تدبر سورة سبأ – الحلقة السابعة

الحلقة السابعة (الآيات 43 -54)

تفريغ د. سمر الأرناؤوط

وصلنا في تدبرنا لسورة سبأ عند تلك الآيات التي تبين مواقف من مواقف الحشر، تلك المواقف التي فيها تتضح الحقائق ، وتزول الغشاوات ، وتذهب الأغطية والأكنة التي قد يضعها الإنسان على قلبه وعقله وسمعه من تلقاء نفسه ، بجهل أو تكذيب أو عناد أو إصرار على باطل . من هنا تنتقل الآيات العظيمة وتصله من جديد من الآخرة إلى واقعه ودنياه :

(وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ﴿٤٣﴾) .

وتدبروا في الآية التي قبلها : (فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا ولا ضرا ونقول للذين ظلموا ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون) ، هذا موقف من يوم القيامة ، ومن يوم القيامة إلى الواقع الذي تعيشون فيه كيف تتعاملون أنتم مع الحق ؟ كيف تتعاملون أنتم مع المنهج الذي يبصركم الله تعالى به ؟ (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات) ، أي واضحات يتوضح فيها الحق من الباطل ، كيف كان موقفكم منها ؟ (قالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم) ، هذا الرجل ليس ببشير ولا نبي ولا نذير، كل هدفه وما يريده أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم . وهنا يقدّم القرآن كيف يكون التمسك بالتقاليد البالية والعقائد الفاسدة التي جاء بها السابقون حائلا وحاجزا بين الإنسان ، وبين الحق الذي جاءه ووصل إليه . كثير من الناس حين تأتي القضية إلى قضية الإيمان والاعتقاد ، تراهم يقلدون في اعتقاداتهم ، فإذا ما نشأ في بيت يعبد الأصنام تراه قد عبد الأصنام ، وسار على ما سار عليه أهله . وإذا نشأ في بيت فيه صليب تراه كذلك سار مع ما يسير عليه أهل الصليب . وإذا نشأ في بيت يوحد الله سبحانه وتعالى سار على ما سار عليه أهله . القرآن العظيم يريد إيمانا يقوم على الإيمان بالحق والتبصر في الآيات ، والتأمل والتفكر ، واحترام العقل الذي زين الله به الإنسان والتدبر في آيات الله المبثوثة في الكون ؛ ليصل إلى الحقيقة ويصبح راسخ الإيمان ثابت المعتقد مدركا بأن ما يؤمن به ، إنما هو اختيار له و قرار ، هو الذي سيسأل عنه بشكل فردي وشخصي ؛ فمسؤولية الإيمان مسؤولية فردية و خطيرة جدا . وهذه إشكالية خطيرة في كثير من الأحيان ، فكثير من الناس اليوم حين تقدم له نصحا أو كلمة حق لا يلتفت إلى ما تقول ، وإنما يلتفت إلى ظنه : يا ترى ما الذي يريده هذا الإنسان ؟ وتبدأ تسول له نفسه : هل يريد شهرة؟ أضواء ؟ مالا ؟ تسلقا ؟ ماذا يريد ؟! .

وهؤلاء ما كانوا بدعا من أحد (ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم) ، أنت ما دخلك فيما يريده هو؟ لماذا لا تفكر فيما جاء فيه هل هو حق أم باطل ؟ هل فيه خير أم فيه شر لك؟ ألغى الإنسان التفكير والعقل ، لذلك وصل إلى نتيجة خاطئة ، فيها خطأ بيّن (وقالوا ما هذا إلا إفك مفترى) . ولذلك عاب عليهم القرآن واستنكر: (وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين) ، تدبروا ما قالوا ؟ إفك مفترى ، سحر مبين، لماذا إفك مفترى وسحر مبين؟ للمقدمة الأولى الخطأ التي جاؤوا بها (ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم) ، وفي آية أخرى كما قال فرعون : (يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره) و (يريد أن يظهر في الأرض الفساد) ، تبريرات واهية دون تفكير في فحوى الرسالة التي جاء بها. إنه إلغاء للعقل ، لماذا لا يفكر هؤلاء ؟ لماذا لا يحاولون أن يفهموا ما جاء في الرسالة ؟ قال :

(وَمَا آَتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ ﴿٤٤﴾) .

وهنا القرآن يعزز من قيمة العلم الذي يوصل صاحبه إلى الحق (ما آتيناهم من كتب يدرسونها) ، هل أوتوا كتبا يدرسونها ؟ هل الإفك الذي يقولون به والسحر جاءا من كتب درسوها واطلعوا عليها ؟ تدبروا كيف يعلي القرآن من شأن العلم والكتب والدراسة . وتدبروا كذلك في الربط ، و في المعنى العظيم الذي تدور حوله السورة المباركة ؛ التفوق الحضاري والتقدم العلمي ، فلا بد أن يكون لك كتب تدرسها ، ولكن ليست كتب فيزياء وكيمياء وأحياء على الرغم من أهميتها ، فهذه كتب تعلمك ظاهرا من الحياة الدنيا . ولكن ينبغي عليك أن تجعل هذه الآيات وهذه الكتب توصلك إلى الحقائق ، وما بعدها يوصلك إلى مآلات الحياة الدنيا، تدرك معها أن الدنيا ليست نهاية المطاف ، وأن الآخرة هي الدار الحقيقية . كتب يدرسونها لتؤكد أهمية قضية قد تغيب عن الكثيرين ، وهي أن العلم الذي لا يوصلك إلى الله سبحانه وتعالى ، والتفوق والتقدم والحضارة التي لا توصلك إلى الله سبحانه وتعالى ، إنما هي علم منقوص . علم ليس فيه خير ، و لا يوصلك إلا إلى شيء من متاع الدنيا . وتدبروا (وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير) ، أمة العرب أمة أمية ، بمعنى لم ينزل عليها كتاب ، ولم يرسل فيها رسول ، فلما أرسل إليها كذبت به ؟! قال :

(وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آَتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ﴿٤٥﴾) .

وهنا القرآن يصل الواقع الحاضر الذي يعيشه هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وأي واقع بتاريخ الأمم التي سبقته (وكذب الذين من قبلهم وما بلغوا معشار ما آتيناهم فكذبوا رسلي فكيف كان نكير) ، وتدبروا في الربط بين الأمم التي سبقت هذه الأمة من قريش ، كانت أمما متقدمة متطورة بما فيهم مملكة سبأ .

وهؤلاء الأمم الذين يكذبونك ما بلغوا ولا حتى عشر ما آاتينا الأمم السابقة من قوة وزينة ومتاع وتقدم وتطور بكل الميادين والأصعدة . كذبوا رسلي ، فماذا كانت النتيجة ؟ (كيف كان نكير) . تريد أن تعرف مصير الأمم التي أنكرت الرسالات وأعرضت عنها ؟ انظر إلى تاريخهم، كانوا أصحاب قوة و منعة، و تطور وتقدم ومدنية وحضارة ، وعمروا الأرض أكثر مما عمروها، أين ذهب عمرانهم؟ أين ذهبت ممالكهم؟ أين ذهب سلطانهم وجاههم ؟ أين ذهب ؟ سنة الله ماضية ؛ أن التكذيب والعناد والإعراض عن رسالات الأنبياء والحق الذي جاؤوا به ، لا يمكن أبدا أن تكون نهايته إلا الدمار والخسارة ، سنة ماضية في الكون . ولذلك نحن قلنا ونقول دوما إن مجتمعاتنا المعاصرة اليوم تحتاج إلى أن تنظر في هذه الثنائية : التقدم والحضارة وكل ما فيها من إشكاليات تحتاج معها إلى قيم ومُثُل ومبادئ روحية مبادئ تصل الإنسان بخالقه ولا تفصمه عنه . عين التطور والتقدم أن تفهم لماذا خُلِقت؟ وهناك بشر اليوم يقول لك إن عين التقدم والتطور أن تقول لا دين ، أيّ تقدم ذاك الذي يجعل حياة الإنسان عبثا لا هدف ولا غاية من ورائها ؟ أي تقدم ذاك الذي يتحدثون عنه ؟ أيّ تقدم وتطور الذي يجعلك تقف على صيانة كل الأشياء المادية التي تصنعها بيدك ، ولا تقف على صيانة عقلك وفكرك وحياتك ؟! أيّ تقدم وتحضر ذاك ؟ أي تقدم وتحضر ذاك الذي يجعلك تحجر على من تخاف أن ينقلوا لك عدوى فيروس كورونا ، وتغلق حدود أراضيك لأجل ألا يتسرب إليك الفيروس ؟! ولكنك تشرع كل الأبواب أمام مئات الفيروسات الأخلاقية والقيمية لتنخر في عقلك وفكرك ، وأسرتك ومجتمعك وروحك فتجعلها خاوية لا حياة ولا روح ولا قيم فيها ، أين التقدم والتحضر؟! أين التحضر في أنك ترصد مليارات من الأموال لأجل أن تحمي الجسد ، وهذا واجب وحق للحماية من فيروس كورونا وغيره ، وترصد في ذات الوقت مثلها وأكثر لأجل أن تنشر فيروسات أخلاقية ، تحطم كل ما بقي عندك من مثل وقيم ، فتأتي على النزاهة و العفة والشرف ، و الطهارة ، و كل المثل العليا والقيم والمبادئ ، فتجعل منها كلاً مباحًا يرعى فيه الجميع . أين التقدم في كل هذا ؟ تدبروا كيف يعلم القرآن الناس أن يفكروا ، وأن يستعملوا أشرف ما وهبهم الله : العقل للوصول إلى الحق. من هنا جاءت الآية العظيمة في ذات السياق الذي يدعو إلى التبصر والتفكر وإعمال العقل :

(قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ﴿٤٦﴾) .

استيقظوا ، ما بالكم لا تنهضون ؟ قوموا من رقدتكم ؟ لأنكم طالما نهضتم لباطل ، طالما نهضتم لشيء لا ينبغي أن تنهضوا له . طالما نهضتم ؛ لأجل أن تظهروا كذبا وافتراء ، أنتم لا تصدقونه ولا تشترونه حتى بدينار. أنتم تعلمون أن هذا افتراء على هذا النبي المبارك وعلى دعوته المباركة (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى) ، تدبروا في الربط (ثم تتفكروا) ، تُعمل عقلك و تتفكر ؛ أي تعمل الفكر مرة بعد مرة (ما بصاحبكم من جنة) ، وتدبروا في دقة اللفظة ، فهذا النبي الكريم صاحب لكم ، و ليس عدوا لكم . إنه منكم وفيكم ، من أهلكم وعشيرتكم ، ومن أوسطكم حسبا ونسبا وأعقل العقلاء : (ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد) ، إنه نذير ، اعمل فكرك مرة بعد مرة ، ما به جنّة . هل ما يقوله فيه جنون ؟ أين الجنون فيما يقول ؟! أنتم تتهمونه بالجنون ، وتارة تقولون تلبسه جنّ ، أين الجنون فيما يقول؟ هذا نذير بين يدي عذاب شديد . وتدبروا في الآية التي جاءت بعدها والتي تصب في سياق التبصر والفكر، وإعمال كل القدرات العقلية ، وتجنيد تلك القدرات للوصول إلى الحق :

(قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴿٤٧﴾) .

أنا إن سألتكم أجرا ، والأجر مقابل و عوض على تقديم خدمة ، ما سألتكم من أجر فهو لكم . إذا أنا سألتكم عن أجر مادي خذوه . وأنتم قد عرضتم عليه صلى الله عليه وسلم ، فقلتم يا محمد ، تريد مالا جمعنا لك من أموالنا حتى أصبحت أكثرنا مالا ، تريد عزّا سوّدناك علينا ، ماذا تريد؟ (ما سألتكم من أجر فهو لكم) . أجرك على من يا محمد صلى الله عليه وسلم ؟ (إن أجري إلا على الله وهو على كل شيء شهيد) . كل الرسل قالوها كلمة واحدة ، وكل المصلحين . وكل من يدعو إلى خير ينبغي أن يقولها كلمة واحدة : (ما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على الله) . لماذا جميع الأنبياء أعلنوها صريحة : أنهم لا يتقاضون أجرا من أحد ؟ مهم جدا ألا تتقاضى أجرا على ما تقوله من الحق ، وما تأمر به من معروف ، وما تنهى به عن منكر حتى تكون حرا في كلمتك ، لا أحد له كلمة عليك ، إلا الذي أمرك بأن إن أجرك عليه سبحانه وتعالى . ولك أن تتخيل حين يكون أجرك على الله ، كيف سيكون الأجر؟! الأجر على قدر من وظّفك وأعطاك وأمرك . سبحانه وتعالى جل شأنه له المثل الأعلى . أنت لا تتقاضى أجرا من أحد ؛ لأنك حر، لأنك حين تتقاضى أجرا أو عوضا من أحد من الناس ستصبح أسيرا له فيما تقول . ونحن حين نتدبر وننظر في زماننا ، نجد أن الإنسان عالما كان ، أم كاتبا ، أم مذيعا ، أم مقدم برنامج ، أو ما شابه ، حين يصبح موظفا عند أحد من الناس أو جهة معينة من الجهات أو سلطة معينة ، تراه أصبح أسيرا لتلك الجهة التي يشتغل ، وهو موظف عندها يقول ما يملونه عليه . لا يستطيع أن يخالف ما يقولونه ؛ لأنه موظف عندهم . ولكن حين تقوم بأمر الله عز وجل ، موقنا أن أجرك على الله ، و ليس على أحد ، ستبقى لك حريتك التي هي أعظم ما تملك . أعظم ما في الإنسان حرية الكلمة التي يقولها ، كلمتك تصل إلى القلوب والعقول متى ما كانت حرة ، فإذا ما أصبحت مقيدة فقدت حريتها و قيمتها و مصداقيتها ، ولذلك ما فقد ولا نبي من الأنبياء مصداقيته أمام قومه ؛ لأنه لم يشتغل عند أحد ، و لم يتقاض أجرا من أحد (إن أجري إلا على الله) ، يا لها من كلمة عظيمة ! ليس هذا فقط ، بل (وهو على كل شيء شهيد) ، شهيد على أني لم أتقاض أجرا من أحد ، و على أني ما أردت إلا الإصلاح ما استطعت . شهيد على ما أقول ، و ما أفعل ، و ما أدعو الناس إليه . شهيد على قيامي بالأمانة ، وإبلاغ الرسالة ، وقول الكلمة الصادقة التي لا تخضع لأمزجة ولا لأهواء ولا لتقلبات ولا لمصالح مزعومة .

وتدبروا في الآية التي جاءت بعدها :

(قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ﴿٤٨﴾) .

لماذا القرآن يستعمل هذه المفردة العظيمة المحمّلة بمعاني القوة والعزة ؟ (يقذف بالحق) ، القذف هو رمي بقوة وشدة لأن الحق قوي ، ولذلك بالحق يقذف الباطل فيزهق ؛ لقوة ما فيه . وهذا الحق لأنه قوي ، فكلما ازددت إيمانه به ازددت قوة وعزة ومنعة . انظر إلى هذا النبي صلى الله عليه وسلم ، كان وحيدا في قومه . وبعد سنوات من الدعوة في مكة ما آمن معه إلا قليل ، ولكن قوة هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم أذابت باطل قريش وعنفوانها وعجرفتها الزائفة على كثرة عددها ومالها وعدتها . إنها قوة الحق ، أنت تستمد من الحق الذي تؤمن به . احمل الحق ، أحبه ، دافع عنه . عش للحق الذي تؤمن به ، انصره ، دافع عنه ، احمه بنفسك ومالك وأهلك ، تزدد عدلا و قوة ؛ لأن الحق يعطي صاحبه القوة التي يحملها في ذاته . و كلما ازددت تمسكا بالحق ازددت قوة . ولك أن تتساءل من أين جاءتني هذه القوة ؟ إنها من الحق الذي تؤمن به وتدافع عنه ليلا ونهارا ؛ حماية له . (قل إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب) ، الله الذي يقذف بالحق ، و تدبروا في الكلمة التي جاءت بعدها :

(قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ ﴿٤٩﴾) .

الحق سيأتي ولو كان من يناصره واحدا فقط ، كالنبي نوح الذي استمر يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عاما وما آمن معه إلا قليل ، ولكن في النهاية جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد . الباطل هش ولو توهم الناس أنه قوي . والكذب والخداع والزيف ، كلها معاني هشة لا يمكن أن تقوم أمام قوة الباطل . تدبروا بدقة التعبير والمفردة (يقذف بالحق علام الغيوب) ، وبعدها : (قل جاء الحق) ، لماذا أول مرة يقذف بالحق ؟ ولماذا بعد جاء الحق؟ الله أولا هو الذي يقذف الحق في قلوب من يؤمن به ؛ حتى يستقر ويؤمن به أولئك الذين يؤمنون ويخشون الله ويعتزون به ، ويزدادوا تمسكا ودفاعا عنه ، فإذا ازدادوا تمسكا ودفاعا عنه إذا بذاك الحق يأتي (قال جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد) ، تدبروا في دقة اللفظة ، ربي يقذف بالحق علام الغيوب . هو وحده جل جلاله الذي يعلم ما قذف في قلبك من الحق ، ولذلك نحن ندعو ونقول : اللهم أرني الحق حقا وارزقني اتباعه ، فإذا قذف الله في قلبك الحق فأحببته ، ونصرته ، وآمنت به ، ودافعت عنه اعلم أن الحق سيأتي (قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد) ، جاء في واقعك و سلوكك ، و ظهر في أخلاقك و في ولاءاتك للأمم من حولك ، في حضارتك الإنسانية القيمية قبل أن تكون حضارة مادية . ومع كل هذا يعلمنا القرآن الاستمرار في كيفية المحاورة مع أمم الأرض :

(قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ ﴿٥٠﴾) .

أنت ما عليك إن كنت أنا على ضلال ، أنت فقط فكر فيما أنا أقول وفيما أدعوك لك : (وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي إنه سميع قريب) . لا تحكم عليّ بالهدى ولا بالضلال ، لا تحكم على الحق من أتباعه. تدبروا في الربط ، وفي التفرقة والتمييز الدقيق الذي جاءت به الآيات : هذا القرآن هو الحق ، وهذا الدين هو الحق ، ولكنك قد ترى من المسلمين الذين يتسَمَوْن بالاسلام ، ويقرأون القرآن من لا يتبع الحق في حياته (قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي) ، صحيح أن الكلام هنا عن النبي صلى الله عليه وسلم ، لكن الآية عامة ، إن ضللت أضل على نفسي ، وإن اهتديت فبما يوحي إليّ ربي إنه سميع قريب . المهم هو الحق ، و المهم القرآن الذي جاء به . ولذلك نقول دوما : لا تحكم على أيّ كتاب من غلافه أو عنوانه ، كما لا تحكم على الإسلام ولا على هذا الكتاب العظيم من خلال تصرفات وسلوكيات أتباعه ومن يؤمن به ؛ لأنك قد ترى فيها اعوجاجا أو انحرافا أو بعدا عن الحق . تريد أن تحكم أهو حق أو ليس بحق ، اقرأه ، تبين ما فيه ، تدبر فيه ، تفكر فيه ، تبصر فيه . عشرات الأشياء في حياتنا لا ينبغي أبدا أن يحكم عليها من غلافها ولا من ظاهرها . عليك أن تفهم وتنظر وتدقق ، من هنا جاء القرآن العظيم (إنه سميع قريب) ، فالله يسمع ما تقول ، ويسمع صوت الحق أو الباطل في نفسك وفي قلبك ، قريب من عباده كما يليق بجلاله سبحانه جل شأنه . قال :

(وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ ﴿٥١﴾) .

قاموا ؛ فزعا وخوفا وهلعا من يوم القيامة ؛ لأن الكلام كل الكلام في سياق سورة سبأ موقف من الدنيا وموقف من الآخرة ، وأحيانا في نفس الآية يأتي بالموقفين معا. (ولو ترى إذ فزعوا) ، هؤلاء الذين يكذبونك لو تراهم حين يكونون قد قاموا من الأجداث سراعا فلا فوت ، لا أحد يمكن أن يبتعد ، فيفوت من يوم الحساب ويفر ويهرب . (وأخذوا من مكان قريب) ، يؤخذون أخذا . قاموا وخرجوا من القبور التي كذبوا بالقيام منها ومن الأجداث ، ولكنهم في تلك الحالة لا فوت ، و لا مهرب ولا نجاة . وأُخذوا من مكان قريب ، أخذوا أخذا وحينها فقط قالوا آمنا به :

(وَقَالُوا آَمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ﴿٥٢﴾) .

الآن بعد فوات الأوان آمنتم به ؟ وأنّى لكم أن تنالوا ما تريدون من الإيمان والعمل الصالح : (وقد كفروا به من قبل) أنّى لهم التناوش؟ أنى لهم أن ينالوا استدراك ما فات والرجوع إلى الدنيا أنّى لهم ؟! .

(وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ﴿٥٣﴾) .

ماطلوا وجادلوا وكذبوا وعاندوا وأصروا على كفرهم وعنادهم .

(وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ ﴿٥٤﴾) .

يشتهون العودة إلى الدنيا ، و يريدون الرجوع إلى ما فات . يريدون استدراك الأمنية العزيزة الغالية التي يتمناها كل أحد (أرجعنا نعمل صالحا إنا موقنون) ، لكن الله سبحانه وتعالى يقول : (وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل) . سنة الله ماضية ؛ أن الدنيا دار عمل ، والآخرة دار جزاء . وأن ساعة الإنسان حين تحين ويأتي الأجل ، وتأتي ساعة الاحتضا ، لا ينفع النفس أبدا إيمان أو كفر، أو رجوع أو توبة ، أو أوبة أو إنابة ، ولا تقديم للعمل الصالح . لا ينفع شيء ، الذين ينفعك هنا في الدنيا قدّمه سريعا بين يدي الله . تدبروا كيف القرآن يستدر العواطف من جديد ، يريد أن يسوقها إلى خالقها قبل أن يفوت الأوان ، وقبل أن يحين الأجل ، وقبل أن يأذن الله بالفراق : (كما فعل بأشياعهم من قبل) لماذا؟ (إنهم كانوا في شك مريب) ؛ تردد ، حيرة و تخبط . ولكن هذا الشك والتردد والحيرة والتخبط ، هم الذين أوقعوا أنفسهم فيه . ما أوقعهم فيه أحد ، الشك والتردد والحيرة يستطيع الإنسان أن يردّها ، بالعلم و الكتب التي ينبغي أن يدرسها بالتفكر و التبصر ، و النظر بالآيات . تدبروا في الربط بين الآية الأولى (الحمد لله الذي له ما في السموات و ما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير) ، والآية الثانية : (إنهم كانوا في شك مريب) ؛ شك في قدرة الله سبحانه وتعالى الذي له ما في السموات وما في الأرض . وأنت ترى الناس اليوم تستغرب وتتعجب لحالهم ، يفكر فيما يصلح معاشه ، وهذا شيء جيد لا غبار عليه ، لكن لا تراه على ذات الحرص في عدّ أيامه وسنين عمره الذي يفوت من بين يديه ، دون إيمان و عمل صالح يقدمه بين يدي الله سبحانه وتعالى . هذه السورة العظيمة المباركة التي جاءت ، تحدثنا عن أمة عظيمة ومملكة كبيرة دام ملكها فترات وقرونا طويلة من الزمن ، فما أغنى عنها ذلك الملك ، ولا ذاك العز والجاه ، والقوة والتحضر شيئا حين كفرت بأنعم الله . الإيمان ، والإيمان وحده هو الذي ينجي الأفراد والمجتمعات والأمم والدول من النهاية التي لا يمكن أبدا أن يوقفها الكفر، والعناد ، والإصرار عن الحدوث . إذا أردت أن تحفظ ملكك ، وإذا أردت أن تحفظك عقلك وقلبك ، وفكرك وحياتك ومجتمعك ، فما عليك إلا أن تؤمن بالله الذي له ما في السموات وما في الأرض ، وتجعل من هذا المنهج الذي أنزله في كتابه قائدا لك في حياتك ، و رائدا لك في نهضتك وعَلما لثقافتك وحضارتك التي تريد أن تبنيها . ولن تتمكن من أن تبني حضارة راسخة عميقة نظيفة عالية سامقة بعيدا عن منهج القرآن العظيم .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *