الحلقة الرابعة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمد الشاكرين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وقفنا في تدبرنا في سورة ق العظيمة عند تلك الآيات التي جاءت تبين مآل الكافرين المعاندين، مصير هؤلاء الذين عاندوا وكذبوا وكفروا بآيات الله لما جاءتهم، وإذا بالآيات العظيمة تنتقل إلى أولئك المتقين، أولئك الذين صدقوا، أولئك الذين حاسبوا أنفسهم قبل أن يُحاسَبوا، أولئك الذين عاشوا حياتهم في خوف وخشية من الله سبحانه. فلا يستوون عند الله.
والقرآن العظيم حين يأتي بمصائر هؤلاء وهؤلاء في تقابل وتضاد واضح في الجزاء والمآل يقرب البعيد للإنسان، ويجعل المؤمن يستطيب ما يمرُّ به من ظروف وملابسات في مسيرة حياته الدنيا. المؤمن حين يستحضر الجزاء العظيم والكرامة التي سيحظى بها عند الله سبحانه وتعالى يوم لقائه يستطيب ما يمرُّ به من آلام وأحزان، فالإنسان معرَّض في حياته لكل شيء، ولكن المؤمن الذي يعيش مستحضرًا ذلك اليوم العظيم الذي سيلقى فيه جزاء صبره، وجزاء إيمانه، وجزاء صدقه يطيب له ما هو فيه.
قال تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31)} لكرامة هؤلاء الذين لزمت التقوى قلوبهم، أُزلفت وقُرِّبت وأُدنيت منهم الجنة فهي {غَيْرَ بَعِيدٍ} قُربت لهم. ولنا أن نتساءل: ولماذا أزلفت الجنة لهم؟ وفي آية أخرى ذُكر: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90)} سورة الشعراء. ولكن في نفس الوقت وفي الجانب المقابل {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91)} سورة الشعراء. برزت أي: أظهرت حتى يصابوا بالخوف والهول والذعر مما يرون. ولكن للمؤمنين ولكرامتهم عند خالقهم جلَّ شأنه قال تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (31)} لماذا هذه الكرامة التي يحظى بها هؤلاء المتقون؟ لأنهم عاشوا حياتهم، والجنة في قلوبهم وفكرهم وعقولهم، عاشوها قبل أن يدخلوها، آمنوا وأيقنوا بها وبكل ما فيها، وهم حين يقرؤون في كتاب الله ما أعده الله لعباده المتقين يدعونه سبحانه وتعالى أن يكونوا من أهلها. وهذا الاستحضار واليقين جعلهم يشعرون كأنهم ليسوا بغرباء عنها، فهم يعرفونها وهي تعرفهم، سمعوا بها وسمعت بهم، أعدوا لها من الأعمال ما وفقهم الله إليها، وأُعِدَّت هي لأجل استقبالهم والحفاوة بهم.
قال تعالى: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32)} تدبروا في المفردات، وفي الصفات، وفي الأخلاق لأن هذه ليست مجرد كلمة يأتي بها القرآن، لا بل هذه مفردة محملة بأخلاقيات المتقين. فأوَّاب يعني شديد أو كثير الرجوع إلى الله سبحانه. صفة عظيمة وصف الله بها أنبياءه، وصف بها داوود إذ قال: {نِعْمَ الْعَبْدُ ۖ إِنَّهُ أَوَّابٌ} من الآية 30 / سورة ص، وأيضًا وصف بها سليمان وأيوب عليهما السلام، هذه الصفة العظيمة التزمها المتقون. ولنا أن نتساءل: كيف يصبح الإنسان سريع الرجوع إلى الله عزَّ وجل؟ باستحضار المراقبة، تدبروا في الآيات وصلتها بما قبلها، قال: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)} فإذا استشعر المؤمن أن كل ما يتلفظ به محاسب عليه، وأن الله يعلمه فسيكون كثير الأوبة والرجوع إلى خالقه بالتوبة، والاستغفار، والندم على ما فات، والخشية أن يستجلب غضب الله سبحانه أو نقمته بكلمة خرجت منه دون أن يُلقي لها بالًا. بمعنى آخر: يحاسب نفسه على كل كلمة، هذه المحاسبة الشديدة للنفس ولَّدت فيه الأوبة إلى الله سبحانه وتعالى. بمعنى آخر: كلما ازددتَ محاسبة لنفسك زادت أوبتك ورجوعك إليه جلَّ شأنه، وكلما ازددت رجوعًا إليه، وكلما استشعرت معاني التوبة إليه سبحانه وتعالى، شعرت بأنك إليه أقرب، وأنست بطاعتك لله سبحانه وتعالى، تأنس بذكره، تأنس بالتوبة إليه، وكلما حاسبتَ نفسك وجدت منها تقصيرًا أو تفويتًا لأمر ما كان له أن يفوت منك -وهذه طبيعة البشر- فلربما تجد كلمة عابرة خرجت منك، كلمة ممكن أن تكون ضايقتَ فيها شخصًا، أو أسأتَ فيها إلى أحد من الناس فترجع عنها بالتوبة والندم والاستغفار.
الأوبة يا لها من نعمة ومنزلة عظيمة لا تمنح إلا لمن سكنت التقوى قلوبهم. قال تعالى: {لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32)} تدبروا في دقة المفردة {حَفِيظٍ}، ما الأمور التي يكون حفيظًا عليها؟ إنه حفيظ على قلبه فلا يخالجه شك أو ريبة، حفيظ على ما سكن في قلبه من الإيمان والتقوى فلا يُدخل فيه أيَّ شيء مما قد يشينه، حفيظ على قلبه وعمله فلا يشوبه رياء، ولا عُجب، ولا تكبُّر، ولا إعراض عن الله سبحانه وتعالى، حفيظ على سمعه فلا يسمع به باطلًا، بل لا يسمع به إلا حقًا، حفيظ على لسانه فلا يتلفَّظ إلا بما يرضي الله سبحانه وتعالى، حفيظ على بصره فلا ينظر إلا إلى الحلال، حفيظ على يده وجوارحه فلا تمتدَّ إلا إلى الحلال وما أباحه الله سبحانه، حفيظ على قدميه اللتين يسعى بهما في الأرض فلا تأخذانه إلا إلى ما يرضي الله سبحانه، حفيظ على كل شيء، حفيظ على أماناته، على وعده، على الكلمة التي يعطيها للآخرين، وحفيظ على وعوده حينما يبرمها، حفيظ على مسؤولياته حين تُوكَل إليه، حفيظ على وظيفته وعمله، حفيظ على نفسه، وعلى ضميره، حفيظ على أسرته وجيرانه، حفيظ على سمعته وعلى سمعة الآخرين، فلا ينال أحدًا من الناس بكلمة لا ينبغي أن تقال، حفيظ على أعراض الناس كحفاظه على عرضه، تدبروا في هذه المفردة التي ما عادت مفردة ولكنها موسوعة أخلاق وقيم، هذه ليست مجرد كلمة، هذه منهج حياة .
تدبروا في القرآن في ذلك الإيجاز البديع المعجز بالكلمة {لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ}، وما بين الأوبة والحفظ يعيش المؤمن في خشية من الله سبحانه وتعالى، وتدبروا في التواصل والترابط وعظيم التناسب، قال تعالى: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33)} جاء بالمفتاح الذي يولِّد هذه الصفات الجليلة التي لأجلها أكرمه الله سبحانه وتعالى، ولأجله أزلفت الجنة.
لم ينل الجنة لأنه جاء من نسب معين، أو من أصول عريقة، لا. فالجنة لا تنال بالحسب أو بالنسب، الجنة تنال بالعمل والصدق مع الله سبحانه وتعالى. قال تعالى: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ (33)} خشية الله سبحانه وتعالى، مهابة الله جلَّ شأنه، الحياء من الله سبحانه وتعالى ومحبته تمنع الإنسان من التلفظ بكلمة لا تليق، من القيام بعمل لا ينبغي أن يقوم به، من خيانة نظرة عابرة، هذه هي الأمانة.
وتدبروا في دقة اللفظة، قال تعالى: {خَشِيَ الرَّحْمَنَ} لأن كل السياق سياق رحمة، فجاء بصفة الرحمة، واسم الرحمن. ثم قال تعالى: {وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33)} تدبروا في دقة المفردة، قال: {وَجَاءَ بِقَلْبٍ} كم مرة في سورة ق ذكر الفعل (جاء)؟ بمعنى آخر: كل الأعمال إن لم يصاحبها الصدق في السر، وفي القلب، والنقاء في التوحيد، وما سكن في القلب من إنابة، وغيرها من الأعمال القلبية المحمودة فلا خير فيه، ولذلك سيأتي أيضًا تحقيق لهذا المعنى بعد ذلك بآيات.
قال تعالى: {وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} قلب أناب، رجع إلى الله سبحانه وتعالى، فكيف يرجع القلب إلى الله سبحانه وتعالى يوم القيامة؟ القلب الذي اعتاد أن يرجع إليه سبحانه في كل صغيرة وكبيرة، في كل نية قبل أن يقوم بالعمل، في كل نية قبل أن يتلفظ بالكلمة أو العبارة، ويسأل الله سبحانه وتعالى فيها الصدق والإخلاص، اعتاد على الرجوع إلى الله والإنابة إليه، ومن عاش منيبًا إلى الله مات منيبًا إليه، وبُعث منيبًا إليه: {وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ}.
ما النتيجة؟ قال تعالى: {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34)} والقرآن كثيرًا ما يقرن بين الجنة والسلام، ويبقى السؤال مطروحًا: لماذا السلام؟ لأن المؤمن يعيش في سلام، سلام داخلي ذاتي متفرع عن ذاك التناسق والتوافق النفسيين بين باطنه وظاهره حيث لا ازدواجية، ولا بلبلة، ولا اضطراب، ولا أمر مريج، ولا التباس بين الحق والباطل (سلام)، السلام الذي عاش عليه، وسكنه، الذي دعا الناس إليه، وحيا الناس به طول عمره بقوله: السلام عليكم.
وهو عاشه حقيقةً، ويريد وهو يعيش أن يكون سالمـًا مسالمـًا، السلام الذي جعله إنسانًا قد سلم الناس من لسانه ويده، ذاك السلام الذي عاشه يقال له يوم القيامة: {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)} ما هو المزيد على هذه الكرامة؟ مزيد بكل أشكاله وصوره، لذة النظر إلى وجهه جلَّ شأنه، الزيادة في الكرامة، والرفعة في الدرجات وفي كل شيء.
وإذا بالآيات العظيمة بعد هذا النعيم وتلك الجنة التي يكاد المؤمن يشم ريح الجنة لشدة وعظمة ودقة وصفها في هذه الآيات المباركة، وإذا بالآيات تنتقل إلى هؤلاء الذين ذهبت بهم سفاهتهم، وحماقة أفكارهم بعيدًا عن كل هذه الكرامة والنعيم المقيم، قال تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36)} كم من الأقوام أُهلكت من قبل هؤلاء؟ قوة وشدة ومنعة ومال ودنيا {فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ} نقبوا تنقيبًا وبحثوا بحثًا دقيقًا، فما نتيجة بحثهم؟ أنه لا محيص للظالم عن عاقبة مآله ونهاية أمره.
قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى (37)} ذكرى في الآيات المبثوثة في التاريخ، وفي الواقع الإنساني، وفي تاريخ الأمم، وفي هذا القرآن الذي يجعل كل هذه الأحداث التاريخية حاضرةً أمامك يذكِّرك بها {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى} لكن لمن؟ قال تعالى: {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ (37)}، ولنا أن نتساءل: هل ثمة إنسان حي يعيش بلا قلب؟ ليس هذا المراد، ولكن المراد به القلب الحي الذي يحرِّك صاحبه للرجوع إلى خالقه جلَّ شأنه القلب المنيب، القلب المعمور بالإيمان والتقوى، القلب الذي سكنه اليقين بالله سبحانه وتعالى، سكنه الصدق وليس الكذب والافتراء، أو الغش والخداع. أما هؤلاء فلا قلوب لهم على وجه الحقيقة من هنا قال تعالى: {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ (37)} لمن كان له قلب حيٌّ، قلب تؤثر فيه آيات الكتاب، قلب تؤثر فيه المواعظ، قلب تحركه الآيات المبثوثة في الكون، في السماء، في الأرض، في الخلق، في النفس، في التاريخ، في مآل الأقوام السابقة. هذا القلب لا ينفك ينبض، ولكن كيف يعيد الحياة إلى صاحبه؟ بالإيمان، لأن الحياة الحقيقية هي حياة القلوب، حياة الإيمان وليست حياة الكفر.
قال تعالى: {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)} شهيد حاضر، الكلمات وآيات القرآن بالنسبة إليه حين يسمعها ليست مجرد كلمات، لا بل هي كلمات يتأثر وينفعل بها، كلمات سرعان ما تجد طريقها إلى القلب، فإذا ما وصلت إلى القلب إذا بذلك القلب قد أُحيِيَ من جديد، رجعت إليه حياة الإيمان، حياة الصدق، حياة الإنابة مع الله سبحانه وتعالى.
وتدبروا في الترابط بين من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. ما الشيء الحاضر فيه؟ حاضر القلب، منصت السمع. وثمة قناة تواصل واضحة مباشرة بين السمع وبين القلب، ولذلك قال القرآن في أكثر من موضع: {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} من الآية 285/ سورة البقرة. آيات القرآن ليست مجرد كلمات تسمعونها، ليست مجرد حروف، لا. ولكنها كلمات ينبغي حين تمرُّ على الأذن أن تنتقل تلقائيًّا إلى القلب فينفعل بها، يقوم بنقلها إلى العقل فيتفكَّر ويتدبَّر فيها.
القرآن يحدثنا عن فضيلة التدبر، وعن فريضة التدبر في هذه الآية. وكذلك فإن ثمرة من أعظم ثمرات التدبر {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)} الذكرى في أن تحدث له تأثيرًا في قلبه، ذكرى تجعل منه إنسانًا رجَّاعًا منيبًا حفيظًا لله سبحانه وتعالى أوَّابًا إليه، الذكرى التي تنفع القلب، فلا شيء ينفع القلب كالذكرى، ولا شيء ينفع ويداوي القلب كالاستماع إلى آيات القرآن العظيم المجيد، الآيات التي ترفع مجدك، وعزَّك، وشأنك، وتُعلي قدرك عند الله، وحين يكون قدر الإنسان عاليًا عند خالقه جلَّ شأنه ماذا يفقد من الدنيا؟ لا يفقد شيئًا بل على النقيض كل شيء يأتيه.
تدبروا في هذه المعاني العظيمة {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ (37)} الآية تنعى على أصحاب القلوب الميتة التي لا تنفعل بآيات الكتاب العظيم حين يسمعونها، تستنكر على أولئك الذين يقفون بالآيات عند الأسماع والأذان فلا يمررونها إلى القلوب، ولا تجد تلك الكلمات والآيات طريقها إلى القلوب لتصلحها، ولتصلح ما فسد فيها، وتستأصل ما قد خالجها من شرك، ونفاق، أو شك وما شابه.
لا شيء ينفعك كالقرآن والاستماع إليه، ولكن ليس أيَّ استماع، بل تُلقي السمع وأنت شهيد حاضر القلب، شاهد على ما تقرأ، أنت تشهد وترى وكأنك تسمع كل شيء متلازمًا مع ما تراه. هذه عمليات عقلية وقلبية على حد سواء، ولكن لأجل أن تشهد كل مسامع الإنسان وجوارحه ما يقرؤه من آيات الكتاب العظيم {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)}.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته