلك، كم منا؟! المشكلة الإنسان في كثير من الأحيان يكون سريع النسيان، لكن ما الذي يذكره ويعيد الأمور إلى نصابها؟ هذا القرآن العظيم. هؤلاء القوم كذبوا بالبعث: ﴿وَقَالُواْ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِين﴾[الأنعام:29].
واللافت للنظر أن في سورة الأنعام كثيراً ما ذكرت قضية الخسارة ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا﴾[الأنعام:30] ثم بعدها قال: ﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ﴾ طبعاً خسارة عظيمة، ﴿حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً﴾ الساعة لا تأتي إلا بغتة فجأة بدون مقدمات، بدون مقدمات ليس بمعنى: علامات وأمارات الساعة، لكن بمعنى: هي هكذا هذا من طبيعة الامتحان، وربي عز وجل لم يخف ذلك عنا، أعلمنا به، أن الساعة لا تأتي إلا بغتة، وأن أمرها كلمح البصر أو هو أقرب. ﴿قَالُواْ يَاحَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا﴾ وتدبروا في الآية: ﴿وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُون﴾[الأنعام:31] انظر في التشبيه: هل الأوزار تُحمل على الظهور؟ لها ثقل، ثقيلة، الذنوب والآثام الخطايا تحمل هكذا على ظهورهم! ألا ساء ما يزرون، تدبروا في عظمة النص القرآني: ﴿يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ﴾ الذنوب ثقيلة البُعد عن الله ثقيل مؤلم، كل الأشياء التي تفصل بيننا وبين الله سبحانه وتعالى ثقيلة جداً، ولذلك قال: ﴿وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُون﴾ لماذا حدث ذلك؟ من الطبيعي أن يسأل الإنسان في نفسه في خاطره: لماذا هؤلاء الناس كانوا بهذه الغفلة؟ ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ﴾[الأنعام:32] الحياة لعب ولهو، منا من يفقه هذه الحقيقة، فيدرك أن الدار الآخرة خير لمن؟ للذين يتقون؟ تدبروا في الكلمة: ﴿أَفَلاَ تَعْقِلُون﴾ العقل يدرك أن طبيعة هذه الحياة لعب ولهو، ولكن الدار الآخرة خير، إذاً فإذا كانت هذه هي طبيعة هذه الدنيا فما المطلوب مني فيها؟ العمل. وما الذي يحول بيني وبين كل هذا الإيمان؟ جحود، نكران، قال: ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ﴾ في قرارة أنفسهم يدركون أنك على الحق ﴿وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُون﴾[الأنعام:33] جحود، ليس قائمًا على الجهل، جهل مركّب، ليس بمعنى: أن الإنسان لا يعرف الحق، لا، هو يعرف الحق، ولكنه مع ذلك يجادل فيه ويجحده وينكره، جَحود!. ولكن اعلم يا محمد صلى الله عليه وسلم تسلية لقلبه عليه الصلاة والسلام هنا ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ﴾ سنّة، كُذِّب رسل: ﴿فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ﴾ سنة من السنن، أي سنة من السنن صراع بين الحق والباطل، صراع أن هؤلاء ممن كذبوا يكذبون الصادقين، وكذلك من الابتلاء أن يكذب الصادق وقد كُذِّب الرسل، ونبينا صلى الله عليه وسلم لقب بينهم وعرف بينهم بالصادق الأمين، هم لقّبوه، ولكنهم كذبوه، تدبروا في المعاني: كذِّب الصادق الأمين، وكُذِّب كل الصادقين من الرسل، ولكن ذلك التكذيب لن يجعل من الصدق كذباً، ولن يجعل من الكذب صدقاً، ولن يجعل من الحقيقة جهلاً، ولن يجعل كذلك من الخير شراً، ولا من الشر خيراً، تكذيب هؤلاء القوم لن يغير حقائق الأشياء، ستبقى الحقائق كما هي، ستبقى الشمس آية من آيات الله، والليل، والنهار، والكون، والإيمان، والكفر والجحود، لا مبدل لكلمات الله.
ثم قال: ﴿وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ﴾ إن ما استطعت أن تفهم وتتقبل لماذا هؤلاء القوم يعرضون عنك وعن رسالتك: ﴿فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاء فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِين﴾[الأنعام:35]، لا تحاول وتذهب نفسك حسرات عليهم، لأجل أن تأتيهم بآية حسية، لا آية بعد هذه الآية، آية القرآن لا آيات، وكن واثقاً أن هؤلاء القوم جاحدون لو جاءت كل آية لا يؤمنوا بها، ولذلك قال: ﴿وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى﴾ إذاً ماذا شاء الله؟ شاء الله عز وجل أن يهب الإنسان حرية الاختيار، وألا يُكرهه على الهدى، ولو شاء لجمعهم على الهدى، ولكنه شاء غير ذلك، ماذا شاء سبحانه؟ شاء أن يعطي الإنسان حرية الاختيار، ﴿فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ﴾ فانتهى الأمر: ﴿فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِين﴾